رواية حان الوصال الفصل السابع 7 بقلم أمل نصر
زمجرة بغليل خرجت منها، تدفع محتويات مكتبها على الارض بعنف اصدر ضجيجًا دوي في أنحاء المنزل، حتى اجفل والدتها من خارج الغرفة، لتدلف اليها سائلة بجزع تستكشف الأمر:
– يا نهار اسود، ايه اللي حصل يا لورا؟
التفت إليها ، قابضة على شعر رأسها تكاد ان تقتلعه مرددة:
– مفيش حاجة حصلت يا ماما، المصيبة ان مفيش حاجة حصلت؟ ودا اللي هيجنني وبيخليني اسأل نفسي كل دقيقة، انا ايه اللي ناقصني عشان ما يشوفنيش؟ ليه دايما حاططني في خانة القرايب او الموظفة اللي عنده، امتى بقى يحس بيا؟ حتى يرحمني من النار اللي بتاكل فيا وانا كل لحظة يدور عقلي بالهواجس، انه يبص لواحدة غيري ولا يفكر في الجواز، هتجنن يا ماما هتجنن.
دفعت في الاخيرة احد المقاعد تسقطها بقدمها، قبل ان تخور قوتها وتسقط على الاخر، بمشهد اثار استفزاز والدتها:
– يعني انا افهم من كدة، ان الجنان والتكسير والبهدلة دي كلها، عشان الباشا اللي مش راضي يعبرك ولا يحس بحبك، ما عنه ما اتنيل، هي خلاص الرجالة صفصفت عليه ؟ الدنيا حواليكي مليانة شباب زي الورد، لكن انتي اللي عميتي نظرك ووقفتي الرؤية عليه هو بس…. فوقي يا حبيبتي قبل الوقت ما يسرقك، ويضيع عمرك بالقعدة جمبه.
طالعتها بحنق متعاظم، تخاطبها بعتب:
– شكرا اوي يا مامي ع المؤازرة، دا بدل ما تقفي جمبي وتدليني على طريقة تقربه ليا.
لطمت والدتها كفيها ببعضهما، لتتخصر ناظرة اليها بقنوط، قابلته لورا بضحكة ساخرة:
– شوفي انتي بتتكلمي ازاي عن إنى اسيبه واشوف غيره بكل سهولة، ومتعرفيش اني بقيت اغير عليه من الخدامين يا مامي، تصدقيها دي؟ انا حالتي بقت متأخرة في حبه، ودوايا هو.
هذه المرة حلت الابتسامة على ثغر والدتها، ولكن بمرارة على حال ابنتها:
– يبقى انتي كدة هتحصلي والدته يا قلبي، ما هو اللي ضيع نجوان هو الهوس بجوزها، اللي هو صورة من ابنه، بس ع الاقل حكيم رغم كل عيوبه كان بيحب مراته، انما انتي يا حلوة، حجتك ايه؟ مهووسة بحب راجل مش حاسس بيكي من الأساس.
وعلى عكس ما توقعت بعدما حدثتها بالمنطق، جاءها رد ابنتها بتصميم وتشبث:
– عشان طنت نجوان كانت ضعيفة يا ماما، يبقى تستاهل اللي حصل لها، انما بنتك بقى……
توقفت تضع قدما فوق الاخرى، تردف بثقة:
– قوية، وقوية اوي كمان، وعمرها ما هتتنازل عن حلمها .
❈-❈-❈
دلفت تتبعه حينما دفع الباب ليتوقفا الاثنان بمدخل الغرفة، فيشير لها بيده نحو الأخرى، وتفاجأ برؤيتها؛ متكومة على الفراش، تحتضن ذاتها من ركبتيها الى صدرها، وكأنها طفل صغير، أضاع والديه، وتاه في عالم غير عالمه الذي يعرفه،
برغم كل ما تحمله من غضب نحوها، إلا ان مشهدها بهذه الصورة مزق قلبها ، كيف انقلبت هكذا من حالة الحالمية والشرود الجميل الى هذه المرأة البائسة التي تبدو كعجوز كسرها الحزن:
– هي ليه عاملة كدة؟
كان هذا هو السؤال الذي صدر منها في رد فعل اولي لما تراه، فتنهد هو بأسى يضع كفيه بجيبي بنطاله قائلا:
– اهي ع الحال ده من ساعة اللي حصل، في البداية كانت بتصرخ بهستيريا واحنا مش فاهمين عايزة ايه؟ فا اضطرينا نديها حقنة مهدئة، نامت بعدها، لكن من ساعة ما صحيت وهي ع الحال ده، مش عايزة تقوم من ع السرير ولا تاكل ولا تشرب ، انا احترت معاها وبفكر جديا اوديها لأي مصحة…..
قاطعته معارضة على الفور:
– لا حرام ارجوك، الدكتور امبارح نبه على قربك منها ، وانها تحس بحبك واحتياجك ليها ، لو نقلتها للمصحة يستحيل ترجع لطبيعتها تاني ولا تخف .
لحظات من الصمت بينهم، وهو يحدق بها بنظرات لم تفهمها، وهي في انتظار رده.
، يدهشه خوفها على والدته رغم ما فعلته معها وقد كانت على وشك الموت بسببها، كيف تمتلك قلبًا يتسع للتسامح في امر كهذا؟
نفض رأسه يتصرف بعمليه، مقررا بذكاء منه استغلال الفرصة:
– طب انا من رأيي تقعدي معاها الاول وتحددي قرارك ، وبعدها اشوف انا الحل المناسب.
اومأت رأسها بتوتر ، لتخطو نحو المرأة المتعبة، تلك التي انتبهت عليها، لتتعلق ابصارها بها، تغشي عينيها الدموع التي بدأت تهطل بندم ورجاء، التمسته بهجة، لتسقط جالسة بجوارها تخطابها بحيرة وعتاب :
– طب بتعيطي ليه دلوقتي؟ انا اللي حقي ازعل منك على فكرة .
اهتز صوتها في الاخير بتأثر واضح، لتفاجأ برد فعل نجوان، التي نهضت بجذعها مرددة بكلمات بالكاد تفهم:
– انتي مش هي، انتي مش هي .
– هي مين؟ وضحي اكتر عشان افهم؟
لم تجد اي رد منها، سوى ان فاجأتها تحتضنها بدموع صامتة، تبلل كتفيها ، تزيد من تشتتها، فتردد بإجهاد وتعب:
– طب والله حرام عليكي اللي بتعمليه فيا ده؟ انا دلوقتي اكرهك ولا احبك، تصعبي عليا ولا ادعي عليكي عشان كنتي هتموتيني؟ انتي ايه حكايتك معايا؟
دوت عبارتها الاخيرة، برأس ذلك المتابع لمشهدهم من اوله، وكأنها تنطبق على حالته معها، تلك الحنون التي تسامحت في غضون دقائق مع واحدة لا تعرفها سوى من فترة لا تتعدى الأسابيع، بفعل لم يقوى هو عليه مع اقرب الناس اليه، رغم مرور السنين.
❈-❈-❈
خرجت اليه بعد قليل،
وقد بدلت ملابسها، لأخرى التي أتت بها، بعدما جففتها لها عاملة المنزل، لتخطو نحوه وملامح التردد تعلو تعابيرها، وهو يراقبها ويتشرب تفاصيلها بشغف هو نفسه لا يصدقه، بعد سنوات لا يذكر عددها، تساوت فيها النساء مع الرجال في نظره، لا يلتفت ولا يعطي بالا لاحداهن، مهما كانت درجة جمالها، ومميزاتها، انما مع هذه…… يبدو ان الأمر مختلف تماما.
– تعالي اقعدي يا بهجة.
هتف يدعوها ، يزيح الحاسوب عن قدميه، مؤجلا العمل عليه حتى ينهي النقاش المهم معها، ليردف فور ان استجابت وجلست امامه:
– ما انا مضطر اتابع بقى الشغل من بيتي.
فهمت على مقصده من خلف الكلمات، لتعقب بأسف:
– معلش يا فندم اننا عطلناك على شغلك.
قالتها لتطرق برأسها بحرج منه، فجاء رده بمراوغة:
– والله لو ع اليوم ده وخلاص ، تعدي يا بهجة، انما المشكلة ع الايام اللي جاية بقى، لو انتي رفضتي الاستمرار، انا بصراحة مش عارف ساعتها هعمل ايه لحد ما تقوم الدادة نبوية من رقدتها الشديدة دي.
افتر فاهاها تهم بالرد ولكنه كان الاسبق :
– انا مش بضغط عليكي يا بهجة، انتي ليكي الحرية انك تحددي قرارك، وحاجة تانية….
توقف يعطيها مبلغا من النقود في ظرف ابيض، قائلًا:
– دول حاجة بسيطة يا بهجة، وملهمش دعوة بأي شيء.
تطلعت في الظرف المغلق بعدما وضع في كفها، يظهر مبلغا كبيرة من النقود، لتعبر عن رفضها:
– بس دول كتير اوي وانا معملتش حاجة.
– انتي كنتي هتروحي فيها يا بهحة، يبقى معملتيش ازاي بس؟
تمتم بها متفكهًا على غير طبيعته، ليجبرها على الابتسام رغم توترها، فترد بخجل:
– العمر والأجل دا بإيد ربنا.
– ونعم بالله .
تمتم بها، ثم صمت في انتظار ردها، والذي جاء بعد فترة سائلة:
– طب ممكن اعرف انت هتعمل ايه معاها؟ بس من بعد اذنك يعني بلاش المصحة.
– معنى كدة انك قررتي عدم الاستمرار يا بهجة؟
جاء ردها بحيرة ظاهرة:
– ما انا بصراحة خايفة منها بعد اللي حصل، وبرضوا صعبانة عليا، ومش فاهمة هي عملت معايا كدة ليه؟
– بس هي بتحبك والتصرف اللي طلع منها دا انا مش عارف هو حصل ازاي ، بس اللي متأكد منه، بعد اللي شوفته جوا معاكي، هو انه لا يمكن يحصل تأني.
اشار في الاخيرة على ما حدث منذ دقائق بداخل غرفة والدته ، حينما تشبثت بها كالاطفال وبأعين دامعة، وهذا لا يحدث الا نادرًا.
حينما وجدها صامتة، تابع يضغط على هذا الجزء الضعيف بها:
– ع العموم لورا لساها بتدور على واحدة ، دا غير انها عرضت عليا تتكفل بيها في بيتها لحد ما الدادة نبوية تسترد صحتها .
– بلاش لورا عشان بتخاف منها.
خرجت منها سريعا بتعبير واضح عن رفضها، ليعقب هو بقلة حيلة لا تخلو من مكر:
– طب اعمل ايه بس يا بهجة، ما هو يا الحل ده، يا اوديها المصحة.
– تاتي المصحة برضو؟
تمتمت بها، ثم اغمضت عينيها تستغفر ربها، وتناجيه العون ، وهو يطالعها بترقب في انتظار الرد، والذي لم يأتي إلا اخيرا:
– طب انا هاخد الكام يوم دول لحد ما ترجع دادة نبوية ويشفي عنها يارب ، بعدها بقى، ابقى اقرر استمراري من عدمه من عشرتي معاها.
زفر بارتياح مغمغمًا:
– وانا مش هنسالك المعروف دا ابدا يا بهجة ، وبرضوا مش هتأخر عنك في عائد مادي تستحقيه.
تمتمت بتوتر :
– مش مهم العائد المادي، قصاد انها متأذنيش، ربنا يهديها عليا .
❈-❈-❈
لا يوجد اجمل من ان يأتيك الفرج بعد طول عذاب، ومن حيث لا تحتسب،
فرحة تغمرها بشكل لا يوصف، رغم الالم ولحظات الأسى التي مرت بها، والوجع الجسدي الذي لم يذهب حتى الاَن.
الا انها لا تنكر فرحتها الاَن، وهذه المبلغ المحترم من المال ، سيمكنها من دفع عدد كبير من الديون والاقساط التي رغم صغرها، إلا ان كثرة عددها، يجعلها طوق في الرقبة يخنقها، سوف تتمكن من شراء شيء ما لها يصلح للخروج، ولشقيقاتها ايضا.
لن تبقي على قرش واحد منهم، فما تصرفه الاَن، تعلم ان الله سوف يخلفه.
– احنا وصلنا الحارة يا بهجة، تحبي تنزلي هنا مطرح ما بتنزلي كل يوم ، ولا ادخل بيكي داخل منطقتكم؟
قالها العم علي بمشاكسة، استجابت لها بابتسامة قائلة:
– كتر خيرك يا عم علي، كل مرة تسألني السؤال وانت عارف اجابته.
تفكه بطرافة منه، يُسمعها قبل ان تترجل من السيارة:
– الحق عليا ، اني مستغليتش وانتي سرحانة، ودخلت بيكي في قلب الحارة وقدام باب بيتكم ، واقولك انزلي.
– ساعتها مكنتش هتعرف تخرج بيها يا عجوز يا لئيم .
صدحت ضحكات الرجل العجوز في قلب السيارة، في رد فعل على كلماتها، لتغادر هي بابتسامة متسعة ، خبئت بعدها بقليل، فور ان وقعت عينيها على ابن عمها الأصغر، والذي وكأنه اتفق مع شقيقه الاخر في تضييق الخناق عليها، الا يكفيها عمها وزوجته المتسلطة وابنتهم الحمقاء التي لا تجد راحتها الا بتعكير صفوها في كل مرة تقابلها، فلينجدها الله منهم.
– راجعة ع الساعة اتناشر وفي عربية اخر موديل يا بهجة.
زفرت تقابله بحنق مرددة:
– وانت مالك؟
اشار بسبابته على صدره بصدمة:
– انا مالي يا بهجة؟
– اه انت مالك؟ ومستعدة اكررها للصبح يمكن تفهمها.
قالتها بتصميم اوغر صدره، حتى كاد ان يتفوه برد قوي، ولكنه توقف على قدوم شقيقها والذي تجهم سائلا:
– واقفة ليه عندك يا بهجة؟
وقبل ان ينطق هو وجدها تجيبه:
– ابن عمك بيحقق معايا على رجوعي الساعة اتناشر، ورجوعي في عربية يا ايهاب، ولما بقوله انت مالك زعل.
– دا بجد؟
غمغم بها شقيقها موجهًا نظراته نحو ابن عمه، ثم اجفله بقوله:
– طب انت مالك صحيح؟
ختم ضاحكا يسحب شقيقته ويذهب بها من أمامه بكل هدوء واريحيه، تاركا الاخر بفاه منفرج في متابعتهم، ثم يغمغم بالسباب والشتائم.
❈-❈-❈
توقف موكب السيارات امام القصر القديم الطراز والمتجدد بأحدث الوسائل، ليترجل من احداهم بهيبته، ثم التف نحو الجهة الاخرى، يتناول كف امرأته التي كانت تجد صعوبة في النزول لولا مساعدته، وذلك نتيجة لحملها في الشهور الاخيرة بالجنين الذي يتشوقا اليه منذ سنين، منذ زواجه بها،
– براحة يا روح قلبي، على اقل من مهلك.
ردت زوجته بامتنان ، تريح برأسها على ذراعه الذي تستند عليه:
– ربنا يخليك ليا يا مصطفي، متحملني رغم التعب المستمر، ولا شكلي اللي بقى بشع.
تنهيدة مثقلة صدرت منه، يقبل كف يدها بلوعة:
– شكلك ايه بس ولا بتاع، هو انا شوفت ولا عمري هشوف غيرك، يا نجمة الجماهير انتي، ياللي هتخلفيلي اجمل طفل على سطح الكوكب، يااااه دا انا متشوق اوي.
ربتت نور برقة على يده التي تحاوطها، ثم قامت بطبع قبلة خاطفة على كتف ذراعه بحب متمتمة:
– هانت يا روح قلبي، فات الكتير مبقاش الا القليل، كلها ايام ويهل ولي العهد ، ربنا يعديهم بقى على خير زي اللي فاتوا .
– يارب يارب .
تضرع بها الى الخالق بشوق جارف، يعد على اصابعه، بقرب الوصول لأجمل الأهداف التي ينتظرها، فصبره الذي طال يستحق المكأفاة، بعشمه في كرم الخالق.
– مصطفي.
دوى الصوت القوي ينتشله من عالمه الوردي، ليتفاجأ بها جالسة في انتظاره في بهو القصر، تستند بذقنها على رأس عصاها، وكأنها كانت في انتظاره، لتهمس زوجته بخوف منها:
– مامتك قاعدة مستنياك يا مصطفى، باينها زعلانة كالعادة، انا بصراحة مش هتحمل القعدة، هموت وانام.
رد بهمس هو الاخر:.
– خلاص اطلعي وانا هحصلك.
سحب ذراعه منها، لتعتمد على ذاتها في الباقي، ثم ألقت بالتحية على المرأة ذات الوجه العابس:
– مساء الخير يا طنط،
– مساء النور يا روح طنط.
رددت بها بهيرة بسخرية لم تخفى على ابنها ، الذي تعمد التجاهل كعادته، تجنبا لغضبها:
– نعم يا ست الكل، مش عوايدك يعني تسهري.
مطت شفتيها بابتسامة ليس لها معني، قائلة:
– خلينا نتعلم يا سيدي منكم،… ع العموم دا مش موضوعنا
– امال ايه هو موضوعنا؟
سألها مستفسرًا، لتجيبه بعد برهة من الوقت :
– انا كنت بفكر اشتري قصر جدك شوكت باشا، عايزة اجدده، وارجعه لاصله.
قطب قليلًا بتفكير ، ليعقب بعد ذلك:
– بس دا ورثك مع خالتو نجوان، هتبيع ازاي نصيبها بحالتها دي؟
– من ابنها
– يا ماما وافرضي رياض قبل ومضى، وخالتو رجع لها عقلها بعد كدة وخفت، هتتقبل ازاي الأمر لما تلاقي نصيبها بقى ملكك انتي .
زمت شفتيها تضرب بعصاها على الارض بحنق:
– وانا بقى هفضل تحت امرها؟ حد قالها تروح تتجوز برا العيلة من واحد العوبان زي حكيم، خسرها فلوسها، وبموته اخد عقلها كمان، ما هي لو سمعت الكلام، مكنش دا كله حصل لها.
يعلم ان جادلها ستواصل ولن تتوقف ، وهو بالكاد تحمله قدميه، لذلك فضل مجاراتها:
– حاضر يا ماما ، هشوف الموضوع ده مع رياض، وهو يتصرف، عن اذنك بقى عشان هموت وانام .
لم يتلقى منها رد، فنهض متابعًا انسحابه:
– تصبحي على خير بقى يا ست الكل، عن اذنك.
تابعت انصرافه وهروبه منها بضيق :
– ماشي يا مصطفى،انا برضو مش هسكت غير لما اخد القصر.
❈-❈-❈
مرت عدة أيام في مجالستها للمرأة بهدوء وبعض الارتياح بما لمسته منها من تغير، وقد اصبحت تستجيب لها وتطيعها دوما ، أدمنت القصص والروايات، وقراءتها من قبل بهجة، وكأنها تكفر عن ذنبها وخطأها.
حتى أتى ذلك اليوم حينما وصلها اتصال من شقيقتها، تخبرها عن حمى مفاجئة أصابت شقيقها، عقب عودته من إحدى دروسه.
فحاولت الاتصال بصاحب العمل حتى تستأذنه وتترك نجوان في حوزته، فمسؤولية الخروج الاَن مع عدم توقع أفعالها الغير مضمونة على الإطلاق يقيد عقلها عن التفكير بأي شيء ، ولكنها لا تقدر على المكوث هنا وشقيقها لا تعلم بما اصابه ومع محاولات الاتصال المتكررة وفشل الوصول اليه، اضطرت في الأخير ان تبعث رئيستها في عمل المصنع لتُعلم هذه المتعجرفة مساعدته في المصنع كي تخبره، وحينما لم تجد منها نتيجة هي ايضا، حسمت امرها لتتخذ القرار.
❈-❈-❈
– قلب اختك يا حبيبي، ايه اللي حصله يا جنات؟
هتفت بكلماتها، فور ان دلفت اليه عائدة من الخارج، تسحب بيدها نجوان التي وقفت محلها بانشداه،
وهي تراها تسقط بجوار شقيقها على الفراش.
لياتيها الرد من جنات:
– رجع من برا ع الحال دي يا بهجة، جسمه مولع وبيجر رجليه بالعافية، حاولت معاه بالكمادات، الحرارة نزلت يدوب شوية صغيرين، وبعدها رجعت تاني رغم البرشام اللي خده، انا مش عارفة والله اعمل معاه ايه تاني؟
– متعمليش حاجة، انا اساسا اتصلت بالدكتور، وانا جاية وبتابع معاكي في السكة.
اومأت جنات برأسها لتشير اليها بعد ذلك بذقنها، نحو الأخرى باستفهام ، لتنتبه بهجة على وقفتها مازالت محلها؛
– اه دي نجوان هانم اللي انا شغالة عندها، اقعدي يا هانم، واقفة ليه على رجلك، تعالى اقعدي ع الكنبة اللي هناك دي.
بحالة من الارتباك ، لم تتحرك نجوان من محلها ، لتنهض جنات بسرعة بديهة، فتقترب منها وتسحبها برقة ولطف:
– تعالي اقعدي وريحي رجلك، اينعم هي الكنبة على قد الحال، بس والله مريحة.
اومأت رأسها باضطراب، تسجيب لسحبها ، حتى جلست على هذا الشيء الجديد عليها ببعض الهدوء، الذي طمأن بهجة بعض الشي لتهتم بشقيقها، بعدما اعطت تعليماتها لجنات بقفل باب المنزل الخارجي والحرص الشديد منها، فهي حتى الاَن لا تعطيها الامان .
❈-❈-❈
وفي الاسفل
هللت سامية نحو اسرتها تخبرهم:
– شوفتي ياما، شوفت يابا، الحارة كلها مقلوبة تحت ع العربية الزيرو اللي سادة الشارع.
سبقهم بالرد شقيقها الأوسط سامر:
– اه يا ختي شوفناها، وشوفنا كمان مين نزل منها ، عارف يابا العربية دي تبع مين؟
رد خميس بلهفة:
– مين يا واد؟
– بهجة بت اخوك يابا، ودي مش اول مرة على فكرة، انا شوفتها نازلة قريب منها برا الحارة، ودلوقتي جايبة معاها واحدة ست شكلها هانم بشعر اصفر، ولا اللي بيطلعو في المسلسلات التركي بحلاوتهم رغم سنها الكبير.
برقت عيني والده بشغف استفز درية لتتدخل وتنهره:
– تركي ولا مصري، هي جاية بيها هنا ليه؟ وتعرفها منين اصلا؟
– الله اعلم.
تمتم بها سامر، ليجلس محله ويتكيء مضجعًا على الاريكة، فعلقت شقيقته بحقد:
– ودي هتغلب برضو، اكيد لقت لها سكة مع الست اللي بتقول عليها، انا ملاحظاها هي وواخواتها بقالي فترة، كلهم طقموا بالجديد، والنعمة بانت عليهم، دا البلوزة اللي خرجت بيها البنت جنات امبارح، انا كنت هموت عليها واجيبها، بس معرفتش تتجاب من اي محل.
بضحكة ساخرة عقب شقيقها باندهاش:
– يا نهار ابيض عليكي يا سامية، بقى كل الهدوم اللي انتي جايباها دي، ومعجبكيش غير البلوزة اللي لابساها جنات وهي رايحة الكلية؟
عبست سامية بضيق لم تخفيه، ليتهكم والدها بضجر منها:
– ودي بتشبع ابدا دي؟ دي لو جابت كل اللي في السوق، برضو مش هتستكفى .
تجاهلت درية كل ما يقال ، لتتسائل بفضول :
– هو الواد سمير راح فين؟ مطلعش ليه هو كمان يرغي ويحكي، زي ما بيعمل في اي حاجة تخص المحروسة، دا بقُه ما بيتبلش فيه فولة.
❈-❈-❈
– اتفضل يا دكتور اتفضل.
بحنق يسري داخلها، وقفت تستقبل الطبيب الخارج من غرفة شقيقها، برفقة هذا البغيض ابن عمها، والذي تفاجأت به، حينما أتى به، فور ان رأه يدلف الى داخل البناية يبحث عن عنوان المنزل الذي وصفته له عبر الهاتف، ليأخذها حجة، لفرض خدماته عليهم. لولا الخوف من الفضائح ، ووضع صحة شقيقها في الاولوية،
لكانت رفضت واعطته درس لن ينساه، هذا الوغد المتخاذل، يحاول الاَن تحسين صورته امامها، بعدما خيب ظنها في اشد اوقاتها احتياجًا له، كسند تتحامي به وقت أن كانت زوجته على الورق .
– الدكتور بيطمنك عليه متقلقيش يا بهجة.
بضيق لم تخفيه رمقته بنظرة عابرة، تتجاهل الرد عليه، لتتوجه مخاطبة الطبيب :
– طمني يا دكتور على حالته.
اوما لها الطبيب بعمليه، يشير لها نحو الأخر:
– انا كتبت كل التعليمات والارشادات اللي لازم تلتزمو بيها، مع روشتة العلاج، واديتهم للاخ قريبكم….
سارع بالتصحيح له.
– ابن عمها يا دكتور واكتر كمان.
كتمت زفرتها بصعوبة، تبتغي التوضيح:
– افهم من كدة انه مش دور برد عادي مع حمى، تتعالج بالأدوية اللي احنا عارفينها ؟
وافقها بأسف:
– في الحقيقية هو فعلا كدة، المريض عايز رعاية كاملة، خلو بالكم من الاغذية كمان، دي حاجة مهمة اوي عشان تقوي مناعته، وبإذن الله خير متقلقلوش.
ختم بالاَخيرة ، ليسحب نفسه كي يغادر ولكن بهجة اوقفته من اجل ان تنقده:
– استنى يا دكتور حق الكشف .
اشار بكفه:
– لا ما قريبكم قام بالواجب.
صدمة احتلت ملامحها ، لتعد العشرة بداخلها، حتى اذا خرج الطبيب ، وتحرك هو يعطيها ظهره، باغتته بجذبه من قماش قميصه، ثم وبحركة سريعة تخطف ورقتي التعليمات وتلك التي مدون بها اسماء الادوية، وقبل ان يستوعب، وجدها تضع ورقة النقود ذات الفئة العالية داخل كفه قائلة:
– كدة بقى يبقى في ايدك حق الكشف ، وكتر خيرك اوي بقى على كدة.
اعترض غير مستوعبًا لسرعتها في التنفيذ:
– انتي ازاي تعملي كدة؟ شايفاني كرودية يا بهجة، ولا مش مالي عينك عشان تديني حق الكشف وتمنعيني من ان اجيب العلاج لابن عمي؟
بابتسامة ساخرة خالية من أي مرح:
– بلاش اقولك انا شايفاك ازاي؟ اما بقى عن ابن عمك ، ف انت يا سيدي كتر خيرك اوي ، عملت الواجب اللي عليك وزيادة لما دخلت مع الدكتور اللي كشف عليه، اما بقى تدفعله مليم واحد في كشف او دوا ف دا لايمكن اسمح بيه.
امتقع وجهه بغضب شديد:
– على فكرة دي قلة زوق منك يا بهجة، عشان انتي كدة بتهينيني وتقلي مني، طب قدري حتى صلة الدم اللي ما بينا .
– يا سيدي والله مقدرة، بدليل اني ما طردتكش وانت داخل مع الدكتور وفارض نفسك في مرافقته.
– فااارض نفسي.
– ايوة فارض نفسك ، وياللا بقى معلش لو سمحت عشان انا عايزة ادخل لاخويا اطمن عليه، وزي ما انت عارف البيت كله حريم.
تجمد محله، يطالعها بأنفاس هادرة، وصدر يصعد ويهبط بانفعال مكبوت، يمنع نفسه بصعوبة عن التصرف بحماقة قد يندم عليها بعد ذلك، وهذه الرفض القاسي لأي محاولة للقرب او التصليح، يصيب عقله بالعجز والغضب، وهي الاَن تطالعه بتحدي وكأنها تقرأ افكاره.
ليقطع لحظة الصمت بينهم ، ولوج عائشة عائدة من المدرسة، ثم تعليقها بدهشة لا تخلو من تهكم:
– ايه ده ايه ده؟ هو انا لغبطت ودخلت بيت غير بيتنا ولا ايه؟…… ولا يكونش عقلي اللي بيكوبس دايما بالعفاريت بالليل، اتطورت حالته وبقى يشتغل في النهار كمان؟
– عفريت لما ياخدك يا بعيدة.
كان هذا رده، قبل ان ينسحب ويخرج ذاهبًا من حيث أتى .
لتطالع شقيقتها بتساؤل فور خروجه، ولكن هذه المرة بجدية، جعلت بهجة تجيبها على الفور :
– تعالي ورايا على اوضة ايهاب وانتي تعرفي بنفسك.
❈-❈-❈
بداخل الغرفة، كانت المفاجأة، حينما اكتشفت وجود نجوان بجوار شقيقها على الفراش جالسة ، وبأناملها تمر على شعر رأسه بحنو جلي ، جعلته يغمض عينيه براحة، لتطالعها بهجة بدهشة وعدم استيعاب،
اما عائشة والتي كانت اول مرة تراها، فعبرت سائلة باستغراب:
– مين الحلوة ام شعر اصفر ؟ دي تبع الدكتور ولا خارجة من مسلسل في التليفزيون.
انتبهت لها نجوان لتقرب رأسها منها، وتنظر الى عينيها مباشرةً، ثم خرجت كلمتها باقتضاب كما عودت بهجة:
– زتوني.
ضحكت لفعلها بهجة، وقد تيقنت من تقدم حالتها، بتذكرها لهذه الشيء الصغير، لترد محفزة لها:
– ايوة هي بعينها ، دي يا ستي عائشة ام عيون زتوني، والقردة بتاعتنا ام لسان طويل، برافو عليكي بقى انك افتكرتيها، ودي بقى جنات طالبة الجامعة، وايهاب اكيد عرفتيه، هي دي عيلتي المتواضعة يا ستي، ربنا يباركلي فيهم.
ابتسامة خلابة لاحت بثغرها، لتوزع بأبصارها عليهم والثلاثة يبادلنها بمودة، ما عدا ايهاب والذي غرق في النوم تأثرا بفعل نجوان وحقنة الطبيب التي حقنه بها قبل مغادرته،
لتعلق عائشة بفراسة:
– كدة بقى انا عرفت لوحدي، هي دي الست اللي انتي شغالة عندها يا بيبة صح؟
– صح .
– ومشرفانا النهاردة فى البيت.
– ايوة .
تدخلت جنات باقتراحها:
– طب كدة مدام ايهاب نام، يبقى احنا بقى نعمل بأصلنا مع الضيفة اللي مشرفانا النهاردة ونأكلها، ولا ايه رأيك يا بهجة.
سمعت الاخيرة تجيبها بعمليه:
– خلاص يبقى خلو بالكم منها، سايروها واتكلموا معاها، وانا هحضر اللي يناسبها، اصلها مش بتاكل اي حاجة.
❈-❈-❈
سقط بجسده على كرسي مكتبه ، يحرك رأسه يمينا ويسارا، ثم يدلك على رقبته بتعب واجهاد متعاظم، وقد أنهى اخيرا جولاته مع احد العملاء الجدد، ليعرفهم على جودة بضائعه ومميزاته التي تصلح للمنافسة العالمية، ثم نقاش وغداء عمل وتوقيع صفقات،
يوم مرهق مر به من اجل تحقيق احد أهدافه التي يسير على خطاها بجد واجتهاد، يساعده على ذلك شريكه الجديد بنشاط وحنكة اكتسبها في سنوات عمره بالعمل ليست بالقصيرة.
– رياض باشا، يحقلك دلوقتي ترتاح وتنام بعد الإنجاز العظيم اللي قومت بيه النهاردة.
خاطبه بامتنان حقيقي:
– كله بفضل ربنا وبعده انت يا كارم، بجد انا مبسوط من عدي اللي عرفني بيك.
تبسم بثقة وتواضع يعدل في ياقة قميصه:
-ياااعم بقى اخجلتم تواضعنا.
صدحت ضحكة الاخر، مرددا بمرح:
– والله انت مشكلة يا كارم.
قالها وارتفعت رأسه فجأة نحو باب الغرفة، ليأمر الطارق بالدخول، لتلج اليهم لورا بملابسها الرسمية بأناقة ظاهرة، يطرقع حذائها ذا الكعب العالي على الارض، وهي تتبختر بخطواتها للفت النظر نحوها، حتى اقتربت تميل نحوه بعدد الملفات التي طلبها منها، امام ابصار كارم الذي لا تفوته فائتة بطبيعته:
– اهم يا فندم، عقود الصفقات اللي امرت بيهم .
اومأ لها:
– تمام يا لورا، اتفضلي انتي وانا هبعتلك لما اخلصهم.
– تحت امرك.
تمتمت بها ثم خرجت بنفس الصخب الذي دلفت به، ليعلق كارم في اثرها:
– مش دي برضوا قريبتك وقريبة عدي على حسب ما بعرف.
رد بجدية دون ان يرفع رأسه عن مراجعة الاوراق التي امامه:
– اه، هي تعتبر بمثابة بنت خالي، وعدي نفس الأمر.
– اااه.
اومأ محركا رأسه، قبل ان يميل عليه مغمغمًا بهمس:
– طب ايه بقى يا عم؟ قريبتك ونشيطة وواجهة مشرفة زي ما انا شايف،إيه اللي ناقصها بقى؟
قطب حاجبيه في البداية، لكن سرعان ما وصل الى مقصده، ليردف حاسمًا:
– مش ناقصها حاجة وتكاد تكون مكتملة زي ما بتقول، بس انا مش شايفها غير في موقعها ده او قريبتي اللي اعرفها من وهي طفلة، لكن زوجة ولا اي حاجة تانية انسى.
– امممم.
زام بفمه كارم ، ليعقب بتفهم ، رغم دهشته:
– حقك طبعا، انا متجوز قبلك وعارف قيمة الحب في الارتباط، لذلك عمري ما هلوم عليك.
– حب!
دوت الكلمة بداخله، حتى صرفته عن كل ما كان يعمل عليه، ليظل بنصف ذهن حتى انصرف شريكه، لينفض رأسه من افكارها، قاصدا الاهتمام بعمله، ليضغط على زر الجرس، يطلب مساعدته، حتى اذا أتت اليه:
– كنت عايز اطمن على سير العمل النهاردة بالمصنع، بما اني طول اليوم كنت برا، ياريت لو تعمليلي تقرير مفصل قبل ما امشي.
اومأت برأسها، ثم تحركت خطوتين بتردد انتبه له، ليسألها بتوجس:
– ايه مالك؟ في حاجة يا لورا ؟
ابتلعت ريقها تظهر اضطرابها امامه:
– بصراحة حضرتك انا مش فاهمة في ايه بالظبط؟ بس صباح رئيسة العمال جات عندي اثناء غيابك، تبلغني ان اللي اسمها بهجة، خدت نجوان هانم وخرجت بيها.
انتفض من محله بجزع:
– بتقولي ايه؟ يعني خدتها وراحت فين من غير ما تبلغني؟
اهتزت كتفيها بعدم معرفه تردف:
– الله اعلم يا فندم، بس انا اخاف تأذيها البنت دي شكلها اتجرأ اوي بعد ما خدت الثقة و….
لم ينتظر منها تفسيرات اكثر من ذلك، وقد دنى على الفور يتناول اشياءه بعجالة من فوق سطح المكتب، ثم يتحرك سريعًا مغمغمًا بتوعد:
– انا هعرف احاسبها كويس لو جرتلها اي حاجة، هي اتجننت عشان تتصرف من دماغها ولا ايه؟
ابتسامة ماكرة لاحت على جانب ثغرها مرددة:
– ياريته يحصل بجد عشان اخلص من الاتنين.
❈-❈-❈
وقف يستقبلها متخصرا، وعيناه الصقرية ضاقت بريبة جعلت الخوف يسري بداخلها، بعدما طلبها عبر الهاتف، لتأتي بوالدته فورا من مكان ما ذهبت بها، فتزعن هي في اقل من نصف ساعة تحضر بها، بواسطة العم علي سائق السيارة الخاصة بها.
– حمد الله ع السلامة.
ظهر جليًا التهكم في نبرته، مما اثر على نجوان لتتوقف محلها عن التقدم بخوف جعله يهدر بدون سيطرة:
– ما انا مش وحش وهياكلك يا ماما، ولا انتي خلاص استحليتي تدي الامان للغريب وابنك لا؟
زادت ملامحها رعبًا، ليزفر بضجر يشبح بوجهه عنها ، لتضطر بهجة للتدخل:
– اسمحلي اوصلها لاوضتها يا رياض باشا.
– اتفضلي
هتف بها، فاردًا ذراعه نحو الدرج ، ليباشر بغضبه:
– توصليها وترجعيلي حالا ، عشان عايز اتكلم معاكي.
اومأت بهزة من رأسها، لتسحب المرأة نحو غرفتها، وفور ان اطمئنت بتهدئتها، هبطت اليه، بأقدام بالكاد تحملها، هيئته ليست مبشرة على الإطلاق للتفاهم او الاخذ والرد في الحديث، ولكن ما باليد حيلة، فلتخوض المواجهة بخيرها وشرها وليحدث ما يحدث.
وصلت لتقف امامه في بهو المنزل الذي اتخذ جلسته به، يبدو كبركان خامد على وشك على الانفجار:
– ايوة يا رياض باشا، انا تحت امرك اهو.
زفر بأنفاس خشنة، ليعتدل بجلسته واضعًا قدما فوق الاخرى، يبذل مجهود مضنيا في السيطرة على انفعاله:
– اتفضلي انتي يا بهجة، فهميني بالظبط ايه بيحصل، وازاي خرجتي من الفيلا بالست الوالدة…..
خرجت الاخيرة بصيحة اجفلتها، قبل ان يتابع بنبرة اهدى لكن اقوى:
– من غير ما تبلغيني.
برغم الزعر الذي سرى بكل خلية من جسدها، الا انها سرعان ما تمالكت لتقابل انفعاله بشجاعة تخبره:
– حضرتك انا مخرجتش بيها من نفسي ولا هي كانت فسحة، اختي اتصلت تبلغني بالتعب الشديد اللي حل باخويا، وانا حاولت اتصل بيك مية مرة عشان استأذنك اروح اشوفه، لكن محاولاتي باءت بالفشل وتليفونك بيرن ع الفاضي من غير ما تفتح عليا ولو مرة واحدة، لما غلبت كلمت الريسة تبلغ لورا، لكنها هي كمان مدتش اهتمام وقالتلها انك مشغول ومش فاضي لأي رغي ، انا كنت ساعتها هعمل ايه واخويا بيفرفر من السخونية مع اختي اللي مش عارفة تتصرف.
– تقومي تاخديها بيتكم؟
– امال كنت هسيبها في مسؤولية الخدم اللي عندهم شغلهم اساسا، ممكن يكون تصرفي معجبكش، بس انا اضطريت لكدة، وهي الله يباركلها، قضت اليوم كله من غير ما تعمل معايا اي مشاكل.
سمع منها فصاح بها بعدم استيعاب:
– قضت اليوم عندكم! امي انا قضت يوم بحاله عندكم في الحارة يا بهجة؟
ابتعلت ريقها باضطراب تبرر:
– يا فندم ما انا بقولك اني اضطريت لكدة، للظرف المهم اللي حصل عندي، انت مكنتش بترد على تليفوناتك، وانا مقدرش اسيبها لوحدها هنا في البيت، ولا قدرت اتخلى عن اخويا اللي تعب اوي وكان لازم اروح اشوفه.
– تقومي تاخديها عندكم الحارة، مخوفتيش بقى لاتهرب ولا تعمل مصيبة بردود أفعالها الغير متوقعة.
– بالعكس، دي انبسطت اوي بتغيير الجو، حتى الدكتور هشام قالي دي خطوة هايلة…..
– وهشام دا شوفتيه فين؟
قاطعها بأعين برقت بترقب وهدوء ما قبل العاصفة، فصدر ردها بعفوية:
– عادي ما هو كان بيتصل عليا يطمن عليها .
سمع منها ليجفلها على الفور بصرخته:
– انا هقتله واشرب من دمه عشان يحرم ما يعملها تاني،… ثم تعالي هنا وقوليلي، دا من امتى بيحصل ان شاء؟
الزفت ده من امتى بيتصل بيكي يا بهجة؟…..
هذه المرة كان كالمجنون، ليضاعف من فزعرها، ناهضُا من محله بملامح غريبة عن هدوئه المعروف، مما جعلها ترتد بأقدامها للخلف تجيبه بصوت مهتز:
– من وقت ما روحنا كشفنا للهانم عنده، هو كان عنده نمرة دادة نبوية اصلا، وكلمها ياخد نمرتي منها عشان يسألني عن الهانم الكبيرة واحوالها .
– وانتي بقى بتجاوبيه عادي، وتحكيلوا عن تصرفاتها بالتفصيل، واكيد طبعا بيعلق بهزاره السخيف اللي انا عارفه.
– عادي مش شغله.
قالتها ببساطة جعلته يصرخ بعدم سيطرة:
– شغل مين يا بهجة متحرقيش دمي، الزفت دا تمسحي نمرتك من عنده، وانا من النهاردة هغيره واروح بوالدتي للي احسن منه، فاهماني ولا لأ، تمسحي نمرته نهائي.
– تحت امرك طبعا، دي الست والدتك وانت ادرى بمصلحتها.
تمتمت بها بصوت يحمل في طياته اعتراضًا ظهر في استرسالها بعد ذلك:
– مع اني شايفة انه انسان محترم ومعملش حاجة……
– اسكتي يا بهجة.
صاح بها بحدة، مقاطعًا لها، ليمسح بكفيه على وجهه يحاول السيطرة على انفاسه الهادرة، وحالة الهياج التي قلما ما تصدر منه، نظرا لطبيعته الصارمة، والمتحكمة دائما في ردود أفعاله، ولكن مع هذه الفتاة يصبح الأمر مختلف، انها الوحيدة التي تستطيع اخراجه عن طوره الهاديء، ببرائتها المستفزة.
– طب انا كدة عايزة اروح بقى يا فندم
– نعم.
انتشلته من حالة الشرود والتشتت، لتواصل بقولها:
– يا فندم بقولك اخويا تعبان، والحمى اللي عنده لسة مخفش منها، يعني عايز رعاية كبيرة اليومين دول..
اومأ بتفهم، مخففا من حدته في مخاطبتها:
– خلاص يبقى المستشفى اولى برعايته، هناك هيبقى تحت عين الدكاترة وهياخدو بالهم منه اكتر .
صدر ردها بمعارضة:
– مستشفى ايه بس يا فندم؟ ما احنا جيبناله الدكتور البيت، اشحططه في مستشفيات وقرف ليه بس.
رمقها بغيظ مرددًا:
– مفيش شحططة ولا زفت يا بهجة، انا هكلمهم دلوقتي عشان يحضرولوا سرير ويستقبلوه.
– يستقبلوه فين؟
لم يلتفت لها، وقد انشغل بالاتصال الذي صار يجريه مع احدهم، يأمره بالفعل بما نوه عنه منذ قليل، حتى اذا انهى المكالمة، ثم التف اليها موضحًا:
– دي مستشفى احنا من ضمن المساهمين فيها، هتخرجي دلوقتي مع عم علي، هيروح بيكي هناك، الدكاترة هيشوفوه ويحددو حالته بالظبط ان كانت تحتاج رعاية وحجز، ولا يرجع ع البيت، وفي كل الحالات متشليش هم اي مصاريف.
يتبع….