رواية جحيم العابرين الفصل الرابع 4 بقلم اسامة مسلم
خلال فترة دراستي الجامعية عملت في وظيفة مسائية لزيادة دخلي.. محل بسيط لبيع وتغليف الهدايا والتحف يقع في منطقة غير مزدحمة بالرغم من أن الشارع تجاري ويكون مكتظاً وقت النهار لكن مع حلول المساء تنخفض أعداد الناس ومرتادي المحلات التي تبدأ بالإغلاق تدريجياً ولا يبقى منها سوى عدد محدود ومن ضمنها المحل الذي كنت أعمل فيه ذلك الشارع موحشاً بعض الشيء وتزداد غرابة الزبائن كذلك في تلك الفترة من الليل.
غرابة زبائن الليل لم تكن تقارن بزبون يتردد على المحل من بعد العاشرة تقريباً وبشكل شبه يومي ولا أدري إن كان من الصحيح أن أسميه "زبوناً" فهو لم يشترِ شيئًا من المحل قط ويكتفي فقط بالتجول في المحل متظاهراً بالاهتمام ببعض السلع كي يجد حجة للتحدث معي وسؤالي عن سعرها بالرغم من أنه موضح عليها بملصق.
نظراته المقززة تحدق بي وتتفحصني بطريقة مقرفة في كل مرة مدلي فيها غرضا ما للسؤال عن قيمته وعندما أجيبه باقتضاب دون ترك أي مجال ليمتد الحوار أكثر. كما كان يحاول فتح موضوعات جانبية مثل السؤال عن مواعيد عملي وعما إذا كنت مرتاحة فيه أم لا ومهما كان أسلوبي معه خاليا من التفاعل لنقل شعور عدم الارتياح له وللحديث معه إلا أنه لم يترك عادة التردد على المحل كل ليلة بانتظام المضايقتي بتحرشه المكشوف والأحمق لفترات طويلة.
كان رجلاً مقرفاً.. مقرفًا بشكل لا يوصف وما زاد من اشمئزازي منه هو أنه يرتدي ملابس شتوية ونحن في أشد أشهر السنة حرارة لذا كان على الدوام يتصبب عرقاً وتفوح منه رائحة تثير الغثيان ناهيك عن ابتسامته القبيحة بتلك الأسنان الصفراء خلال تفحصه لجسدي بأعينه المحمرة مما جعلني أشك في نفسي وطريقة لباسي لأني لم أصدق أن هناك إنساناً سوياً يمكن أن يكون بتلك الوقاحة والبرود وانعدام الذوق وأنت تعامله بكل ذلك الصدود الواضح.
فقدت أعصابي يوماً خلال أحد تحرشاته السمجة وانفجرت فيه غضباً طالبة منه الرحيل والخروج من المحل وتركي وشأني وعدم العودة مرة أخرى لكن ردة فعله الغريبة صدمتني فقد لامني وتحدث معي بنبرة معاتبة وكأننا كنا في علاقة طويلة وطلبت الانفصال منه للتو.
طردته شر طردة بعد ما رميت عليه بعض الحاجيات المصفوفة ورائي ولحسن الحظ أنه أفاق من وهمه وخرج كالفأر يجر أذيال الخيبة.
تعجب (عاصم) مما سمع وقال : "وهل انتهت الحكاية عند ذلك؟"
+
(يمنى) باسمة بحسرة : القصة لم تبدأ بعد...
استأنفت كلامها وقالت بأنها بعد تلك المواجهة معه لم تره لعدة أيام لكنها بدأت تلاحظ أمراً أثار تعجبها وحيرتها فقد بدأت تشاهد عند قدومها للمحل مساءً وجود ما يشبه السائل المدفوق عند عنية المحل. تجاهلته في الأيام الأولى لكن ومع تكراره بشكل يومي احضرت منديلاً ومسحت جزءًا منه وقربته عند أنفها واشتمته. رائحته كانت كخليط من البهارات والعطور الفاسدة وملمسه ولونه يشبهان الدهن العتيق.
اضطرت (يمني) لإخبار صاحب المحل والطلب منه بأن يرجع لكاميرات المراقبة المنصوبة عند المدخل وبالفعل شاهدوا الرجل نفسه يتردد كل يوم قبل موعد حضورها بنصف ساعة تقريب ويسكب تللك المادة المجهولة بعد ما يتحقق من خلو الطريق من المارة.
لم يتردد صاحب المحل بإبلاغ الشرطة وتزويدهم بمحتوى التسجيلات ولأن الرجل حرص على إخفاء وجهه لم يتمكنوا من تحديد هويته بالرغم من إصرار (يمنى) على أنه نفسه الشخص الذي كان يتردد عليها ويضايقها لذا قرروا نصب كمين له للقبض عليه متلبساً لكن للأسف لم يظهر في اليوم التالي ولا الذي تلاه ولم يروه مرة أخرى. حظيت (يمنى) ببعض الراحة لعدة أسابيع لكنها تبددت عندما بدأت تلمح الرجل نفسه في أماكن وأوقات مختلفة خارج مواعيد عملها في المحل.
أصبحت تراه مثلاً عند ذهابها أو عودتها من الجامعة أو زيارتها او لأقاربها أو إحدى صديقاتها يقف بعيداً في الشارع المقابل متوارياً خلف سيارة أو شجرة يراقبها وفي بعض الأحيان لم يكن مهتماً بالاختباء بل يقف بكل ثقة محدقاً بها بوجه خال من الملامح والتعابير.
شعرت (يمنى) بأنه يخطط لأمر ما ويضمر الشر لها منتظراً الفرصة المناسبة للإقدام على ما كان يدور برأسه لذا قررت في النهاية إبلاغ أملها الذين أخفت عليهم ما حدث مع الشرطة وصاحب المحل ظنا منها أن الأمر انتهى إلى هذا الحد ولا احتمالية منعهم لها من مزاولة عملها خوفاً عليها لكن شعورها بالرعب من تلك الملاحقة لم يترك لها خياراً آخر.
بعد حديث مطول مع أخيها الأصغر الذي يدرس في المرحلة الثانوية شرحت له فيه كل ما حدث بالتفصيل اتفق الاثنان على أن تخرج معه لمكان عام وتتجول وحدها وأن تتصل عليه بهاتفها المحمول لو لمحته في الأرجاء وبالفعل هذا ما حدث.
طلب أخوها منها ركوب سيارة أجرة والعودة للمنزل على الفور بعد ما تمكن من تحديد موقع الرجل خلف أحد كشكات البيع لكنها ترددت وقالت له: "ماذا تنوي أن تفعل ؟!" طمأنها وأخبرها بأنه فقط ينوي مراقبته حتى يتمكن من معرفة عنوانه ليبلغ الشرطة عنه وبالرغم من عدم اقتناعها المعرفة مدى تهور أخيها إلا أنها وافقت وركبت سيارة الأجرة وتوجهت للبيت.
تحرك الرجل وركب سيارته في نية للحاق بها ومن خلفه أخوها الذي ركب سيارته هو الآخر وبدأ بتعقبه تمكنت (يمني) من التملص من ملاحقته لها عندما فصلت بينهما إشارة ضوئية وبالرغم من معرف لموقع منزلها إلا أنه غير اتجاهه ولم يكمل تتبعه أكثر بعكس أخيها الذي ظل يتعقبه.
بعد ما وصلت (يُمنى) للمنزل دخلت غرفتها مباشرة وهاتفت أخاها في الحال...
+
ء من القلق : أين أنت الآن؟
+
- ما زلت وراءه .. لقد ابتعدنا كثيراً عن قلب المدينة
+
(يمني) : لست مطمئنة لما تفعل .. عد على الفورا
+
-بعد ما قطعت كل هذه المسافة ؟
+
(يمني) : لا يهم.. عد للبيت فوراً
+
- نحن على مشارف الخروج من المدينة للخط الصحراوي .. أتساءل أين يسكن هذا الحقير ؟
+
(یمنی) : اسمع .. دون رقم لوحات السيارة فقط فهذا كاف للشرطة لسنا بحاجة لمعرفة مكان إقامته
+
-قمت بذلك لكني أريد معرفة أين يسكن هذا الوغد
+
تملك (يمنى) إحساس خانق بأن ذلك الرجل قد أحس بتعقب أخيها له وأنه ينوي استدراجه لمنطقة مقطوعة لإلحاق الأذى به فكررت طلبها له بالتوقف والعودة على الفور لكنه لم يستجب وأصر على المتابعة وقبل أن يغلق الخط قال لها بأنه سيتصل بها فور توقفه في أي مكان وسيرسل لها إحداثيات الموقع برسالة نصية.
بعد أقل من ساعة تلقت (يُمنى) رسالة نصية ذات إحداثيات أشارت المنطقة نائية وسط الصحراء فاتصلت مباشرة بأخيها لكنها وجدت هاتفه مغلقاً.
طالت ساعات الانتظار وحل الليل ولم ينواصل أخوها معها فقررت إبلاغ الشرطة وإعلامهم بما حدث لكن قبل أن تفعل سمعت صوت سيارة أخيها تركن عند المنزل فهرعت للخارج لاستقباله والاطمئنان عليه.
كان بخير .. ولم يكن بخير .. جسده لم يمس بسوء لكن من الواضح أنه تعرض لصدمة نفسية من نوع ما لأنه فقد القدرة على الكلام والاستجابة لمن هم حوله لفترة طويلة ومهما حاولوا إخراجه من تلك الحالة بعرضه على الأطباء لم يتمكنوا من ذلك وبقي كما هو لعدة سنوات. لم تر (يمني) ذلك الرجل مرة أخرى ولم تحاول تعقبه أو الإبلاغ عنه خاصة بعد أن اختفى من حياتها تماماً مما جعلها تشك بأن أخاها أرتكب جريمة ما قد يتهم فيها فآثرت السكوت.
تخرجت خلال تلك الفترة من الجامعة والتحقت بوظيفة في مدينة أخرى وبقي إحساس الذنب لما حل بأخيها ملازماً لها ويلاحقها ولا تعرف ما حل به ذلك اليوم حتى أفاق من حالته يوماً دون سبب أو مقدمات وعاد لحالته الطبيعية.
+
(عاصم) : وهل أخبركم بما حدث معه
+
(يمني) : قال بأنه لا يذكر شيئاً من ذلك اليوم سوى أنه بقي يلاحق الرجل إلى أن توقف عند منزل طيني في مكان مقطوع وسط الصحراء وبعد دخوله إليه أرسل لي الموقع ثم ترجل من سيارته وقرر مواجهته في محاولة لتهديده وتخويفه للكف عن ملاحقتي وما أن طرق الباب حتى أحس بدوار فقد على أثره الوعي مباشرة حتى أنه لا يذكر أنه قاد سيارته عائداً للبيت .. لقد دخل في غيبوبة ذهنية لعدة سنوات وكأنه كان مسحوراً.
+
(عاصم) : أنا متعاطف مع قصتك لكن .. أين الحكمة منها؟ .. لقد انتصر الرجل في النهاية وتمكن من الهرب
+
(يمني): من قال لك ذلك؟ .. لقد أخذ جزاءه في النهاية ...
+
(عاصم) : كيف؟
+
بدت (يمنى) مترددة في إخبار (عاصم) ببقية القصة لكنها زفرت وقالت :
"لم أخبر أحداً من قبل بما سأقوله لك ..."
+
(عاصم): يمكنك الوثوق بي
+
(يمنى): ليس لثقتي بك بل لأني أريد إزاحة شيء عن كاهلي..
+
(عاصم) : أنا منصت ...
+
(یمنی) : عند شفاء أخي المفاجئ بعد عدة سنوات نما في صدري رغبة قوية في التغلب على مخاوفي والبحث عن مصدرها ومواجهتها لها وعند تعافيه بالكامل بعد أسبوع تقريباً استعنت بالإحداثيات التي كانت لا تزال محفوظة في هاتفي وتوجهت لذلك المنزل بحثاً عنه بالرغم من أنه توقف عن مطاردتي.. لم أكن سأبقى أسيرة للخوف والمجهول للأبد
2
(عاصم) : وهل وجدته ؟
+
(يمني) : نعم وجدته .. في ذلك المنزل الطيني القديم كما وصفه لي أخي .. بعد دخولي من الباب غير المغلق وجدته مستلقياً وسط باحته جثة هامدة
+
(عاصم) وهو مصدوم : من قتله ؟
1
(يمني) : لم يقتله أحد .. مات بشكل طبيعي ويبدو أن هذا سبب خروج أخي من غيبوبته لقد كان بالفعل مشعوذاً ويتعامل بالسحر .. لا أعرف .. كل ما أعرفه أنني لو لم أذهب لمنزله ذلك اليوم وأر جثته التي بدأت بالتعفن كنت سأبقى أسيرة الخوف طيلة حياتي .. ربما لم أواجه مصدر مخاوفي عندما بدأ خوفي في وقته لكني واجهت أسباب قلقي حين استمرت .. بذلت كل ما في طاقتي ليستعيد أخي حياته ويكمل دراسته والحمد لله تمكن من الوقوف على قدميه حرفياً ومجازياً .. عندها فقط اكتملت دائرة اطمئناني واستعدت حياتي أنا أيضاً .. كما أخبرتك فمواجهة مخاوفنا قد تكون مفتاح خلاصنا
+
(عاصم): وهل لهذه القصة علاقة بعدم امتلاكك هاتفاً نقالاً؟
+
(يمني) : نعم نوعاً ما...
+
(عاصم) : أنا متأسف لما حدث لك ولأخيك
+
(یعنی) باسمة : ورحلتي هذه هي للعودة لمدينتنا وحضور حفل زفافه
+
(عاصم) : تهانينا لكم .. وأنتِ هل تزوجت؟
+
(منی) : لا .. ليس بعد
3
(عاصم) : ولم ؟
+
یمنی) : لم تحولت فجأة لأمي ؟
1
(عاصم) ضاحكاً : المعذرة لم أقصد أن أكون متطفلاً
أدارت (يمنى) عجلة القيادة لركن السيارة على جانب الطريق ونظرها مرتكز على مقدمتها وهي تقول : جواب سؤالك له قصة أخرى أكثر بؤساً قد أحكيها لك يوماً ما ...
(عاصم) باستغراب : لم أوقفت السيارة؟
1
(يمني) وهي تتفحص المؤشرات الضوئية على لوحة القيادة :
"هي من توقفت بنفسها ولست أنا من أوقفها ..."
+
(عاصم) محاولاً اختلاس النظر لمؤشر الوقود : هل نقد الوقود منك أيضاً؟
+
(يمنى) وهي لا تزال تحاول معرفة سبب الخلل : لا معنا وقود كاف لكن لسبب ما المحرك تعطل
11