رواية ليل يا عين الفصل التاسع 9 بقلم رضوي جاويش
٩- الهودج
كان يحاول أن يمنع نفسه بشتى الطرق من الاتصال بها لغير سبب مقنع .. لكن من أين له بالأسباب المقنعة وما تنتظره هي من أخبار لم يكن بقادر على معرفتها ..
أصر على تجاهل ذاك الالحاح العجيب الذي يستشعره ليضغط رقمها، إلا أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح عندما وجد نفسه لا إراديا ينتظر صوتها على الجانب الآخر ..
ألتقط أنفاسه يحاول الحصول على بعض الثبات بنبرات صوته وهي تجيب في لهفة تمنى لو كانت من أجله :- الو .. ايوه يا حضرة الظابط ..
هتفت نجوى مؤكدة :- بخير الحمد لله .. ها فيه أخبار .. انا خلاص مبقتش قادرة أخبي على ماما أكتر من كده.. الفترة طولت بجد .. عشر أيّام كتير وماما مش مقتنعة أصلا إن عين ممكن تبعد عننا وعن المصنع بتاع بابا الله يرحمه الفترة دي كلها ..
هتف هشام متحرجا :- الصراحة مفيش جديد لحد دلوقتي.. وأنا اسف على تطفلي بس حبيت أبلغك إننا بنحاول بأقصى جهد الوصول لأي حاجة نقدر نعرف بيها طريق أختك ..
هتفت نجوى وقد بدأت في النحيب :- يعني برضو لسه مفيش أي خبر حتى يطمنا عليها ..!؟.. أقول لماما إيه دلوقتي ..!؟.. أقولها إني بسبب هزار بايخ عرضت عين لمصيبة زي دي وإننا مش عارفين حتى إذا كانت عايشة ولا ..
وتعالى صوت البكاء، والذي صمت فجأة ما أن هم بمواساتها، واضطرب الهاتف بيده وهو يستمع لصوت صرخات نجوى مصحوبة بنداء ملتاع على أمها، والتي سقطت أرضا تضع كفها موضع قلبها العليل ولا تستطيع إلتقاط أنفاسها ..
***********
طرقات على باب الحجرة جعلتها تنتفض مشوشة الفكر بعد تلك الصدمات التي عانتها بين قلبها وعقلها ..
فتحت الباب ليطالعها سبب الصراع الأوحد .. ليل الجارحي واقفا ببابها يهتف في نفاذ صبره المعتاد:- اچهزي حلاً .. لازما نمشوا ..
هتفت متسائلة ولازال النعاس يخيم على نبرتها :- هنروح فين !؟..
هتف بوجهها ساخرا في حدة :- بتسألي !؟..دِه على أساس اني هجولك مثلا !؟.. انتِ تجولي حاضر وبس ..
استفاقت بشكل تام بعد صراخه ذاك، ما دفعها لتجز على أسنانها في غيظ دافعة باب الحجرة مغلقة إياه بوجهه في عنف، جعله يقف موضعه لبضع ثوان يود لو يدخل إلى حجرتها لقتلها والخروج بنفس راضية .. لكنه ضم كفيه في شدة واندفع مبتعدا قبل أن ينفذ ما يريح باله ..
خرجت مرتدية ملابسها السابقة دافعة بالجِرجار لداخل حقيبة النقود مع بعض الأغراض الآخرى ..
خرجت من الدار لتفاجأ بعدد من الحمير والإبل تحمل بعض الصناديق وهو يمتطي صهوة فرس شهباء جميلة .. لكن أين موضعها يا ترى من هذه القافلة !؟.. تنبه لوقوفها على أعتاب الدار فأشار لإحدى النوق الباركة أمرا :- إطلعي ..
هتفت في ذعر :- أطلع فين !؟.. لا .. أنا بخاف .. أنا عمري ما ركبت جمل ..
كان يتمتم لا تعرف هل كان يتضرع لمزيد من الصبر أم كان يصب اللعنات على رأسها !؟..
ترجل من على فرسه جاذبا إياها من ساعدها تجاه الناقة أمرا وهو يشير لهودجها :- إطلعي متخافيش .. ده أامن مكان تبجى فيه .. الچو هايبجى صعب..
كان يقول ذلك بنبرة هادئة محاولا اقناعها بالمنطق على عكس ما تصورت تماما فقد توقعت عندما سحبها خلفه بتلك الطريقة أنه سيدفع بها عنوة لداخل الهودج وليكن ما يكون ..
هزت رأسها متفهمة وهي تحاول الصعود لكن دون جدوى فقد كان طولها بالكاد يصل لمستوى قاعدة الهودج على ظهر البعير وبعد عدد لا بأس به من المحاولات الفاشلة التي قضت على البقية الباقية من صبره المنعدم من الأساس حتى أمرها وهو ينحني مشبكا أصابع كفيه ببعضهما :- إركبي ..
نظرت في عدم تصديق لما يفعل هامسة في نبرة بلهاء :- أركب فين !؟..
همس شارحا :- حطي رچلك هنا على كفوفي وإركبي .. سهلة أهي ..
تطلعت من جديد لكفيه المتشابكتين اللذين من المفترض أن تضع عليهما قدمها لتكونا كدرج يسهل عليها الصعود على ظهر البعير وتشجعت لتنفذ ما أمرها به قبل أن يخرج عن طوره موبخا، واضعة قدمها على كفيه ليدفع بها في لحظة لداخل الهودج كطرد بريدي ..
تنفس ليل الصعداء عندما تأكد انها أصبحت تستقر بالداخل فما كان لديه مزيد من القدرة أو الشجاعة ليضع كفا عليها .. يكفيه ما يعانِ منذ البارحة حينما وقع ناظريه عليها بذاك الزي الذي اكسبها جمالا فطريا غير معقول وكذلك تلك الحلي التي كانت تصدر صوتا متلازما مع خطواتها يذهب بثبات العابد ليجدها بعدها بين ذراعيه متشبثة بأحضانه حتى لا تسقط أرضا فيسقط هو بديلا عنها صريعا لنظراتها التي أشعرته أنه يقف على الأعراف لا فاز بجنة عشقها ولا تلظى بنار بعادها .. ما بين بين هي حالته التي لايزل يعانيها ما أن تقع عيناه على محياها ..
طال شروده لتخرج عين رأسها من خلف غلالة رقيقة تحيط بالهودج هامسة :- هو إحنا مش هانمشي ولا إيه !؟..
تنبه أمرا إياها :- امسكي بعمدان الخشب اللي عندك كويس عشان جومة الچمل صعبة شوية .. مش عايزين نلاجوكِ محدوفة بره إحنا ما صدجنا ركبناكِ من الأساس ..
كان يقول كلماته الأخيرة بلهجة ساخرة دفعتها لتعاود النظر من خلف الغلالة في غيظ متناسية الإمساك بالأعمدة الخشبية كما أمرها إلا أنها استشعرت حركة الجمل فجأة فتشبثت بالأعمدة في قوة وهي تندفع بشدة للأمام مع حركة قوائم الجمل الخلفية ثم تعود لتندفع فجأة للخلف بشدة مع نهوض الجمل على قوائمه الأمامية وأخيرا تستقر في اتزان بعد أن أصبح الجمل جاهزا للمسير .. شعرت بالإعياء والرغبة في إفراغ معدتها مع كل هذه الارجحة، لكنها تجاهلت شعورها ذاك وهو يهتف من على صهوة فرسه :- أنتِ تمام فوج !؟..
لم يكن باستطاعتها المجازفة وإخراج رأسها للرد عليه وإلا قد يحدث ما لا يحمد عقباه، لذا أخرجت كفها رافعة إبهامها كعلامة متعارف عليها أن كل الأمور على ما يرام ما دفعه ليئد قهقهاته على حالها الذي يدركه تماما مكتفيا بابتسامة ارتسمت على شفتيه وهو يندفع بفرسه متقدم القافلة العجيبة التي اعادتها لزمن الجاهلية ..
تطلعت للأفق من عليائها فإذا بالليل يفك آخر خيوط ثوبه المعتم عن السماء لتبدأ الشمس في التثاؤب معلنة استيقاظها على استحياء ولازلت تحتجب خلف عدة غيمات تسيطر عليها الرغبة في النعاس..
سرحت بعين خيالها وحلمت أنها إحدى الأميرات التي يحرسها جيش من الجنود عند انتقالها من قصر أبيها السلطان إلى قصر زوجها الأمير ..
كان الترنح داخل الهودج يبعث على النعاس وخاصة أنها لم تنل قسطا كافيا من النوم بعد سهادها لساعات وإيقاظه لها للرحيل في تلك الساعة المتأخرة من الليل .. كانت أشبه بطفلة تُهدهد داخل مهدها الوثير فبدأت عيناها في الاستسلام لنداءات النوم إلا أنها نفضت الكرى عن جفونها فجأة عندما تناهى لمسامعها صوت مزمار شجي يُعزف بواسطة أحد الرجال بمطلع القافلة، مترنما بصوت رخيم بموال عشق :-
واه يا ليل .. يا ليلي .. ع اللي حب ولا طالشي
واه يا عين.. يا عيني.. ع اللي داب ولا جالشي.
اه يا ليل واه يا عين .. ميتا الزمان يا خلي ..
يچود بالوصل ما يبخلشي ..
تطلعت بنظرة خفية من خلف غلالة الهودج لتجده عاد من مقدمة القافلة ليسير جوار بعيرها، ترتسم على قسمات وجهه جدية وصلابة أشعرتها ببعض الرهبة .. وتساءلت إلى أين يا ترى ستكون وجتهم القادمة !؟..
سؤال هي تعلم أنها لن تعرف إجابته إلا عند الوصول لمستقرهم الجديد فلم تشغل بالها به!.
أعادت النظر من خلف غلالة الهودج الرقيقة من جديد، ليرفع ليل ناظريه لا إراديا تجاهها لتتلاقى النظرات لوهلة .. تراجعت هي للداخل لكنها لازالت تبصر نظرات عينيه معلقة بالهودج وقد لانت قسمات وجهه لتحمل هذه المرة بعض من الشغف، والقليل من الرقة، وشبه ابتسامة ..