رواية صرخات انثي الفصل الثاني 2 بقلم اية رفعت
رواية صرخات أنثى الحلقة الثانية
وزع نظراته الغدافية بينه وبين تلك الفتاة التي ترتدي ثيابًا شبه عارية من أمامه، غض علي بصره عنه ليسلطها على أخيه، آمره بنبرة قطعية:
_عايزك.. تعالى معايا حالًا.
ابتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، وردد بصوتٍ منخفض:
_بس آآ…
قاطعه علي بحزمٍ:
_قدامي يا عمران، بدل ما صوتي يعلى قدام الناس.
دنت ألكس من عمران تتحسس صدره بطريقة تقزز منها علي للغاية، وقالت بدهشةٍ:
_ما الأمر عمران؟
حاول عمران إبعادها عنه وهو يتابع نظرات أخيه القاتلة، فهمس لها:
_انتظريني بالفندق ألكس، سألحق بكِ بعد قليل.
هزت رأسها على مضضٍ، وتركتهما وغادرت، فاحتل ثغرها ابتسامة تسلية فور رؤية زوجته تجلس على الطاولة القريبة منهم، فاتجهت وجذبت المقعد المقابل لها، تشنج جسد مايسان فور رؤيتها لها تجلس قبالتها، فصاحت بانفعالٍ:
_من سمح لكِ بالجلوس هنا.
دنت بجسدها من الطاولة وهي تخبرها بمياعةٍ:
_ستعتدين رؤيتي بأي مكانٍ يزوره عمران.
تهجمت معالم وجهها بصورةٍ ملحوظة، فوضعت ألكس ساقًا فوق الأخرى لتتعمد أن تريها ساقيها البيضاء العارية من أسفل الهوت شورت المقزز الذي ترتديه، مسترسلة:
_هيا مايسان عليكِ تقبل وجودي بحياة زوجك، استسلمي لتلك الحقيقة.
زوت حاجبيها بتهكمٍ:
_حقيقة إنكِ وقحة وعاهرة رخيصة.
تعالت ضحكاتها بشكلٍ صدم مايسان التي تأملتها بتقززٍ، وكأنها معتادة لسماع تلك الكلمات البذيئة، تعمدت ألكس أن تنهض وتجلس قبالتها على الطاولة لتستمع لما تقول جيدًا:
_لا، حقيقة إن عمران لن يقترب منك ما دمت أنا بحياته، بربك كيف سيراكِ وعينيه لا ترى سوى جمالي.
وجذبت سيجارًا تضعه بفمها وهي تستكمل بتحدٍ:
_اقترب اليوم الذي سيجردك به عمران من زواجك أعدك بذلك.
ونهضت من على الطاولة وهي تسحب به حقيبتها لتغادر، فتفاجئت بها تجذبها لتقف أمام عينيها، لتخبرها مايسان بتحدٍ وقوة لم تغادر شخصها القوي أبدًا:
_وأنا أعدك بأنني لن أترك زوجي لعاهرة وضيعة مثلك، لا تنتظري هذا اليوم عزيزتي، لآنه إن أتى ستكونين إنتِ المجردة ولست أنا.
وتركتها مايسان وغادرت تحت نظرات ألكس المشتعلة، فرددت بحقد:
_لنرى من منا سينتصر بالنهاية.
*******
بالقرب من مقر شركة “راكان المنذر”
وقف قبالته يصيح بغضب جعل عروفه بارزة للغاية:
_خلاص مش لاقي حد يوقفك عند حدك يا عمران!
رفع رأسه إليه وقال بهدوءٍ:
_أنا معملتش حاجه يا علي، فريدة هانم اللي أجبرتني أتجوز مايسان بنت خالتك وأنا مبحبهاش هعمل أيه يعني؟
رمقه بنظرةٍ ساخرة، اتبعها رفع يده يشير له:
_تزني وتشرب خمرة ده اللي تعمله!!
لعق شفتيه بتوترٍ وقال بتلعثمٍ:
_ألكس رافضة ترتبط بيا، إنت عارف إن ديانتنا مختلفة وآآ.
جذبه من تلباب جاكيت بذلته وهو يصيح بانفعالٍ:
_أنت جنس ملتك أيـــــــــه! واقف قدامي بكل بجاحه تبرر وساختك، إنت عارف مصيرك أيه!
وتابع وهو يحتد من مسكته:
_أنت نسيت هنا دينك يا عمران ونهايتك هتبقى أبشع مما تتخيل، إبعد.. إبعد عنها وعن الشياطين اللي حوليها.
وابتعد عنها وهو يحاول التماسك عن عصبيته، زفر بغضبٍ مما يفعل وعاد يقف قبالة أخيه الصغير، يربت بحنان على صدره ويعدل من جاكيته الغير مهندم بفعله، وقال بهدوءٍ:
_يا عمران إفهم مفيش حد في الكون كله يستاهل إنك تعصي ربنا وترتكب كبائر زي دي، بص حوليك وشوف ربنا كارمك بأيه وأنت غافل عنه، شوف نجاحك في شغلك، والزوجة الصالحة اللي ربنا رزقك بيها، امسك فيها بايدك وسنانك وخليها تطلعك بعيد عن القرف اللي إنت بقيت عايش فيه ده.
رفع رماديته الشبيهة لاخيه إليه ليرى دمعته المستكانة داخله، وكأنه يخبره شيئًا تفهمه علي، وقال:
_أنا مش هفرض عليك تعيش معاها زي فريدة هانم، بس أنا مش عايزك تظلمها معاك لو مبتحبهاش طلقها وسبها تعيش حياتها مع شخص تاني يديها اللي إنت مقدرتش تدهولها.
أجابه بحزنٍ:
_وتفتكر إني محاولتش أعمل كده يا علي، حاولت بس فريدة هانم هددتني إني لو طلقت مايسان هتحرمني من الورث ومن كل حاجة.
وتابع وهو يتجه للشجرة القريبة منه، يتكأ عليها بتعبٍ يضربه نفسيًا، فالتقط نفسًا ثقيل واستدار يخبر أخيه:
_لما أنت كنت في مصر أنا أصريت أطلقها عشان أنهي العذاب اللي معيشها فيه ده، بس ماما عاقبتني وأخدت مني الكريدت كارت وسحبت مني العربية وكل حاجه بمتلكها.
واسترسل بقلة حيلة:
_مكنش في قدامي حل تاني، بضغط على مايسان بكل قوتي عشان هي اللي تقف قدامها وتطلب الطلاق.
ضحك ساخرًا وهو يشير له باستحقارٍ:
_قصدك بتهنها وبتدوس على كرامتها، كرامة مراتك اللي هي المفروض كرامتك.
حاول تبرير ما يفعله حينما قال:
_عايزني أعمل أيه يعني!
صاح بعصبية بالغة:
_تخليك راجل ولو لمرة واحدة في حياتك، تقف قدام ماما وترفض الجوازة دي، ولو حرمتك من الفلوس والأملاك في داهية المهم بلاش تعصي ربنا بعلاقتك القذرة دي وبظلمك الكبير لانسانة بريئة ملهاش ذنب غير إنها بتحبك من وإنتوا عيال صغيرين وأنت أعمى عن حبها ليك.
واسترسل وهو يمنحه نظرة أخيرة:
_إنت ماشي في طريق كلها معاصي بداية من الخمرة للبنت اللي انت ماشي معاها.. صدقني يا عمران إنت مش أد غضب ربنا عليك.
وتركه وغادر على الفور، تاركه يعيد حساباته التي تنتهي جميعًا فور رؤيته لتلك الملعونة.
******
خرجت مايسان تنتظره جوار سيارته والدموع مازالت تختم على وجهها، لا تعلم لماذا تحمل الحب له بالرغم من الكراهية الواضحة بعينيه لها، مازالت تفتقده.. تفتقد تلك الليالي التي كانت تقضيها بانتظار هبوطه لمصر برفقة والدته كل عامٍ، كيف كان يبتسم فور رؤيتها ويقضي أغلب الأوقات برفقتها، كان لا يفترق عنها أبدًا، تاركًا الجميع يظنون بأن بينهما قصة حب عظيمة نهايتها الزواج المتوقع، وحينما حدث ذلك تفاجئت بوجود تلك الفتاة بحياته، وكأنه شخصًا أخر غير ذاك الذي كانت تلتقي به كل عامٍ، ترسخ داخلها بأنه كان يستغلها بالفترة التي يقضيها بمصر، ولكنه لم يسبق له بأن تعدى عليها مرةٍ، كان يعاملها برفقٍ وحبًا ينبع داخل عينيه، أزاحت دمعاتها حينما وجدت علي يدنو منها ليشير لها:
_ يلا نرجع البيت يا مايسان، شمس راكان قال هيوصلها.
رفضت الانصياع إليه مرددة بتصميم:
_أنا جيت مع جوزي وهرجع معاه .
أغلق باب سيارته وعاد يقف قبالتها، قائلًا بعدم تصديق:
_بعد اللي عمله جوه ولسه عايزة تركبي معاه!
تدفقت دمعاتها على وجنتها، فابعدتها عنها وهي تخبره بصوتٍ منكسر:
_أحسن ما أسيبه يروحلها.
رمش باهدابه تأثرًا بها، فهمس بصوتٍ حزين:
_غبي ومش مقدر الجوهرة اللي معاه.
ورفع من صوته يخبرها وهو يعتلي سيارته:
_لو حصل حاجة كلميني.
اكتفت بهزة بسيطة من رأسها، وتوجهت لتقف جوار سيارة عمران حتى خرج فوجدها تنتظره، وضع يده بجيب بنطاله وتساءل بضيقٍ:
_مركبتيش مع علي ليه؟
ردت عليه بثباتٍ قاتلٍ:
_أنا مجتش معاه عشان أرجع معاه!
سحب نفسًا مرهقًا وأشار لها بالصعود باستسلامٍ، تحركت بآليةٍ تامة لتجلس جواره، فخيم السكون عليهما طوال الطريق، تكبت هي بكائها بحرافيةٍ اعتادت عليها ويفكر هو بحديث أخيه، حتى توقف بها أمام المنزل، انتظرته يهبط ولكنه بقى بمقعده فعلمت بأنه يوصلها وسيغادر على الفور، لم تتمكن مايسان اخفاء دمعاتها طويلًا، فتحركت يدها المرتشعة تقبض على معصمه المتعلق بالقيادة، انتبه لها عمران فلف وجهه إليها، فاندهش حينما وجدها تتطلع له بعينان باكيتان، وصوته الشاحب يردد:
_بلاش تروحلها يا عمران، بلاش تكسرني بالشكل ده كل يوم، أنا لسه عندي أمل إنك هتسيب كل ده وترجعلي.
تألم قلبه القافز بين ضلوعه، لا ينكر بأنه كان يكن لها حبًا في وقتٍ مضى من حياته، ولكن فور ظهور ألكس بحياته منذ ثلاث سنواتٍ وهو لا يرى سواها، وكأن مايسان لم تزور قلبه في يومٍ مضى، طال صمته ووصلت لها إجابته، فسحبت يدها عنه وخرجت من السيارة على الفور.
انهال عمران بجسده للامام وهو يواجه كل ما يعتريه من ألمٍ مبالغ به، سئم من حياته ومما يواجهه بمفرده، فحسم أموره بإنهاء عذابه وخوفه الشديد من الله عز وجل، حرك المفتاح ليقود سيارته من جديد متوجهًا للفندق، تاركها تراقبه من الشرفة بانهيارٍ تام، جعلها تجلس أرضًا متعلقة بالستائر التي تكبت بها صراخاتها.. صرخات أنثى تعافر لاسترداد حبيب طفولتها الغائب خلف فترة مراهقة لا تود تركه أبدًا.
*****
صعود مايسان لغرفتها ومغادرة عمران زرع الشكوك داخلها، فصعدت لغرفة ابنها تطرق بابه وحينما استمعت لآذنه ولجت للداخل، فوجدته يبدل ملابسه، منحته فريدة نظرة متفحصة قبل أن تتساءل بحدةٍ:
_إنت راجع تاني المستشفى يا علي؟
منحها ابتسامة جذابة، ودنى منها يطبع قبلة على جبينها ويدها مرددًا بحبٍ:
_مساء الجمال كله على أجمل قمر بالكون كله.
كعادته ينجح بنثر السعادة على وجهها، ابتسمت وهي تردد بنفاذ صبر:
_دكتور علي البكاش إنت لحقت تقعد معايا عشان تلبس وترجع تاني.
اتحه لخزانته يجذب حذائه الأسود، فجلس على حاملة الأحذية يرتديه وهو يجيبها:
_هعمل أيه بس يا فريدة هانم لازم أرجع عشان عندي كام كشف مهم النهاردة، مقدرش أعتذر للأسف، بس وعدي مازال مستمر هرجع بدري.
هزت رأسها وهي تشير له:
_عفارم عليك.
اخفى بسمته على كلمتها المعتادة، التابعة لعهد مضى ومع ذلك تمعن بنظرته المحبة لها، شعرها القصير المرتب حول وجهها، فستانها الآنيق، وحذائها ذو الكعب العالي الذي إعتاد رؤيتها ترتديه أينما كانت، حتى ولو بالمنزل، عينيها العسلية المزينة بالكحل الأسود وبشرتها البيضاء الصافية.
أحيانًا يشعر وكأنها شقيقتها الكبرى وليست والدته بالمرةٍ، مازال حتى تلك اللحظة يتقدم إليه عدد من الرجال لخطبتها، فضحك رغمًا عنه حينما تذكر كيف كانت تغضب وتثور وخاصة حينما كان يخبرها علي بأنه ليس معترضًا آن أردت الارتباط.
كعادتها تعيد عليه حساباتها الدقيقة حول تضحيتها بالزواج في سنٍ مبكر، وبالأخص بعد وفاة والده كانت حينها تبلغ الثلاثون من عمرها.
أفاق من شروده على صوتها المنادي:
_روحت فين يا علي!
تنحنح بحرجٍ:
_مع حضرتك.
عادت تكرر ما قالته مجددًا:
_سألتك اللي إسمها ألكس حضرت الحفلة؟
سحب عينيه عنها بارتباكٍ، وادعى انشغاله بتصفيف شعره، مرددًا:
_مخدتش بالي.
احمرت عينيها، فنهضت عن الفراش وتوجهت للخروج قائلة:
_ردك وصلني.
******
انتهى الحفل أخيرًا وانتهى دورها المثالي بالوقوف مع خطيبها المزعوم بحفلٍ هامٍ هكذا، انتهت شمس من تناول طعامها، فجذبت منديلًا ورقيًا تجفف فمها قائلة بضجرٍ:
_راكان أنا كده أتاخرت، خلينا نمشي بقى.
ابتلع ما بفمه قائلًا وهو يلتقط مناديلًا ورقيًا:
_أوكي يا بيبي، هنتحرك حالًا.
انطلق رنين هاتفه الذي لا يكف عنه، فأشار لها بحرجٍ حينما وجدها تتأفف بغيظٍ:
_معلشي، ثواني وراجعالك.
وتركها تجلس على الأريكة التابعة لمكتبه السفلي، وابتعد يجيب على هاتفه، ابعدت شمس الطاولة القصيرة عنها ونهضت تتمشى بالخارج بضيقٍ شديد، فتحت الباب الزجاجي بالطابق الأرضي ووقفت تتنفس الهواء المنعش ببسمةٍ ساحرة، فتحت عينيها على مهلٍ لتتفاجئ بالحارس الشخصي يقف على بعدٍ منها، لاح على وجهها بسمة صغيرة، فخطفت نظرة سريعة على راكان الذي مازال يتابع حديثه الذي لا ينتهي،ثم تسللت للخارج بعدما خلعت حذائها حتى لا يستمع راكان لصوت خطواتها.
خطت على أطراف أصابعها حتى وصلت للحديقة الخلفية للشركة حيث كان يقف آدهم منشغلًا بتأمل هاتفه، ليفق على صوت صفيرًا منخفض وصوتًا انوثي رقيق:
_كابتن.
رفع عينيه إليها، فتفاجئ بها، ابتسم آدهم وهو يرد بتهذبٍ:
_شمس هانم.
رفعت طرف فستانها وتسللت بعيدًا عن المياه الرطبة المحاطة للأرض الخضراء، حتى وقفت جواره، رمش بدهشةٍ وهو يراقب قدميها دون حذاء، ولكنه لم يعلق وعاد يراقب ما ستقول.
اتسعت ابتسامتها وهى تربع يدها أمامه، وعلى ما يبدو تشتتها وحيرتها بما ستفوه، فقالت بعد صمتًا:
_أنا كنت عايزة أشكرك أنك مقولتش لراكان حاجة، وأكد عليك من تاني أنك مسبقش إنك شوفتني فوق.
تطلع لها بغموضٍ، ومازال يقف بثبات يزيد من جموده، ظنته سيتحدث بالأمر فقالت برجاء:
_بليـــــــز مش تقول لراكان حاجة، لحسن ممكن يقول لفريدة هانم وهتبهدلني.
اخفى بسمته وردد باتزانٍ قاتلٍ:
_أنا بعتذر بس مش فاهم تقصدي أيه، دي أول مرة أقابل حضرتك وش لوش يا شمس هانم.
بدت كالبلهاء تحاول فهم ما يقوله، فانفرجت شفتيها بضحكة واسعة ولفت اصبعها:
_آيوه آيوه فهمتك، إنت بتمثل من دلوقتي.
ضحك بصوته الرجولي وهو يهز رأسه:
_بالظبط كده.
رفعت إبهامها له:
_براڤو، استمر على كده.
اتجهت لتغادر ومن ثم استدارت لتخبره:
_شكل كده هيكون بينا أسرار كتير يا آآ.. آآ..
انقطعت كلمتها حينما تهاوت قدميها بالمياه الرطبة فكادت بالسقوط أرضًا، وكان ذراعه الصلب الأسرع لمساندة خصرها المرن، تعلقت شمس تلقائيًا برقبته، في نفس لحظة استكماله لجملتها:
_آدهم، إسمي آدهم.
قالها وعينيه هائمة بعينيها، وجهها الملائكي اختطفه وكأنها تملك تعويذة سحرية تشده بها، رفرفرت بجفنيها وهي تتأمل عينيه عن قربٍ، ذاك الغريب الذي اختطفها منذ أول نظرة وأول لقاء، انتبه آدهم لراكان الذي يتقدم منهما، فاستقام بوقفته جاذبها لتقف أمامه، وتراجع خطوتين للخلف واضعًا يده خلف خصره المستقيم
لعقت شمس شفتيها وهي تحاول تهدئة أنفاسها اللاهثة، وما زاد ريبتها وجود راكان الذي تساءل:
_في أيه؟
أجابه آدهم وعينيه الثاقبة تحيطه:
_شمس هانم كانت بتتمشى بالحديقة، واتكعبلت في طرف الفستان وكانت هتقع.
ابتسم راكان وربت على كتفه بفخرٍ:
_إنت مش بس منقذي المخلص يا آدهم، شكل هتكون المنقذ الرسمي لافراد عيلتي كلها.
طعنه آدهم بنظرة غامضة، يخفي من خلفها دوافعه الحقيقية، ومع ذلك اختطف بسمة ثابتة وهز رأسه بخفةٍ.
اخبره راكان:
_اتصل بالسواق يجيب العربية عشان نوصل شمس هانم.
رفع آدهم هاتفه ليردد باقتضاب لمن يجيبه:
_هات العربية قدام الشركة يا حامد.
استدار راكان تجاهها، فشملتها نظراته، فردد بدهشةٍ:
_شمس فين الشوذ بتاعك؟!
حكت جبينها بتوترٍ، فاحنى آدهم رأسه ضاحكًا خشية من أن يرأه أحدٌ، بينما تلعثمت بردها:
_آآ.. أنا بس كنت حابة أجرب النجيلة عندكم في الشركة ناعمة ولا خشنة.
برق راكان بدهشة، فتمادت بثقتها بالحديث:
_دي نقاط مهمة متخدش بالك إنت منها، الستات دقيقة جدًا.
أحمر وجه آدهم من فرط كبته للضحك، بينما رفع راكان يده لصدره ليشير لها:
_اسندي لما نوصل للشوذ بتاعك عشان نخرج.
وما أن طوفت ذراعه حتى تحرر رنين هاتفه للمرة الألف، راقب راكان الشاشة فابتعد وهو يشير للخلف:
_آدهم.
اقترب منه ليجده يهمس له:
_ساعد شمس هانم، معايا مكالمة مهمة.
احتل آدهم مكانه، فاحنى يده لصدره، ارتبكت شمس وهي تستند بيدها على ذراعه، ثم تحمل طرف فستانها باليد الاخرى لتتفادى الحشائش المبتلة، تلون وجهها بخجل، وقلبها ينبض تأثرًا لقرب ذاك الغريب منها، انتهت مسافتها القصيرة حينما وصلت للحاجز الرخامي، فحملت طرف فستانها وصعدت عليه، تركها آدهم وكاد بالتراجع، لتوقفه كلماتها:
_شكرًا يا كابتن آدهم.
ابتسم مجددًا، وقال دون أن يلتفت لها:
_العفو يا شمس هانم.
غادر من أمامها تاركًا قلبها يكاد يركض من خلفه، ولجت شمس للداخل ومازالت بسمتها لا تفارقها، فارتدت حذائها وخطت للخارج بفرحة لم تشعر بها يومًا، صعدت بالسيارة بالخلف جوار راكان الذي مازال يتابع حديثه بالهاتف طوال الطريق حتى لحظة هبوطها من السيارة، وذاك الأمر لم يزعجها تلك المرةٍ، كل ما يشغلها هو ذاك الحارس.. “آدهم”
******
صف علي سيارته أمام المشفى، فصعد للأعلى حاملًا باقة الزهور البيضاء ببسمةٍ بشوشة، كعادته كل يومٍ لم يتجه لمكتبه كانت غرفتها أول وجهة له، طرق الباب وحرر مقبضة على الفور، فتلاشت ضحكته تدريجيًا حينما وجد أمامه “آرثر”، أحد الأطباء الذين تم تعينهم منذ فترةٍ صغيرةٍ، وما لفت إنتباهه امتقاع ملامح فطيمة بشكلٍ ملحوظ.
دلف علي حتى بات قبالته، فتحرر من صمته بسؤالٍ تحرر بعصبيةٍ:
_ماذا تفعل هنا؟
تلبس رداء الثبات قبالته، ليجيبه ببرود:
_ماذا يتوجب على الطبيب فعله!
رده الفظ دفع علي ليردد بنفس وتيرته:
_أنا الطبيب المسؤول عن علاج فطيمة، لا يحق لك التواجد هنا.
ابتسم ساخرًا، مردفًا:
_سمعت إنك مسؤول عن حالتها منذ ثمانية أشهر ولم تتحسن حالتها، ربما أنا الأجدر بعلاجها دكتور علي.
وتركه وقبل أن يغادر من باب الغرفة قال:
_فكر جيدًا بالأمر.
منذ لحظة قدومه للمشفى وهو يضعه بخانة منافسته الرخيصة، وأخر ما توقعه علي أن يسخر منه بتلك الطريقة، وضع علي باقة الزهور على الكوماد المجاور لفطيمة، ثم جلس على المقعد المجاور لها باهمالٍ.
أزاح نظارته الطبية عنه وهو يفرك مقدمة أنفه بضيقٍ شديد، لأول مرة يعجز عن علاج أحد حالاته، وليكن صادقًا مع نفسه فطيمة تهمه كثيرًا ربما لذلك يرغب بشدةٍ أن تعود لحالتها الطبيعية.
استدارت بوجهها للكوماد تتأمل الزهرات ناصعة البياض ببسمةٍ رقيقة، اعتادت على شم تلك الرائحة العطرة كل صباحٍ فور ولوج علي لغرفتها، ممتنة لحمله كل يوم باقة زهور مميزة إليها، غامت معالمها فور أن سُلطت عليه، ليتها تعلم الحديث بالانجليزية لتعرف ماذا ضايقه هذا الطبيب؟
انتبهت له يستقيم بجلسته تجاهها وهو يجاهد لرسم بسمة صغيرة، وردد بصوته الرخيم:
_صباح الخير يا فطيمة.
وحرر غطاء قلمه، ثم جذب النوت ليبدأ قائلًا:
_النهاردة هنحاول نرجع مع بعض لذكرياتك، أكيد في طفولتك كان في موقف حلوة كتير يا فطيمة، والحلو إنك مش هتتكلمي عن حاجة تضايقك.
وتابع تعابيرتها باهتمامٍ، ولم يحصل على أي رد فعل إيجابي.
أغلق علي دفتره ثم اقترب بجلسته إليها يخبرها بانهاكٍ:
_فطيمة سكوتك ده هيضرك أكتر مش هيفيدك في شيء، أنا مازلت بحاول معاكِ وبتمنى تساعديني عشان أقدر أساعدك وأعالجك.
وتابع برجاءٍ غريب:
_من فضلك حاولي تساعديني، اتكلمي واحكيلي عن اللي مريتي بيه ده هيهون عليكي كتير.
تحررت دمعة على خديها جعلته زفر باختناقٍ، فاتجه للشرفة يحرر ستائرها، مستندًا بجسده على العمود المجاور للشرفةٍ، اطال بصمته ثم قال بعد سكونه:
_شكل دكتور آرثر صح، أنا فشلت أعالج حالتك وهو أولى بيكِ مني.
وغادر الغرفة وعلامات الحزن والاستسلام تغدو وجهه دون راجع.
فور نطقه لتلك الكلمات اعتدلت فطيمة بجلستها وعينيها تبرق بصدمة مما استمعته، فهزت رأسها بجنون وهي ترفض حقيقة ابتعاده عنها، ابتلعتها حالة من الصرع فتشنج جسدها من جديدٍ مما جعل الممرضات تهرول للداخل إليها.
******
وقف أمام غرفته القابعة بالطابق الثالث والأربعون بالفندق يلتقط أنفاسه بانتظامٍ، وكأنه يستعد لما سيخوضه بالداخل، يستند بيده على الحائط في محاولة لتقوية نفسه التي ستضعف فور رؤيتها.
ولج عمران للداخل باستخدام بطاقته، ليجدها تجلس على الفراش بقميصٍ مغري قصيرًا، وبيدها كأس من المحرمات التي كانت السبب بادمانه لها، وفور رؤيته نهضت عن الفراش تسرع إليها مرددة بصوتٍ مغري:
_حبيبي هل عدت!
انطوت داخل احضانه وهي تهمس له:
_اشتقت لك كثيرًا.
ابتلع ريقه بصعوبة بالغة وهو يقاوم رغبته التي بدأت بالتحرك لها فور رؤيتها، فرفع يده عنها وهو يحاول ابعادها مرددًا:
_ألكس، هناك أمرًا هامًا أود إخبارك به أولًا.
رفعت رأسها عن صدرها ويدها تعبث بذقنه الغير حليق:
_لا أريد سواك.
دفعها عنه برفقٍ مصرًا على طلبه:
_ألكس من فضلك.
ابتعدت عنه وهي تراقب ملامحه المهمومة باستغرابٍ:
_ما بك عمران، أخبرني.
جلس على الأريكة وهي من جواره، ضم شفتيه معًا قبل أن ينطق:
_لا أرغب في ارتكاب معصية أخرى، أريدك أن تقبلي عرض الزواج مني.
زمت شفتيها بسخطٍ لعودته لنفس الحديث الممل، فاتجهت لزجاجة الخمر تسكب منه بكأسها:
_بحقك يا عمران هل عدت لحديثك هذا مجددًا، أخبرتك سابقًا إني لا أريد الزواج، ولا أحبذ سماع تلك التفاهات المتعلقة بدينك المتسلط.
احمرت عينيه غضبًا فنهض عن الأريكة يصرخ بحدةٍ:
_تأدبي بالحديث ألكس والا اقتلعت عنقك.
خشيت أن تسوء الأمور بينهما، فهرولت إليه تردد بخداع نبرتها المغرية:
_أعتذر لك، لا أقصد اهانتك ولا إهانة ديانتك، ولكني سئمت من تكرار حديثي لك، أنا لا أريد أي قيود عمران، والزواج بالنسبة لي أكبر قيد.
وتلك المرة لم تترك له فرصة المناص منها، حيث حررت أزرر قميصه وبدأت تتقرب منه بطريقتها المقززة، هامسة باغراءٍ:
_أنا أرغب بك، دون أي قيد.. وأعلم بأنك تحبني مثلما أحبك.
وتابعت وأنفاسها تلفح رقبته:
_هيا عمران دعك من تلك الترهات.. أفتقدك حقًا.
أغلق عينيه بقوةٍ تأثرًا بها، فانساب خلف مشاعره الخائنة التي استسلمت لها للمرة الرابعة، كل مرةٍ يعترض وكانت تنجح بعد عدد من المحاولات بالحصول عليه، ويعود بعدها يؤنب نفسه ويبتعد أشهر عديدة حتى تنجح باغوائه مجددًا، ولكنها تثق بإن سقوطه وخضوعه لها سيكون مؤكدًا حتى وإن بقى عامًا دون لمسها!
*******
هرع علي لغرفتها ليجد عدد من الاطباء والممرضات يجتمعون داخل الغرفة لتعسر حالة فطيمة، ابعد من بطريقه ليصل للفراش فوجدها تتشنج بعنفٍ ونظراتها تحيط بمن حولها بذعرٍ، فردد بلباقةٍ:
_أعتذر منكم جميعًا، ولكن وجودكم هنا يثير ريبتها، من فضلكم.
خرج الجميع الا آرثر صمم البقاء ليتابع الحالة بفضول، أراد باصرار متابعة حالتها ولديه رغبة بتحقيق الانجاز الذي فشل به علي، يتخيل نجاحه الساحق بعد علاج حالة فطيمة.
سلط نظراته عليه فوجده يدنو منها وهو يشير لها بكلماتٍ عربية فشل آرثر بفهمها:
_فطيمة اهدي، مفيش حاجة.. كلهم خرجوا.
فور رؤيته بدأت في الاسترخاء، وعينيها لا تتخلى عنه، فالتقط اذنيها صوت هذا الدخيل التي بات منفرًا لها، حينما قال آرثر:
_أعتقد بأنها تحتاج لأبرة مهدئة.
أجابه علي بغيظٍ من بقائه رغم طلبه الصريح من الجميع بالخروج:
_لا تحتاج لها، بدأت بالاسترخاء بالفعل.
زم آرثر شفتيه وهو يخبره بلطفٍ مصطنع:
_دكتور علي أنت لا تجيد التعامل مع الحالة، أرجوك دعني أجرب أعتقد بأنها ستتحسن إن حاولت.
صمت علي وشرد قليلًا، نظراته العاجزة المسلطة على فطيمة جعلتها تسترجع حديثه الأخير، فخشيت أن يترك له أمرها مثلما خمنت، استقام علي بوقفته واستدار ليكون قبالة أعين آرثر، موليًا لها ظهره، فاحتقن وجهها وكأنه يغادر عنها ويتركها من خلفه، انقبض قلبها فتحرك جسدها بعنفوانٍ فلم تجد سوى وسيلتها الوحيدة للنجاة.
رفعت فطيمة يدها المرتشعة لتقربها من يد علي، فتمسكت بيده بقوةٍ جعلت جسده يتصلب صدمةٍ وببطءٍ استدار ليجدها تجلس على الفراش ويدها تتمسك به، وما زاده صدمة فوق صدمته حينما ناطحت آرثر بنظرة قاتلة ورددت بحروفٍ ثقيلة، وكأن صوتها كبت لألف سنة:
_دكتور علي هو المسؤول عن حالتي!
يتبع…