رواية المعاقة والدم الفصل الثامن والعشرون 28 الاخير بقلم هناء النمر
المعاقة والدم ............. الفصل الثامن والعشرون والأخير
ثلاث أيام قضتها أميرة فى المستشفى ، رفضت فيها مقابلة أى شخص ، حتى كريم ، وبالطبع بالأخص محسن نفسه والذى بدوره قد صمم الدخول لها أكثر من مرة ، كانت فيهم ملتفتة بوجهها للناحية الأخرى لا ترد على اى من كلامه ، رغم محاولاته المستميتة لجعلها تتحدث .
لكنها فضلت الصمت طوال الوقت ، لا تتحدث إلا عندنا تسأل عن صحتها ، وبردود مختصرة ، كلمتين أو ثلاث لا أكثر ،
رانيا ونادر يراقبانها من يعيد دون تدخل واضح ، فقد قرر كل منهما ترك لها مساحة لكى تقرر ما ستفعل ،
حضر كثير من أفراد عائلة سللام لزيارتها فى المستشفى بعد اكتشاف الجميع نسبها الحقيقة ، كمجاملة لمحسن سلام وأخوه ، لكن كحال الجميع معها ، رفض المقابلة ،
وفى لحظة قررت إنهاء ما يحدث ، طلبت من الطبيب الخروج من المستشفى على مسؤوليتها الخاصة ، فلم تعد قادرة على المكوث أفضل من ذلك ، ووقعت الإقرار دون علم أى شخص ، وبالفعل خرجت من المستشفى .
...................................................................
... براحة شوية يامحسن ، انت عارف كلامك ده معناه ايه ...
.. آية أن كان معناه ، بنتى لازم ترجع لاسمى مرة تانية ، مستحيل اسمح بإنها تكمل باسم تانى ....
.. ودى هتعملها ازاى أن شاء الله ، إذا كانت متوفية فى كل الأوراق الرسمية ...
... معرفش ، لازم حل ، انا كلمت المحامى بالفعل عشان يتصرف ....
... انا مش عارف اقولك ايه ...
.. تقول ايه فى ايه ، دى لا اسم ولا جنسية ولا ديانة ، فاضل ايه بقى ...
قاطعتهم رانيا وهى مهرولة تجاههم
... نادر ، الحقنى. ..
... ايه مالك ، فى ايه ؟
... أميرة مش فى اوضتها ،والممرضة اللى فوق بتقول أنها كتبت إقرار خروج ومشيت من شوية ...
... ازاى يعنى ، خرجت راحت فين ...
...معرفش ..
أسرع نادر باتجاه مكتب مدير المستشفى ومن خلفه محسن بينما أعادت رانيا محاولة اتصالها بهاتف أميرة لكن بدون فائدة كالمرات التى سبقتها ،
وفى النهاية بائت محاولات الجميع بالفشل ،
خرجوا من المستشفى باتجاه المنزل ، بيت رانيا الذى تمكث فيه مع نادر ، فلم يجدوها ، اتصلوا بالفندق وبنفس النتيجة ، بل الأكثر أن موظف الفندق أخبرهم أنها حضرت منذ ساعة وأنهت استحقاقاتها من الفندق وانصرفت ،
فى نفس الوقت اتصل كريم بنادر ليسأله عنها لأنه تفاجئ أن موظف الفندق أخبره مغادرتها للفندق .
أخبره نادر بما حدث وبمكان وجودهم الآن ، لحق بهم فى بيت رانيا ،
لأكثر من خمس ساعات وأكثر وهم يبحثون عنها ، لكن لم يسعفهم أى من أفكارهم ، فطوال الاسبوع المنصرم منذ عودتها من ألمانيا ، لم تتعرف على اى شخص جديد ، مسارها كان من بيت جدتها للفندق لبيت رانيا للطريق الذى تسلكه أثناء رياضتها الخاصة .
ولم تتذكر فكرة جدتها هذه إلا رانيا وفى نهاية المطاف ،
طلبت من نادر مفاتيح السيارة لتخرج ، أراد أن يذهب معها لكنها رفضت طلبه ، وأرادت أن تذهب وحدها ، فهى حتى لا تعلم إلى أين ستذهب ،
مجرد فكرة اتتها كنزاع الموت ، هو آخر الفرص .
ذهبت أولا إلى شقة خال أميرة ، فلم تجدها ، ثم ذهبت إلى شقة جدتها ، الشقة مغلقة بقفل خارجى ، من المستحيل أن تكون بالداخل ،
وقفت أمام باب الشقة تفكر ، أين ذهبت ؟
ثم تذكرت سبب بكاءها فى المستشفى ، بكت من أجل عدم قدرتها على دفن جدتها ، كما حدث مع والدتها ،
انطلقت بسيارتها بإتجاه المدافن ، فقد حضرت الدفن فقط ولم تحضر العذاء ، كانت ستائر الليل بدأت إزاحة أشعة شمس النهار ،فقد أذن المغرب منذ دقائق قليلة ، كان قلبها يكاد يخرج منها وهى تسير بين أروقة المدافن لتصل لمدفن الجدة ،
وعندما اقتربت ، لمحتها من بعيد وهى تجلس على الأرض مستندة بظهرها على عمود خشبى طويل ،
اقتربت منها وهى تناديها بصوت منخفض احتراما للمكان ، فلطالما سمعت حكايات عن لعنات واذى القبور لمن لم يحترموها ،
لكن أميرة لم ترد عليها ، اقتربت منها أكثر رغم تسرب الخوف لقلبها ،
وجدتها مستندة برأسها على العمود الخشبى ، مغمضة العينين وآثار البكاء واضحة تماما على وجهها ،
جلست بجانبها وحاولت ايفاقتها ، فتحت عينيها بصعوبة ، لتقع عينيها على رانيا أولا ثم تلفتت حولها وكأنها تحاول إدراك ماهية المكان الموجودة فيه ،كان واضحا تماما انها لا تعى ما حولها ، ارتعبت رانيا وخافت عليها مما سبق ذكره ، ساعدتها لتقف وخرجت بها مبتعدة عن هذا المكان ،
شيئا فشيئا بدأت أميرة تستعيد نفسها ووعيها وكأنها كانت فى عالم أخر.
جلسا على أحد المقاهى القريبة من البيت ، أرادت من أميرة أن تتمالك نفسها قبل أن تعود للبيت وتواجه أى شخص ينتظرها هناك ،
... كان ليه ياأميرة ...
... متزعليش منى ، كنت محتاجة أكون هناك شوية ...
... ولو كان حصلك حاجة ، انتى شوفتى نفسك كنتى عاملة ازاى ...
... مش مهم ، كان لازم اروح ، دفنتوها من غير ما أحضر دفنها. ..
.... وهتفرق ايه ، أمر ربنا ونفذه ...
... انا مش معترضة على امر ربنا ، وكدة كدة كنت منتظراه ، ناناه كانت تعبانة اوى فى الفترة الاخيرة وكنت متوقعة ده فى اى لحظة ، زى ماما بالظبط ، كنت متوقعة فى اى وقت حد يقوللى مامتك ماتت وحصل ،
أمى وجدتى بنفس الطريقة ، محضرتش دفنهم ...
كلام أميرة أكد لرانيا ما فكرت فيه عندما توقعت مكانها ، فقد تعودت الفتاة على الوداع أكثر منه اللقاء ، و هذا ما فقدته مع والدتها وجدتها ، أكثر من أحبهم واحبوها طوال حياتها ،
أخذتها وعادت بها للمنزل ، استقبلها الجميع بقلق بالغ ووابل من الأسئلة عن مكانها وأسباب ما فعلت دون علم أحد ، لكن أميرة لم ترد على اى منهم بالإضافة لأن رانيا نفسها طلبت منهم أن يتركوها الآن لترتاح ، وأن غدا لناظره قريب .
أذعن الثلاثة رجال لطلب رانيا خاصة بعد التمعن فى وجه أميرة المرهق وعينيها الحمراء من شدة البكاء ،
صعدت معها لغرفتها ، ساعدتها لتغير ملابسها ووضعها فى سريرها ودثرتها جيدا ، حتى نامت .
ثم عادت لهم واخبرتهم عما حدث منذ خروجها للبحث عنها ، وكل منهم قد كان له تعليقه ، لكن كل هذا التعليقات لم تكن لتؤثر فى قرار أميرة فى شئ .
وأخبر نادر رانيا أن الحقائب قد أرسلها الفندق إلى هنا بعدنا تركت له أميرة العنوان ليرسل الحقائب ،
عاد محسن لبيته وأولاده بعد إلحاح من نادر ، وذهب معه كريم ليوصله بعدما بدى الإرهاق واضحا تماما على وجهه .
قالت رانيا لنادر ... انا هروح احضرلك حاجة تاكلها ، انت مأكلتش حاجة طول النهار ...
... يعنى انتى اللى كلتى ...
ابتسمت وقالت ... خلاص ، ناكل احنا الاتنين ...
... ماشى ، هطلع اطمن على أميرة واجيلك ...
... براحة عشان متصحيهاش لو نايمة ...
... حاضر ...
..................................................................
وجدها بالفعل نائمة ، جلس قبالتها وهو يفكر فى حالها وما وصلت إليه ، بل الأكثر ما عاشته طوال حياتها ومنذ صغرها ، فقد افتقدت كل مشاعر الأمان والحب ممن أرادته منهم ، ولن يكون كاملا ابدا من غيرهم ،
عاشت جميع انواع الآلام ، جسدية كانت أم نفسية ،
دائما ما كان يفكر ، أن لم تكن هذه الفتاة زات سعة أفق وعقل ناضج كبير ، فلم تكن أبدا تتحمل كل ما حدث لها .
أغلق عليها الباب واتجه للمطبخ حيث كانت رانيا ، كانت قد خلعت الجاكت الذى ترتديه ، ووقفت ببودى بحمالة رفيعة وبنطلون جينز بنى اللون ،
وقف على الباب صامتا يتابع ما تفعله حتى فوجئت به أمامها ، ويبدوا على وجهه الهم الواضح ،
قالت بحنان .. ربنا هيستر أن شاء الله ...
... يارب ، وجعى بيزيد مع وجعها ، دى بنتى يارانيا واكتر من بنتى ...
... عارفة ، عارفة والله يانادر ، وانت برده عارف قيميتها عندى وأد ايه بحبها ...
... عارف ، هنعمل ايه طيب ..
... مش عارفة ...
... بقولك ايه ، هو ايه نظام كريم فى الموضوع ده ...
... يعنى ايه مش فاهمة ....
.. بيحبها ؟
... ايوة ، واعترفلها بكدة ...
... وهى بتحبه ؟
.... بيتهيئلى كدة ...
رفع هاتفه واتصل بكريم ... الو ، ايوة ياكريم ، وصلت محسن ، كويس اوى ، تعالالى بقى ، ايوة دلوقتى ،، اه كويسة ، انا عايزك فى حاجة تانية ، بسرعة ، مستنيك ...
ثم التفت لرانيا ، فقالت له ... ناوى على ايه ...
... مش عارف ، بس لازم اعمل أى حاجة ، إلا قوليلى ، الحب ممكن يأثر فيها ، ويغير رأييها ...
توقفت يدها عن تقطيع شرائح الطماطم بعد سماع سؤاله وكأنه لا يقصد أميرة ، بل يقصدها هى بسؤاله ،
وضعت السكين من يدها وتنهدت ثم قالت دون أن تنظر له
...الست لما بتحب ، ممكن تعمل أى حاجة عشان حبيبها ، الحب بيقدر على الست ، ومشاعرها بتغلبها ، وبتسيطر على تصرفاتها ، ممكن تعمل حاجات العقل والمنطق ميقبلهاش اصلا ، بس عشان قلبها هو إللى طلب ...
ثم سكتت وعادت لالتقاط السكين مرة أخرى ، هو كل هذا يستمع لها وكأن على رأسه الطير ، لا ينطق ولا يتحرك من مكانه وهو مدرك لكل كلمة قالتها وما تقصده منها ، حتى بعد أن أنهت حديثها ، استمر كما هو لبرهة ثم قال ..انا هخرج برة استنى كريم .
خرج يهرول حتى وصل لخارج البيت ، التقط أنفاس سريعة ، وكأن الهواء لم يكن موجودا بالداخل ،
جلس على السلالم الرخامية أمام المنزل واخرج علبة سجائره ، واشعل إحداها وأخذ يفكر فى كل كلمة قالتها .
......................................................................
دخل من باب البيت وجد نادر يجلس على السلالم الرخامية بانتظاره ،
سأله بقلق ... فى ايه ، حصل حاجة ..
... انا إلى بسألك ، مش انت ..
... يعنى ايه ، مش فاهم ...
.. انت فين من اللى بيحصل ده ..
... برده مش فاهم ..
... بتحبها ولا لا ....
اضطربت كريم من سؤال نادر المفاجئ ، لكن حاول التمالك والإجابة فهذه فرصته للأخبار الجميع كما أخبرها هى
... ايوة بحبها ...
... انا مش شايف كدة يعنى ...
... يعنى ايه ، مش فاهم ...
... جرى ايه يابنى ادم انت ، هو انا كل ما اقولك حاجة تقول مش فاهم ، آمال انت فاهم ايه ، ومتنح كدة ليه ...
بالفعل كان هذا هو حال كريم من هجوم نادر عليه بعد وقوفه وارتفاع صوته ،
ثم تابع نادر هجومه قائلا ... اسمع ، أميرة قررت أنها ترجع ألمانيا ، يعنى ممكن تنفذ فى اى لحظة ، ولما تفوق ، تيجى تدور عليها متلاقيهاش ، وساعتها هيكون الأوان فات ، ومش هتقدر تعمل حاجة ، اتحرك يابنى ادم قبل ما تضيع منك ، ده لو كانت مهمة عندك اصلا ، وتستاهل منك انك تعمل حاجة علشانها ، يلا روح من هنا وفكر فى كلامى ...
تركه نادر فى مكانه يقف كالصنم ، لم يفق إلا بعدها بلحظات ، وجرى نفسه بصعوبة واتجه لسيارته وانطلق بها ،
أما نادر فقد دخل من باب البيت واغلقه واستند بظهره عليه من الداخل ، لا يصدق ما قاله للتو للفتى ، من أين جائه هذا الكلام ،و لماذا لم يقل مثله لنفسه من قبل ، لماذا تركها وابتعد ، ويحاول الآن التقرب ، لماذا لم يفعل شيئا من أجلها ، ولم يتحرك إلا الآن بعدما بلغ العمر أرزله .
وقف بعيدا يتأملها وهى تتنقل بخفة فى أرجاء المطبخ ، وابتسم بسخرية من نفسه ، كيف لم يكن يراها كل هذه الفترة ،
إنها جميلة ورقيقة ، مخلصة وطيبة القلب ، والأكثر والأهم من كل ذلك تحبه ، وهو يعلم ذلك جيدا .
اقترب منها دون ان تشعر ، وهى تقف أمام النار تقلب اومليت قامت بصنعه ، لف يده حول خسرها وحضنها من الخلف وظهرها ملاصق لصدره،
وغمر وجهه فى عنقها يتنفس بعمق وكأنه يستنشق عبير جسدها ،
تجمدت تماما تحت لمسات يده و حركة فمه على رقبتها ، تعالت ضربات قلبها بقوة حتى شعر بها تحت يده ، لكنه لم يبتعد بل زاد من احتضانها أكثر وأكثر ، أغمضت عينيها تماما عندما همس فى اذنها بكلمة واحدة ،
... سامحينى ...
لم تفهم لم قالها وما الهدف ، لكن المهم هو وضعه بالنسبة لها الآن ،
مد يده وأغلق النار عن الطبق والذى كان تقريبا قد احترق ،
أدارها إليه وتأمل وجهها لثانية ثم قال ... انا اسف على كل حاجة ، كل وجع سببتهولك ، اسف على السنين اللى فاتت دى كلها وانا بعيد ، انا معرفتش فعلا قيمتك عندى غير لما حسيت انك هتضيعى منى ...
وابتسم بسخرية وهو يقول ... خدت على قفايا زى ما قولتى ..
ابتسمت له على كلامه وعينيها قد لمعت بالدموع ، فتابع كلامه قائلا ،
... أرجوكى سامحينى ، انا فعلا كنت بارد اوى ورخم اوى ،
أرجوكى ادينى فرصة اعوضك عن السنين اللى ضاعت منى ومنك ...
لم تستطع تمالك نفسها ، خانتها دموعها وأخذت تبكى بصوت منخفض وهى تخفى وجهها فى صدره وهو يطبق عليها يديه ، يحتضنها بقوة وكأنه يخاف أن تبتعد مرة أخرى ،
ثم أبعد وجهها ومسح دموعها من على وجهها ، قبلها من جبهتها بلمسة صغيرة من شفتيه جعلتها تغلق عينيها ، ثم قبلها من خديها واحدا تلو الآخر ثم أنفها ، واقترب من شفتيها والتهمهما بحركة واحدة انقبض لها قلبها وتاهت عن الدنيا بين يديه لمدة لم تدركها ،
ترك شفتيها وابتعد بوجهه فقط وجسديهما كما هما ، متلاصقان ، وقال
... ها ، موافقة ؟
... على ايه ؟
... على الفرصة ...
ضحكت رانيا وضحك هو الآخر ، وفجأة انحنى ومد إحدى يديه تحت ركبتيها والاخرى خلف ظهرها وحملها فى لحظة ، صرخت رانيا من المفاجأة ، فقال
... هشششش ، البت نايمة ...
فوضعت يدها على فمها وهى مبتسمة ثم قالت ... نزلنى طيب ...
فقال وهو يتحرك ناحية السلم ... لا ، انتى ناسية أن فى بينا موضوع سايبينه متعلق ...
... موضوع ايه بقى ...
.. موضوع القفا ، مش قلنا هنكمله بعدين ...
.. نادر ...
.. قلب نادر ، مش اتفقنا على الفرصة ...
... يعنى ايه . ..
.. يعنى خلاص ...
ابتسمت بخجل منه واخفت وجهها فى رقبته وهى تحكم يديها حول اكتافه ، ودت لو كانت قد فعلا ذلك منذ عقد مضى .
.........................................................
استيقظت أميرة قرابة الرابعة فجرا ، جلست فى سريرها لساعة كاملة تتذكر وتفكر فيما حدث ليلة أمس ، وجدت نفسها قد فقدت رباطة جأشها تماما عندما فعلت ما فعلت ، وقررت بينها وبين نفسها أن تتمالك نفسها وتفكر فيما تقوم به من قبلها ،
شعرت بصداع مفاجئ عصف برأسها ، قامت وواغتسلت وارتدت شيئا منحدر الحقائب التى وجدتها فى الغرفة واغلقتها مرة أخرى كما هى ، ثم خرجت لتبحث عن شئ لألم رأسها ، لم تجد فى أى من خزانة المطبخ أو أى أى مكان آخر ، صعدت متوجههة لغرفة رانيا ، طرقت الباب بهدوء ، فلم يرد عليها أحد ، فتحت الباب ولم تتحرك أنملة للداخل كن هول ما لمحته من منظر النائمين على الفراش ، أغلقت الباب مرة أخرى وابتعدت وهى مبتسمة ، وتسأل نفسها
منذ متى وهما يتعاشران ، ولماذا لم تخبرها رانيا ؟
ثم عادت وقالت ،، ليس مهما ، المهم أنهما اقتربا من بعضهما أخيرا ، فقد اطمئنت الآن عليهما ، فهما والديها واللذان اهداهم لها الزمن ليعوضوها عن كل ما ضاع منها ،
نزلت للمطبخ فوجدت اطباق الطعام التى لم تؤكل والطبق المحترق ،
فتوقعت ما حدث هنا وابتسمت وأغلقت عينيها وتنفست الصعداء فرحا لما حدث بينهما ، وتمنت من قلبها أن يقدر كل منهما قيمة الآخر فى حياته .
صنعت لنفسها ساندوتش صغير من الجبن وكوب من النسكافيه الساخن ، وعادت به لغرفتها ، تفكر فيما قررت فعله ، والآن قبل غذا .
..................................................................
فى تمام الحادية عشر ، اتصل نادر بمحسن ، وطلب منه أن يحضر فورا للبيت ، فقد قررت أميرة العودة لألمانيا ، بل وحجزت منذ الساعة الثامنة صباحا فى طيارة الساعة الواحدة ظهرا ، ولم تعلمه هو ورانيا إلا الآن حتى لا يمنعها أحد .
ثم اتصل بكريم وأخبره نفس الكلام ، فأجابه كريم بجملة واحدة ثم أغلق الهاتف ... متقلقش يادكتور ، انا هتصرف ، سلام ...
اندهش نادر من رد كريم لكنه لم يعلق كثيرا ، الأهم الآن الجاهزة بالداخل للاتجاه للمطار بجميع متعلقاتها والتى لم تترك منها شيئا .
حاول إثناءها هو ورانيا بشتى الطرق عما قررته وان حياتها هنا افضل لكن هيهات ، فقد سبق السيف العزل ، قد قررت وقد كان .
سلم نادر ورانيا بالأمر الواقع على قرار منهما أن يتركوها تهدأ هناك بعيدا عن كل الضغط النفسى الذى عاشته هنا ، ثم يعاودون الكررة معها ثانية ،
حملت الحقائب فى سيارة رانيا والتى يقودها نادر ، وركبت رانيا بجانبه واميرة فى الخلف ، وتحركت السيارة ، وفجأة توقفت أمام سيارة محسن التى دخلت من الباب ويبدوا أنها كانت على أقصى سرعة لها ،
نظر الجميع لبعضهم ثم لمحسن الذى ترجل من سيارتها متجها إليهم .
فتح بنفسه الباب الخلفى والذى كانت تجلس بجانبه أميرة ومد يده لها ، فكرت لثانية ثم وضعت يدها فى يده وخرجت وهى مبتسمة ، وخرجت رانيا ونادر تباعا ووقفا يتابعا ما يدور بينهما ،
قال محسن بنظرة حانية تذيب الجليد ووجهه الأصفر لهفة عليها وهو ممسك بيدها لم يتركها
... أنتى سايبانى ورايحة فين ؟
اتمحت الابتسامة من على وجهها ولمعت عيناها بالدموع وعينيها متعلقة بعينيه ،
حاولت ان تتحدث فلم يتركها تجيب بل تابع كلامه قائلا
... ليه مش قادرة تصدقى اسفى ، انا اسف ياأميرة ، والله العظيم ندمان على كل اللى عملته ، سامحينى ، سامحى أبوكى ، انا بحبك اوى والله العظيم ، انتى بنتى ، انتى اول فرحتى فى الدنيا ، وكل اللى عملته ده ، انا معرفش عملته اذاى ...
هم بإكمال كلامه لكن بإشارة من يدها الأخرى اوقفته وهى تقول
... مسامحاك ، خلاص مسامحاك ...
فاجأته جملتها هذه والذى شعر بصدقها فقال
... سامحتينى بجد ، طب ليه ؟ ليه تمشى وتسيبينى ؟ خليكى معايا هنا ، معايا ومع اخواتك ، هتروحى لمين هناك ، واوعدك انى مش هزعلك تانى ، وهعودك عن كل اللى عملته معاكى ...
رفعت يدها ووضعها على فمه وابتسمت له رغم دموعها وقالت
... عارف ، انا مكنتش ناوية ارجع دلوقتى خالص ، بس كريم شجعني ، ورجوع رانيا وبعدى عنها شجعني اكتر ، كانت وحشتنى اوى ، رانيا هى أمى اللى مخلفتنيش ، واختى الكبيرة من غير دم ،
جيت وانا بهلفط فى الكلام وخلاص ، وأول ما شفتك ، بالذات مع مراتك وولادك ، النار شالت فيا اكتر ، وصممت انتقم منك ، لازم اشوفك بتتوجع عشان ارتاح زى ما انا اتوجعت انا وامى وجدتى وجدى بسببك ،
بس ...
ترددت فى الكلام واشاحت بوجهها بعيدا عنه ثم عادت له مرة أخرى ، وتابعت قائلة ... كان فى حاجة جوايا معرفهاش ، بتوقفنى وبتمنعنى عنك ، حاجة مش فاهماها ، يمكن الدم اللى بيربطنى بيك ، يمكن انا بحبك فعلا وانا معرفش ، والكره ده مجرد قناع وبس ، يمكن لما شوفتك وانت بتبكى على صورتى بعد ما تخيلت انك شفتنى فى بيتك تانى ...
اتسعت عيناه وانعقد ما بين حاجباه بتساؤل واندهاش ،
تابعت قائلة ... أه ، تخيل ، انا اللى كنت فى البيت عندك ، وكنت ناوية أكمل ، اخليك تندم وتصرخ من الوجع ، بس بمجرد ما شوفتك بتبكى على صورتى اللى شايلها فى درج مكتبك ، كل اللى خطتله انهار قدام عينى ،ومبقتش عارفة اعمل ايه ،
منكرش انى محتاجاك ، ونفسى أفضل هنا ، مع اهلى ، وزى ما بتقول ، مليش حد هناك ، بس مش قادرة ، انا تايهة ، حاسة بالضياع ، ومحتاجة وقت عشان اتمالك نفسى واشوف انا هعمل ايه ،
والله هو اعلم ، يمكن ارجع ، ويمكن لا ، انت بس افتكرنى بالخير ، وأبقى عرف اخواتى عليا ، قولهم كان ليكو اخت زمان مشلولة ، وحاربت ووقفت على رجلها مرة تانية ، ادعيلى ، مش محتاجة منك اكتر من كدة ...
قبلته من جبهته وعادت لداخل السيارة مرة أخرى ، وقالت
.. . يلا ياعمى لو سمحت ، هنتأخر ...
ركب نادر ورانيا ، وانطلقت السيارة ، وأميرة تتابع والدها كن مرآة السيارة ومازال يقف فى مكانه لم يتحرك وعينيه على السيارة التى دارت حول سيارته وابتعدت ، والتى تحمل ابنته التى طالما اشتاق لها ، ولا يعلم متى يراها ثانية .
......................................................................
ودعت كل من نادر ورانيا ، وحاول كل منهم التظاهر بالقوة وإخفاء حزنه على فراق الآخر .
اتجهت للاوتوبيس الخاص بنقل الركاب للطائرة وهى تلوح لهم من بعيد ، ونادر يتلفت حوله فى كل اتجاه .
سألته رانيا .. فى ايه ، بتدور على ايه ؟
.. بدور على الغبى اللى كلمته ، لأ وفالح يقوللى متقلقش ، انا هتصرف ، غبى ...
... ههههههههههههههه ، سيبك منه ويلا ، اللى حصل حصل ، وقدر الله وما شاء فعل ...
وضع يده على كتفها وتحركا سويا وهو يقول ... على رايك ، محدش عارف الخير فين ، يلا بقى عشان نكمل حكاية القفا ...
... ايه ، تانى ...
.. تانى ، أقصد تالت ...
... ورابع وعاشر ، ورانا ايه غير الموضوع ده ، لحد ما نشوف هنعمل ايه فى حكاية شغلك اللى هنا ده ، وشغلى اللى هناك ، والبت اللى سافرت لوحدها دى ...
... إذا كان كدة ماشى ...
... ااه ، ما صدقتى ...
... قليل الأدب ...
... بس بموت فيكى ....
......................................................................
... يامودموزيل ، ده الكرسى بتاعى ، وده رقمه على تذكرتى ، اهو شوفى ...
قالت المضيفة بأدب ... ايوة يافندم عارفة ، بس الإشارة واصلة حالا ، أن حجز حضرتك اتغير لمقصورة خاصة ، وهى فى أول الطيارة ، مش هنا ...
... اذاى ، مين غيره ، انا اللى حاجزة بنفسى ومغيرتش حاجة ...
.. معرفش ، الإشارة اللى جاتلى بتقول كدة ...
... وأنا مش هتحرك من على الكرسى بتاعى ، مش قبل ما أفهم ...
... دايما متعبة وعنيدة ودماغك ناشفة ...
كان هذا صوت كريم الذى ظهر من خلف المضيفة والذى صعقت أميرة عند رؤيته ،
وجه كريم كلامه للمضيفة قائلا ... شكرا يامدام منى ، الحجز التانى زى ماهو ، يمكن نغير رأيينا ، اتفضلى حضرتك ...
استأذنهم المضيفة وابتعدت
التفت لأميرة التى ربعت ساعديها وبدأت بالطرق بقدميها على الأرض بنفاذ صبر وهى تقول ... حضرتك بقى اللى غيرت حجزى ...
.. الصراحة أه ، بس ممكن تقعدى عشان الناس بدأت تبصلنا ...
دخلت أميرة وجلست على كرسيها بجانب القمرة الزجاجية ، وجلس هو بجانبها فقالت بغضب ... ايه ، انت مش حاجز خاص ، قاعد هنا ليه دلوقتى ....
.. منا حاجز الكرسى ده برده ، اصلى توقعت انك ترفضى ، كنت عايز اقولك الكلمتين لوحدنا بس انتى بوظتى المفاجأة. ..
... مفاجأة ايه ، انت رايح فين اصلا ..
.. رايح معاكى ...
... نعم ، رايح معايا فين ؟
... أى مكان انتى رايحاه ، انا من ايدك دى لايدك دى ..
... كريم ...
... بصى ياأميرة ، انا قلتلك بحبك ، وعايز اتجوزك وانتى كبرتى دماغك ...
... كريم ...
... كمان قررتى تسافرى من غير حتى ما تعرفينى ، وأنا محبش مراتى تعمل حاجة من غير اذنى ...
..، مراتك ! كريم ..
... اه طبعا مراتى ...
قالت بغضب ... كريم ..
.. قلب كريم وعقل كريم ، وروح كريم وحياة كريم كلها ...
ارتخت عينيها خجلا من كلامه ثم قالت .. كريم ، مينفعش كدة ...
... بالعكس ، هو ده اللى ينفع ، بصى ياأميرة ، انا قررت خلاص ، ومش هسيبك تبعدى عنى ، اتجوزينى والنبى ، انتى مشحتفانى كدة ليه ...
.. ايه اللى بتقوله ده ، وبعدين انا قلتلك انى هفكر ، محتاجة وقت ...
.. مفيش مشكلة ، خدى كل الوقت اللى انتى عايزاه ، بس وانتى معايا ،
وعايزة تفكرى ، برده مفيش مشكلة ، انا هغمض عينى وانتى فكرى براحتك ..
وبالفعل أغمض عينيه ، ابتسمت وهى تتأمل قسمات وجهه ،
فجأة فتح عين واحدة والثانية مازالت مغلقة وهو يقول
... ها ،، فكرتى ، ولا لسة ...
أزالت الابتسامة وقالت بلهجة جادة ... كريم ...
... كريم ، كريم ، كريم ، انتى علقتى ، هتلاقيكى بتحبى الاسم اوى عشان كدة عمالة تكرريه ...
... ممكن افهم انت عايز ايه دلوقتى ...
... عايزك انتى ، ومش عايز أى حاجة تانية ...
... بس انا مش حاجة ياكريم ...
... ابدا ، انتى أجمل حاجة حصلتلى فى حياتى ، وهروح وراكى لآخر الدنيا ...
... ألمانيا ...
... ألمانيا ...
... وشغلك ...
... أبوكى عارف انى صايع من زمان ، بيكبر دماغه منى اصلا ...
... بس انا مش جاهزة لجواز دلوقتى ...
.. انا مش مستعجل ياأميرة ، انا بس محتاج أحس انك مش هتضيعى منى ...
التفتت للناحية الأخرى ، ولم تعد بعينيها له إلا بعدما امسك بإحدى كفيها ورفعها ليقبلها من راحة يدها وهو يقول بصوت حنون لم تستطع أن تقاومه ...انا بحبك يا أميرة ، بحبك ...
وضعت رأسها على كتفيه وهى تقول وعقدت يديها حول زراعه وقالت
... قوللى ياميرا ...
... ميرا ، اشمعنى ...
.. بحب الاسم ده ، وبحب اللى يندهلى بيه ...
مد يده تحت ذقنها ورفع وجهها له وقال بإبتسامة ساحرة ولهفة وحب جارف
... بحبك ياميرا ، بحبك اوى ...
والتقت شفتيها فى قبلة حنونة ليخبرها عن حبه بطريقة اخرى .
وهى تقبلت واستسلمت لحبه لعله يعوضها ما فات من صراع الدم الذى عاش داخلها لسنين ، ولم يفارقها ابدا حتى الآن .
المعاقة والدم
هناء النمر
ثلاث أيام قضتها أميرة فى المستشفى ، رفضت فيها مقابلة أى شخص ، حتى كريم ، وبالطبع بالأخص محسن نفسه والذى بدوره قد صمم الدخول لها أكثر من مرة ، كانت فيهم ملتفتة بوجهها للناحية الأخرى لا ترد على اى من كلامه ، رغم محاولاته المستميتة لجعلها تتحدث .
لكنها فضلت الصمت طوال الوقت ، لا تتحدث إلا عندنا تسأل عن صحتها ، وبردود مختصرة ، كلمتين أو ثلاث لا أكثر ،
رانيا ونادر يراقبانها من يعيد دون تدخل واضح ، فقد قرر كل منهما ترك لها مساحة لكى تقرر ما ستفعل ،
حضر كثير من أفراد عائلة سللام لزيارتها فى المستشفى بعد اكتشاف الجميع نسبها الحقيقة ، كمجاملة لمحسن سلام وأخوه ، لكن كحال الجميع معها ، رفض المقابلة ،
وفى لحظة قررت إنهاء ما يحدث ، طلبت من الطبيب الخروج من المستشفى على مسؤوليتها الخاصة ، فلم تعد قادرة على المكوث أفضل من ذلك ، ووقعت الإقرار دون علم أى شخص ، وبالفعل خرجت من المستشفى .
...................................................................
... براحة شوية يامحسن ، انت عارف كلامك ده معناه ايه ...
.. آية أن كان معناه ، بنتى لازم ترجع لاسمى مرة تانية ، مستحيل اسمح بإنها تكمل باسم تانى ....
.. ودى هتعملها ازاى أن شاء الله ، إذا كانت متوفية فى كل الأوراق الرسمية ...
... معرفش ، لازم حل ، انا كلمت المحامى بالفعل عشان يتصرف ....
... انا مش عارف اقولك ايه ...
.. تقول ايه فى ايه ، دى لا اسم ولا جنسية ولا ديانة ، فاضل ايه بقى ...
قاطعتهم رانيا وهى مهرولة تجاههم
... نادر ، الحقنى. ..
... ايه مالك ، فى ايه ؟
... أميرة مش فى اوضتها ،والممرضة اللى فوق بتقول أنها كتبت إقرار خروج ومشيت من شوية ...
... ازاى يعنى ، خرجت راحت فين ...
...معرفش ..
أسرع نادر باتجاه مكتب مدير المستشفى ومن خلفه محسن بينما أعادت رانيا محاولة اتصالها بهاتف أميرة لكن بدون فائدة كالمرات التى سبقتها ،
وفى النهاية بائت محاولات الجميع بالفشل ،
خرجوا من المستشفى باتجاه المنزل ، بيت رانيا الذى تمكث فيه مع نادر ، فلم يجدوها ، اتصلوا بالفندق وبنفس النتيجة ، بل الأكثر أن موظف الفندق أخبرهم أنها حضرت منذ ساعة وأنهت استحقاقاتها من الفندق وانصرفت ،
فى نفس الوقت اتصل كريم بنادر ليسأله عنها لأنه تفاجئ أن موظف الفندق أخبره مغادرتها للفندق .
أخبره نادر بما حدث وبمكان وجودهم الآن ، لحق بهم فى بيت رانيا ،
لأكثر من خمس ساعات وأكثر وهم يبحثون عنها ، لكن لم يسعفهم أى من أفكارهم ، فطوال الاسبوع المنصرم منذ عودتها من ألمانيا ، لم تتعرف على اى شخص جديد ، مسارها كان من بيت جدتها للفندق لبيت رانيا للطريق الذى تسلكه أثناء رياضتها الخاصة .
ولم تتذكر فكرة جدتها هذه إلا رانيا وفى نهاية المطاف ،
طلبت من نادر مفاتيح السيارة لتخرج ، أراد أن يذهب معها لكنها رفضت طلبه ، وأرادت أن تذهب وحدها ، فهى حتى لا تعلم إلى أين ستذهب ،
مجرد فكرة اتتها كنزاع الموت ، هو آخر الفرص .
ذهبت أولا إلى شقة خال أميرة ، فلم تجدها ، ثم ذهبت إلى شقة جدتها ، الشقة مغلقة بقفل خارجى ، من المستحيل أن تكون بالداخل ،
وقفت أمام باب الشقة تفكر ، أين ذهبت ؟
ثم تذكرت سبب بكاءها فى المستشفى ، بكت من أجل عدم قدرتها على دفن جدتها ، كما حدث مع والدتها ،
انطلقت بسيارتها بإتجاه المدافن ، فقد حضرت الدفن فقط ولم تحضر العذاء ، كانت ستائر الليل بدأت إزاحة أشعة شمس النهار ،فقد أذن المغرب منذ دقائق قليلة ، كان قلبها يكاد يخرج منها وهى تسير بين أروقة المدافن لتصل لمدفن الجدة ،
وعندما اقتربت ، لمحتها من بعيد وهى تجلس على الأرض مستندة بظهرها على عمود خشبى طويل ،
اقتربت منها وهى تناديها بصوت منخفض احتراما للمكان ، فلطالما سمعت حكايات عن لعنات واذى القبور لمن لم يحترموها ،
لكن أميرة لم ترد عليها ، اقتربت منها أكثر رغم تسرب الخوف لقلبها ،
وجدتها مستندة برأسها على العمود الخشبى ، مغمضة العينين وآثار البكاء واضحة تماما على وجهها ،
جلست بجانبها وحاولت ايفاقتها ، فتحت عينيها بصعوبة ، لتقع عينيها على رانيا أولا ثم تلفتت حولها وكأنها تحاول إدراك ماهية المكان الموجودة فيه ،كان واضحا تماما انها لا تعى ما حولها ، ارتعبت رانيا وخافت عليها مما سبق ذكره ، ساعدتها لتقف وخرجت بها مبتعدة عن هذا المكان ،
شيئا فشيئا بدأت أميرة تستعيد نفسها ووعيها وكأنها كانت فى عالم أخر.
جلسا على أحد المقاهى القريبة من البيت ، أرادت من أميرة أن تتمالك نفسها قبل أن تعود للبيت وتواجه أى شخص ينتظرها هناك ،
... كان ليه ياأميرة ...
... متزعليش منى ، كنت محتاجة أكون هناك شوية ...
... ولو كان حصلك حاجة ، انتى شوفتى نفسك كنتى عاملة ازاى ...
... مش مهم ، كان لازم اروح ، دفنتوها من غير ما أحضر دفنها. ..
.... وهتفرق ايه ، أمر ربنا ونفذه ...
... انا مش معترضة على امر ربنا ، وكدة كدة كنت منتظراه ، ناناه كانت تعبانة اوى فى الفترة الاخيرة وكنت متوقعة ده فى اى لحظة ، زى ماما بالظبط ، كنت متوقعة فى اى وقت حد يقوللى مامتك ماتت وحصل ،
أمى وجدتى بنفس الطريقة ، محضرتش دفنهم ...
كلام أميرة أكد لرانيا ما فكرت فيه عندما توقعت مكانها ، فقد تعودت الفتاة على الوداع أكثر منه اللقاء ، و هذا ما فقدته مع والدتها وجدتها ، أكثر من أحبهم واحبوها طوال حياتها ،
أخذتها وعادت بها للمنزل ، استقبلها الجميع بقلق بالغ ووابل من الأسئلة عن مكانها وأسباب ما فعلت دون علم أحد ، لكن أميرة لم ترد على اى منهم بالإضافة لأن رانيا نفسها طلبت منهم أن يتركوها الآن لترتاح ، وأن غدا لناظره قريب .
أذعن الثلاثة رجال لطلب رانيا خاصة بعد التمعن فى وجه أميرة المرهق وعينيها الحمراء من شدة البكاء ،
صعدت معها لغرفتها ، ساعدتها لتغير ملابسها ووضعها فى سريرها ودثرتها جيدا ، حتى نامت .
ثم عادت لهم واخبرتهم عما حدث منذ خروجها للبحث عنها ، وكل منهم قد كان له تعليقه ، لكن كل هذا التعليقات لم تكن لتؤثر فى قرار أميرة فى شئ .
وأخبر نادر رانيا أن الحقائب قد أرسلها الفندق إلى هنا بعدنا تركت له أميرة العنوان ليرسل الحقائب ،
عاد محسن لبيته وأولاده بعد إلحاح من نادر ، وذهب معه كريم ليوصله بعدما بدى الإرهاق واضحا تماما على وجهه .
قالت رانيا لنادر ... انا هروح احضرلك حاجة تاكلها ، انت مأكلتش حاجة طول النهار ...
... يعنى انتى اللى كلتى ...
ابتسمت وقالت ... خلاص ، ناكل احنا الاتنين ...
... ماشى ، هطلع اطمن على أميرة واجيلك ...
... براحة عشان متصحيهاش لو نايمة ...
... حاضر ...
..................................................................
وجدها بالفعل نائمة ، جلس قبالتها وهو يفكر فى حالها وما وصلت إليه ، بل الأكثر ما عاشته طوال حياتها ومنذ صغرها ، فقد افتقدت كل مشاعر الأمان والحب ممن أرادته منهم ، ولن يكون كاملا ابدا من غيرهم ،
عاشت جميع انواع الآلام ، جسدية كانت أم نفسية ،
دائما ما كان يفكر ، أن لم تكن هذه الفتاة زات سعة أفق وعقل ناضج كبير ، فلم تكن أبدا تتحمل كل ما حدث لها .
أغلق عليها الباب واتجه للمطبخ حيث كانت رانيا ، كانت قد خلعت الجاكت الذى ترتديه ، ووقفت ببودى بحمالة رفيعة وبنطلون جينز بنى اللون ،
وقف على الباب صامتا يتابع ما تفعله حتى فوجئت به أمامها ، ويبدوا على وجهه الهم الواضح ،
قالت بحنان .. ربنا هيستر أن شاء الله ...
... يارب ، وجعى بيزيد مع وجعها ، دى بنتى يارانيا واكتر من بنتى ...
... عارفة ، عارفة والله يانادر ، وانت برده عارف قيميتها عندى وأد ايه بحبها ...
... عارف ، هنعمل ايه طيب ..
... مش عارفة ...
... بقولك ايه ، هو ايه نظام كريم فى الموضوع ده ...
... يعنى ايه مش فاهمة ....
.. بيحبها ؟
... ايوة ، واعترفلها بكدة ...
... وهى بتحبه ؟
.... بيتهيئلى كدة ...
رفع هاتفه واتصل بكريم ... الو ، ايوة ياكريم ، وصلت محسن ، كويس اوى ، تعالالى بقى ، ايوة دلوقتى ،، اه كويسة ، انا عايزك فى حاجة تانية ، بسرعة ، مستنيك ...
ثم التفت لرانيا ، فقالت له ... ناوى على ايه ...
... مش عارف ، بس لازم اعمل أى حاجة ، إلا قوليلى ، الحب ممكن يأثر فيها ، ويغير رأييها ...
توقفت يدها عن تقطيع شرائح الطماطم بعد سماع سؤاله وكأنه لا يقصد أميرة ، بل يقصدها هى بسؤاله ،
وضعت السكين من يدها وتنهدت ثم قالت دون أن تنظر له
...الست لما بتحب ، ممكن تعمل أى حاجة عشان حبيبها ، الحب بيقدر على الست ، ومشاعرها بتغلبها ، وبتسيطر على تصرفاتها ، ممكن تعمل حاجات العقل والمنطق ميقبلهاش اصلا ، بس عشان قلبها هو إللى طلب ...
ثم سكتت وعادت لالتقاط السكين مرة أخرى ، هو كل هذا يستمع لها وكأن على رأسه الطير ، لا ينطق ولا يتحرك من مكانه وهو مدرك لكل كلمة قالتها وما تقصده منها ، حتى بعد أن أنهت حديثها ، استمر كما هو لبرهة ثم قال ..انا هخرج برة استنى كريم .
خرج يهرول حتى وصل لخارج البيت ، التقط أنفاس سريعة ، وكأن الهواء لم يكن موجودا بالداخل ،
جلس على السلالم الرخامية أمام المنزل واخرج علبة سجائره ، واشعل إحداها وأخذ يفكر فى كل كلمة قالتها .
......................................................................
دخل من باب البيت وجد نادر يجلس على السلالم الرخامية بانتظاره ،
سأله بقلق ... فى ايه ، حصل حاجة ..
... انا إلى بسألك ، مش انت ..
... يعنى ايه ، مش فاهم ...
.. انت فين من اللى بيحصل ده ..
... برده مش فاهم ..
... بتحبها ولا لا ....
اضطربت كريم من سؤال نادر المفاجئ ، لكن حاول التمالك والإجابة فهذه فرصته للأخبار الجميع كما أخبرها هى
... ايوة بحبها ...
... انا مش شايف كدة يعنى ...
... يعنى ايه ، مش فاهم ...
... جرى ايه يابنى ادم انت ، هو انا كل ما اقولك حاجة تقول مش فاهم ، آمال انت فاهم ايه ، ومتنح كدة ليه ...
بالفعل كان هذا هو حال كريم من هجوم نادر عليه بعد وقوفه وارتفاع صوته ،
ثم تابع نادر هجومه قائلا ... اسمع ، أميرة قررت أنها ترجع ألمانيا ، يعنى ممكن تنفذ فى اى لحظة ، ولما تفوق ، تيجى تدور عليها متلاقيهاش ، وساعتها هيكون الأوان فات ، ومش هتقدر تعمل حاجة ، اتحرك يابنى ادم قبل ما تضيع منك ، ده لو كانت مهمة عندك اصلا ، وتستاهل منك انك تعمل حاجة علشانها ، يلا روح من هنا وفكر فى كلامى ...
تركه نادر فى مكانه يقف كالصنم ، لم يفق إلا بعدها بلحظات ، وجرى نفسه بصعوبة واتجه لسيارته وانطلق بها ،
أما نادر فقد دخل من باب البيت واغلقه واستند بظهره عليه من الداخل ، لا يصدق ما قاله للتو للفتى ، من أين جائه هذا الكلام ،و لماذا لم يقل مثله لنفسه من قبل ، لماذا تركها وابتعد ، ويحاول الآن التقرب ، لماذا لم يفعل شيئا من أجلها ، ولم يتحرك إلا الآن بعدما بلغ العمر أرزله .
وقف بعيدا يتأملها وهى تتنقل بخفة فى أرجاء المطبخ ، وابتسم بسخرية من نفسه ، كيف لم يكن يراها كل هذه الفترة ،
إنها جميلة ورقيقة ، مخلصة وطيبة القلب ، والأكثر والأهم من كل ذلك تحبه ، وهو يعلم ذلك جيدا .
اقترب منها دون ان تشعر ، وهى تقف أمام النار تقلب اومليت قامت بصنعه ، لف يده حول خسرها وحضنها من الخلف وظهرها ملاصق لصدره،
وغمر وجهه فى عنقها يتنفس بعمق وكأنه يستنشق عبير جسدها ،
تجمدت تماما تحت لمسات يده و حركة فمه على رقبتها ، تعالت ضربات قلبها بقوة حتى شعر بها تحت يده ، لكنه لم يبتعد بل زاد من احتضانها أكثر وأكثر ، أغمضت عينيها تماما عندما همس فى اذنها بكلمة واحدة ،
... سامحينى ...
لم تفهم لم قالها وما الهدف ، لكن المهم هو وضعه بالنسبة لها الآن ،
مد يده وأغلق النار عن الطبق والذى كان تقريبا قد احترق ،
أدارها إليه وتأمل وجهها لثانية ثم قال ... انا اسف على كل حاجة ، كل وجع سببتهولك ، اسف على السنين اللى فاتت دى كلها وانا بعيد ، انا معرفتش فعلا قيمتك عندى غير لما حسيت انك هتضيعى منى ...
وابتسم بسخرية وهو يقول ... خدت على قفايا زى ما قولتى ..
ابتسمت له على كلامه وعينيها قد لمعت بالدموع ، فتابع كلامه قائلا ،
... أرجوكى سامحينى ، انا فعلا كنت بارد اوى ورخم اوى ،
أرجوكى ادينى فرصة اعوضك عن السنين اللى ضاعت منى ومنك ...
لم تستطع تمالك نفسها ، خانتها دموعها وأخذت تبكى بصوت منخفض وهى تخفى وجهها فى صدره وهو يطبق عليها يديه ، يحتضنها بقوة وكأنه يخاف أن تبتعد مرة أخرى ،
ثم أبعد وجهها ومسح دموعها من على وجهها ، قبلها من جبهتها بلمسة صغيرة من شفتيه جعلتها تغلق عينيها ، ثم قبلها من خديها واحدا تلو الآخر ثم أنفها ، واقترب من شفتيها والتهمهما بحركة واحدة انقبض لها قلبها وتاهت عن الدنيا بين يديه لمدة لم تدركها ،
ترك شفتيها وابتعد بوجهه فقط وجسديهما كما هما ، متلاصقان ، وقال
... ها ، موافقة ؟
... على ايه ؟
... على الفرصة ...
ضحكت رانيا وضحك هو الآخر ، وفجأة انحنى ومد إحدى يديه تحت ركبتيها والاخرى خلف ظهرها وحملها فى لحظة ، صرخت رانيا من المفاجأة ، فقال
... هشششش ، البت نايمة ...
فوضعت يدها على فمها وهى مبتسمة ثم قالت ... نزلنى طيب ...
فقال وهو يتحرك ناحية السلم ... لا ، انتى ناسية أن فى بينا موضوع سايبينه متعلق ...
... موضوع ايه بقى ...
.. موضوع القفا ، مش قلنا هنكمله بعدين ...
.. نادر ...
.. قلب نادر ، مش اتفقنا على الفرصة ...
... يعنى ايه . ..
.. يعنى خلاص ...
ابتسمت بخجل منه واخفت وجهها فى رقبته وهى تحكم يديها حول اكتافه ، ودت لو كانت قد فعلا ذلك منذ عقد مضى .
.........................................................
استيقظت أميرة قرابة الرابعة فجرا ، جلست فى سريرها لساعة كاملة تتذكر وتفكر فيما حدث ليلة أمس ، وجدت نفسها قد فقدت رباطة جأشها تماما عندما فعلت ما فعلت ، وقررت بينها وبين نفسها أن تتمالك نفسها وتفكر فيما تقوم به من قبلها ،
شعرت بصداع مفاجئ عصف برأسها ، قامت وواغتسلت وارتدت شيئا منحدر الحقائب التى وجدتها فى الغرفة واغلقتها مرة أخرى كما هى ، ثم خرجت لتبحث عن شئ لألم رأسها ، لم تجد فى أى من خزانة المطبخ أو أى أى مكان آخر ، صعدت متوجههة لغرفة رانيا ، طرقت الباب بهدوء ، فلم يرد عليها أحد ، فتحت الباب ولم تتحرك أنملة للداخل كن هول ما لمحته من منظر النائمين على الفراش ، أغلقت الباب مرة أخرى وابتعدت وهى مبتسمة ، وتسأل نفسها
منذ متى وهما يتعاشران ، ولماذا لم تخبرها رانيا ؟
ثم عادت وقالت ،، ليس مهما ، المهم أنهما اقتربا من بعضهما أخيرا ، فقد اطمئنت الآن عليهما ، فهما والديها واللذان اهداهم لها الزمن ليعوضوها عن كل ما ضاع منها ،
نزلت للمطبخ فوجدت اطباق الطعام التى لم تؤكل والطبق المحترق ،
فتوقعت ما حدث هنا وابتسمت وأغلقت عينيها وتنفست الصعداء فرحا لما حدث بينهما ، وتمنت من قلبها أن يقدر كل منهما قيمة الآخر فى حياته .
صنعت لنفسها ساندوتش صغير من الجبن وكوب من النسكافيه الساخن ، وعادت به لغرفتها ، تفكر فيما قررت فعله ، والآن قبل غذا .
..................................................................
فى تمام الحادية عشر ، اتصل نادر بمحسن ، وطلب منه أن يحضر فورا للبيت ، فقد قررت أميرة العودة لألمانيا ، بل وحجزت منذ الساعة الثامنة صباحا فى طيارة الساعة الواحدة ظهرا ، ولم تعلمه هو ورانيا إلا الآن حتى لا يمنعها أحد .
ثم اتصل بكريم وأخبره نفس الكلام ، فأجابه كريم بجملة واحدة ثم أغلق الهاتف ... متقلقش يادكتور ، انا هتصرف ، سلام ...
اندهش نادر من رد كريم لكنه لم يعلق كثيرا ، الأهم الآن الجاهزة بالداخل للاتجاه للمطار بجميع متعلقاتها والتى لم تترك منها شيئا .
حاول إثناءها هو ورانيا بشتى الطرق عما قررته وان حياتها هنا افضل لكن هيهات ، فقد سبق السيف العزل ، قد قررت وقد كان .
سلم نادر ورانيا بالأمر الواقع على قرار منهما أن يتركوها تهدأ هناك بعيدا عن كل الضغط النفسى الذى عاشته هنا ، ثم يعاودون الكررة معها ثانية ،
حملت الحقائب فى سيارة رانيا والتى يقودها نادر ، وركبت رانيا بجانبه واميرة فى الخلف ، وتحركت السيارة ، وفجأة توقفت أمام سيارة محسن التى دخلت من الباب ويبدوا أنها كانت على أقصى سرعة لها ،
نظر الجميع لبعضهم ثم لمحسن الذى ترجل من سيارتها متجها إليهم .
فتح بنفسه الباب الخلفى والذى كانت تجلس بجانبه أميرة ومد يده لها ، فكرت لثانية ثم وضعت يدها فى يده وخرجت وهى مبتسمة ، وخرجت رانيا ونادر تباعا ووقفا يتابعا ما يدور بينهما ،
قال محسن بنظرة حانية تذيب الجليد ووجهه الأصفر لهفة عليها وهو ممسك بيدها لم يتركها
... أنتى سايبانى ورايحة فين ؟
اتمحت الابتسامة من على وجهها ولمعت عيناها بالدموع وعينيها متعلقة بعينيه ،
حاولت ان تتحدث فلم يتركها تجيب بل تابع كلامه قائلا
... ليه مش قادرة تصدقى اسفى ، انا اسف ياأميرة ، والله العظيم ندمان على كل اللى عملته ، سامحينى ، سامحى أبوكى ، انا بحبك اوى والله العظيم ، انتى بنتى ، انتى اول فرحتى فى الدنيا ، وكل اللى عملته ده ، انا معرفش عملته اذاى ...
هم بإكمال كلامه لكن بإشارة من يدها الأخرى اوقفته وهى تقول
... مسامحاك ، خلاص مسامحاك ...
فاجأته جملتها هذه والذى شعر بصدقها فقال
... سامحتينى بجد ، طب ليه ؟ ليه تمشى وتسيبينى ؟ خليكى معايا هنا ، معايا ومع اخواتك ، هتروحى لمين هناك ، واوعدك انى مش هزعلك تانى ، وهعودك عن كل اللى عملته معاكى ...
رفعت يدها ووضعها على فمه وابتسمت له رغم دموعها وقالت
... عارف ، انا مكنتش ناوية ارجع دلوقتى خالص ، بس كريم شجعني ، ورجوع رانيا وبعدى عنها شجعني اكتر ، كانت وحشتنى اوى ، رانيا هى أمى اللى مخلفتنيش ، واختى الكبيرة من غير دم ،
جيت وانا بهلفط فى الكلام وخلاص ، وأول ما شفتك ، بالذات مع مراتك وولادك ، النار شالت فيا اكتر ، وصممت انتقم منك ، لازم اشوفك بتتوجع عشان ارتاح زى ما انا اتوجعت انا وامى وجدتى وجدى بسببك ،
بس ...
ترددت فى الكلام واشاحت بوجهها بعيدا عنه ثم عادت له مرة أخرى ، وتابعت قائلة ... كان فى حاجة جوايا معرفهاش ، بتوقفنى وبتمنعنى عنك ، حاجة مش فاهماها ، يمكن الدم اللى بيربطنى بيك ، يمكن انا بحبك فعلا وانا معرفش ، والكره ده مجرد قناع وبس ، يمكن لما شوفتك وانت بتبكى على صورتى بعد ما تخيلت انك شفتنى فى بيتك تانى ...
اتسعت عيناه وانعقد ما بين حاجباه بتساؤل واندهاش ،
تابعت قائلة ... أه ، تخيل ، انا اللى كنت فى البيت عندك ، وكنت ناوية أكمل ، اخليك تندم وتصرخ من الوجع ، بس بمجرد ما شوفتك بتبكى على صورتى اللى شايلها فى درج مكتبك ، كل اللى خطتله انهار قدام عينى ،ومبقتش عارفة اعمل ايه ،
منكرش انى محتاجاك ، ونفسى أفضل هنا ، مع اهلى ، وزى ما بتقول ، مليش حد هناك ، بس مش قادرة ، انا تايهة ، حاسة بالضياع ، ومحتاجة وقت عشان اتمالك نفسى واشوف انا هعمل ايه ،
والله هو اعلم ، يمكن ارجع ، ويمكن لا ، انت بس افتكرنى بالخير ، وأبقى عرف اخواتى عليا ، قولهم كان ليكو اخت زمان مشلولة ، وحاربت ووقفت على رجلها مرة تانية ، ادعيلى ، مش محتاجة منك اكتر من كدة ...
قبلته من جبهته وعادت لداخل السيارة مرة أخرى ، وقالت
.. . يلا ياعمى لو سمحت ، هنتأخر ...
ركب نادر ورانيا ، وانطلقت السيارة ، وأميرة تتابع والدها كن مرآة السيارة ومازال يقف فى مكانه لم يتحرك وعينيه على السيارة التى دارت حول سيارته وابتعدت ، والتى تحمل ابنته التى طالما اشتاق لها ، ولا يعلم متى يراها ثانية .
......................................................................
ودعت كل من نادر ورانيا ، وحاول كل منهم التظاهر بالقوة وإخفاء حزنه على فراق الآخر .
اتجهت للاوتوبيس الخاص بنقل الركاب للطائرة وهى تلوح لهم من بعيد ، ونادر يتلفت حوله فى كل اتجاه .
سألته رانيا .. فى ايه ، بتدور على ايه ؟
.. بدور على الغبى اللى كلمته ، لأ وفالح يقوللى متقلقش ، انا هتصرف ، غبى ...
... ههههههههههههههه ، سيبك منه ويلا ، اللى حصل حصل ، وقدر الله وما شاء فعل ...
وضع يده على كتفها وتحركا سويا وهو يقول ... على رايك ، محدش عارف الخير فين ، يلا بقى عشان نكمل حكاية القفا ...
... ايه ، تانى ...
.. تانى ، أقصد تالت ...
... ورابع وعاشر ، ورانا ايه غير الموضوع ده ، لحد ما نشوف هنعمل ايه فى حكاية شغلك اللى هنا ده ، وشغلى اللى هناك ، والبت اللى سافرت لوحدها دى ...
... إذا كان كدة ماشى ...
... ااه ، ما صدقتى ...
... قليل الأدب ...
... بس بموت فيكى ....
......................................................................
... يامودموزيل ، ده الكرسى بتاعى ، وده رقمه على تذكرتى ، اهو شوفى ...
قالت المضيفة بأدب ... ايوة يافندم عارفة ، بس الإشارة واصلة حالا ، أن حجز حضرتك اتغير لمقصورة خاصة ، وهى فى أول الطيارة ، مش هنا ...
... اذاى ، مين غيره ، انا اللى حاجزة بنفسى ومغيرتش حاجة ...
.. معرفش ، الإشارة اللى جاتلى بتقول كدة ...
... وأنا مش هتحرك من على الكرسى بتاعى ، مش قبل ما أفهم ...
... دايما متعبة وعنيدة ودماغك ناشفة ...
كان هذا صوت كريم الذى ظهر من خلف المضيفة والذى صعقت أميرة عند رؤيته ،
وجه كريم كلامه للمضيفة قائلا ... شكرا يامدام منى ، الحجز التانى زى ماهو ، يمكن نغير رأيينا ، اتفضلى حضرتك ...
استأذنهم المضيفة وابتعدت
التفت لأميرة التى ربعت ساعديها وبدأت بالطرق بقدميها على الأرض بنفاذ صبر وهى تقول ... حضرتك بقى اللى غيرت حجزى ...
.. الصراحة أه ، بس ممكن تقعدى عشان الناس بدأت تبصلنا ...
دخلت أميرة وجلست على كرسيها بجانب القمرة الزجاجية ، وجلس هو بجانبها فقالت بغضب ... ايه ، انت مش حاجز خاص ، قاعد هنا ليه دلوقتى ....
.. منا حاجز الكرسى ده برده ، اصلى توقعت انك ترفضى ، كنت عايز اقولك الكلمتين لوحدنا بس انتى بوظتى المفاجأة. ..
... مفاجأة ايه ، انت رايح فين اصلا ..
.. رايح معاكى ...
... نعم ، رايح معايا فين ؟
... أى مكان انتى رايحاه ، انا من ايدك دى لايدك دى ..
... كريم ...
... بصى ياأميرة ، انا قلتلك بحبك ، وعايز اتجوزك وانتى كبرتى دماغك ...
... كريم ...
... كمان قررتى تسافرى من غير حتى ما تعرفينى ، وأنا محبش مراتى تعمل حاجة من غير اذنى ...
..، مراتك ! كريم ..
... اه طبعا مراتى ...
قالت بغضب ... كريم ..
.. قلب كريم وعقل كريم ، وروح كريم وحياة كريم كلها ...
ارتخت عينيها خجلا من كلامه ثم قالت .. كريم ، مينفعش كدة ...
... بالعكس ، هو ده اللى ينفع ، بصى ياأميرة ، انا قررت خلاص ، ومش هسيبك تبعدى عنى ، اتجوزينى والنبى ، انتى مشحتفانى كدة ليه ...
.. ايه اللى بتقوله ده ، وبعدين انا قلتلك انى هفكر ، محتاجة وقت ...
.. مفيش مشكلة ، خدى كل الوقت اللى انتى عايزاه ، بس وانتى معايا ،
وعايزة تفكرى ، برده مفيش مشكلة ، انا هغمض عينى وانتى فكرى براحتك ..
وبالفعل أغمض عينيه ، ابتسمت وهى تتأمل قسمات وجهه ،
فجأة فتح عين واحدة والثانية مازالت مغلقة وهو يقول
... ها ،، فكرتى ، ولا لسة ...
أزالت الابتسامة وقالت بلهجة جادة ... كريم ...
... كريم ، كريم ، كريم ، انتى علقتى ، هتلاقيكى بتحبى الاسم اوى عشان كدة عمالة تكرريه ...
... ممكن افهم انت عايز ايه دلوقتى ...
... عايزك انتى ، ومش عايز أى حاجة تانية ...
... بس انا مش حاجة ياكريم ...
... ابدا ، انتى أجمل حاجة حصلتلى فى حياتى ، وهروح وراكى لآخر الدنيا ...
... ألمانيا ...
... ألمانيا ...
... وشغلك ...
... أبوكى عارف انى صايع من زمان ، بيكبر دماغه منى اصلا ...
... بس انا مش جاهزة لجواز دلوقتى ...
.. انا مش مستعجل ياأميرة ، انا بس محتاج أحس انك مش هتضيعى منى ...
التفتت للناحية الأخرى ، ولم تعد بعينيها له إلا بعدما امسك بإحدى كفيها ورفعها ليقبلها من راحة يدها وهو يقول بصوت حنون لم تستطع أن تقاومه ...انا بحبك يا أميرة ، بحبك ...
وضعت رأسها على كتفيه وهى تقول وعقدت يديها حول زراعه وقالت
... قوللى ياميرا ...
... ميرا ، اشمعنى ...
.. بحب الاسم ده ، وبحب اللى يندهلى بيه ...
مد يده تحت ذقنها ورفع وجهها له وقال بإبتسامة ساحرة ولهفة وحب جارف
... بحبك ياميرا ، بحبك اوى ...
والتقت شفتيها فى قبلة حنونة ليخبرها عن حبه بطريقة اخرى .
وهى تقبلت واستسلمت لحبه لعله يعوضها ما فات من صراع الدم الذى عاش داخلها لسنين ، ولم يفارقها ابدا حتى الآن .
المعاقة والدم
هناء النمر