رواية تشابك ارواح الفصل السادس 6 بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل السادس من -تشابك أرواح-
«زواج مشروع»
وتسير الحياة بما لا نهوى، وبما لا نُحب، تسير في بعض الأحيان فوق قلوبنا وأرواحنا، وفي البعض الآخر مدمرة لذاتنا وأجسادنا.
غادر أصدقائه بسيارته نحو المستشفى ليَقِل «مُحسن» لمنزله، يفكر ألف مرة في كيفية التحدث معه مجددًا لطلب الزواج من ابنته، يعلم أن رفضه كان لسببٍ واحد وهو أنه لم يكن بكلية قمة كما هي، كيف لابنته الطبيبة أن تتزوج ميكانيكي سيارات؟
وصل وظل جالسًا بالسيارة حتى خرجوا له كلًا من «مُحسن» وابنه «تامر» و«تسنيم»، ركبوا الثلاثة سيارته وتحرك هو بها متحدثًا بتنهيدة:
"حمدلله على سلامتك ياعمي، ربنا يتم شفاك على خير وتبقى كويس"
نظر له الجالس جواره بوجومٍ وأجابه بإقتضاب:
"الله يسلمك"
فقط كلمتين ليبتسم «عبدالله» بسخرية وطالعها في الخلف من المرأة ثم أعاد بصره نحو السيارة ورمى بكلماته بنبرة هادئة بين طياتها البرود:
"بالمناسبة ياعمي، حوار رفضك ليا ده أنا هعتبره متمش وعايز أطلب ايد تسنيم تاني، او للمرة السابعة مش فاكر، حبيت أقولك عشان يبقى عندك خبر إني عايز اجي اتقدم"
نظرت له سريعًا من المرأة هي الأخرى وارتجف قلبها، لماذا يتحدث في هذا الأمر الآن وهي لا تود أن يحدث لأبيها شيئًا، مررت نظرها على «مُحسن» ثُم على «تامر» الذي بث الطمأنينة لها بنظراته مُشيرًا لها بأن تصمت، كلمة واحدة من والدها بسخرية وهو نظره مثبتًا على الطريق:
"مرفوض"
ابتسم الثاني بنفس السخرية وهو يلعب مع والدها على نفس الوتر هذا، برود فقط قد يُثلج من أمامه، يبدو وكأن الحرب بينهما باردة ولكن اشتعالها سيكون ذريع، وسأل بكلمة واحدة كما فعل والدها:
"ليه بقى؟"
طريقة أخرى جديدة في المُعاملة وكانت بإهانة لشخصية «عبدالله»، حينما تحدث «محسن» بنزقٍ:
"عشان أنت مش قد بنتي مقامًا عشان تتجوزها، أنت حيالله معاك كلية آداب يا عبدالله وفاتح ورشة على قد حالك، أبوك راجل طيب متخلناش يحصل بينا مشاكل أكتر من كدا، شوف واحدة على قدك تتجوزها، ولا إيه ياتسنيم؟"
لماذا وضعها في هذا الإختبار،
أتكسر قلبه الآن بكلمة واحدة تعلم بأنها ستكون الناهية بالنسبة لعلاقتهما، أم تكسر كلمة أبيها؟
ولكنها أختارت شيئًا واحدًا وهي تهمس بنبرة بالكاد وصلتهم:
"صح يابابا"
ألقى عليها نظرة سريعة من المرأة، نجح والدها بكسره هذه المرة بأمتياز، أتخذ أسلوبًا هو بارعًا به بشدة، وهو إخفاء غضبه الذي إن خرج لن يعجب أحدًا:
"خلاص بالتوفيق ياعمي، وأنا أوعدك أن أنت هتفضل محافظ على علاقتك مع أبويا عشان متخسروش بعض، ومن اللحظة دي تسنيم متحرمة عليا، متنفعش غير أختي وبس"
توسعت ابتسامة والدها بنصرٍ، بينما هو ضغط على المقود بيده وصمت بعد ذلك، ولم تخرج سوى جملة واحدة من فم «تامر» مواسية:
"ربنا يرزقك ببنت الحلال ياعبدالله، أنت تستاهل الخير كله ياصاحبي"
شكره بابتسامة مقتضبة:
"تسلم، ويرزقك يارب"
هي مازالت عند تلك الكلمة التي نطقها فمزقت قلبها،
لِمَ الحياة تجبرها على وضع قدمها في طريقٍ غير طريقها، لا يليق بها ولا بشخصيتها، أين بر الأمان إن لم يكن مع «عبدالله» حبيبها، وأين السند إن لم يكن من أبيها؟
في هذه اللحظة ودت لو تحتضنها أمها الراحلة، ولكن بالقبر لا على وجه الحياة.
أوقف السيارة أمام منزلهم والذي لم يكن يبعد عن منزله سوى مسافة صغيرة، واكتفى بقول كلمة واحدة:
"حمدلله عالسلامة"
ترجلوا من السيارة بينما هو وجه نظره بعيدًا عنهم، لم يلقي لها بالًا ولا حتى نظرة واحدة.
انتهت قصة دامت بينهما فقط ولم تكتمل،
انتهت قصة حب نشأت ولم تنشأ،
انتهيا سويًا معًا ودُفِن قلبهما.
___________
في بعض الأحيان، تخلق الصدف من قلب الظلام لتجذبك نحوها وتتركك لتنتشل نفسك إلى النور، هكذا هي الحياة تمامًا؛ مليئة بالظلمات والمؤمن منّا من سيجد النور الخاص به ويذهب له.
صدح في أرجاء المنزل صوت رنين الجرس ومنذ أن أتت لهنا وهو يرنه قبل دخوله حتى لا يصطدم معها بأي موقف مُحرج سواءً له أو لها.
فتحت له الباب لأنها كانت قريبة منه تجلس بالشرفة، رفع بصره يطالعها تحديدًا بعينيها الخضراء الملامعة، أبعد عينيه عنها سريعًا وتنهد بعمقٍ وهو يدلف ويغلق الباب خلفه:
"مساء الخير يا رزان!"
كان تضم أصابعها ببعضهما وتضغط على يدها بتوترٍ وهي تراقب حركته:
"مساء النور، مافيش جديد! محدش منهم رن عليك"
تحرك يضع مفاتيح سيارته على الطاولة وبقية أغراضه وهو ينظر نحوها يطالع التعب البادي على وجهها وشعرها المقصوص بعشوائية يتدلى على جانبي وجهها:
"تؤ، محدش شاف الرسايل أصلًا، أمي فين؟"
خرجت أمه من المطبخ عقب انتهاء سؤاله عنها:
"أنا هنا ياحبة عيني"
ابتسم بودٍ واقترب منها يقبلها على رأسها:
"إيه ياقلبي عاملة إيه؟"
كانت تطالع مشاعر الحب التي تخرج منهما تملئ هذا المنزل الصغير بهما، تعلم جيدًا بأن الحياة ليست بالمنازل الكبيرة ولا النقود الكثيرة، ولكنها لم تعش تلك المشاعر مع أحدًا وهذا ما سبب لها الآن الوجع الكبير الذي يضاهي وجعها.
_"أنا كويسة ياحبيبي، شغلك ماشي الحمدلله؟"
أومئ لها برأسه بابتسامة وهو يربت على كتفها بحنانٍ:
"أيوه الحمدلله، ماشي حاله متقلقيش، أنا جعان أوي حطيلي أكل لحد ما أغير هدومي"
تحرك من أمامهما دون أن يعيد بصره نحوها؛ فهو يحاول ألا ينظر لها كثيرًا حتى لا يقع في فتنة هو لا يقوى عليها، توجه نحو المرحاض بملابسه ينعم بحمامٍ دافئ يُزيل عنه هموم الحياة التي تثقله.
لمتى سيظل هكذا، دون عمل يناسب مكانته الإجتماعية ويناسب التخصص الذي تَعِب ودرس به، لمتى سيكون هذا المجتمع مقابر لأصحاب الهمم وأصحاب المشاريع.
خرج من المرحاض بملابسه البيتية وتوجه ناحية الطعام الذي وضعته له والدته وبدأ يتناوله وهو شارد الملامح تارة، وتارة أخرى يعبث بهاتفه، وصلته رسالة واحدة من أختها لهاتفه في لحظة تحتوي على «أنتِ فين؟»
للحظاتٍ ينظر نحو الرسالة، لم يفتحها بعد فهو لن يجيبها بتلك السهولة عن مكان منزله حتى لا يقع بمشاكل، ولكن لماذا يراوده شك.. أو فخ!
أنهى طعامه وحمل صحون الأكل ووضعها بالمطبخ وتوجه نحو غرفة أمه بعدما طرق الباب وسمحت له بالدخول، اقترب لها وجلس على طرف الفراش وهو ممسك بيديها بين يده:
"بيحصل حاجة ياحبيبتي مع رزان؟ بتضايقك ولا فيه حاجة بتحكيهالك مهمة بالنسبالنا عشان نساعدها"
ابتسمت أمه بحنانٍ وهي ترفع كف يدها تربت على خده بحنانٍ:
"لا ياحبيبي متقلقش، رزان خفيفة زي الريشة، دي مونساني هنا أنت عارف أنا طول اليوم قاعدة لوحدي لو مروحتش قعدت مع فاطمة شوية ولا ابتسام، والبت تسنيم مبقتش بتيجي تقعد معايا ولا البت مرام، فرزان مونساني ومعوضاني عن الوحدة اللي كنا قاعدين فيها"
ابتسم بأطمئنان؛ فهذا ماكان يريد أن يسمع لا غيره، وما لم يكن يريد أن يسمعه عندما قالت أمه بمشاكسة:
"أنت يابني ناوي تتجوز امتى؟ هات واحدة ياحبيبي تونسك أنت كمان وتونسني معاك، شقتك جاهزة وكل حاجة!"
طرف «حمزة» بعينيه نحوها شزرًا:
"نامي يا أمي الله يصلحلك حالك، هو ده الناقص أروح اتجوز وازيد الهم همين ومبقاش عارف أصرف عليها منين، أنتِ مونساني ياحبيبتي ومش عايز حد تاني"
_"ياني عليك ياحمزة، مبتسمعش الكلمة أبدًا"
قالتها بتأفف فتحرك من جوارها:
"لا أنا متربتش أصلًا، تصبحي على خير ياحبيبتي أنتِ سهرتي النهاردة الساعة 12، نامي يلا"
ضحكت بخفة عليه وبادلها هو الضحكة ووضع عليها الغطاء، تركها وخرج نحو الشرفة مُمسكًا بيده السجارة التي أشعلها للتو ولاحظ ظل أحدهم يقف خلفه فأخرج الدخان من فمه وهمس:
"تعالي يا رزان"
دلفت ووقفت جواره وهي تنظر له وللدخان الذي يتطاير مع الهواء الطلق، أبعدت بصرها مجددًا نحو الشارع واضعة يدها على السور أمامها:
"أنا آسفة إني بتقل عليكم، أوعدك هانت وهمشي"
خطف منها نظرة واحدة ثم أعاد بصره نحو الشارع هو الآخر:
"لا متقلقيش من حاجة، أمي فرحانة بوجودك هنا أنتِ بتونسيها، وأنا مش حاسس بتقل ولا حاجة متقلقيش"
مالت برأسها قليلًا نحوه تطالعه وهي تردف بتنهيدة عميقة داخلها حزن دفين:
"عارف .. لما شوفتك أنت وطنط وكدا والحب اللي بينكم، افتكرت ماما حبيبتي، كنت أنا وهي كدا علطول، كنت بحب أحضنها وبحب أهزر معاها، كانت كل حياتي بجد، كنت بروح الجامعة وبرجع الاقيها بتلحقني بالأكل عشان أتغذى بعد تعب اليوم، كل شوية تتصل بيا تطمن عليا، مشاعر كتير كانت بينا أنا مفتقداها جدًا، وبسبب نادر، خسرت وجودها هي وبابا وأختي، خسرتهم وزعلوا مني أوي، أنا بجد محتجاهم أوي في حياتي، محتاجة أحس تاني بالحنان، بحضن أمي، وحنان بابا، ومساندة روان أختي"
كان يستمع لكل حرفٍ منها بكل أُذن صاغية، يعلم كم التعب يحتلها، والذي كان ظاهرًا بالأساس على قسامتها الباهتة التي تملؤها الجروح، حديثها المرتجف والذي تجد صعوبة في إخراجه بالأساس، تلعثمها أثناء الوقوف أمامه وكأنها تخشى الجميع.
تفوه بصوتٍ خفيضٍ تستمع هي له يشوبه المواساة:
"كل حاجة هتبقى كويسة وهترجعيلهم، وهما أكيد هيعذروكِ، مافيش حد بيكره ولادوا بالذات أن علاقتكم كانت حلوة سوا، متقلقيش يا رزان كله هيبقى كويس"
مسحت دمعة فرت من عينيها بسرعة وأومأت له فقط ليكمل هو الحديث الذي سيستكمل حديثها بعدما أخذ نفسًا من السجارة بيده:
"عارفة لما أبويا مات، ضهري اتكسر وكنت بقول خلاص دي نهاية العالم بالنسبالي أصل أنا هكمل إزاي من غيره، بس اكتشفت بعدها إنه سايب فضهره راجل هيقدر يدير الحياة ويرعى أمه ويكمل مشوار أبوه، ربنا ألهمني الصبر وعوضني بحاجات كتير مكنتش اتخيلها، راجل طيب بيعتبرني ابنه، وصحاب ليا بيعتبروني أخوهم وأنا بعتبرهم أخواتي، فالدنيا مبتقفش ودنيتك هتمشي متقلقيش"
تنهدت بعمقٍ وهي ترد عليه بهدوء:
"ربنا يرحمه يارب، ونعم بالله"
صمت لثوانٍ حتى سألت هي:
"أنت من امتى بتدخن؟"
نظر لها سريعًا ثُم أمامه وأجابها بأقتضاب:
"بقالي سنتين"
_"التدخين غلط، ومضر بالصحة"
قالتها بسرعة تنصحه وأبعدت بصرها عنه بينما هو سألها سؤالًا بسؤالها:
"ليه قاصة شعرك بالشكل ده؟"
رفعت يدها على شعرها الذي بالكاد يصل لآخر عنقها بشكل عشوائي، طويلًا من ناحية وقصيرًا من ناحية:
"مش أنا، نادر اللي عمله كدا"
نظرات بينهما استمرت لدقيقة، يحاول أن يتلقى الصدمة التي رمتها كقنبلة، بينما هي بعينيها القهر والذُل المعكوسان على حياتها والتي كانت تعيشهما، أبعد بصره نحو الشارع وهو يرمي بقايا السجارة وهمس بسبابٍ «لنادر» ومتوعدًا له.
_"تصبح على خير!"
قالتها عندما وجدته صامتًا فابتسم ابتسامة صغيرة بالكاد ظهرت على فمه:
"وأنتِ من أهل الخير!"
تحركت للداخل وتحديدًا جوار أمه كما أعتادت منذ أول يوم أتت به لهنا، بينما هو رفع أصابعه يخللها بين خصلاته:
"منك لله يا نادر ياكلب"
أخرج هاتفه وفتح الرسالة وهو يهمس:
"قلبي بيقولي مافيش خير فالمسج دي، ربنا يستر"
عبث بيده على لوحة المفاتيح وهو يكتب «أنا في أمان مع حد ساعدني، خلي بابا يرد عليا ويكلمني هقوله أنا موجودة فين!»
لم يتوقع سرعة رؤية الرسالة بالرغم أنه أجاب بعدها بساعة تقريبًا، وصله ردها «لا قوليلي وأنا هقوله، نادر فين وهربتي إزاي؟»
هُنا ما قد أثار شكه أكثر، وكان صاحب فطنة يُفكر ألف مرة قبل الإجابة، ويستنبط ماقد ترميه له من فخوخ ويعرف ذلك، دعنا نقُل أن «حمزة» يملك حاسة سادسة.
______________
تائه بيني وبيني،
الشتات يحاوط قلبي ويحاوطني،
جزءٌ مني يريد والآخر يُقاتل،
وفي الضياع أغرق بلا نجاة،
وكيف أنجو وأنا بحربٍ طرفيها نفسي ونفسي!
وقفت أمامه بإرتباك وجسدها يتصبب عرقًا من الاختبار الذي وضعت به الآن، لِمَ قد يُوضع إنسان بهذا الإحراج في حياته؟
ما الذنب الذي ارتكبته لتكن هُنا تحت تصرفهم،
قد يكون لها النعيم فالبداية، ولكنه فيما بعد سيكون الجحيم لحياتها بأكملها
تفرقت شفتيها لتهمس بصوتٍ كاد يسمعه:
"انا موافقة، موافـقة اتجوزك واخلف بس بشرط"
قطب حاجبيه وضيق عينيه لتلك التي أمامه كقطة وديعة لا تقدر على التصرف فتموء لصاحبها بدلالٍ:
"وإيه الشرط يا ست الحُسن؟"
سحبت نفسًا عميقًا ويديها متشابكتان ببعضمها تضغط عليهما وهي تُكمل
"اشوف ابني وقت ما أحب، أنا عارفة إنها هتعتبره ابنها عشان هو ابنك، بس مافيش على الطفل أحن من أمه، وأنا كمان عارفة إني لو عاندت وخدته ومشيت، مش هقدر اعيشه زي ما أنت هتعيشه مبسوط وبتحققله كل أحلامه، ده شرطي الوحيد"
نظر لتقسمات وجهها بهدوء بالغ، كم تمنى أن ترفض ليزيح هذا الهم من على قلبه، لم يكن يود أن يتزوج ثانيةً ليُرزق بطفلٍ، ولكن «رنا» أصرت عليه بأنها تود أن تحمل بأحضانها طفلًا منه تنعم به قبل أن تموت.
لا يعلم كيف سيفعل ذلك وهو يعشقها،
كيف ستحمل منه إمرأة أخرى غيرها،
بل كيف طلبت هي منه ذلك دون ان ترأف بعشقه لها.
بعد همسات عقله مع نفسه أجابها بإقتضاب:
"متقلقيش، هيفضل فحضنك"
صمت لثانية وأكمل:
"يمكن أمي مقالتلكيش على الحوار ده بما إنك بتطلبي طلب زي ده، هقولك أنا يامرام، أنا مش عاوز أي حاجة تأثر على القرابة اللي بينا ولا إنك تسيبي البيت فـ يوم وتمشي، مرام إحنا متربيين سوا، هنتصرف عادي كأي زوجين، والحاجة التانية اللي عايز أقولها؛ أنا مش هطلقك إلا لو أنتِ طلبتِ ده، لما نويت اتجوز فكنت هتجوز جوازة تانية كاملة تخلفي وهنعيش سوا والطفل هيفضل معاكِ ومع رنا أكيد!"
تغيرت ملامحها للصدمة وهي تطالعه وتهمس بتساؤل:
"هنكمل؟"
أومئ برأسه بإيجاب وهو يبتسم ابتسامة بسيطة بالكاد ظهرت:
"آه هنكمل، أنتِ عارفة إني مش هلعب فواحدة بنت ناس لو كنت اتقدمت لغيرك، لا كنت هكمل معاها برضو ونشوف لو مشينا وحالنا مشي ليه لا؟ وليه أحرم ابن من أمه وأديه لست تانية أصلًا"
تنهدت وهي تنظر نحوه بملامح ارتخت في حزنٍ:
"تمام يا آسر"
_"تصبحي على خير"
قالها دون أن يستمع لاجابتها وغادر من شقتها نحو شقته بالطابق الثاني، لم يجد ما يقوله فهو لن يجرح بمشاعرها كما تحدث أمام أصدقائه بأنه تزوجها لأنها ستفعل ما يقوله لها، شرد بحديث صديقه الذي أخبره أن مايفعله ليس صحيحًا وأن لها حقوقها مثل زوجته الأولى تمامًا، هو الآن حائرًا بينه وبينه، لا يعلم أيهما الصواب في هذه الرحلة، هل يُكمل أم يقف وحيدًا في منتصف الطريق!
ولج للشقة فوجدها تقف أمامه وتنظر له مبتسمة، يراها كأنها أجمل شخصٍ بالعالم، لا يرى مثلها ولن يفعل، توسعت ابتسامته تلقائيًا وسألها وهو يقترب نحوها:
"حاسة بإيه دلوقتي يارنا؟"
رفعت كفها ووضعته على خده برقة وهي تجيبه بصوتها الذي يسمعه كمعزوفة بالنسبة له:
"كويسة ياحبيبي متقلقش، عملت إيه مع مرام؟"
زفر بسخطٍ وأبعد يدها عنه وتحرك نحو الأريكة يجلس عليها ممسكًا جهاز التحكم الخاص بالتلفاز:
"كلمتها وقالتلي موافقة"
اقتربت جواره وتوسعت ابتسامتها:
"بجد؟ طب كويس، خلاص بقى استعجل واكتبوا الكتاب علطول عشـ.."
قاطعها بصراخه بوجهها، طفح كيله ولم يعد لديه قدرة على التحمل في كل تلك الضغوطات التي تضعه بها:
"لا مافيش استعجال، محدش بيجري ورانا يا رنا، أنا خلاص كلمت أمي زي ما كنتِ عايزة وهي كلمت مرام، ومرام الحمدلله وافقت وهتجوزها، عالأقل اديني فرصتي مع دماغي كدا ياشيخة ان شاء الله حتى يوم واحد"
التمعت عينيها وهي تطالعه باستياء وهمست بصوت خفيض بالكاد سمعه يحمل القهر:
"حاضر، حاضر يا آسر، تصبح على خير"
غادرت نحو غرفتهما بينما هو ألقى جهاز التحكم على طول يده بالحائط وهو يعيد خصلاته للخلف، متى الصباح ليذهب للنادي الرياضي ويُفرغ شحنته تلك بالرياضة كما يفعل دومًا.
_______________
تداخلت خيوط النور مع الظلام، ليتشابكا كما تشابك الأرواح ببعضها، خيوطًا ذهبية مالت على البيوت القديمة البسيطة تحتضنها بدفئ، وتحتضن أصحابها فتهدأ أرواحهم.
كان يقف في شرفته ومكانه المفضل ويجلس أسفل قدميه القطتين الحبيبتين لروحه وقلبه، يمسك دلو الماء يسقي الزرع الموضوع في جوانب الشرفة بشكل مُلفت، بينما أشعة الشمس تقابل وروده في عناقٍ رقيق تعطيهم الغذاء، جلس أرضًا بالمكان الذي خصصه هنا بالشرفة لينعم بالهواء الطلق والنظر للسماء.
اقترب منه «مشمش» وجلس على قدمه بينما «مشمشة» استلقت جواره فكانت يديه على كل واحد منهما، يمرر نظره بينهما وهو يقول بصوتٍ خافت:
"ملهاش نصيب تعيش معانا ونبقى إحنا الأربعة سوا زي ما اتفقنا، بس أنتو ليكوا نصيب تقعدوا معايا وفحضني، يمكن ده من رحمة ربنا ليا عشان يخفف عني كل الصدمات اللي قابلتني، ويمكن عشان أنتو تستاهلوا خير وتكونوا معايا"
تذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي قرر فيه أن يُخرج القطتين للتبني لأنهما يذكراه بها وبالخطط التي وضعوها سويًا ليفعلوها بعد الزواج، ولكن قلبه لم يطاوعه ولم يستطع أن يبعدهما عنه، فأعاد الإثنين مجددًا له وها هُم يؤنسان وقته.
أمسك مصحفه من جواره وجلس يقرأ ليهدأ من الضجيج الذي داخله، هذا هو ما يفعله كل يوم صباحًا عندما يستيقظ على الكوابيس التي تجعل نومه قليل، بالكاد ينام بعد سهرٍ طويل طوال الليل بسبب الأفكار التي تأكله، ثم يستيقظ مُرتجفًا، مفزوعًا في بداية النهار.
هذا هو الإنسان، يضعف ويمرض،
يقع متعثرًا في طرقات الحياة، ثُم يمد يده نحو السماء داعيًا الله عز وجل، بالصلاح والهداية، بيدٍ مرتجفة وقلبٍ هلع وروحٍ هائجة، وفي نهاية المطاف يكون ترابًا كما خُلق، هذا هو الإنسان وهذه هي نهايته، وما عند الله أفضل مائة مرة مافي الأرض.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
تمعن في قراءة هذه الآيات بتنهيدة كبيرة خرجت من داخله وضجيج لا يقوى عليه، همس بينه وبين نفسه:
"يا الله يا ولي الصابرين"
على الجانب الآخر في منزلٍ قديم بجدران مشققة، تحديدًا في غرفة أنارت باضاءة النهار منذ الصباح الباكر فأستيقظت هي ولكنها ظلت مستلقية مكانها، لا تستطيع النوم في هذا البيت ولا جوار تلك التي تخرج أصواتًا طوال الليل.
هبطت دمعة ساخنة على خدها وهي غير قادرة على تصديق ماهي به الآن، إنها «سيلين الأنصاري» تستلقي على فراشٍ بالكاد يحملهما، يصدر أصواتًا غريبة بسبب ضعفه واقترابه للخراب، تذكرت كل حياتها في لمح البصر منذ أن كانت صغيرة حتى كبرت وأصبحت فتاة يافعة، كيف تركها والدها هكذا مخطوفة لثلاثة أيام مع هؤلاء الأغراب الذين يعاملانها معاملة شبه جيدة بالنسبة لها.
____________
جلس في محله وهو يرتب الملابس في موضعها ويعرض الجديد ويضع القديم في عروض قد تناسب أهل حارته، وأثناء شروده لمح طرفها تسير رفقة فتاة، عبس بإستغراب وتحرك بخطى سريعة نحو الخارج وتحديدًا نحوهما:
"أنتِ بتعملي إيه برا؟"
فزعت بخوفٍ والتفتت له وهي تطالعه برهبة هامسة بتلعثم:
"أنا طلعت مع مديحة.. هي قالتلي .."
أخذت «مديحة» الفلافل من الرجل والتفتت بكل برودٍ تطالع «مروان»:
"مالك يا أخويا جاي مطلع علينا عفاريتك ليه، نزلتها معايا نجيب فطار خليها تشم هوا"
الشرار يتطاير من عينيه، هل جنوا هؤلاء الناس أم هو المجنون، رفع سبابته في وجه «مديحة» وهدر بنزقٍ:
"ياسلام تشم هوا، هو جايبينها عندنا الحارة نفسحها ونشممها هوا يا مديحة، خديها وروحي وبعد كدا هي متتحركش من البيت، الحاج إبراهيم لو عرف هيطين عيشتك"
أتتها الجراءة لا تعلم من أين، ولكنه استفزها كونه يقلل منها هُنا ويود حبسها في شقة قديمة، صاحت بوجهه:
"هو أنا يعني مش بشر عاوزة أشم هوا ولا إيه، That's enough, وأنا مش هقدر استحمل كدا, please let me go"
طالعتها «مديحة» بدهشة وهي تميل برأسها قليلًا ثم همست «لمروان» بحيرة:
"هي بتقول إيه يا أخويا؟"
نظر نحو «مديحة» بغيظٍ متفوهًا:
"أنتِ اللي فتحتي علينا البكابورت ده"
ثم أعاد بصره نحو «سيلين» التي ارتدت عباءة سوداء خاصة«بمديحة» التي كانت أكثر منها وزنًا، مما جعلها صغيرة جدًا بتلك العباءة، واقترب يقف أمامها وهو يهمس بتهديد:
"مش قولتلك عشنا وسمعنا لعيال الحرامية صوت، وحياة ربنا يابنت وليد الأنصاري إن ماخرستي وخدتي بعضك مع مديحة ورجعتوا البيت ما هيعدي عليكِ نهار تاني!"
ارتجفت أوصالها من نظراته السوداء، والتهجم الذي ازداد على وجهه ناحيتها وهي تجيبه بتلعثم:
"على فكرة الأسلوب ده وحش أوي، عيب كدا!"
_"معلش أنا بحب العيب، خليلك أنتِ الأدب"
قالها بسخرية ونظر «لمديحة» وأشار بوجهه لها بأن تغادر بها فزفرت الثانية:
"ياني على المصايب لما ترف فوق دماغنا"
ثم سحبت «سيلين» التي ظلت تطالعه حتى عندما جذبتها «مديحة»، كانت تسير جوارها وكادت أن تقع أكثر من مرة بسبب العباءة التي تأتي أسفل قدميها وعقلها يدور به ألف سؤال وألف فكرة، أتهرب من هنا؟
غادر نحو المجلس تحديدًا للمكان الذي يجلس به «الحاج إبراهيم» عادةً، طرق الباب بأدبٍ ودلف ليجده يتحدث بالهاتف والوجوم بادي على وجهه، قطب حاجبيه بقلق واستغراب لتلك المكالمة التي لا يبدو عليها الخير أبدًا
_"وريني تقدر تعمل إيه ياوليد يا أنصاري وأحنا قده، وبنتك مش هتشوف ضلها لحد ما حق حارتي ترجع والأرض اللي سرقتها ترجع، وهي هتبقى عِند بعِند، ومتخلنيش أقلبها جثة بجثة، عهد بنتي قصاد سيلين بنتك"
تفوه بما قد يحرك الثاني حتى يعطيهم حقهم، ولكن لمن ينادي؟ لرجلٍ ليس همه سوى النقود والنفوذ والمصالح؟
اعتدل «مروان» في جلسته وهو يتابع مايحدث الآن، علِم أن المكالمة لا خير فيها، ولكن ما الذي قد يُوصل «إبراهيم» لقول تلك الكلمات الكبيرة؟
صاح «الحاج إبراهيم» قبل أن يغلق الهاتف بوجهه:
"قولتلك اللي عندي، وأعلى ما فخيلك اركبه"
وضع الهاتف جواره بحنقٍ بينما سأله «مروان» باستعجاب:
"في إيه ياحاج؟"
أجابه بنظراته السوداء التي يحتلها الغضب وصوته الحاد:
"متصل بيا بيهددني أسيب بنته، وأنه مش هيضيع وقته عشان إحنا خاطفينها وهو عارف أننا مش هنعملها حاجة ومش فاضي للكلام ده!"
تنهد «مروان» بعمقٍ وهو يهمس:
"صدق اللي قال الناس معادن، ووليد معدنه مصدي!"
أومئ له «إبراهيم» وأردف بحدة:
"عشان كدا هددته، وكمان قالي إنه يقدر يروح يقدم فينا بلاغ بالخطف ولو رفعنا بلاغ بالورق اللي معانا هيقدر يكسبنا عشان هو معاه ورق يثبت إن الأرض دي جايلها قرار إزالة من الحكومة وهو يستلمها عشان يعمل عليها مشروع"
_"طب ماهو الورق ده متزور مافيش أي قرارات من الحكومة، ما إحنا هنرفع قصاده محضر بأنه مزور ورق بأسم الحكومة"
قالها «مروان» بعدما صمت لبعض الوقت يفكر في ماهية الحديث الذي سيقوله والذي استمع له، وفي لحظة لمعت برأسه فكرة قد تصيب وقد تخيب ولكنه تفوه بها:
"بقولك إيه ياعمي، الهدوم اللي البت بنته عيزاها أنا جهزتها، هقوم أعدي على مرات عمي وأخدها ونروح وهقولها الكلام اللي أبوها قاله ده، إحنا نحلها بالذكاء يمكن هي تقول أي حاجة تعرفها تساعدنا في القضية دي، وأنت كلم المحامي وقوله يطلع عالنيابة يقدم محضر بالورق اللي معاه بأن الأرض ملك للناس دي، وأن مافيش قرارات إزالة طلعت من الحكومة"
الصمت احتل المكان لبعض الوقت يفكران فيما قد يحدث، تحدث «إبراهيم» بعدما تنهد بعمق، يعلم أن القادم ليس خير، ولكنه لن يمرر موت ابنته على خير:
"أنا كدا كدا كلمت المحامي وقولتله يجيلي، هتلاقيه نص ساعة ويجي"
وقف «مروان» مكانه وهو يتحدث بهدوء عكس الضجيج الذي داخله بسبب كل ما يمرون به:
"حلو أوي، إحتمال ألحقكم وهو هنا أنا هروح دلوقتي أعمل اللي قولتلك عليه"
____________
طرقات خفيفة عالباب تنتظرها أن تفتح لها، فُتح لها الباب وهمست «مرام» بتساؤل:
"رنا؟"
ابتسمت «رنا» ابتسامة بسيطة وهي تومئ برأسها:
"ممكن أدخل ونتكلم شوية"
ابتعدت«مرام» عن الباب وهي تشير لها بالدخول:
"طبعًا اتفضلي"
دلفت «رنا» وجلست وهي تتابع «مرام» تتحرك أمامها بخفة كما طير حر وتسألها:
"تشربي إيه؟"
أشارت لها الأخرى جوارها وهي تربت على الأريكة تحثها على الجلوس وأردفت بخفة:
"تعالي اقعدي خلينا نتكلم، أنا مش عايزة أشرب حاجة"
اقتربت منها «مرام» باستغراب وآلاف الاسئلة تملئ داخلها بسبب كل مايحدث الآن، لماذا صعدت لها «رنا» وفيما سيتحدثان؟ كل تلك الاسئلة ستكون إجابتها الآن ولكنها تعاني من فرط التفكير.
بادرت «رنا» بالحديث بابتسامة خفيفة:
"مرام إحنا أخوات صح؟"
تابعتها «مرام» بحاجبين مقوسان واجابتها بنبرة متعجبة:
"آه طبعًا!"
توسعت ابتسامة «رنا» وهي تسحب نفسًا عميقًا وبالكاد تحاول إخراج مابداخلها، جف حلقها وبالكاد استطاعت أن تسترسل في الكلام:
"أنا عارفة إن اللي هيحصل ممكن يوتر العلاقة بيني وبينك شوية، بس أنا مش عايزة ده يحصل، عادي جدًا اللي هيحصل لأن آسر ربنا محلله أربعة يتجوزهم، وأنا مش هعترض على ده أبدًا يا مرام أنا بس طلعت عشان أتكلم معاكِ فأني مش عايزة علاقتنا تتوتر ولا يحصلها حاجة"
ابتسمت «مرام» وهي تمسك يد «رنا» بين يدها وتحدثت بنبرة تبث بها الطمأنينة:
"متقلقيش يا رنا، أنا برضو مش هسمح إن العلاقة دي تتوتر، ربنا مرتب كل حاجة وهيحصل كل حاجة زي ما ربنا مرتبها"
ربتت«رنا» بيدها الثانية فوق يد «مرام» الممسكة بيدها وهي تطأطأ رأسها في محاولة لإخراج مابداخلها على هيئة فضفضة:
"بصراحة الوضع ده كان صعب عليا من الأول ولحد دلوقتي وأنا شايفة جوزي بيتجوز عليا، صعب على أي بنت في الدنيا أنها تشوف حاجة زي دي بتحصل، بيبقى فيه حاجة مبنية جوانا بس بيتكسر منها جزء صغير كدا لو محافظش الزوج عليها بيتكسر كله، بس أنا متأكدة إن آسر مش هيكسر جوايا حاجة عشان آسر بيحبني أوي وهيفضل بيحبني، هفضل في عينه الأولى اللي حبها واللي بيسعى عشانها"
تدس السم بالعسل على هيئة كلمات تخرجها على هيئة فضفضة، استشعرت بها «مرام» المسكينة التي تابعتها بصمتٍ فقط، معها حق فهي تعلم أن «آسر» يحب «رنا» ولن يحب غيرها، علمت أنها تحاول إيصال لها رسالة واحدة وهي ألا تحاول اختطافه منها وأنها مجرد امرأة سيتزوجها لتنجب لهما طفلًا.
لم تجبها «مرام» سوى بملامح جافة وصوت خافت:
"عندك حق، ربنا يديمكم لبعض ياحبيبتي يارب"
_"يارب، يلا مش هطول عليكِ وهنزل عشان آسر كان فالجيم وراجع عشان يلبس ويروح الشركة"
قالتها «رنا» التي تحركت من مكانها نحو الباب، بينما الثانية اتبعتها حتى غادرت ووقفت تستند بظهرها على باب الشقة تغمض عينيها لتفر دمعة علقت لم تقوى على النزول أمام «رنا».
إن المحب لمن أحب مُضحي،
وسهام الحب لا تكف عن برحي.
قبلت لأنها تحبه، وإن أتت لها فرصة كتلك رُتبت من عند الله، فلمَ قد ترفضها؟
_______________
وصل برفقة «فاطمة» زوجة «الحاج إبراهيم» لمنزل «حكمت» حتى يعطها الملابس التي أخذها من المحل خاصته لها، وصلا أمام الشقة ورفعت «فاطمة» يدها نحو الجرس وضغطت عليه ثم وجهت بصرها نحو «مروان» الذي بادلها النظرة بأخرى بها حنية وأدب، فُتح الباب وظهرت أمامهما «مديحة» وهي تضع على شعرها وشاحها بشكل عشوائي وتُرحب بهم:
"أهلًا وسهلًا اتفضلوا ياحاجة فاطمة"
ابتسمت لها «فاطمة» ابتسامة شاكرة لها ودلفت وتبعها «مروان» الذي استأذن بالدخول وسأل:
"فين سيلين؟"
ذكر اسمها على خروجها وهي تطالعه هو و«فاطمة» التي هرولت ناحيتها بسرعة تستنجدها:
"طنط فاطمة أخيرًا شوفتك، please ياطنط خليهم يسيبوني أمشي من هنا أنا تعبت من القعدة هنا ومش متعودة بجد"
نبرتها المدلله أثارت حنق «مروان» الذي زفر وهو يرفع يده بالحقائب، تحولت ملامحه لجافة غليظة وهو يقول:
"خدي دي هدوم عشان أكيد هتحتاجيها، إحنا جايين نتكلم معاكِ شوية وماشيين، وأنتِ مش هتتحركي من هنا"
ربتت «فاطمة» بتنهيدة على ذراعها وهي ترى بعينيها الخوف والرهبة من المكان وهمست لها بنبرة هادئة بها الحزن الدفين:
"قولتلك قبل كدا أنا مش هقدر أساعدك في حاجة، ربنا يتولاكِ"
تدخلت «حكمت» التي أتت ترحب بهم من المطبخ وهي تشير لهم بالجلوس:
"يا ألف أهلًا وسهلًا بأم عبدالله، اتفضلوا واقفين ليه؟"
_"أهلًا بيكِ يا أختي تسلمي"
أجابتها ونظرت نحو «مروان» لينجز ما يود فعله فنظر نحوها يومئ برأسه ثُم نظر «لسيلين»:
"تعالي شوية البلكونة، عاوز أكلمك في حاجة ضرورية"
طالعته للحظة تفكر فيما يوده منها الآن، هي خائفة حقًا منه ومن شخصيته تلك التي يظهرها أمامها، ولكنها ستمثل أمامه القوة التي تود أن تظل أمامه بها، وتحركت نحو الشرفة ووقفت جواره تنظر نحوه بطرف عينها بينما هو استقرت عيناه على الحارة كصقرٍ يتابع وبنبرة حادة:
"انا عاوز أعرف منك أي حاجة تقدر تساعدنا نجيب حق الحارة من وليد الأنصاري"
لحظة صمت بينهما، هي تنظر له وهو لا يعيرها إهتمام، حرب قائمة بين اثنين ضحايا طرفيها العائلات الكبيرة، لم تجبه فقرر اللعب معها على وترٍ حساس قد يحرك داخلها شيء ما، ربما تتكون مشاعر، تفوه هذه المرة وهو ينظر صوب عينيها مباشرةً:
"عارفة الست اللي أنتِ بتستنجدي بيها، والحاج اللي بيعاملك معاملة كويسة دول؛ أبوكِ دابحلهم بنتهم ... عهد بنتهم أبوكِ قتلها!"
_________________
رفع الهاتف على أذنه يستمع لصوت الرنين منتظرًا الإجابة، علامات الغضب تحتل ملامحه المجعدة لكبر سنه، رجلّ فاسد وعُرف بفساده لا يعرف الرحمة، وصلته الإجابة ليقول بصوت صارم:
"تعالالي فورًا عالمكتب بتاعي يا نادر، فورًا"
أغلق الإتصال دون أن يسمع كلمة من الطرف الثاني وأمسك بيده قلمًا ينقر به على المكتب أمامه بشرودٍ، كيف يهددونه هكذا تهديد، ألا يعلمون من هو «وليد الأنصاري"؟
داخله ألف تساؤل حول ابنته الآن، وحول قطعة الأرض التي ظل طويلًا يحاول اخذها له لبناء مصنعه الخاص بالادوية بسبب موقعها المناسب بالنسبة له، غير عابئًا بمن يعيش بها ولا بأي شخص آخر حتى ابنته التي وضعها بكفة غير مناسبة لكونها القريبة لقلبه وهي بالفعل ليست كذلك.
طرق باب المكتب ودلفت بعده فتاة يافعة وهي تتحدث بأدب:
"مستر وليد، مستر نادر برا"
_"دخليه فورًا"
قالها بنبرة سريعة حادة فأومئت له وخرجت وولج بعدها بدقيقة «نادر» الذي اقترب وجلس على الكرسي المقابل للمكتب وهو يسأل بإنزعاج واضح:
"فيه إيه، أنت متصل عليا وجايبني على ملا وشي كدا ليه!"
كان الثاني ينقر بالقلم على سطح المكتب وهو يطالع «نادر» بعبوسٍ واضح ووجوم أدى لاحمرار وجهه:
"إبراهيم وعياله خطفوا سيلين بنتي مقابل إني أرجع قطعة الأرض بتاعتهم!"