رواية وريث آل نصران الفصل العاشر 10 بقلم فاطمة عبدالمنعم
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المتاعب تتكاثر، و الأقبح من تكاثر متاعبك هو أن تتناثر الضوضاء حولك وأنت تحارب، هو أن يخبرك الجميع بأن ما تفعله أكبر خطأ و قلبك وحده يطمئنك أنك على صواب، و ما بين هنا وهناك تتشتت.
في منزل "مهدي" و خاصة في غرفة مكتبه
انتهى من وضع الأوراق مرتبة في موضعها الصحيح وقبل أن يفعل أي شيء آخر وجد زوجته تقتحم الغرفة وتقول بجدية:
عايزاك في موضوع يا "مهدي".
ضرب على الطاولة بخفة، متأملا دخول زوجته الثائر ثم قال:
الدخلة دي كنتي بتدخليها تشتكي من هادية وعيالها، وادي هادية طفشت وسابتلك الدنيا بحالها عايزة إيه بقى يا " كوثر" ؟
كسا وجهها تعبير مشمئز وبان غضبها في ردها على سؤاله:
سابتلي أنا الدنيا؟... جاية تفتكر تسيب دلوقتي، ما كان قدامها سنين طويلة.... غطى على الحديث الحدة وهي تتابع:
"هادية" مرجعتش معاك ليه يا "مهدي"؟... بقالي شهر ونص بسألك نفس السؤال وأنت مبتردش.
ترك مقعده واتجه ناحية زجاجة المياه، جرع منها ثم تحدث بضجر:
قولتلك قالت مش هترجع، هو أنتِ مش كنتي عايزاها تمشي... شاعلة بالك بيها ليها يا " كوثر"
صاح في جملته الأخيرة وقد طفح كيله:
ارحمي بقى.
جلست على أحد المقاعد تريح قدميها من انهاك الوقوف طويلا، رفعت عينيها تحيطه بسهامها وقد كسا نبرتها الغيظ وهي تقول:
أنا يا اخويا مش شاغلة بالي بحد، أنا شاغلة بالي بمنظرك وسط أهل البلد وأربع ستات من بيتك طفشوا كده.
رأت تأففه بانزعاج فقامت بتغيير مجرى الحديث متابعة:
عموما ده مش موضوعنا...أنا جيالك علشان "علا".
_مالها " علا" ؟
سألها باهتمام فأجابت موضحة:
قولتلها اتخطبي لمحسن شهر ولو معجبكيش سيبيه، واديها أهو داخلة على الشهرين مخطوباله، البت مش عايزاه ولا طايقة تبص في وشه... وأنا مش هرمي البت علشان حتة أرض يا "مهدي".
زفر بضيق واضح وأتبع زفيره سؤاله المستفسر:
هي فين دلوقتي؟
كانت عيناها على الأوراق المرصوصة على مكتب زوجها، فأسرع هو إلى الأوراق يضعهم في الملف الخاص بهم، ضحكت ساخرة وهي تجيبه:
في الكلية.
تركت مقعدها واستعدت لمغادرة الغرفة وسط نظرات زوجها المتابعة ولكنها توقفت وهي تنبهه مشيرة إلى ذراعها:
اقطع دراعي من هنا إن مكنتش أنت وابنك مخبيين مصيبة ومش عايزين حد يعرفها.
نطق بغضب معنفا:
هنكون مخبيين ايه يعني يا " كوثر" ؟
ضحكت من عنفه المبالغ فيه أمام قولها وتركت المكتب مغمغمة وهي تمر في الردهة:
يلا...بكرا المستخبي يبان.
★***★***★***★***★***★***★***★
خرجت إلى الحانة، تجلس مع والدتها شاردة... ترمق البشر في الخارج وكل منهم يعبر وكأن أحذيتهم تدهس روحها دهسا... سمعت صوت القارئ من المذياع يتلو آيات القرآن التي ساهمت في غمر روحها بالسلام، وانتهت والدتها من بيع شيء ما لأحد الزبائن وعادت لها بكوب ساخن من الشاي الممزوج بالحليب قائلة بحنان:
خدي يا حبيبتي اشربي.
_شكرا.
قالتها بهدوء، والأصدق أنها قالتها بلا حياة، فزفرت والدتها بتعب وقطع ذلك الصوت المميز الذي أصبح مألوف لديهم منذ أيام:
صباح الخير.
ردت "هادية" بابتسامة ودودة:
صباح النور... ازيك يا "عيسى".
هز رأسه بمعنى أنه بخير وأشار ناحية " ملك" ناطقا:
الحاج نصران باعتني في حاجة لملك.
هنا رفعت وجهها له، و سبقتها والدتها في الترحيب به وقد جذبت له مقعد ووضعته قائلة:
اتفضل اقعد.
دخل إلى الدكان واتجه ناحية المقعد الذي وضعته هادية فجلس عليه وأمام نظراتهما المستفسرة بدأ في الحديث:
أنتِ مخلصة تجارة يا "ملك" صح؟
_اه مخلصة كلية تجارة و بعمل دراسات، بس مكملتش من ساعة وفاة "فريد".
أخبرته بنبرة رافقها الحزن فقال:
طب جميل جدا، كملي دراسة... مبتفكريش تشتغلي جنب الدراسة ؟
هنا تحدثت أمها بدلا عنها حين رأت حيرة ابنتها الظاهرة على وجهها:
" ملك" أصلها مش عارفة الأماكن، و مفكرتش تدور علشان دراستها.
اندهشت "هادية" حين وجدته يشير على الكوب الزجاجي الموضوع أمام "ملك" قائلا:
بردت .
لم تدر "ملك" أي شيء يقصد ولكن حين نظرت لما يشير إليه عرفت مقصده، فضمت الكوب بكفيها أثناء قولها:
نسيت أشربها... مش مهم هشربها كده.
ذهبت هادية لتحضر له زجاجة مياه غازية أما هو فأخبر "ملك" بعرض والده حين قال:
بابا بيعرض عليكِ إنك تراجعي حسابات الأراضي بتاعته.
كانت ستخبره بتخوفها في ارتكاب أي خطأ في شيء مهم كهذا ولكن طمأنها حين قال:
و متقلقيش لو حصل غلط أول شهر ده فترة تدريب عادي والحاج هيخلي حد يراجع معاكي لو في حاجة وقفت.
لم يجد منها إجابة فسألها منبها:
ايه يا "ملك" مش موافقة؟
لم يكن صعب على "هادية" أن تعرف سبب عرضه لهذه الوظيفة، يريد تقديم مساعدة ولكن بطريقة تقبلها، وهنا تحدثت موجهة الحديث إلى "عيسى":
ملك كفاية عليها الدراسة علشان زي ما قالتلك لسه بتكمل، وقول للحاج نصران كتر خيره كفاية الشقة والمحل هو عمل اللي عليه وزيادة.
تحدث عيسى بهدوء بعد أن وصل إليه مغزى كلمات هادية جيدا:
أنا عايز اسمعها من " ملك" ، واعتقد الشغل ملهوش دعوة بأي حاجة شخصية... دي وظيفة موجودة ومناسبة لمجالها موافقة هتشتغل فترة نشوف ينفع تكمل ولا لا كتدريب ليها ولو الأداء كويس هتكمل، مش موافقة هقوم أمشي.
ثم وجه عينيه إلى "هادية" موضحا:
وأكيد مش هتحصل مجاملة على حساب شغلنا.. لازم حضرتك تكوني عارفة إن ده عرض عمل زي أي وظيفة بيتعملها إعلان.
تبادلت النظرات مع والدتها، كلامه مقنع يزج بأي اعتراض أو توجس لديهما لذا وبنبرة شابها التردد قالت "ملك":
خلاص أنا موافقة.
كان يعلم أن الأمر سينتهى بموافقتها، حتى اعتراض والدتها لن يغير شيء، استعد للمغادرة فترك مقعده قائلا:
كده اتفقنا... همشي أنا بقى
قاطعته " هادية" بقولها المعترض:
ازاي بس أنت حتى مشربتش حاجة.
اعتذر عن ذلك واعدا بزيارة اخرى ولكن قطع مغادرته صوت "ملك":
لو سمحت.
استدار لها، انتظر ما ستقوله ولكن ظهر الارتباك جليا عليها ولكنها في النهاية أردفت برجاء نثره بريق عينيها عليه قبل قولها:
هو أنا ممكن أشوف أوضة فريد؟
ربما حملت قطعة منه، ربما هو هناك في زاوية ما سيخبرها أن كل هذا هراء... ربما ليس هناك ولكن بالتأكيد رائحته هناك.
★***★***★***★***★***★***★***★
في جامعة الآثار بمحافظة الاسكندرية، وداخل إحدى القاعات... انتهت المحاضرة بانصراف معلمهم، ولم يبق سوى الطلبة الذين بدأوا في الخروج
نطقت إحدى الفتيات بحماس شديد لصديقتها:
شهد...ميار عاملة حتة حفلة في بيتهم النهاردة وبيقولوا هتبقى جامدة ما تيجي معانا.
لم تحب " شهد" يوما هذه ال "ميار"، تلك التي تفتخر بملابسها وأدوات تجميلها بل والسيارة التي تقوم بتجديدها كل شهرين، لم تكره غناها بل كرهت تفاخرها وتعاملها الغليظ.
نطقت شهد باستغراب:
واحنا من امتى صحاب علشان أروح حفلة عيد ميلادها؟
صححت لها صديقتها وقالت بلهجة برز فيها الانبهار:
لا مش عيد ميلادها، ده حفلة علشان رجعت لباسم،
و بعدين تعالي نروح دي عاملاها في نادي حلو جدا
لاحظت صديقتها أنها بدأت تميل لاقتراحها فتابعت:
ومش هنتأخر نروح الساعة 8 ونقعد ساعة واحدة بس.
هي لم تخبر والدتها بشيء، سينتهي يومها الدراسي في الخامسة، وبالتأكيد لن توافق والدتها على شيء كهذا لذا قالت:
بصي احنا ممكن نروح بس ساعة واحدة بس علشان أنا عايزة أشوف الجو هناك.
بدا الفرح على وجه صديقتها وهي تقول:
أيوه بقى.
كانا قد خرجا من قاعة المحاضرات فشاهدا " علا" في الممر..._ابنة عم "شهد" والتي تدرس نفس تخصصها_
بهت وجه صديقة "شهد" حين لمحت نظرات "علا" لهما وقالت:
أنا عايزة أسألك على حاجة "علا" ماشية تقولها في الكلية؟
انكمش حاجبي "شهد" وهي تسأل باستغراب:
بتقول إيه؟
_هو انتوا فعلا سيبتوا بيت عمك علشان أنتِ على علاقة بواحد وعمك شاف صورك فطردكوا؟
قالتها صديقة دراستها بحذر وتردد وندمت حقا حين لمحت ذلك الوميض الشرس في عيني "شهد"، و تحركها بثورة ناحية " علا" فحاولت منعها تقول برجاء:
لا يا شهد بتعملي ايه؟
أبعدت يدها بقوة وهرولت ناحية "علا" الواقفة وسط صديقاتها... نطقت بغضب:
هو أنتِ يا بت أنتِ مش هتبطلي القرف اللي أنتِ فيه ده؟
رفعت "علا" حاجبها باستنكار وهي تسألها متصنعة عدم معرفتها:
أنتِ بتكلمي مين كده يا بتاعة أنتِ؟
وضعت "شهد" يدها على خصرها، وكسا وجهها تعبير مستهزئ حين قالت:
بكلمك أنتِ يا بنت كوثر، ماشية تقولي إن أبوكي طردنا! ، أبوكي ده لو يقدر يطرد نملة كان زمانه طردك أنتِ والبومة أمك من زمان وخلص منكوا.
نطقت إحدى صديقات "علا" بضجر:
إيه يا بت قلة الأدب دي؟
دفعتها "شهد" بيدها مجيبة على حديثها بنبرة مماثلة:
البت دي يا حبيبتي تقوليها لصاحبتك، وقلة الأدب أنتوا لسه ما شوفتهاش.
على حين غرة دفعت "علا" ابنة عمها بكفيها وهي تقول بتحدي:
طب تعالي وريهالي بقى.
وقعت "شهد" على صديقتها إثر الدفعة القوية؛ فاستشاطت غضبا ووقفت على قدميها، ولم يدرك الواقفون ما يحدث إذ جذبت "شهد" ابنة عمها من ملابسها ونشب العراك بين كليهما ولم يستطع أحد الفض بينهما، آثار يد شهد على وجه "علا"، وخصلات من شعر " شهد" التصقت بكف ابنة عمها.... ولم ينته الأمر إلا حين نبهت إحدى الواقفات:
في بنت راحت تنده الأمن وكده هتتفصلوا أنتوا الاتنين.
ابتعدت "شهد" فوالدتها لن تغفر شيء كفصلها من الجامعة ولكنها توعدت لعلا بنظراتها قبل قولها:
ماشي.
التشابك بالأيدي انتهى ولكن حرب النظرات ما زالت مشتعلة!
★***★***★***★***★***★***★***★
مشهد الغروب ظاهر من الخارج وهو يرتب ملابسه في حقيبة ظهر، ووالده يقف جواره متعجبا من قراره هذا فنطق بضيق:
ايه اللي بتعمله ده بس يا "شاكر".
وضع " شاكر" المزيد من القطع في الحقيبة وهو يجيب:
بعمل إيه بس يا أبويا، أنت مش قولت عندك شغل مع تجار الفاكهة في القاهرة، سيبني أروح أنا أخلص الشغل ده... علشان أنا مش متطمن.
كان الاستغراب هو صاحب "مهدي" في هذا الموقف إذ نطق:
مش متطمن لإيه بالظبط؟
جلس "شاكر" على فراشه وقد نثر من زجاجة عطره على ملابسه، وتأكد من مظهر سترته ثم قال:
في واحد اتلم على "محسن" وبقى يجي يسهر معانا كل يوم، وفجأة اختفى... الحاجة اللي تقلق بقى إن بعد ما اختفى عرفت من "محسن" إنه كان بيسأل كتير عني وعن "فريد" اللي اتقتل، وعن السبب اللي خلى مرات عمي تمشي، فمعنى كده إن في حد شاكك في الموضوع
تابع "شاكر" أمام نظرات والده المذعورة:
جايز اتكلم فضول، بس الحرص واجب علشان كده أنا هروح القاهرة كام يوم علشان لو حصل حاجة أعرف أتصرف وأبقى مش موجود.
ضرب "مهدي" على فخذه ناطقا بغضب:
كان ليه كل ده من الأول يا بني.
قام "شاكر" هاتفا بانفعال جعل والده يتيقن أن مصائب ابنه لم تنته بعد:
علشان بنت أخوك السبب... وأقسم بربي لو مكانتش ليا بعد كل ده هتشوف اللي عمرها ما شافته.
ارتدى حقيبته وهو يتابع:
خليها هي وأمها عند "نصران"، هتشوف مين يكسب في الآخر.
في الخارج
وقفت سيارة الأجرة أمام منزل " مهدي" وبها "شهد" وصديقتها "ريم".... طلبت " شهد" من ريم أن تنتظرها حتى تنهي مهمتها ونزلت هي من السيارة متجهة نحو منزل عمها، أخذت تدق على الباب بشراسة وكأن وحش جائع تختبئ فريسته خلف ذلك الباب ، فتحت الخادمة الباب وظهر على وجهها علامات القلق، ولكن هدأت قليلا بعد أن رأت "شهد" إلا أن الهدوء زال حين قالت "شهد" بنبرة حادة:
ناديلي "كوثر" ولا أي حد في الخرابة دي.
أثناء حديثها وجدت "شاكر"'ووالده على الدرج و شاكر يغني بضحكة واسعة:
حبيبة عمها، يا اخواتي بحبها .
لم تبد انزعاجها من هذا المتبجح بل تمسكت بثورتها حين خرجت " كوثر" مهللة بعد ما أخبرتها الخادمة:
الله الله جاية تقولي على البيت اللي كان لامك أنتِ وأمك زريبة.
شملتهم "شهد" بنظراتها موجهة حديثها للجميع:
اسمعي يا ست أنتِ، اسمعوا كلكوا.... بنتك "علا" دي لو أنتوا مش عارفين تربوها أنا أعرف أربيهالك كويس.
_هي الحلوة مش خايفة أحبسها هنا وأقول هي اللي جت برجلها؟
سألها "شاكر" بلهجة زرع فيها ما يخيفها ولكنها لم تستسلم إذ فجرت قنبلتها تقول:
لا مش خايفة، علشان هقولهم ساعتها إنك قاتل ابنهم ولا صور ولا حاجة هتخوفني.
ضربت "هادية" على صدرها تقول بصدمة:
قتل!
حاول "مهدي" جعل "شهد" تتوقف عن الحديث ولكنها نطقت مؤكدة:
اه يا حبيبتي قتل، ابنك قاتل ولولا احنا ساكتين كان زمانه الله يرحمه دلوقتي.
جذبها "شاكر" من خصلاتها بعنف وهو يقول بشر مستطر:
لا يا حبيبتي أنتِ مش ساكتة شفقة، أنا وأنتِ عارفين كويس أنتوا ساكتين ليه.
حاول والده إبعاده عنها وهو يقول بلهجة آمرة:
سيبها يا "شاكر"... شهد هتعقل وتمشي، ولو على
" علا" أنا هبعدها عنك خالص .
لم يترك "شاكر" خصلاتها بل ضغط أكثر وهو ينطق من وسط سبها له:
خليكي حلوة كده، بدل ما أقسم بالله أخليكي تحصليه.
ترك أخيرا خصلاتها فمالت على الأرضية تخلع حذائها و داهمته في مفاجأة منها تضربه وقد اشتعلت النيران بكامل جسدها، هرول والده ووالدته نحوها ولكنها ابتعدت وخرجت من المنزل مسرعة قبل أن يلحق بها هذا المعتوه الذي سمعت سبابته لها من الداخل.
★***★***★***★***★***★***★***★
في منزل "نصران" وخاصة في غرفة "فريد"
كل شيء هنا يحترق اشتياقا لصاحبه كما تحترق هي
جلست على الفراش بعد أن التقطت من على الطاولة قلادته التي حوت أول حروف اسمها استطاعت أن تسمعه جيدا وهو يقول:
اسمك أهو البلد كلها عرفت إني بحب واحدة اسمها "ملك".
نطقت بوهن وقد نزلت دموعها:
ليه يا " فريد" ؟
تابعت وقد زاد نحيبها:
مش أنت قولتلي اتطمني أنا معاكي، اتطمن ازاي دلوقتي... مفيش حد واحد بس بيطمني.
استطردت وهي تمسح على فراشه:
أنا كنت ببقى قوية بيك، دلوقتي أنا خايفة وضعيفة... ارجع نص ساعة بس بلاش نص ساعة خليها دقيقة.... دقيقة أحضنك فيها وامشي تاني.
وجدت بعض الأوراق والأقلام الملونة على مكتبه فاتجهت نحوه وهنا تحولت دموعها إلى فيضان حين قرأت ما دُوِن على الورقة الأولى:
للمرة العاشرة بحاول أكتبلك جواب أحطه مع هدية عيد ميلادك، وعايز أقول إن أصعب حاجة بالنسبة لواحد زيي إنه يحب واحدة مغرمة بالجوابات الورق، علشان أنا لا خطي حلو ولا عارف أتنيل أقول حاجة.... الحاجة الوحيدة اللي قادر أقولها إنك أحلى حاجة في كل السنين.
لم يتحمل ساقاها أكثر فانهارت على الأرضية جوار المكتب...هذه المرة ليس بكاء فقط بل بكاء ممزوج بصرخة قهر، ممزوج بقلب تمنى أن تكون آخر دقاته الآن.
جذبت الأوراق تحتضنها كأم تحتضن رضيعها الذي غاب عنها سنين
في نفس التوقيت
كانت "شهد" مع صديقتها في طريقهم إلى موقع الحفل، جذبت "شهد" هاتف صديقتها تتأكد من مظهرها، ذلك الجاكيت الأحمر الذي ناسب أحمر الشفاه الخاص بها فلونهما متماثل، وسروالها الأسود المشابه في اللون لخصلاتها التي تركتها منسدلة، أعطت الهاتف لصديقتها برضا، فابتعدت معتذرة بعد أن أجابت:
ثواني يا ماما ال signal ضايعة هنا خالص.
بعد أن تيقنت من ابتعادها تماما عن "شهد" قالت لمحدثتها بانتصار:
كله تمام أنا جيباها وجاية أهو.
استمعت للطرف الآخر ثم قالت بضحك:
الحباية دي هتخليها تهيبر و كله هيتفرج عليها.
يعدن لها مكيدة ولكن اليقين أنها لا تعلم شيء.
★***★***★***★***★***★***★***★
في منزل "نصران"
كانت "سهام" تغلي غضبا، تدور هنا وهناك تنتظر خبر واحد، منتظرة في الردهة حتى آتت "تيسير" إليها فنطقت سريعا:
عرفتي جايبها ليه؟
قالت "تيسير" بعد أن ذهبت لمعرفة ما يحدث كما طلبت "هادية":
طلعها أوضة فريد الله يرحمه.
_البت دي مش سهلة.
قالتها " سهام" بغضب حقيقي وكان "عيسى" يستعد لفتح باب المكتب كي يخرج ولكنه توقف حين سمع:
قالت "فريد" مات فتلف على أخوه بقى، راسمة لقدام وعايزة يبقالها مكان هنا بس ده بعينها، على جثتي إن حد يقبل بالموضوع ده لو حصل... مفكرة نفسها شاطرة وتعرف توقع "عيسى" ده يوقعها هي وبلدها كلها.
فتح "عيسى" الباب، تصنع عدم سماعه أي شيء خاصة بعد مواجهته الأخيرة مع "سهام" أصبحت تتجنبه تماما، صعد على الدرج حيث غرفة شقيقه وسمع جيدا قولها الهامس لتيسير:
وراه.
فتح الباب بعد أن دق عدد من المرات ولم يجد إجابة، دخل ليجد حالتها مزرية، الأوراق التي تتشبث بها، والنحيب المتواصل وجلستها هذه على الأرضية الباردة، جلس على الأرضية ليصبح أمامها، أخرجت الأوراق ونثرتها أمامه تقول بدموع مشيرة على كل ما فيها:
بص.
لم يكن يرى ما تريه ولكنه كان يرى بوضوح الخادمة التي تتلصص من جانب الحائط حيث ترك الباب مفتوح، نظر لهذه التعسة، أجبرها على النظر إلى عينيه وهو يسأل:
كنت بتحبيه صح؟
هزت رأسها تخبره أن هذا يقين لا شك به، تناول قلم من على المكتب المجاور لهما وكتب شيء ما في الورقة، نظرت له باستغراب ولكن وجد في عينيه الإصرار ذلك الإصرار الذي يحاوطك فيسيطر عليك، و الشيء الأصعب أن يظهر الإصرار في نطقه وهو يقول:
تتجوزيني؟
شهقت "تيسير" بصدمة ليست أقل من صدمة الجالسة في الداخل أمامه، مخاوف ربة المنزل تتحقق الآن والسبب هو.
تستطيع الرفض أمام إصرار الآخرين كثيرا، ولكن إذا كان من أمامك "عيسى نصران" ذلك الذي لم يكن إصراره إلا وحش قاتل فلن تستطيع فعل أي شيء في لحظتها فقط ستبقى صامتا... ربما صمت طويل ...
صمت يشبه قوله ، وقوله لم يكن...
إلا مقبرة.
يُتبع
إن المتاعب تتكاثر، و الأقبح من تكاثر متاعبك هو أن تتناثر الضوضاء حولك وأنت تحارب، هو أن يخبرك الجميع بأن ما تفعله أكبر خطأ و قلبك وحده يطمئنك أنك على صواب، و ما بين هنا وهناك تتشتت.
في منزل "مهدي" و خاصة في غرفة مكتبه
انتهى من وضع الأوراق مرتبة في موضعها الصحيح وقبل أن يفعل أي شيء آخر وجد زوجته تقتحم الغرفة وتقول بجدية:
عايزاك في موضوع يا "مهدي".
ضرب على الطاولة بخفة، متأملا دخول زوجته الثائر ثم قال:
الدخلة دي كنتي بتدخليها تشتكي من هادية وعيالها، وادي هادية طفشت وسابتلك الدنيا بحالها عايزة إيه بقى يا " كوثر" ؟
كسا وجهها تعبير مشمئز وبان غضبها في ردها على سؤاله:
سابتلي أنا الدنيا؟... جاية تفتكر تسيب دلوقتي، ما كان قدامها سنين طويلة.... غطى على الحديث الحدة وهي تتابع:
"هادية" مرجعتش معاك ليه يا "مهدي"؟... بقالي شهر ونص بسألك نفس السؤال وأنت مبتردش.
ترك مقعده واتجه ناحية زجاجة المياه، جرع منها ثم تحدث بضجر:
قولتلك قالت مش هترجع، هو أنتِ مش كنتي عايزاها تمشي... شاعلة بالك بيها ليها يا " كوثر"
صاح في جملته الأخيرة وقد طفح كيله:
ارحمي بقى.
جلست على أحد المقاعد تريح قدميها من انهاك الوقوف طويلا، رفعت عينيها تحيطه بسهامها وقد كسا نبرتها الغيظ وهي تقول:
أنا يا اخويا مش شاغلة بالي بحد، أنا شاغلة بالي بمنظرك وسط أهل البلد وأربع ستات من بيتك طفشوا كده.
رأت تأففه بانزعاج فقامت بتغيير مجرى الحديث متابعة:
عموما ده مش موضوعنا...أنا جيالك علشان "علا".
_مالها " علا" ؟
سألها باهتمام فأجابت موضحة:
قولتلها اتخطبي لمحسن شهر ولو معجبكيش سيبيه، واديها أهو داخلة على الشهرين مخطوباله، البت مش عايزاه ولا طايقة تبص في وشه... وأنا مش هرمي البت علشان حتة أرض يا "مهدي".
زفر بضيق واضح وأتبع زفيره سؤاله المستفسر:
هي فين دلوقتي؟
كانت عيناها على الأوراق المرصوصة على مكتب زوجها، فأسرع هو إلى الأوراق يضعهم في الملف الخاص بهم، ضحكت ساخرة وهي تجيبه:
في الكلية.
تركت مقعدها واستعدت لمغادرة الغرفة وسط نظرات زوجها المتابعة ولكنها توقفت وهي تنبهه مشيرة إلى ذراعها:
اقطع دراعي من هنا إن مكنتش أنت وابنك مخبيين مصيبة ومش عايزين حد يعرفها.
نطق بغضب معنفا:
هنكون مخبيين ايه يعني يا " كوثر" ؟
ضحكت من عنفه المبالغ فيه أمام قولها وتركت المكتب مغمغمة وهي تمر في الردهة:
يلا...بكرا المستخبي يبان.
★***★***★***★***★***★***★***★
خرجت إلى الحانة، تجلس مع والدتها شاردة... ترمق البشر في الخارج وكل منهم يعبر وكأن أحذيتهم تدهس روحها دهسا... سمعت صوت القارئ من المذياع يتلو آيات القرآن التي ساهمت في غمر روحها بالسلام، وانتهت والدتها من بيع شيء ما لأحد الزبائن وعادت لها بكوب ساخن من الشاي الممزوج بالحليب قائلة بحنان:
خدي يا حبيبتي اشربي.
_شكرا.
قالتها بهدوء، والأصدق أنها قالتها بلا حياة، فزفرت والدتها بتعب وقطع ذلك الصوت المميز الذي أصبح مألوف لديهم منذ أيام:
صباح الخير.
ردت "هادية" بابتسامة ودودة:
صباح النور... ازيك يا "عيسى".
هز رأسه بمعنى أنه بخير وأشار ناحية " ملك" ناطقا:
الحاج نصران باعتني في حاجة لملك.
هنا رفعت وجهها له، و سبقتها والدتها في الترحيب به وقد جذبت له مقعد ووضعته قائلة:
اتفضل اقعد.
دخل إلى الدكان واتجه ناحية المقعد الذي وضعته هادية فجلس عليه وأمام نظراتهما المستفسرة بدأ في الحديث:
أنتِ مخلصة تجارة يا "ملك" صح؟
_اه مخلصة كلية تجارة و بعمل دراسات، بس مكملتش من ساعة وفاة "فريد".
أخبرته بنبرة رافقها الحزن فقال:
طب جميل جدا، كملي دراسة... مبتفكريش تشتغلي جنب الدراسة ؟
هنا تحدثت أمها بدلا عنها حين رأت حيرة ابنتها الظاهرة على وجهها:
" ملك" أصلها مش عارفة الأماكن، و مفكرتش تدور علشان دراستها.
اندهشت "هادية" حين وجدته يشير على الكوب الزجاجي الموضوع أمام "ملك" قائلا:
بردت .
لم تدر "ملك" أي شيء يقصد ولكن حين نظرت لما يشير إليه عرفت مقصده، فضمت الكوب بكفيها أثناء قولها:
نسيت أشربها... مش مهم هشربها كده.
ذهبت هادية لتحضر له زجاجة مياه غازية أما هو فأخبر "ملك" بعرض والده حين قال:
بابا بيعرض عليكِ إنك تراجعي حسابات الأراضي بتاعته.
كانت ستخبره بتخوفها في ارتكاب أي خطأ في شيء مهم كهذا ولكن طمأنها حين قال:
و متقلقيش لو حصل غلط أول شهر ده فترة تدريب عادي والحاج هيخلي حد يراجع معاكي لو في حاجة وقفت.
لم يجد منها إجابة فسألها منبها:
ايه يا "ملك" مش موافقة؟
لم يكن صعب على "هادية" أن تعرف سبب عرضه لهذه الوظيفة، يريد تقديم مساعدة ولكن بطريقة تقبلها، وهنا تحدثت موجهة الحديث إلى "عيسى":
ملك كفاية عليها الدراسة علشان زي ما قالتلك لسه بتكمل، وقول للحاج نصران كتر خيره كفاية الشقة والمحل هو عمل اللي عليه وزيادة.
تحدث عيسى بهدوء بعد أن وصل إليه مغزى كلمات هادية جيدا:
أنا عايز اسمعها من " ملك" ، واعتقد الشغل ملهوش دعوة بأي حاجة شخصية... دي وظيفة موجودة ومناسبة لمجالها موافقة هتشتغل فترة نشوف ينفع تكمل ولا لا كتدريب ليها ولو الأداء كويس هتكمل، مش موافقة هقوم أمشي.
ثم وجه عينيه إلى "هادية" موضحا:
وأكيد مش هتحصل مجاملة على حساب شغلنا.. لازم حضرتك تكوني عارفة إن ده عرض عمل زي أي وظيفة بيتعملها إعلان.
تبادلت النظرات مع والدتها، كلامه مقنع يزج بأي اعتراض أو توجس لديهما لذا وبنبرة شابها التردد قالت "ملك":
خلاص أنا موافقة.
كان يعلم أن الأمر سينتهى بموافقتها، حتى اعتراض والدتها لن يغير شيء، استعد للمغادرة فترك مقعده قائلا:
كده اتفقنا... همشي أنا بقى
قاطعته " هادية" بقولها المعترض:
ازاي بس أنت حتى مشربتش حاجة.
اعتذر عن ذلك واعدا بزيارة اخرى ولكن قطع مغادرته صوت "ملك":
لو سمحت.
استدار لها، انتظر ما ستقوله ولكن ظهر الارتباك جليا عليها ولكنها في النهاية أردفت برجاء نثره بريق عينيها عليه قبل قولها:
هو أنا ممكن أشوف أوضة فريد؟
ربما حملت قطعة منه، ربما هو هناك في زاوية ما سيخبرها أن كل هذا هراء... ربما ليس هناك ولكن بالتأكيد رائحته هناك.
★***★***★***★***★***★***★***★
في جامعة الآثار بمحافظة الاسكندرية، وداخل إحدى القاعات... انتهت المحاضرة بانصراف معلمهم، ولم يبق سوى الطلبة الذين بدأوا في الخروج
نطقت إحدى الفتيات بحماس شديد لصديقتها:
شهد...ميار عاملة حتة حفلة في بيتهم النهاردة وبيقولوا هتبقى جامدة ما تيجي معانا.
لم تحب " شهد" يوما هذه ال "ميار"، تلك التي تفتخر بملابسها وأدوات تجميلها بل والسيارة التي تقوم بتجديدها كل شهرين، لم تكره غناها بل كرهت تفاخرها وتعاملها الغليظ.
نطقت شهد باستغراب:
واحنا من امتى صحاب علشان أروح حفلة عيد ميلادها؟
صححت لها صديقتها وقالت بلهجة برز فيها الانبهار:
لا مش عيد ميلادها، ده حفلة علشان رجعت لباسم،
و بعدين تعالي نروح دي عاملاها في نادي حلو جدا
لاحظت صديقتها أنها بدأت تميل لاقتراحها فتابعت:
ومش هنتأخر نروح الساعة 8 ونقعد ساعة واحدة بس.
هي لم تخبر والدتها بشيء، سينتهي يومها الدراسي في الخامسة، وبالتأكيد لن توافق والدتها على شيء كهذا لذا قالت:
بصي احنا ممكن نروح بس ساعة واحدة بس علشان أنا عايزة أشوف الجو هناك.
بدا الفرح على وجه صديقتها وهي تقول:
أيوه بقى.
كانا قد خرجا من قاعة المحاضرات فشاهدا " علا" في الممر..._ابنة عم "شهد" والتي تدرس نفس تخصصها_
بهت وجه صديقة "شهد" حين لمحت نظرات "علا" لهما وقالت:
أنا عايزة أسألك على حاجة "علا" ماشية تقولها في الكلية؟
انكمش حاجبي "شهد" وهي تسأل باستغراب:
بتقول إيه؟
_هو انتوا فعلا سيبتوا بيت عمك علشان أنتِ على علاقة بواحد وعمك شاف صورك فطردكوا؟
قالتها صديقة دراستها بحذر وتردد وندمت حقا حين لمحت ذلك الوميض الشرس في عيني "شهد"، و تحركها بثورة ناحية " علا" فحاولت منعها تقول برجاء:
لا يا شهد بتعملي ايه؟
أبعدت يدها بقوة وهرولت ناحية "علا" الواقفة وسط صديقاتها... نطقت بغضب:
هو أنتِ يا بت أنتِ مش هتبطلي القرف اللي أنتِ فيه ده؟
رفعت "علا" حاجبها باستنكار وهي تسألها متصنعة عدم معرفتها:
أنتِ بتكلمي مين كده يا بتاعة أنتِ؟
وضعت "شهد" يدها على خصرها، وكسا وجهها تعبير مستهزئ حين قالت:
بكلمك أنتِ يا بنت كوثر، ماشية تقولي إن أبوكي طردنا! ، أبوكي ده لو يقدر يطرد نملة كان زمانه طردك أنتِ والبومة أمك من زمان وخلص منكوا.
نطقت إحدى صديقات "علا" بضجر:
إيه يا بت قلة الأدب دي؟
دفعتها "شهد" بيدها مجيبة على حديثها بنبرة مماثلة:
البت دي يا حبيبتي تقوليها لصاحبتك، وقلة الأدب أنتوا لسه ما شوفتهاش.
على حين غرة دفعت "علا" ابنة عمها بكفيها وهي تقول بتحدي:
طب تعالي وريهالي بقى.
وقعت "شهد" على صديقتها إثر الدفعة القوية؛ فاستشاطت غضبا ووقفت على قدميها، ولم يدرك الواقفون ما يحدث إذ جذبت "شهد" ابنة عمها من ملابسها ونشب العراك بين كليهما ولم يستطع أحد الفض بينهما، آثار يد شهد على وجه "علا"، وخصلات من شعر " شهد" التصقت بكف ابنة عمها.... ولم ينته الأمر إلا حين نبهت إحدى الواقفات:
في بنت راحت تنده الأمن وكده هتتفصلوا أنتوا الاتنين.
ابتعدت "شهد" فوالدتها لن تغفر شيء كفصلها من الجامعة ولكنها توعدت لعلا بنظراتها قبل قولها:
ماشي.
التشابك بالأيدي انتهى ولكن حرب النظرات ما زالت مشتعلة!
★***★***★***★***★***★***★***★
مشهد الغروب ظاهر من الخارج وهو يرتب ملابسه في حقيبة ظهر، ووالده يقف جواره متعجبا من قراره هذا فنطق بضيق:
ايه اللي بتعمله ده بس يا "شاكر".
وضع " شاكر" المزيد من القطع في الحقيبة وهو يجيب:
بعمل إيه بس يا أبويا، أنت مش قولت عندك شغل مع تجار الفاكهة في القاهرة، سيبني أروح أنا أخلص الشغل ده... علشان أنا مش متطمن.
كان الاستغراب هو صاحب "مهدي" في هذا الموقف إذ نطق:
مش متطمن لإيه بالظبط؟
جلس "شاكر" على فراشه وقد نثر من زجاجة عطره على ملابسه، وتأكد من مظهر سترته ثم قال:
في واحد اتلم على "محسن" وبقى يجي يسهر معانا كل يوم، وفجأة اختفى... الحاجة اللي تقلق بقى إن بعد ما اختفى عرفت من "محسن" إنه كان بيسأل كتير عني وعن "فريد" اللي اتقتل، وعن السبب اللي خلى مرات عمي تمشي، فمعنى كده إن في حد شاكك في الموضوع
تابع "شاكر" أمام نظرات والده المذعورة:
جايز اتكلم فضول، بس الحرص واجب علشان كده أنا هروح القاهرة كام يوم علشان لو حصل حاجة أعرف أتصرف وأبقى مش موجود.
ضرب "مهدي" على فخذه ناطقا بغضب:
كان ليه كل ده من الأول يا بني.
قام "شاكر" هاتفا بانفعال جعل والده يتيقن أن مصائب ابنه لم تنته بعد:
علشان بنت أخوك السبب... وأقسم بربي لو مكانتش ليا بعد كل ده هتشوف اللي عمرها ما شافته.
ارتدى حقيبته وهو يتابع:
خليها هي وأمها عند "نصران"، هتشوف مين يكسب في الآخر.
في الخارج
وقفت سيارة الأجرة أمام منزل " مهدي" وبها "شهد" وصديقتها "ريم".... طلبت " شهد" من ريم أن تنتظرها حتى تنهي مهمتها ونزلت هي من السيارة متجهة نحو منزل عمها، أخذت تدق على الباب بشراسة وكأن وحش جائع تختبئ فريسته خلف ذلك الباب ، فتحت الخادمة الباب وظهر على وجهها علامات القلق، ولكن هدأت قليلا بعد أن رأت "شهد" إلا أن الهدوء زال حين قالت "شهد" بنبرة حادة:
ناديلي "كوثر" ولا أي حد في الخرابة دي.
أثناء حديثها وجدت "شاكر"'ووالده على الدرج و شاكر يغني بضحكة واسعة:
حبيبة عمها، يا اخواتي بحبها .
لم تبد انزعاجها من هذا المتبجح بل تمسكت بثورتها حين خرجت " كوثر" مهللة بعد ما أخبرتها الخادمة:
الله الله جاية تقولي على البيت اللي كان لامك أنتِ وأمك زريبة.
شملتهم "شهد" بنظراتها موجهة حديثها للجميع:
اسمعي يا ست أنتِ، اسمعوا كلكوا.... بنتك "علا" دي لو أنتوا مش عارفين تربوها أنا أعرف أربيهالك كويس.
_هي الحلوة مش خايفة أحبسها هنا وأقول هي اللي جت برجلها؟
سألها "شاكر" بلهجة زرع فيها ما يخيفها ولكنها لم تستسلم إذ فجرت قنبلتها تقول:
لا مش خايفة، علشان هقولهم ساعتها إنك قاتل ابنهم ولا صور ولا حاجة هتخوفني.
ضربت "هادية" على صدرها تقول بصدمة:
قتل!
حاول "مهدي" جعل "شهد" تتوقف عن الحديث ولكنها نطقت مؤكدة:
اه يا حبيبتي قتل، ابنك قاتل ولولا احنا ساكتين كان زمانه الله يرحمه دلوقتي.
جذبها "شاكر" من خصلاتها بعنف وهو يقول بشر مستطر:
لا يا حبيبتي أنتِ مش ساكتة شفقة، أنا وأنتِ عارفين كويس أنتوا ساكتين ليه.
حاول والده إبعاده عنها وهو يقول بلهجة آمرة:
سيبها يا "شاكر"... شهد هتعقل وتمشي، ولو على
" علا" أنا هبعدها عنك خالص .
لم يترك "شاكر" خصلاتها بل ضغط أكثر وهو ينطق من وسط سبها له:
خليكي حلوة كده، بدل ما أقسم بالله أخليكي تحصليه.
ترك أخيرا خصلاتها فمالت على الأرضية تخلع حذائها و داهمته في مفاجأة منها تضربه وقد اشتعلت النيران بكامل جسدها، هرول والده ووالدته نحوها ولكنها ابتعدت وخرجت من المنزل مسرعة قبل أن يلحق بها هذا المعتوه الذي سمعت سبابته لها من الداخل.
★***★***★***★***★***★***★***★
في منزل "نصران" وخاصة في غرفة "فريد"
كل شيء هنا يحترق اشتياقا لصاحبه كما تحترق هي
جلست على الفراش بعد أن التقطت من على الطاولة قلادته التي حوت أول حروف اسمها استطاعت أن تسمعه جيدا وهو يقول:
اسمك أهو البلد كلها عرفت إني بحب واحدة اسمها "ملك".
نطقت بوهن وقد نزلت دموعها:
ليه يا " فريد" ؟
تابعت وقد زاد نحيبها:
مش أنت قولتلي اتطمني أنا معاكي، اتطمن ازاي دلوقتي... مفيش حد واحد بس بيطمني.
استطردت وهي تمسح على فراشه:
أنا كنت ببقى قوية بيك، دلوقتي أنا خايفة وضعيفة... ارجع نص ساعة بس بلاش نص ساعة خليها دقيقة.... دقيقة أحضنك فيها وامشي تاني.
وجدت بعض الأوراق والأقلام الملونة على مكتبه فاتجهت نحوه وهنا تحولت دموعها إلى فيضان حين قرأت ما دُوِن على الورقة الأولى:
للمرة العاشرة بحاول أكتبلك جواب أحطه مع هدية عيد ميلادك، وعايز أقول إن أصعب حاجة بالنسبة لواحد زيي إنه يحب واحدة مغرمة بالجوابات الورق، علشان أنا لا خطي حلو ولا عارف أتنيل أقول حاجة.... الحاجة الوحيدة اللي قادر أقولها إنك أحلى حاجة في كل السنين.
لم يتحمل ساقاها أكثر فانهارت على الأرضية جوار المكتب...هذه المرة ليس بكاء فقط بل بكاء ممزوج بصرخة قهر، ممزوج بقلب تمنى أن تكون آخر دقاته الآن.
جذبت الأوراق تحتضنها كأم تحتضن رضيعها الذي غاب عنها سنين
في نفس التوقيت
كانت "شهد" مع صديقتها في طريقهم إلى موقع الحفل، جذبت "شهد" هاتف صديقتها تتأكد من مظهرها، ذلك الجاكيت الأحمر الذي ناسب أحمر الشفاه الخاص بها فلونهما متماثل، وسروالها الأسود المشابه في اللون لخصلاتها التي تركتها منسدلة، أعطت الهاتف لصديقتها برضا، فابتعدت معتذرة بعد أن أجابت:
ثواني يا ماما ال signal ضايعة هنا خالص.
بعد أن تيقنت من ابتعادها تماما عن "شهد" قالت لمحدثتها بانتصار:
كله تمام أنا جيباها وجاية أهو.
استمعت للطرف الآخر ثم قالت بضحك:
الحباية دي هتخليها تهيبر و كله هيتفرج عليها.
يعدن لها مكيدة ولكن اليقين أنها لا تعلم شيء.
★***★***★***★***★***★***★***★
في منزل "نصران"
كانت "سهام" تغلي غضبا، تدور هنا وهناك تنتظر خبر واحد، منتظرة في الردهة حتى آتت "تيسير" إليها فنطقت سريعا:
عرفتي جايبها ليه؟
قالت "تيسير" بعد أن ذهبت لمعرفة ما يحدث كما طلبت "هادية":
طلعها أوضة فريد الله يرحمه.
_البت دي مش سهلة.
قالتها " سهام" بغضب حقيقي وكان "عيسى" يستعد لفتح باب المكتب كي يخرج ولكنه توقف حين سمع:
قالت "فريد" مات فتلف على أخوه بقى، راسمة لقدام وعايزة يبقالها مكان هنا بس ده بعينها، على جثتي إن حد يقبل بالموضوع ده لو حصل... مفكرة نفسها شاطرة وتعرف توقع "عيسى" ده يوقعها هي وبلدها كلها.
فتح "عيسى" الباب، تصنع عدم سماعه أي شيء خاصة بعد مواجهته الأخيرة مع "سهام" أصبحت تتجنبه تماما، صعد على الدرج حيث غرفة شقيقه وسمع جيدا قولها الهامس لتيسير:
وراه.
فتح الباب بعد أن دق عدد من المرات ولم يجد إجابة، دخل ليجد حالتها مزرية، الأوراق التي تتشبث بها، والنحيب المتواصل وجلستها هذه على الأرضية الباردة، جلس على الأرضية ليصبح أمامها، أخرجت الأوراق ونثرتها أمامه تقول بدموع مشيرة على كل ما فيها:
بص.
لم يكن يرى ما تريه ولكنه كان يرى بوضوح الخادمة التي تتلصص من جانب الحائط حيث ترك الباب مفتوح، نظر لهذه التعسة، أجبرها على النظر إلى عينيه وهو يسأل:
كنت بتحبيه صح؟
هزت رأسها تخبره أن هذا يقين لا شك به، تناول قلم من على المكتب المجاور لهما وكتب شيء ما في الورقة، نظرت له باستغراب ولكن وجد في عينيه الإصرار ذلك الإصرار الذي يحاوطك فيسيطر عليك، و الشيء الأصعب أن يظهر الإصرار في نطقه وهو يقول:
تتجوزيني؟
شهقت "تيسير" بصدمة ليست أقل من صدمة الجالسة في الداخل أمامه، مخاوف ربة المنزل تتحقق الآن والسبب هو.
تستطيع الرفض أمام إصرار الآخرين كثيرا، ولكن إذا كان من أمامك "عيسى نصران" ذلك الذي لم يكن إصراره إلا وحش قاتل فلن تستطيع فعل أي شيء في لحظتها فقط ستبقى صامتا... ربما صمت طويل ...
صمت يشبه قوله ، وقوله لم يكن...
إلا مقبرة.
يُتبع