رواية ليل يا عين الفصل الثامن 8 بقلم رضوي جاويش
٨- قاتلتها السمراء
ظهر جابر على مطلع التلة التي تفضي إلى الدار الحجري حيث يقيمون .. كانت تجلس على ذاك المقعد الحجري المستطيل الشكل الذي على ما يبدو أنه جزء لا يتجزأ من أحد جدران البيت ..
هتف جابر في مودة فطرية يتميز بها أهل النوبة بوجه عام، ملوحا بيده متسائلا عن حالها :- ماسكاجنا .!؟..
هتفت عين الحياة مبتسمة بدورها، تحاول تذكر الرد المناسب بالنوبية لتخبره أنها بخير :- ماسكاجر ..
قهقهت بدورها هاتفة :- بحاول ..
واستطردت وهي تشير للقرية النوبية البعيدة نوعا ما :- ايه الدوشة اللي هناك دي يا جابر !؟..
أكد جابر :- ده فرح يا داكتورة .. عجبال فرحك عن جريب ..
طل ليل في تلك اللحظة متطلعا إليها، لتشيح بناظريها عنه وهو يعاتب جابر هاتفا في نزق :- جاعد أنت تحكي حكاوي الحريم دي، وسايبني متلجح چوه .. مش تاچي نشوفوا هنعملوا إيه !؟.
انتفض جابر هاتفا :- استغفر الله العظيم .. يا بيه ما أني كنت فاكرك نايم .. وبعدين كل اللي اتفجنا عليه اتحضر ومستني أوامر چنابك ..
جلس ليل على طرف المقعد الحجري مشاركا إياه معها، فشعرت بضيق عجيب يشملها ورغم بعد المسافة بينهما والتي تزيد عن المتر إلا أنها شعرت به أقرب مما ينبغي، فتملمت في جلستها وهمت بالنهوض مغادرة لداخل الدار إلا أن جابر هتف يستوقفها :- يا داكتورة !؟..
استدارت تستفسر فإذا به يسألها :- ليكِ شوج تنزلي تتفرچي ع الحنة اللي هتكون الليلة بإذن الله ..
نقلت نظراتها بين ليل وجابر وتساءلت في تردد:- هو ينفع !؟..
نهض ليل ووقف على حافة التلة متطلعا للأفق، هاتفا في نبرة مسالمة على غير العادة :- اه ينفع .. وأني كمان نازل ..
هلل جابر في سعادة :- تمام جوي .. وأنا كنت عامل حسابي وچبت لِك دِه يا داكتورة .. لازما تلبسيه مينفعش تنزلي بهدومك دي عشان يعني ..
لم يكمل جابر حديثه، لكنها استنتجت ما كان يعنيه فهزت رأسها موافقة، وتناولت منه تلك اللفافة التي لا تعلم ما تحويه ودخلت لتبدل ملابسها ..
ساد الصمت وليل لايزل يقف موضعه شاردا حيث سادت الظلمة على مدد نظره وبدأت أصوات الاحتفال تعلو، وتناهى صوت الموسيقى بالدفوف إلى حيث موضعهما، لكنه استفاق من تيهه على أصوات رنانة جعلته يلتفت إلى حيث مصدرها، كانت عين قد ظهرت هاتفة في حرج :- أنا خلصت..
وقفت عند باب الدار حيث يغمرها ضوء المصابيح التي تم إشعالها ما أن قررت الشمس الأفول لتظهر بذاك الزي الذي جعلها أية من جمال رغم بساطته..
كان صوت تلك القلائد الذهبية التي ترتديها هو ما جعل ليل يستدير، وظل يتطلع إليها في صمت غامض ولم يعلق بحرف واحد رغم أنه لم يحد بناظريه عنها، ما جعلها تضطرب خجلا إلا أن جابر هتف في انشراح :- الله يا داكتورة .. الچِرچار عليكِ حاچة عظمة ..
ابتسمت حياءً هامسة :- متشكرة يا جابر بس هو اللبس ده اسمه الجرجار !؟..
أكد جابر :- اه يا داكتورة .. ده عباية ملونة وفوجيها عباية سودا من التل .. دِه الزي النوبي ..
تطلعت عين لطرف الزي الخلفي وهتفت :- طب وليه طويل من ورا شوية عن قدام !؟..
قهقه جابر مفسرا :- ما دِه سبب تسميته يا داكتورة .. چِرچار .. يعني طرفه بيتچرچر وراكِ وانتِ ماشية عشان يخفي أثر خطوات الحريم .. نوع من أنواع الأمان يعني ..
هزت عين رأسها متفهمة، ليخرج ليل من صمته أخيرا وهتف بنفاذ صبر :- مش ننزلوا ولا لسه فيه حكاوي تاني !؟..
تحرك جابر مستغفرا كعادته يهرول نازلا التلة، ليتبعه ليل بخطوات متمهلة وهي تتبعه بدورها .. كانت تعتقد أنه لايزل متعبا جراء جرحه الذي بدأ يطيب إلا أنها تأكدت أنه يبطئ الخطى من أجلها .. كانت تجاهد لكي تهبط بشكل صحيح غير مندفع قد تكون نهايته ملقاة أسفل التلة ..
تحققت مخاوفها حرفيا فقد بدأت في الاندفاع هبوطا رغما عنها وكأنما أحد يدفعها عنوة، وتخيلت نفسها ممددة بالأسفل عند جرف التلة بعد أن تعثرت في خطواتها إلا أن ليل كان الأسبق ليقف في طريق اندفاعها مكونا حائطا منيعا صد جسدها عن الانحدار المتهور نحو الأسفل ..
نوقف الاندفاع وألتقطت أنفاسها في تتابع محموم وهي تدرك أنها نجت بأعجوبة لكن ذاك الوضع الحميمي الذي وجدت نفسها به كان الأدعى لتستمر ضربات قلبها في التزايد وهي تضع كفيها مفرودتين على صفحة صدره الملاصقة له تحاول الابتعاد لكن لا مجال لذلك وقدماها مغروزتان في الرمال ..
رفعت ناظريها إليه تحاول أن تقول شيئا .. أي شيء يخرجها من متاهة المشاعر التي تدور فيها ولا تجد لها مخرجا، إلا أنها على العكس وجدت نفسها في متاهة أكثر تيها عندها تلاقت نظراتهما وغابت تماما عن حدود الزمان والمكان وهي تبصر بقلب هاتين العينين السمراوتين عالم من عجب.. ودنيا من حلم .. وأطياف من بهجة ..وحياة من أبدية .. مشاعر خرقاء واحاسيس تعربد بين جنبات الروح في عشوائية حلوة وصخب صامت أشد ضجيجا من عزف آلاف الدفوف .. وحشة وأنس ودود، وحشية تعلن عن نفسها في همجية متحضرة بقرع طبول قبائل بدائية قد أتخذت من العشق مذهبا ..
انتفضت لكنها لم تشح بنظراتها عنه أو ترفع كفيها عن صدره، وهو يمد كفيه ممسكا كتفيها يثبتها موضعها حتى يتسنى له الحركة مبتعدا ليفض اشتباك المشاعر ذاك وفوضى الحواس التي غرقا فيها حد الثمالة، وأخيرا ما أن اطمئن أنها بخير تحرك يوليها ظهره مستكملا طريقه وهو يضع كفه على موضع جرحه الذي اعتقدت أنه يؤلمه جراء اندفاعها بهذا الشكل تجاهه، إلا أنها تنبهت أنه يضع كفه على موضع قلبه ولم يرفعها عنه إلا عندما اقترب من حدود القرية النوبية فمد كفه يغطي وجهه بطرف عمامته ليدخل القرية خلف جابر ملثما، لا يظهر من خلف لثامه إلا عينيه.. قاتلتها السمراء ..
تنبهت أنه اتجه لموضع الرجال في أقصي المكان يحاول أن لا يكون ظاهرا على قدر الاستطاعة، أما هي فقد توجه بها جابر لتستقر جوار شقيقته مستورة التي أهدتها الجرجار الذي ترتديه اللحظة لتصبح واحدة من فتيات كثر يجلسن مصفقات أو مشاركات في حلبة الرقص على قرع الدفوف وأنغام الأغاني النوبية المبهجة ..
جذبتها مستورة لتشاركهن الرقص الإيقاعي المتمايل فتمنعت قليلا إلا أنها نهضت تشارك بالفعل وقد غمرتها عدوى الفرحة التي استجابت لها بكل كيانها .. بحثت عنه بناظريها حيث جلس منذ وصولهم إلا أنها لم تجده .. بحثت عن جابر فلم تجده كذلك .. شعرت أن في الأمر سرا .. قررت تجاهل غيابهما والاستمتاع ولو قليلا وخاصة عندما عرضت عليها مستورة رسم بعض الحناء على ظاهر كفيها فوافقت على الفور .. لكنها بعد فترة قصيرة ما أن انتهت من رسوم الحناء عادت تبحث عنهما بعيون زائغة حتى ظهرا أخيرا قرب نهاية الحفل ..
أشار إليها جابر لتتبعهما فأطاعت ترفع أطراف الجرجار حتى تستطيع اللحاق بهما ..
دخلا الدار الصخري أخيرا فتنهدت في تعب بعد ما عانته لصعود التلة وشعرت برغبة شديدة في النوم..
دخل ليل الغرفة وتبعته متجهة إلى ركنها المعتاد إلا أنه هتف يستوقفها مشيرا للفراش :- السَرير بجي ليكِ يا داكتورة .. أنا بجيت تمام ومش محتاچ حد معاي خلاص .. هفرش لي ف اوضة تانية وأنتِ خدي راحتك هنا..
لم تعقب بحرف فهذا من دواعي سرورها أن تمدد جسدها المنهك على فراش دافئ أخيرا .. جمع حاجياته المبعثرة بالغرفة وما أن هم بالخروج منها إلا واستوقفته هاتفة :- أنت خدت الأدوية والغيار ع الجرح معاك ليه !؟.. خليهم ووقت ما تحتاج ت..
قاطعها ليل مؤكدا :- مفيش داعي .. الچرح طاب ولو هحتاچ غيار عليه هخلي چابر يجوم بالواچب .. كفاية تعبك لحد كِده .. تصبحي على خير ..
واندفع خارج الغرفة مغلقا بابها خلفه، لتتطلع إلى الفراغ الذي خلفه رحيله مستشعرة أمرا ما غير اعتيادي وخارق للمنطق يدب بصدرها محدثا قرع على أبواب القلب وجدران الروح .. فماذا يمكن أن يكون !؟..
جلست على طرف الفراش وتحسست موضعه حيث تمدد جسده لعدة أيّام وتركت جسدها يتمدد بدوره لا تعلم ما دهاها وهي تتطلع لسقف الغرفة الذي يتراقص عليه شعاع المصباح البعيد متذكرة حالتها العجيبة آنذاك وهي تحاول الخلاص من شرك أحضانه، لكنها اللحظة تدرك بعين مفتوحة وعقل واعِ أنه لا خلاص .. ما جعلها تنتفض مذعورة تحاول أن تنفي هذه الحقيقة التي باتت جلية أمام ناظريها .. أكثر جلاءً وواقعية من نبضات قلبها التي تتقاذف بين أضلعها اللحظة معلنة ميلادا لخفقة فؤاد تحمل اسمه الرنان الذي ظل يتردد داخل عقلها المشوش ..ليل الجارحي ..