اخر الروايات

رواية رحلة الآثام الفصل الثاني عشر 12 بقلم منال سالم

رواية رحلة الآثام الفصل الثاني عشر 12 بقلم منال سالم


الفصل الثاني عشر
(جانبه المُوحش)
انصرف بعدما أبلغ الاثنتين بما قرره، ليتركهما في تحير وتردد، ظلت الشقيقتان تتداولان فيما بينهما الأمر بجدية تامة، ومن كافة الأبعاد والزوايا، حتى وصلتا بعد نقاش مستفيض إلى رأي مُرِضٍ لإحداهما، فتشبثت به "أفكار"، وأصرت على إعلام "فردوس" به، اتجهت إليها، ومكثت معها في غرفتها، ثم بعد تمهيدٍ حذر أطلعتها عليه؛ لكنها أبت وبشدة الانصياع لرغبتها المناهضة لما كانت تريده هي. تمسكت أكثر بعنادها، وصاحت في تصميم وهي تبكي:
-أنا مش موافقة على الكلام د.
احتجت خالتها على ما اعتبرته تدللها السخيف صائحة بها بصوت غاضب، وهي تلكزها في كتفها بعنفٍ طفيف:
-إنتي اتهبلتي يا بت، دي فرصة يا عبيطة!
تألمت من ضربتها الشرسة، ونظرت لها من بين دموعها الحارقة، ثم أخبرتها بقهرٍ:
-يعني تيجي إزاي؟ بعد ما كنت مرات أخوه، أبقى مراته؟ ده ما يرضيش ربنا.
ردت عليها ببرودٍ مجحف:
-لأ يرضيه، طالما في الحلال يا عين أمك.
هتفت محتجة وسط نهنهات بكائها:
-ده أمه مكانتش طيقاني وأنا مرات "بدري"، هترضى بيا وأنا مرات أخوه الكبير؟
علقت عليها بلا أدنى ذرة إشفاق:
-ما هي سابتلك الجمل بما حمل.
انفطرت في بكاءٍ أكثر إيلامًا، ومع ذلك لم تكترث بها، وواصلت القول بأسلوب أصابها بالنفور أكثر:
-وفيها إيه، ده المثل بيقول تبقى في إيدك، وتقسم لغيرك.
كفكفت دمعها المسال بغزارة بكم قميصها المنزلي، وهتفت في إصرارٍ رافض:
-والله العظيم اللي بيحصل فيا ده حرام.
تعاطفت "عقيلة" إلى حدٍ ما مع حال ابنتها البائس، فقالت بشيء من التردد:
-مالوش لازمة الموضوع ده يا "أفكار"، نفضنا سيرة منه، ده حتى الناس هتقول عننا إيه بس؟!
سلطت نظراتها الجامدة عليها، وقالت بلا تأثر:
-محدش ليه حاجة عندنا، هما كانوا نفعونا لما البت اتطلقت؟
عجزت عن التعليق عليها، فاستمرت في ضغطها القاسي بترديدها المتعمد:
-ده بالعكس طلعوا حوارات وكلام مش مظبوط عن البت.
التلميح بأمر كهذا في جملتها الأخيرة، كان كفيلًا بإشعال جذوة غضب "فردوس"، خاصة أنه نوع من الافتراء الظالم عليها، لذا انتفضت صارخة بما يشبه الثورة رغم بكائها الموجع لتنفي التهمة الباطلة عنها:
-أنا أشرف من الشرف.
حدجتها خالتها بهذه النظرة القاسية قبل أن تقول بنبرة ذات تورية خطيرة:
-ده قصادي أنا وأمك، بس باقي الناس هنا دماغهم رايحة فين؟
ردت عليها بهديرٍ منفعل:
-ولما أتجوزه هيسكتوا؟ ده ما هيصدقوا ينهشوا فيا بزيادة!
قالت ببساطة وهي تشير لها بيدها:
-حلال ربنا محدش يقدر يتكلم فيه.
بعدما كانت تتخذ موقف المشاهد الصامت، تكلمت "عقيلة" أخيرًا، ونطقت بما صدم ابنتها:
-إنتي معاكي حق ياختي، احنا نقفل الباب ده خالص!
شهقت "فردوس" مصعوقة لتأييدها المزعوم لهذا القرار، وصاحت معترضة ببكاءٍ قد راح يتجدد مرة ثانية:
-ده أكبر مني يامه بكتير.
تولت "أفكار" الحديث بدلًا من شقيقتها، وقالت في تفاخرٍ مغيظ:
-وماله، أهوو يبقى عاقل ورزين، مش أحسن من الصغير المطيور.
ثم مصمصت شفتيها وتابعت بنظرة أشد في قساوتها:
-وكويس إنه مدخلش، يعني لا في عِدة ولا غيره.
احترقت "فردوس" أكثر بنيران حنقها، شعرت وكأن الجميع يجور على حقها، وهي وحدها من تكابد لتخليص نفسها، كم رجت لو كانت "تهاني" هنا معها، لربما نجحت في إيقاف طوفان اجتياحهم لحريتها! تنبهت لخالتها مرة أخرى عندما أضافت بتشددٍ:
-بس قابلة لازمًا ناخد حقوقك الأول من أخوه، عشان يعرف إن الحكاية مش سهلة.
كانت تقرر لا تخير وهي تواصل الاسترسال بأريحية ظاهرة
-وعلى رأي المثل اضرب المربوط يخاف السايب، واحنا برضوه بنعززها بطريقتنا.
لم تجادلها "عقيلة" نهائيًا، بل أبدت موافقتها بتصريحها المستسلم:
-الخيرة فيما أختاره الله، احنا نبلغه بموافقتنا.
استحسنت قرارها، وربت على كتفها تمتدحها:
-عين العقل ياختي.
نظرت إليهما "فردوس" بتحسرٍ مكدوم، لم تكن أيًا منهما لتنصفها أبدًا، مهما بكت، ومهما توسلت، انكفأت على وجهها تبكي بمرارة هامسة بصوتٍ خفيض:
-حسبي الله ونعم الوكيل!
............................................
حينما استلقى كلاهما ملتصقين ببعضهما البعض على ذلك الفراش الدافئ، مرغت "تهاني" وجهها في صدر زوجها العاري وهي تشعر بيده الحانية تمسح على ظهرها بنعومةٍ، لتحفز فيها خلاياها الكامنة، فتتحفز من جديد وتغدو مستعدة لغزوه المستباح لأراضيها العميقة. نظرت إليه من موضعها، وسألته في عتابٍ رقيق عندما وجدته يمد يده ليمسك بكأس الخمر ويرتشف منه القليل:
-مش احنا اتفقنا إنك مش هتشرب تاني يا حبيبي؟
رد معللًا بالكذب:
-أنا بس بحتفل عشان إنتي معايا وفي حضني.
ثم داعب بيده الطليقة ردفيها ليُسكرها بأسلوبه الحاذق في ممارسة طرق العشق الجامحة، فتصبح طوع بنانه، ابتسمت في نشوةٍ، وأصرت على رأيها بنفس النبرة المتدللة:
-وأنا مش حابة كده.
قال بهدوءٍ محاولًا إقناعها بالرضوخ لرغباته، وإن كانت لا ترضيها:
-حبيبتي، دي شمبانيا، يعني زي العنب المعتق.
صعد بيده نحو وجهها، لامس بشرتها الساخنة بأطراف أصابعه، ثم تابع:
-وبعدين إنتي المفروض تشربي معايا.
تصنعت العبوس، وقالت بلا تفكيرٍ:
-لأ طبعًا.
سألها في عبثية توحي بشيءٍ خطير:
-مش هتسمعي كلام جوزك؟
هزت كتفيها قائلة في تصميمٍ:
-في دي لأ.
غنجها المائع، والإغواء الظاهر في نظرتها إليه جعل حواسه تتيقظ بقوة، وجسده يشتد، لذا ترك الكأس من يده، ثم طوق خصرها بذراعيه، ليتمكن من الاستدارة بها، وتمديدها على ظهرها، سرعان ما أصبح مُطبقًا عليها بكله، يأسرها بسيطرته الظاهرة، فما كان منها إلا أن تعلقت في عنقه، حينئذ انحنى برأسه عليها، ونال منها قبلة حسية متأججة، مهدت السبيل لاحتلال مواطنها بلا مقاومة، منحته ما يريد، وأعطاها ما يفيض، فتناسا كل شيء إلا أنهما كانا جائعين لذلك الحب النهم.
............................................
بين الأوراق المكدسة، والملفات المطروحة على مكتبه، تطلع "ممدوح" إليهم بنظرات منزعجة، فاقدة للشغف، فقد كان عليه الانتهاء من كل ذلك في فترة وجيزة، نظرًا لإرجائه لهم لأكثر من مرة بسبب مشاغله الخارجية. مد يده ليمسك بفنجان القهوة، ارتشف منه ببطءٍ وهو يسترخي في مقعده، مستدعيًا في خياله لمحات وهمية وجامحة لرفيقه وهو يتنعم بأحضان هذه الفريسة الساذجة. تنهد مليًا، وقال وهو يلوي ثغره بنوعٍ من الغيرة:
-طبعًا زمانك هايص ورايق ومقضيها.
أحس بنار تحرقه من داخله، فلو كان يملك وقتًا أكثر من ذلك لاستطاع استدراجها، وإيقاعها في مصيدته. فجأة راود عقله فكرة تنم عن خبثٍ حاقد، اعتدل في جلسته، واستطرد مبتسمًا بابتسامة شيطانية للغاية:
-يا ترى "فؤاد" باشا لما يعرف هيكون رأيه إيه.
ترك الفنجان من يده، ثم وسد ذراعيه خلف رأسه متابعًا بانتشاءٍ مستمتع:
-أنا ما عليا إلا أسرب الخبر، وأسيب الباقي ليه.
أطلق ضحكة شامتة للغاية قبل أن يضيف:
-تستاهلها يا صاحبي.
...............................................
امتدت أيام الهناء والدلال لما يقرب من الأسبوعين، تمتعت في لحظاتها المميزة معه بكل ما تمنت يومًا الحصول عليه، للحد الذي جعلها تتغاضى كذلك عن نزعة العنف السائدة في علاقتهما الحميمية، معتقدة بذلك أنها تمنحه السعادة القصوى بتذللها إليه. انتهت "تهاني" من تجفيف شعرها المبتل، لكنه كان لا يزال رطبًا، لم تمشطه، وتركته مسترسلًا على ظهرها بعدما لفت جسدها بالمنشفة، خرجت من الحمام قاصدة أن تتجرد مما يسترها أمامه، لتضمن إبقاء نظرته الشهوانية عليها، فلا يمل من صحبتها أبدًا، ويصبح دومًا أسير فُتنتها الساحرة. نظرت إلى انعكاس وجهه الشقي في المرآة، وسألته وهي تضع قطعة القماش الشفافة –ذات اللون الأحمر- على جسدها:
-إنت مزهقتش من الأعدة.
رمقها بهذه النظرة الراغبة، وقال وهو يشير إليها بيده لتقترب منه:
-صعب أخرج من الجنة.
استجابت له، ودنت من الفراش وهي تتمايل في مشيتها، تأملت كيف كانت عيناه متعلقتان بمقوماتها المغرية، فانتشت أكثر، وأصبحت في حالة من السرور الشديد. جلست على حافة السرير، واحتضنت كفه بيدها، ثم رفعته إلى وجنتها ليشعر بالدفء المنبعث من بشرتها، أسبلت عينيها تجاهه، وأخبرته بشوقٍ متزايد:
-حبيبي، إنت إزاي سحرتني كده؟
استخدم قوته الذكورية في جذبها إليه، فسقطت في أحضانه، حينئذ همس لها بتشويقٍ أثار حماسها للغاية:
-إنتي لسه مشوفتيش حاجة يا حبيبتي.
مجددًا أغار بقوة على نقاط حصونها، فاستسلمت لعاصفة عشقه الجارفة، جاعلة إياه يدك أعتى مكامنها بلهفةٍ والتياع.
.......................................
اشتم رائحة النصر دون أن يحققه فعليًا، يكفيه أن وصلت إليه هذه المعلومة الخطيرة عن طريق عدة معارف، ممن تربطهم الصلة به وبشقيقه الأصغر، فأخذ يفكر ويدبر لاستغلالها بالطريقة المثلى، ليصيب هدفه في مقتل، ويظفر في النهاية بكل شيء. مرر "سامي" يده في خصلات شعره المرتبة، وخاطب نفسه وهو ينظر لانعكاس وجهه في زجاج النافذة المطلة على واجهة الشارع:
-والله وجاتلك على الطبطاب.
سحب شهيقًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره، ثم طرده على مهلٍ وهو يستأنف حديث نفسه:
-دلوقتي بس تقدر تفرح، وتشوف نفسك.
التصق بعدئذ بفمه ابتسامة خبيثة متلذذة عندما أتم باقي كلامه غير المنطوق:
-شوف هتضحك على الباشا تاني إزاي!
.........................................
لفت ذراعها للخلف، محاولة استطالته قدر استطاعتها لتتمكن من وضع المرهم المرطب على الكدمات التي برزت في ظهرها، وهي تنظر إليها عبر المرآة الموجودة بالحمام، فقد ترك جانبه المُوحش في التعبير عن الحب آثاره عليها. انتظرت "تهاني" لعدة دقائق ريثما يجف المرهم، ثم ارتدت ثوبًا مغريًا من اللون الأزرق، وخرجت وهي تزين وجهها ببسمة ضحوك، معتقدة أن زوجها لا يزال مستغرقًا في نومه؛ لكنها تفاجأت به يقظًا، ويبحث في الدولاب بين ثيابه، اقتربت منه متسائلة باندهاشٍ:
-معقولة، إنت صاحي من بدري؟
دون أن ينظر إليها أمرها:
-يالا .. إجهزي إنتي كمان.
استغربت من قراره، وسألته مستفهمة وهي تحاوطه من ظهره لتحتضنه:
-احنا رايحين فين دلوقت؟
وضع يده على أحد ذراعيها، حل تشابكهما، ثم استدار تجاهها قائلًا بتعابيرٍ هادئة:
-نازلين تحت، هنعوم في البسين شوية، وبعدها نشوف مطعم ناكل فيه، ونطلع نتفسح.
أصابها القلق، وردت في ترددٍ مشوبٍ بالحرج:
-بس أنا مبعرفش أعوم.
داعب طرف ذقنها بيده قبل أن يرفعه للأعلى قليلًا، وقال وهو يغمز لها بطرف عينه:
-أنا معاكي هعلمك كل حاجة يا حبيبتي.
ثم أعطاها قبلة صغيرة على شفتيها جعلتها تبتسم في سعادة، ارتمت على صدره، وضمته بقوةٍ، أحست بنبض قلبه يخترق أذنها، فأغمضت عينيها للحظة مستمتعة بهيامها فيه، تنهدت لتخبره في صوتٍ عاشق:
-ربنا يخليك ليا.
........................................
كانت آتية من ناحية اليمين، تتماشى بخيلاءٍ وثقة، عندما لمحها بثوبها الأبيض الفضفاض، وشعرها المحلول المتطاير، وهو جالس على المقعد الخاص بالمسبح، مخالفتها لأوامره –ربما بغير قصدٍ منها- جعله في حالة من عدم الرضا، بل وأصابته بالضجر. اعتدل في رقدته، وأبقى عينيه المزعوجة عليها إلى أن أصبحت في مرماه، لوح لها بيده لتراه، فابتسمت في خجلٍ وهي تختطف نظرات سريعة على الأجساد شبه العارية المستلقية على المقاعد في محيط المسبح. خطت برشاقةٍ حتى بلغته، عندئذ جلست مقابله على المقعد الشاغر. سألها باستنكارٍ محسوس في نبرته وهو يرفع نظارته الشمسية أعلى رأسه:
-ما لبستيش المايوه ليه؟
تفاجأت بسؤاله بدلًا من مدح جمالها، أحست بجفافٍ يصيب حلقها، فتغلبت على الاضطراب الذي اعتراها، ورفرفت بجفنيها وهي تجيبه في استحياءٍ ما زال موجودًا ضمن ثوابتها:
-أنا متعودتش بصراحة، أتكسف أوي، وهو عريان خالص!
استهجن عزوفها عن تلبية أمره هاتفًا بضيقٍ صريح:
-إنتي مراتي دلوقتي، ومعايا لازم تتعودي على حاجات كتير.
اندهشت لتحامله غير المبرر تجاه موقفها، ورأت ما يؤكد ذلك في عينيه المرتكزتين عليها، أليس من المفترض أن يكون غيورًا على زوجته، لا يسمح لغيره برؤية ما تمتلك من كنوز ثمينة؟ تغاضت عن هذه الذلة لئلا تفسد صفاء أيامها الأولى معه، وأخفت انزعاجها وراء ابتسامة رقيقة، أتبعها قولها الدبلوماسي:
-طب خليها مرة تانية.
بدا وكأن غمامة رمادية هبطت من أعالي السماء على وجهه، انقلبت سحنته على الأخير، ونهض قائلًا وهو يشيح بعينيه بعيدًا عنها:
-براحتك.
زاد شعورها بالغرابة إيذاء موقفه غير المفهوم، فأي رجل شرقي في موضعه كان من المستحيل أن يقبل بذلك، أفاقت من لحظة شرودها الخاطفة على صوته الهاتف وهو يستعد للقفز في مياه المسبح:
-بس هتندمي كتير، المياه تحفة.
تداركت بسمتها التي خبت، وردت عليه وهي تمسك بخصلة من شعرها لتلفها على إصبعها:
-كفاية عندي إنك تكون مبسوط.
راقبته وهو يسبح بمهارة بطول المسبح، إلى أن عاد إليها مجددًا ليكلمها:
-روحي المطعم اشربي أو كلي حاجة لحد ما أخلص، أنا قدامي شوية، ومش عايزك تزهقي.
اعترضت عليه بلطافةٍ:
-مش مشكلة، أنا هستناك.
أصر عليها بوجه لم يكن بممازح:
-"تهاني"، اسمعي
هزت رأسها هاتفة في طاعة تجنبًا لإغضابه دون داعٍ:
-حاضر.
لم يكن الأمر كما ظنت أنه مكترث بها، ويخشى عليها من الشعور بالملل، لقد صرفها فقط ليتمكن من التودد إلى هذه الحسناء الشقراء الجالسة على الطرف الآخر من المسبح، فاشتهى الحديث معها، ووجودها المراقب له لن يمنحه حريته المطلوبة، لذا تخلص منها بذكاءٍ، ليستمتع بوقته دون أن تعد عليه أنفاسه، فكيف له أن يتوقف فجـأة عما اعتاد من روتينٍ شبه أساسي في حياته؟!
........................................
في المساء، وعندما استأذنت "تهاني" للذهاب إل الحمام لتضبط مساحيق تجميلها، بعدما فرغت من تناول العشاء بالمطعم المحلق بالفندق مع زوجها، رأى "مهاب" نفس الحسناء تجلس على طاولة قريبة منه، في التو انتقل إليها، ورحب بها برغبة معكوسة في عينيه، تفاجأ بها تشكو من الألم، وتطرق رأسها قليلًا، فسألها ليتأكد:
-هل أنتِ بخير؟
أجابته وهي تبتسم:
-أشكرك، يبدو أن الدوار قد أصابني، كان يجب ألا أفرط في الشرب.
مد يده ليمسك برسغها في نعومةٍ، وطلب منها بتهذيبٍ:
-أنا طبيب، هل تسمحي لي بفحصك؟
سحبت منه يدها برفقٍ، كنوعٍ من التمنع المرغوب عليه، ومع ذلك ردت عليه بنظرة لعوب فهمها جيدًا:
-أنا بخيرٍ الآن، لكني سأعود إلى غرفتي لأستريح.
نهضت بتكاسلٍ، فترنحت في وقفتها، أسرع ناحيتها ليسندها، وطوقها من خصرها قائلًا بهمسٍ:
-دعيني أساعدك.
التفتت تنظر إليه عن قربٍ وهي تلفح وجهه بأنفاسٍ حارقة:
-أشكرك كثيرًا، كم أنت لطيف!
لعب على الوتر الحساس الذي تساومه به قائلًا عن عمدٍ وهو يضغط بأصابعه على جانبها:
-وأنتِ تمتلكين مفاتيح الجمال.
خرجت منها تأويهة مستمتعة، اعترفت بها في التو:
-يبدو أني محظوظة لرؤيتك.
فهم أن ما تقوم به مجرد مقدمات ممهدة لما هو أخطر، ولم يمانع أبدًا تذوق ما يثير فضوله، لذا في صوت ثقيل مشحون بالرغبة استطرد معلنًا عن تلبيته لدعوتها المفتوحة:
-حتمًا سنتقابل مجددًا.
ردت عليه بمكرٍ استحث غرائزه أكثر:
-إن كنت متفرغًا
كادت عواطفه تشتعل أكثر لولا أن أطلت عليهما "تهاني" بوجهها المتجهم، حدجتهما بنظرة نارية، وصرخت فيهما مسببة بصوتها المرتفع لفت الأنظار:
-مين دي يا "مهاب"؟
انزعج من إحراجه بهذا الشكل المهين، فقال دون أن يترك الحسناء من ذراعه:
-واحدة تعبت وبشوفها.
انتزعتها منه انتزاعًا وهي لا تزال تصيح في تحفزٍ حانق بشدة:
-بتشوفها ولا واخدها بالحضن؟
رد عليه من بين أسنانه المضغوطة، وهو يجول بنظرة غير راضية على من حوله:
-إنت فاهمة غلط.
حاولت الشابة الحسناء الوقوف باستقامةٍ، وحادثت "تهاني" بصوتٍ شبه ثقيل وهي تضع يدها أمام فمها لتمنع نفسها من التجشأ:
-أعتذر، يبدو أن هناك مشكلة ما بينكم.
سلطت عليها "تهاني" نظراتها المحتقنة، ورفعت إصبعها أمام وجهها صارخة فيها بهديرٍ مرتفع:
-نعم، بسببك، اغربي.
استاء "مهاب" للغاية من طريقتها الفوضوية في إثارة المتاعب ولفت الأنظار إليه، فأمسك بها من معصمها ليجذبها منه، ويجرها بعيدًا عن الحضور المتابع لهما وهو ينهرها بصوتٍ جاهد ألا يكون عاليًا:
-بالراحة شوية يا "تهاني"، الناس بتبص علينا.
بقوةٍ متعصبة انتشلت يدها من قبضته، وتسمرت في موضعها بالردهة لتعنفه في غضبٍ مبرر:
-طب اعملي اعتبار، ده أنا مراتك.
تنفس بعمق لئلا يخرج عن طور هدوئه، ثم أخبرها كمحاولة أخيرة للتعامل بحكمة مع الموقف:
-إنتي فاهمة غلط.
اشتاطت أكثر من كذبه المكشوف، واندفعت تجاهه تضربه في صدره بقبضتها وهدير صوتها يرن:
-ده أنا شيفاك بعينيا.
حذرها من التمادي في عصبيتها هاتفًا بصرامة:
-"تهاني"، مابحبش الأسلوب ده!
كادت تنطق بشيء لتعارضه؛ لكنه أخرسها قبل أن تنبس بكلمة صائحًا بصوته الحازم:
-خلاص، اسبقيني على فوق، هنتكلم هناك.
على مضضٍ خطت مبتعدة وهي تبرطم بكلمات حانقة، شيعها بنظرته القاسية إلى أن غابت عن بصره، فاستدار عائدًا إلى الشقراء الحسناء منحنيًا أمامها بعدما التقط كفها ليقبله في أدبٍ، ثم اعتدل واقفًا ليخاطبها:
-أعتذر منك سيدتي.
أبقت يدها أسيرة أصابعه وهي ترد بهزة صغيرة من كتفها:
-لا توجد مشكلة.
انتقى من الكلمات ما شرح لها به تصرف المرأة الجالسة معه مدعيًا:
-صديقتي مهووسة قليلًا، ترتاب حين أبتعد عنها، وأنا لا أرغب في إحزانها.
أظهرت تعاطفًا ماكرًا معه، وأخبرته في رقةٍ لا تزال مطعمة بالإغراء:
-أوه، إذًا علي الحذر منها.
تصنع الضحك، وقال:
-إنها غير مؤذية، فقط تصرخ لحاجتها إلى الحب.
رمقته بهذه النظرة المتسائلة وهي تعلق عليه:
-يبدو أنك خبير في هذه المسائل.
أكد لها بلؤمٍ كان واثقًا أن مغزاه سيصل إليها:
-بالطبع، وإلا لما غضبت لهذه الدرجة!
ما لم يطرأ على بال "مهاب" هو أن تعود زوجته إليه وهو يتغزل بغيرها، برزت مقلتا "تهاني" من محجريهما وهي تراه بأم عينيها يتقارب بحميمية متزايدة من هذه المترنحة، صرخت بلا وعي، وقد ثارت بداخلها مشاعرها الأنثوية:
-يعني إنت بتمشيني عشان تفضى للهانم دي؟
انصدم بوجودها خلفه، فالتف كليًا تجاهها مرة واحدة وهو يردد مذهولًا:
-"تهاني"!
بلا تفكيرٍ انقضت على الحسناء لتبعدها عنه وهي تلعنها بكلماتٍ مهينة، مما أجبر "مهاب" على تقييد معصميها بيديه، وسحبها بما يشبه الدفع الخشن بعيدًا عنها وهو يبدي اعتذارًا شديدًا لما حدث. قاومته وهي تصرخ به:
-سيبني، ده أنا لازم أفرج عليها الدنيا كلها!
استوقفهما أحد موظفين الفندق متسائلًا في توجسٍ:
-ما الأمر سيدي؟
رد نافيًا وهو يفك قيدها ليتمكن من الإمساك بها من رسغها فقط:
-لا شيء.
سحبها خلفه فتبعه الموظف مُردفًا:
-النزلاء يشتكون من الضجيج، سيدي.
توقف عن المشي المنفعل ليرد بوجه جامد التعبيرات، ونظراته تقدح شررًا:
-زوجتي ترفض ترك البار، وأنا أحاول التعامل معها.
تفهم لموقفه، فكم مرت عليه حالات من الإفراط في تناول المواد المسكرة تنتهي بفضائح مخجلة بين النزلاء، ما أسكته حقًا كانت الورقة النقدية المطوية والتي دسها "مهاب" في يده، أتبعها بنظرة موحية ليكف عن ملاحقته، استجاب له، وقال وهو ينحني احترامًا له:
-حسنًا سيدي، أتمنى لكم ليلة سعيدة.
تعامل "مهاب" بخشونةٍ مع زوجته، ودفعها دفعًا للأمام حتى كادت تنكب على وجهها وهو يكز على أسنانه هاتفًا:
-قدامي، وإياكي تتكلمي!
مرة أخرى عصت أمره، وهاجمته بحرقةٍ لها أسبابها القوية:
-المفروض إنك دكتور محترم ومن عيلة، يعني أبسط حاجة تعمل حساب لمراتك، مش مجرد ما أبعد عنك تعيش حياتك ولا كأني موجودة.
سكت ولم يعقب بشيء، فاشتعلت أكثر وانكوت بغيرتها، لذا صرخت به:
-رد عليا.
شدَّ من قبضته على معصمها حتى شعرت به يكاد يدميها، فتألمت من قساوته، ليخبرها بعدئذ بوعيدٍ أصاب بدنها بالرجفة:
-لينا كلام في أوضتنا.
كانت شجاعة للدرجة التي جعلتها تتحدى مخاوفها ووعيده المحسوس بقولها النزق:
-أه طبعًا معندكش اللي تبرر بيه موقفك!!
..........................................
خيل إليها أنه حينما يعود بها إلى غرفتهما سيبدي لها ندمًا شديدًا، ويعتذر لها عما بدر منه من إساءة جارحة لكينونتها؛ لكنه على العكس دفعها بغلظةٍ للأمام حتى طُرحت أرضًا، واصطدمت بعنفٍ بالبلاط القاسي. لهجت أنفاسها، وتهدج صدرها صعودًا وهبوطًا من فرط انفعالها، لم تتوقع أن تظهر طباع السوء لديه بهذه السرعة، أدارت رأسها ناحيته، واستندت على كفيها لترفع جسدها عن الأرض، انفلتت منها صرخة متألمة عندما أمسك بكومة من شعرها وهو يسألها:
-إنتي عارفة إنتي متجوزة مين؟
جذبها منه بخشونةٍ مؤلمة ليجبرها على النهوض، حاولت تخليص شعرها من يده؛ لكنها لم تفلح أمام قوته، أطبق بيده الأخرى على ذقنها، فشعرت بأصابعه تعتصر فكها، تابع تهديده لها بفحيحٍ:
-الفضايح اللي حصلت تحت دي مش هعديها.
رغم موجات الألم الممزوجة بالإهانة التي اجتاحتها إلا أنها ناطحته بردها:
-طبعًا ما إنت دكتور "مهاب الجندي" على سن ورمح، اللي محدش بيقوله لأ.
مرة أخرى دفعها بغتة بكلتا يديه، وبكل قسوة، لتنكفئ أرضًا وهو يخاطبها بغير تساهلٍ:
-طب كويس إنك عارفة إني مش أي حد.
ضرب الألم جسدها، ومع ذلك لم ترتدع أو تكف، عاودت النهوض وصاحت به وهي تلوح بيدها في الهواء:
-بس على الأقل يا دكتور يا فاضل تحترمني، تقدرني، ما تعملش اللي يضايقني.
نظر لها بلا اهتمامٍ، وسألها في تحدٍ مستفز:
-ولو عملت؟
اندفعت تجاهه لتمسك به من ياقتي بدلته، هزته بعنف وصوت صراخها يرن:
-إنت قاصد تعصبني وخلاص؟
أبعد يديها عنه، ودفعها للخلف، كأنما يلفُظها، فاستشاطت أكثر من أسلوبه الاستحقاري، وواصلت صياحها الغاضب؛ كأنما تعطيه إنذارًا أخيرًا:
-شوف يا دكتور، الحياة قبلي كانت حاجة، وبعدي حاجة تانية خالص.
كركر ضاحكًا بصوتٍ مرتفع متعمدًا الاستهزاء بها، ثم أكد لها شعورها بالازدراء بإعلانه غير المكترث:
-مين فهمك كده، بالعكس، أنا زي ما أنا.
قصف قلبها في خوفٍ متعاظم، وسألته وقد خفت حدة نبرتها إلى درجة كبيرة:
-قصدك إيه؟
مط فمه للحظةٍ، ثم دس يديه في جيبي بنطاله، وتجول بتريثٍ أمامها وهو يجيبها بما لم تود سماعه:
-يعني من الآخر اللي بعوزه باخده، واللي بيجي في بالي أعمله بعمله، ومابيفرقش معايا حد.
حاولت لملمة ما جُرح من كبريائها كأنثى، وردت ببقايا كرامة مهدرة:
-وأنا مراتك دلوقتي.
مرة ثانية ضحك ساخرًا من تصريحها المزعوم، ليسألها ببسمة عريضة:
-وإيه يعني؟
بهتت ملامحها بشكلٍ مخيف، فأسلوبه، ونظراته، وحتى نبرته توحي بأنها في مأزقٍ، لم يتركها "مهاب" لشكوكها كثيرًا، بل أفاض في التوضيح لها عن حقيقة نواياه:
-أه، نسيت أقولك، إن دي كانت الطريقة اللي قدامي عشان أجيبك بيها هنا على السرير، وآ...
النظرة الحقيرة المطلة من عينه تجاهها، أشعرتها بوضاعتها، بمدى الغباء الذي كانت عليه، لتصدق في يومٍ أنه تمناها كزوجة ملائمة، لا مجرد وعاء لإفراغ شهوته بها. صرخت به عندما استرسل في وصف مهامها التي أدتها بكفاءة منقطعة النظير كعاهرة محنكة وفقًا لتعليماته:
-إنت ســافل!
تغاضى عن سبها، واعتبره ردة فعل هزيلة لصدمتها، استمتع أكثر بإحراق أعصابها وهو يخبرها:
-بس ماتنكريش إنك اتبسطي.
لم تتحمل طريقته الملتوية لإشعارها بالسوء تجاه حالها، فاض بها الكيل، فانطلقت ناحيته رافعة يدها في الهواء تنوي صفعه وهي تلعنه بغضبٍ جامح:
-حيــــوان!
قبل أن تصل يدها إلى صدغه، كان قابضًا عليها، يعتصرها بقسوةٍ، فتألمت بشدة، نظر لها بعينين تحولتا للإظلام وهو يتوعدها بما جعل داخلها قبل خارجها يرتج من الارتجاف:
-الظاهر إنك محتاجة تعرفي أنا مين كويس ................................... !!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close