اخر الروايات

رواية تشابك ارواح الفصل الخامس عشر 15 بقلم أمينة محمد الالفي

رواية تشابك ارواح الفصل الخامس عشر 15 بقلم أمينة محمد الالفي 



الفصل الخامس عشر من -تشابك أرواح-
«مكيدة»
أي مدينة ستبنى والبُنيان ضعيف،
أي حياة ستنشأ بيننا والموت قريب،
الود تمزق والمحبة حُرقت
وأنا وأنتَ لم نعد نحن؛ بات المعنى صحيحًا، عدنا أنا وأنتَ فقط!
_"أنتِ اللي بعتي لأبوكِ إننا هنقابل المحامي أنس؟"
سألها بهجومٍ وبوجهٍ محمر من غضبه الجامح، بينما هي تشكّل الاستغراب ممزوجًا بالدهشة على وجهها وأجابت بجهلٍ عما يقول:
"Me? لا أكيد وبعدين هكلمه من فين؟"
سخر بضيقٍ منها ضاغطًا بأسنانه على فكه بشكلٍ قوي مما زاد وجعه فزاد غضبه:
"اسألي نفسك هتكلميه فين، ده إحنا محدش فينا لمس منك شعرة هنا ولا اتعاملنا معاكِ بشكل وحش حتى، تبقى دي جزاة الناس اللي اتقوا ربنا فيكِ!"
عبست به بضيقٍ ورفعت إصبعها في وجهه تحذره بقولها:
"متتهمنيش بحاجة أنا معملتهاش، أنا بقولك مقولتش لحد وهقوله إزاي وأنت واخد تليفوني، وبعدين لو أنا اللي قولتله .. هقولك ليه على أنس عشان تساعدوا بعض وتاخدوا حقكم.. هو أنت مش شيخ وعارف إن الظن في حد بسوء حرام، ليه بتظن فيا بالشكل ده؟"
أنهت جملتها بنبرة يائسة تحمل الخذلان بين طياتها من شعورها بالإحباط لما يحدث معها في كل مكان تضع به قدماها، أدركت اليوم أن المشكلة منها هي، منذ الطفولة وهي تعاني من تلك المشاعر التي تُشعرها بأنها منبوذة لا غير، كَبُرت مع أصدقاءٍ تيقنت هذه الأيام بأنهم لم يكونوا سوى مخادعين أرادوا منها النقود فحسب.
لا تعطِ الحياة الجميع كل شيء، يجب أن ينقصه شيء ينغص عليه معيشته ليعيش في اختبارات تُفرض عليه ليستطيع إكمال الحياة؛ فبدونها لن يقدر على التجاوز وسيموت من شدة الضغط!
هي لم تتعرض لمشاكل وواجهتها يومًا، بل تَركت كل شيء في الحياة يسير كما يرغب، والآن هي لا تقوى على تحمّل أي شيء، بل مُقيدة من جميع الجهات وأمامها رجلٌ مُجند باسم الضغوطات ينهال عليها بضربات مؤلمة.
أشار لها بعينيه بأن تزيل اصبعها ففعلت ذلك بتوترٍ من نظراته الحادة التي كادت أن تحرقها من شدة الشرر الذي يخرج منها، وهدر بوجهها بتوعدٍ:
"أقسم بالله يا سيلين لو طلعتِ أنتِ السبب وإنك أنتِ اللي قولتيله لـ هيبقى بحساب شديد، وقتها بجد الشر اللي جوانا تجاه أبوكِ هيطلع عليكِ ومش هعمل لحد حساب"
اغرورقت عينيها بالدموع وظلت ثابتة على موقفها بعنادٍ واضح لأنها بداخلها يقين بأنها تقول الحقيقة:
"وأنا مقولتش لحد حاجة، أقسم بالله ما قولت لحد حاجة، لو أنا اللي قولت .. مكنتش هكون واقفة قدامك بالثقة دي، بس براحتك صدق زي ما أنت عاوز، وأنا عارفة إنك استحالة تأذيني، أنت مش زيهم ومش هتعمل كدا"
تحرك من أمامها بعدما رمى عليها نظرة حانقة وأخرج من جيبه علبة أعواد الثقاب ووضع واحدًا منها بفمه ليضغط عليها بدلًا من ضغطه على فكه بتلك الطريقة؛ فتسبب له الضيق في الآونة الأخيرة ضعفٍ بالفك بسبب ضغطه عليه، ها هو الآن يحاول أن يريح ذلك الوجع الذي أصابه!
غادر البناية ولمح رجال عدة في كل مكانٍ بالحارة، تقوس حاجبيه باستغرابٍ وتحرك ناحية «حمزة» الذي لمحه واقفًا في وجه «نادر» وجواره «عبدالله»، توجه ناحيتهما ووقف جوارهما وهو يطالع «نادر» بسخطٍ موجهًا سؤاله «لحمزة»:
"ده بيعمل إيه هنا؟ هو إحنا مقولناش ميخطوش الحارة هنا هو والخبث التاني؟"
أجابه «حمزة» بشكلٍ ساخر من «نادر»، وداخل عينيه الغضب الذي يشع تجاهه؛ فهو الآن يتذكر كل لحظة كانت بينه وبين «رزان» وما فعله بها وكيف أوصلها لحالة نفسية مُزرية:
"باين عليه بايع عمره وجاي يسلمهولنا نخلصه إحنا بأيدنا!"
ابتسم بوجههم الآخر بنزقٍ يستخف بهم جميعًا؛ فهو خلفه من الرجال الأقوياء والاشداء عدة، ثم تحدث وهو واقفًا بتحدٍ أمامهم:
"بطلوا عك في الكلام وهلفطة فاضية وأنتو عارفين كويس أنكم مش قدها، أنا جاي المرادي في حاجة خير، من الحاج وليد!"
بنبرة سريعة مندهشة تحمل السُخر هتف «عبدالله»:
"خير! ومن مين يا أخويا؟ الحاج وليد! هو وليد عارف يعني إيه حج وبيعملوه إزاي؟"
على حديثه الساخر ضحك «مروان» ورفقته «حمزة» الذي قال بتشدقٍ:
"حوش الحاج حوش، دا إحنا مسمينكم هنا في الحارة "الخبث والخبائث"، يعني لما بنحب نجيب سيرتكم بنقول عليك خبائث والتاني خبث بصراحة!"
بلغ مسامعهم صوت قوي للتو وصل، متحركًا من خلفهم ليقف امام ابناء حارته في وجه «نادر» تحديدًا:
"خير يا نادر جاي الحارة ليه بعد ما اتطردتوا طردة الكلاب المرة اللي فاتت!"
كان واقفًا بثباتٍ مخاطبًا «الحاج إبراهيم» بتهكم:
"وليد الأنصاري عاوز يُفض اللي بيحصل ده علشان طوّل اوي، وقال هيعوض صحاب البيوت فلوس زي الاتفاق القديم، بس مُقابله تتنازلوا عن القضايا وأولها قضية قتل بنتك"
أجابه «الحاج إبراهيم» مستهزئًا به بنبرة حادة:
"وأنا إيه يخليني اتخلى واتنازل على قضية بنتي، دي حاجة وحوار الأرض حاجة تانية خالص!"
هندم «نادر» من وضع قميصه وهو يتفوه بثباتٍ ممزوجًا بالبرود:
"ده اللي عنده عشان أنتو عارفين نتائج اللي هيحصل ده إيه، وإنه من الصبح يقدر يكسب القضايا دي، فلو موافقين الشباب هيشرفونا بالليل في مصنع الحاج وليد اللي هنا في الحارة علشان يديهم حقوقهم... المشوار هيبقى طويل عليك يا حاج إبراهيم ماتجيش انت!
التفت ليغادر دون أن يعطيهم أي فرصة للتحدث ولكنه عاود مجددًا النظر لهم يرمي عليهم نظرة تهكمية بسخرٍ:
"اتنازل عن القضايا لمصلحتكم يا حاج، لو شوية الحوش اللي وراك دول متقويين بيك فأنت العُمر اللي خلص مش قد اللي جاي، ووليد عامل حساب ليك ولو لا قدر الله روحت للأي خلقك تونس بنتك.. هنبعتهم هما كمان على طول وراكم، سلام"
في خطواتٍ سريعة توجه «عبدالله» ناحيته ليلكمه وما منعه هم رجال «نادر» الذي أسرعوا ووقفوا أمامه يمنعوه من التقدم نحو الآخر، فهدر بدلًا عن الضرب ناظرًا له يقف خلف رجاله:
"أنا هوريك على كلامك ده، وابقى خليك مرة واحدة راجل وتعالى الحارة لوحدك من غير رجالتك!"
أقترب نحوه «مروان» يجذبه ونظره مثبتًا على «نادر» بغيظٍ:
"أهدى ياعبدالله، ده واحد جبان هو واللي باعته!"
ضحك «نادر» مستهزئًا منهما ثم غادر بسيارته ببلادة غير مُكترث لحديثهم، غادر تخت أنظاررهم المُغتاظة!
بينما تحرك «الحاج إبراهيم» ناحية المجلس وهو يرمي كلمته بحدة:
"ورايا على المجلس!"
تحركوا خلفه دون قول كلمة واحدة، دلفوا جميعًا وكل منهم يشع غضبًا وأتى خلفهم «عبدالستار» و«فتحي» وأيضًا «مُحسن» ورجال كبار من الحارة.
تحدث «عبدالستار» يستفتح تلك الجلسة بقوله:
"أنا بقول نروح نشوف الصفقة اللي هو رماها دي نظامها إيه، ونفضها عشان هو زي ما قال هما اللي هيكسبوا القضية!"
أجابه «عبدالله» بصرامة وعينين تشع غضبًا:
"وحق أختي؟"
عقب «إبراهيم» على حديثهما بهدوءٍ عكس الغضب الذي بداخله:
"حق عهد هيرجع وهتفضل القضية شغالة، ومروان وحمزة وعبدالله وآسر هيروحوا النهاردة عند المصنع ويساوموه على حق عهد مقابل التنازل عن حق الأرض، وفي مقابل ده يدفع فلوس الناس اللي خد بيوتها وأملاكها أو يجبلهم بدالها شقق مفروشة"
تدّخل «مُحسن» بقوله متهكمًا:
"وأفرض رفض يعني؟ أنا ليا حق في الأرض دي وعايز حقي!"
اشتد الغضب «بإبراهيم» ولم يتمالك نفسه، وتطاير الشرر من عينيه صارخًا:
"وهو حق بنتي أرخص من حقك يامُحسن! حق بنتي اللي اتدبحت في عز شبابها على ايد شوية مجرمين كلاب وهي بتحاول تجبلك أرضك ... ما يرفض ولا يتنيل على عينه، مافيش حق هيرجع قبل حق عهد، وليد هيوافق على الكلام ده هنكمل، مش هيوافق يتفلق!"
احمرار وجهه ونظراته التي تشع شرر كانا كفيلان باخراس الجميع ووضع ألسنتهم داخل أفواههم، هدر بعدها بنفس التهجم:
"سامعين ياعبدالله هتعملوا إيه النهاردة بليل!"
أجابه ابنه بنظراتٍ ساخطة متوجه «لمُحسن»:
"سامعين يابابا، أوامرك هتننفذ بالحرف الواحد!"
هب «إبراهيم» واقفًا منسحبًا من تلك الجلسة ولحقه «مروان» بخطواتٍ سريعة يناديه:
"ياحاج.. ياعمي!"
وقف «إبراهيم» مكانه والتفت ناحيته يطالعه باستغراب؛ ليتحدث «مروان» بتنهيدة:
"إحنا بينا خاين!"
_"إيه؟ إيه الكلام اللي بتقوله ده يامروان!"
قالها بصدمة وبعينين متوسعتين ليردف «مروان» بصوتٍ خفيض بالكاد يسمعه «إبراهيم»:
"وليد باعتلي من نصاية كدا رسالة بيقولي إنه عرف إننا كلمنا أنس ومتفقين معاه.. أنا شكيت في بنته وروحت واجهتها بالكلام ده .. بس خوفها وأسلوبها ميقولش إنها هي .. ويوم القعدة محدش سمع الكلام ده غير هنا في المجلس وفي بيتك وكان يومها اللي قاعدين في المجلس هما اللي قاعدين النهاردة!"
غمغم الآخر مستطردًا بعينين حائرتين:
"تتوقع مين عمل كدا؟ اومال عمالين ينادوا بحق الأرض ليه؟"
حرك «مروان» كتفيه باستغراب متنهدًا:
"حقيقي مش عارف بس عمومًا هو هيتكشف عشان نادر ووليد ملهمش عزيز، وهيبيعوه على طول.. وصحيح أنس جاي النهارده الساعه 4"
أومأ له «إبراهيم» بملامح مبهوتة:
"اقعد معاه أنت والشباب، بس ليه توقعت يكون حد من هنا، مش يمكن يكون متفق هو أنس ده!"
هز رأسه بنفي مفسرًا ذلك «للحاج إبراهيم»:
"لو متفقين مكانش وليد كلمني علشان هيكشفوا بعض وهتبقى فرصة إننا نسلم أنس أي معلومات قليلة ده غير أنه بعت تهديد لأنس أصلًا!"
_"لا حول ولا قوة إلا بالله، شوفوا هترسوا مع المحامي ده على إيه علشان القعدة الجاية أجيب ثابت لأنه أدرى بالقضايا بتاعتنا عشان هو اللي ماسكها، ويكلم وقتها أنس ويتفقوا!"
اومئ له «مروان» بتنهيدة وتحرك إبراهيم نحو المنزل تاركًا الواقف -«مروان»- عقله يفكر فيما يحدث وسيحدث، في الحقوق الضائعة وفي ذلك الخائن الذي بينهم.
____________
الشر مُحمل من الثنايا، نابعًا من القلوب المريضة، خارجًا على هيئة شياطين بشرية في الحياة تؤذي بلا رحمة وبلا شفقة!
وصلت الآن للبيت بخطواتٍ ثقيلة، غير متزنة، فهي اليوم زوجة أولى لزوجها ويوجد ثانية على ذمته، هي الآن اختيارًا وليست أساسًا، طلبت منه ذلك وضغطت عليه ففعل، ولكن نيران الغيرة مُحملة من داخلها لأجله، لأجل حبيبها.
صعدت نحو أول شقة بسبب استماعها لأصواتهم خارجة منها، ودلفت بخطى بطيئة وابتسامة خافتة تزين ثغرها، وأول ما وقعت عينيها عليه هو حبيبها .. «آسر».
وقف في مكانه ناظرًا لها باشتياق واضح، عينيه تلألأت بمجرد أن رآها وكأنها كانت بعيدة عنه لسنينٍ طويلة وليس يومين فقط، أقترب سريعًا نحوهها مبتسمًا:
"حمدلله عالسلامة ياحبيبتي، مقولتيش ليه كُنت جيت خدتك!"
ابتسمت برضا له وتحدثت بصوتٍ خافت:
"متتعبش نفسك، أنا جيت أهو الحمدلله .. أزيك يا ماما، أزيك يامرام؟"
كانت المكسورة تتابع لهفته عليها بتنهيدة قوية، وأومأت برأسها تتابعًا مع قول خالتها بابتسامة:
"بخير يابنتي الحمدلله، أنتِ كويسة؟"
أومأت لها برأسها فقط ووجهت بصرها نحو «آسر» تبتسم بوجهه بخفة، ثم رفعت يدها التي بها حقيبة وهي تقول بخفة:
"جبت حلويات عشانك أنت ومرام، مبروك!"
تخطته وتوجهت نحو «مرام» تفتح لها العُلبة وأخذت منها قطعة تمدها نحو «مرام» بابتسامة بسيطة:
"مبروك.."
_"الله يبارك فيكِ!"
قالتها الثانية بصوتٍ مرتجف وتناولت منها قطعة الحلوى وأكملت «رنا» سيرًا نحو أمه تعطيها ثم له ليشير بنفي:
"مش عاوز، أنا نازل تحت عندي مشوار مع الشباب مهم، اطلعي الشقة وهخلص واجيلك"
وضعت العُلبة جانبًا وأومأت له برأسها بطاعة:
"ماشي ياحبيبي، ربنا معاك!"
الثقة التي تتفوه بها عن قصدٍ، وكأنها تضع النقاط على الحروف للجميع في هذه الجلسة، هو حبيبها هي.. حبيبها وحدها.
______
تحرك «حمزة» من المجلس بعدما أخبر «عبدالله» بأنه سيعود عند الرابعة، ذهب ليرى تلك المذعورة التي تركها بعدما أخبرها بألا تظهر جوار النوافذ والشُرفات حتى لا يراها أحد.
_"متتحركيش من البيت خالص يا رزان ولا تقربي من أي شبابيك أنا هشوفه عاوز إيه وأرجع على طول!"
ارتجفت مفاصلها ارتجافًا قويًا، عندما علمت أنه متواجد هنا، لا يفصلها عنه سوى بضع خطواتٍ، الذي تهابه أكثر من أي شيء بالحياة هنا، تحدثت بذعرٍ وبملامح مصفرة:
"ما بلاش تنزل خليك هنا.. أفرض عملك حاجة!"
هز رأسه يطمئنها وأشار لأمه متفوهًا:
"خلي بالك منها يا ماما، ومتقلقوش نادر جاي حارتي، مش هيقدر يرفع عليا ايد حتى"
ثم تحرك نحو الأسفل داعيًة داخله ألا يكون علم بأي شيء يخص «رزان»، حتى يأتي والدها بعد يومين وإلا سينفجر كل شيء في وجوههم.
وصل بخطواتٍ ثابتة نحو الشقة وطرق الباب ثم دلف باحثًا بعينيه عنها؛ فوجدها تتوسد أحضان أمه باكية بملامح مقهورة.
الحزن جعلها تكبر ألف سنة وغلب ملامحها الجميلة؛ ليحولها لأخرى بائسة يائسة، دقات قلبها تتسارع في تلاحق عنيف طوال الوقت خوفًا من أن يصيبها شيء أو يصيب مَن تُحبهم، فلا ذنب لأحد بوجود ذلك المريض «نادر».
تنهد بحسرةٍ عليها واقترب يجلس جوارهما مُستمعًا لأمه التي سألته في حيرةٍ:
"عملت إيه يا ابني الراجل ده كان جاي هنا ليه؟"
أجابها بهدوءٍ ونظره معلقًا على "رزان" الباكية بصمتٍ:
"جاي عشان الأرض، ما هو طلع تبع وليد الأنصاري"
نظرت له سريعًا بأمل وهي تردد بصوتٍ مرتعش:
"بجد والله يعني مش جاي علشاني"
تنهد لحالتها ثم أضاف:
"لا مش عشانك، وبعدين هو لو جاي عشانك كنت هكون انا جاي هادي كده يارزان؟ اهدي وكفاية اللي أنتِ عاملاه في نفسك ده!"
أضافت أمه على حديثه بقلة حيلة:
"والله يا ابني ده اللي أنا عمالة أقوله، بس هي اتفتحت في العياط ماتقفلتش!"
طأطأت «رزان» رأسها وقالت في أسى مبالغ:
"والله أنا خوفت أوي يكون فيه حاجة، ولا هو عرف إني هنا ويأذي حمزة!"
غمغم الآخر ممازحًا إياها:
"أنتِ خايفة عليا ولا إيه"
كادت أن تتحدث ولكنها استشفت نبرته فقالت بخجلٍ:
"آه طبعًا، أنت ماتستاهلش يحصلك وحش، وبعدين مش ذنبك يحصلك حاجه بسببي وأنت مالكش أي علاقة!"
أجابها بصوتٍ أجش بعدما رسم ابتسامة بسيطة على ثغره:
"بقى ليا علاقة وهفضل اساعدك لحد ما تخلصي منه، لأنه مش بس اذاكِ، لا ده أذى الحارة بتاعتنا، فحقي وحقك هيرجع."
اردفت بصوتٍ عذب رقيق يشوبه بعض الرجفة:
"شكرًا يا حمزة بجد، مش عارفة أقولك إيه!"
ابتسم بتوسع وهو يقول بمزاحٍ:
"ماتقوليش حاجة، أقولك بتعرفي تعملي بشاميل؟"
أومأت برأسها باستغراب لتضيف أمه باستنكار:
"يوه أنت عاوز تتعبها ياض، ماتقول وأنا أعملك!"
غمز الثانية بطرف عينه قائلًا:
"هتتعبي بجد؟ ولا تعمليلنا بشاميل"
ابتسمت برقة وهي تقول مبدلة نظراتها بينه وبين أمه:
"هعمل من عيوني، متقلقيش ياطنط مافيش تعب"
_"ألعب"
رمى كلمته المعهودة متحمسًا لأكلها، بينما هي ألقت عليه نظرة خجلة وتحركت نحو المطبخ تحت نظراته، وكأنها سلبته في لحظاتٍ على غفلة رغمًا عنه، لكمته أمه في كتفه ليفق من شروده:
"إيه ياما، إيدك تقيلة!"
هدرت في وجه باستنكار:
"مقولتش ليه وأنا عملتلك ياض كدا تتعبها!"
ابتسم وهو يربت على ظهرها بحنانٍ وأردف:
"متقلقيش، هي كدا هتفك شوية من حالتها دي، وكمان لو عايزة تساعديها قومي!"
صمت لثوانٍ ثم أضاف بغمزة ماكرة:
"ولا أقوم أنا اساعدها؟"
عادت تلكمه وهي تبرطم بقولها:
"عيل قليل الأدب بصحيح، أقعد مشوفكش قريب من المطبخ عشان متخوفش البت أكتر"
_"أنا بخوف! شكرًا يا أمي يا جيشي الوحيد شكرًا"
قالها بمسكنة مزيفة لترمي عليه نظرة بتقززٍ وغادرت نحو المطبخ، ليُخرج تنهيدة مع ابتسامة خافتة مُفكرًا في كيفية إخراجها من تلك الحالة؛ فهو أصبح يحمل همها بشكلٍ أكبر، ويود أن يراها بخير!
أخرج هاتفه متذكرًا أنه يود أن يراسل والدها، ولكن استوقفته رسالة صديقه بعنوان الشركة التي أرسلها له ليقدم بها أوراقه في محاولةٍ للحصول على عمل، رأى العنوان وحفظه شاكرًا صديقه ثم أرسل لوالدها «أتمنى إنك تيجي في أسرع وقت، عشان مبقاش فيه حاجة مبشرة أبدًا، ونادر ورجالته أقوى مني ومن حارتي!"
سحب نفسًا عميقًا بعدما أرسلها وبدأ يبحث عن معلوماتٍ تخص تلك الشركة، وما الأوراق المطلوبة للتقديم.
_____
ترتيبات من الله توضع أمام الإنسان ليكمل الدرب الطويل الثقيل، الحياة ماهي إلا خطوات يجب أن يسيرها الإنسان بإتزانٍ ليستطيع العيش!
في تمام الرابعة عصرًا وصلت سيارة فخمة للحارة، سوداء اللون وكان نوعها شهيرًا «BMW»، ترجل منها رجلًا بملابسه المهندمة التي كانت عبارة عن بنطال قماشي أسود ومعطف طويل يصل لركبتيه باللون الرصاصي الغامق، يضع نظرات شمسية على عينيه متألمًا الحارة وتفاصيلها، اقترب ناحية شخصٌ ما يمر وسأله بجدية وصوتٍ أجش:
"لو سمحت، ألاقي فين عيلة عبدالمجيد؟"
أشار له الرجل ناحية المجلس مجيبًا:
"هما كلهم دلوقتي في المجلس اللي هناك ده!"
ابتسم له بشكرٍ وتحرك ناحية المجلس وهو يتفحصه، غرفة مبنية بطوبٍ قوي مدهونة باللون الرصاصي ولها نافذة واحدة تطل على الشارع الرئيسي بالحارة، توجه ناحية الباب وطرق طرقاتٍ خفيفة ثم دلف يطالعهم وأردف بثباتٍ:
"مساء الخيي 'الخير'، أنا أنس النجاي 'النجار'"
كان ألدغ في حرف الراء، مسلوبًا منه بشكلٍ واضح فتحول عنده لياءٍ ثقيلة، نظرات منهم لبعضهم ثم له، وبينهما غليظًا يكتم ضحكاته ولم يكن سوى «حمزة»، سرعان ما تحرك ناحيته «مروان» يبتسم بودٍ ومد يده يصافحه:
"للأسف اسمي مروان، حرف الراء مش هيساعدك في نطق اسمي فيُفضل متنطقوش عشان هتبوظه وأنا بحبه!"
صافحه «أنس» بضحكة متقبلًا مزحته لينفجر الثلاثة وراءه في الضحك وشاركهم «مروان» ولكنه حاول كتمها حتى لا يحرج الواقف أمامه.
هتف «أنس» بضحكة خفيفة:
"حصل خيي 'خير'، تشيفت 'تشرفت' أوي"
أشار له «مروان» ليجلس وجلس هو الآخر مبتسمًا بينما «حمزة» مازال الضحك يغلبه وهو يقول بضحكة ماكرة:
"كلمة السر عشان نرتاحلك، ارنبنا في منور أنور وأرنب أنور في منورنا، قولها بقى!"
أزاح «أنس»النظارة عن عينيه وهو يقول بمزاحٍ:
"السليم ميعيفش 'ميعرفش' يقولها، أنا هعيف 'هعرف'؟"
اقتنع «حمزة» ثم عبر عن أسفه بابتسامة خافتة:
"تشرفنا بحضرتك يا أستاذ أنس، وياريت متزعلش مننا إحنا بس بنحب الهزار وواضح على حضرتك كمان بتحبه!"
بصدرٍ رحب تقبلها «أنس» ليردف «عبدالله» بابتسامة خفيفة:
"نورتنا، أنا عبدالله ابن الحاج إبراهيم عبدالمجيد، وده ابن عمي مروان، حمزة الشافعي صديقنا، وده آسر الغمري صديقنا برضو!"
_"أهلا وسهلا بيكم.. كلكم أكيد موجودين عشان نتكلم في حواي 'حوار' قطعة الأرض.. ووليد الانصايي 'الانصاري' صح؟"
سألهم بجدية ليومئ له «مروان» يحاول استشفاف هل سيكون عدوًا أم صديقًا، وأردف بهدوءٍ:
"بالظبط، وليد سارق الأرض بتاعتنا، الجزء ده من الأرض حوالي 5 فدان، الأرض دي كان عليها بيوت لناس طردهم منها وهدها بين يوم وليلة، ووقت ما اتكلمنا قال ده إزالة من الدولة ومعايا ورق يثبت، وقتها صدقنا وخرسنا واستنينا يجي للناس دي تعويض بالذات إن فعلًا نصهم اتشرد، مجاش تعويض ولما دورنا لقينا إن الحارة كلها مافيهاش أي إزالة من الدولة، الدولة بتزيل أجزاء بتحتاجها في توسيع طرق وبيوت مبنية بشكل غلط، وبتعوضهم بجزء صغير من الفلوس وأحنا كنا مستنينها برضو، ومن هنا لهنا اكتشفنا إن الورق ده مزور ولما اتكلمنا بسبب واسطاته الكتيرة مقدرناش نوصل لحاجة، حاليًا مكتفاش بسرقة الأرض اللي كانت ترشيح من نادر المصري صاحب شركات المقاولات، ده كمان عاوز يبني مصنع أدوية وده غلط علينا وعلى أهل الحارة من الدخان والمخلفات اللي هتطلع، حاليًا فيه قضايا مرفوعة ضده بالتزوير وببناء المصنع في مكان مينفعش يتبني فيه!"
أومأ له «أنس» بتفهمٍ بعدما استمع لكل الكلام الذي قاله «مروان» ثم تسائل باستنكار:
"بس مين اللي قالكم عليا؟ أو قالكم إني أقدي'ر' اساعدكم!"
تفحصوا بعضهم قبل أن يقول «مروان» بهدوءٍ:
"بنته، سيلين!"
بنبرة أكثر استنكارية تملؤها الدهشة عقب على كلامه:
"سيلين؟ ليه!"
يعلم جيدًا بأنها قطعت الود منذ ذلك اليوم الذي صدر بينه وبين أبيها مشاكل عدة جعلت «وليد» يأذيه، وعندما أخبرها بأنه يود الانتقام كانت إجابتها بأن يرحل عن حياتها لأنها لن تسمح!
أجابه «مروان» بعدما سحب نفسًا عميقًا بهدوءٍ:
"قالتلنا عشان تساعدنا، وهي عارفة إن فيه عداوة بينك وبين أبوها، وتخليص حق برضو بصراحة، إحنا عايزين قبل ما نرجع حقنا في الأرض نرجع حق بنت الحاج إبراهيم، اللي اتقتلت!"
_"عهد؟"
قالها ليتفاجئ الجميع بمعرفته لها فهدر سريعًا «عبدالله» بتساؤلٍ:
"أنت عارفها منين؟ أنت تعرف حاجة عن قتلها!"
نظر لهم جميعًا وهو يقرأ ملامح الدهشة تعلو ملامحهم، يحاولون استنباط ما يقول فاسترسل بهدوءٍ:
"ده كان سبب الخلاف بيني وبينه أصلًا، يومها جت عهد وهي بتحاول تتحايل عليه ييجع "يرجع" الأيض "الأرض" وبتقوله إنه الناس دول ملهمش ذنب، شدت معاه وشد معاها وقالتله القضايا هي اللي هتكون بينكوا وبينه!"
غادر بذاكرته لذلك اليوم وهو يحكي لهم كل شيء، يوم مشؤوم، بغيض، يوم ثقيل على قلوب الجالسين وعلى قلبه، يوم قُتلت فتاتهم البريئة بشكلٍ مُقهر، بشكلٍ بغيضٍ؛ مذبوحة!
وصلت إلى القصر وتوجهت نحو الحراس الواقفين قائلة بنبرة حادة:
"أنا عاوزة أشوف وليد الأنصاري لو سمحتِ حالًا!"
تابعها الحارس من أسفلها لأعلاها يتفحصها، كانت بسيطة داخليًا وخارجيًا، بملامح بريئة تجعلك تقسم بأنها لم تخلق لتعيش مطولًا في الحياة، بعينين كملاكٍ برئ، كانت الراحة تشع من وجهها فتُريح قلبك، بجسدٍ هزيل متوسطة القامة، تقف أمامه بقوة رافعة رأسها لأعلى بشموخٍ غير عابئة بأي شيء!
_"الباشا مش موجود، أمشي من هنا عشان أنتِ عارفة كويس أنه مش عاوز يشوف وشكم!"
قالها الحارس بسخطٍ، لتجيبه بحدة:
"لا هشوفه، أنا عارفة إنه موجود وعربيته أهي، أنا عاوزة أتكلم معاه كلمتين وهتكل على الله!"
_"اتكلي على الله دلوقتي احسنلك، احسن ما نبعتك إحنا!"
قالها بحدة يهددها فزفرتٍ بوجهه لترى الخارج من الداخل بملامح ساخطة، متوجهًا ناحية البوابة، ولم يكن سوى «أنس»، تحركت سريعًا ووقفت أمامه:
"أنا عاوزة أشوف وليد الأنصاري لو سمحت، ضروري!"
ضيق عينيه وهو يسألها بهدوءٍ:
"مش أنتِ اللي من حاية 'حارة' الزيتون، عايزة منه إيه؟"
أومأت برأسها بخفة وهي تقول بتنهيدة:
"أيوه أنا.. أنا عهد عبدالمجيد، أنا جاية أتكلم معاه بخصوص الأرض وبخصوص التعويض اللي هيجي للناس الغلابة اللي طلعوا من بيوتهم، الناس متشردة في الشارع ومحتاجين مأوى وأكل، لو سمحت خليني أتكلم معاه، الله يخليك!"
طالعها بتنهيدة متأملًا ملامحها التي عكست له الرقة، ونصحها بقوله:
"امشي ياعهد، وليد مش ناوي على خيي 'خير'، أنتِ باين بنت غلبانة ومش قده!"
نظرت له بتوجسٍ، لا تعلم أي الصواب الآن من الخطأ، ولكن قبل أن تبدي أي ردة فعل استمعا لصوتٍ حاد آتيًا من أمام الباب الخاص بالجنة التي يعيش بها «وليد» :
"هي البت دي بتعمل إيه هنا؟ جاية ليه!"
طالعت «أنس» ثم «وليد» وهدرت بغضبٍ استجمعته بمجرد رؤيته:
"أنا هنا عشان حق الغلابة، إحنا عايزين حق الناس اللي اتشردت بسبب قطعة الأرض اللي خدتها وإلا.."
_"وإلا؟"
قالها «وليد» باستخفافٍ منها وتقدم أمامها مباشرةً:
"وإلا إيه ياقطة؟ تعرفي إن تهديدك ده لوحده ممكن يخليني اولع في الحارة كلها؟ تعرفي ولا متعرفيش!"
ابتلعت غصة وحركت حدقتيها بينه هو و«أنس» الذي كان مترقبًا الموقف، ثم همست بضعفٍ:
"وإلا هنبدأ نشتغل بالمحاكم يابيه، ونرفع قضايا ونشوف الأرض دي بجد اتزالت بأمر من الحكومة ولا بأمرك أنت والورق مزور!"
تفاجئ من قولها ومن شكوكهم بالحارة، ليبتسم بشرٍ واضح وهو يقول:
"لالا كدا نزعل من بعض، وزعلي وحش بصراحة، بصي تعالي هنتكلم بهدوء خالص، وأنا هرسيكِ على بر، أصل شكلك لكاكة ومش هتبطلي وهتقرفيني كتير!"
أشار «لأنس» بعينيه ليذهب فأخرج تنهيدة وتحرك مُجبرًا، ولكنه ترك أعين بالمكان تخصه تراقب له الوضع، وما بلغه كان قاسيًا للغاية، تركها «وليد» لرجاله ليذبحوها ... ولكن قبلها تم اغتصابها بشكلٍ مُهين سلب روحها لدرجة أنهم لا يعلمون إن كانت ماتت وقتها أم ماتت من ذبحهم لها بلا رحمة أو شفقة!
أتى «أنس» مساءً في عجلة من أمره بعدما عرف واندفع تجاه «وليد» مستندًا على المكتب بيديه قائلًا بصراخٍ دوى بالمكان:
"أنت قتلت عهد ياوليد؟ قتلت بنت ملهاش ذنب في حاجة!! احنا متفقناش على كدا، أنا مش هدافع عنك في المحكمة على جييمة "جريمة" زي دي، أنا مش هدافع عنك على قتل بنت بييئة "بريئة" ياوليد، وصدقني الطعنة هتبقى مني أنا!"
ضحك «وليد» عاليًا بشرٍ وخبثٍ، كأنه شيطانًا يجلس أمامه، وهتف بتشفي:
"أعلى ما في خيلك اركبه، والحق أمشي من وشي عشان معملش معاك زي ما عملت معاها، بس هينقص حاجة من الدراما دي ... الاغتصاب للأسف الرجالة هنا مش هتقدر تغتصبك، امشي يا أنس ومتورنيش وشك تاني!"
أنهى كلماته بأسى، بينما هم جالسون أمامه في صدمة، لم يعرف شخصًا منهم بأنها أُغتصبت قبل قتلها ... وكأن هنالك دلو به ثلج سكب على رؤوسهم لتجعلهم غير قادرين على الحركة أو حتى الكلام، وكأنهم عاجزون عن التعبير، عن الوصف، حتى عن البكاء!
كان الاندفاع الشديد من «عبدالله» الذي هب واقفًا وخرج من المجلس تجاه المنزل، وخلفه ركض «مروان» يلحقه لأنه يعلم ما في تفكيره الآن وبقيتهم لحقوهما.
بينما هي كانت تجلس رفقة «إبراهيم» و«فاطمة» وتبرر ببكاءٍ:
"والله ياعمو والله ياطنط، أنا مبلغتش بابا بحاجة عشان مروان يتهمني كدا، أنا معملتش أي حاجة، أنا أصلًا طول الوقت مع طنط مبفارقهاش، هكلمه أمتى وإزاي!"
نظر «إبراهيم» تجاه زوجته لتومئ له برأسها مؤكدة على حديثها، فهي بالفعل لا تفارقها أينما ذهبت تكون خلفها لتُسلي نفسها، انتبهوا لصوتِ الباب يطرق بعنفٍ فتوجه «إبراهيم» وفتحه ليندفع ابنه للداخل تحديدًا تجاه ابنة «وليد الأنصاري» ممسكًا إياها من شعرها:
"بنت الكلب دي هتتقتل وهتتبعت لأبوها مقتولة حالًا، أنا عندي إستعداد ألوث أيدي بالدم فيها!"
صراخها دوى بالمكان بوجعٍ من مسكته، وهو بوجهٍ محمرٍ وعينين كالدماء يقف يقبض على خصلاتها، الدماء تفور في جسده تصعد لرأسه ليصبح بغير وعيه، أقترب «مروان» الذي كان يدرس خطواته عكس البقية وقفوا مصدومين وأبعد يده عن خصلاتها مما سبب اقتلاع بعض من شعرها بيد «عبدالله»:
"اهدى ياعبدالله واستعيذ بالله من الشيطان، اهدى بالله عليك!"
وقفت سريعًا خلف «مروان» تحتمي به ببكاءٍ مرير ورفعت يدها على شعرها تمسكه بألمٍ شديد أصاب رأسها، سمعت صوت «عبدالله» يقول لوالده هادرًا بكل الحقد والشر الذي داخله:
"أنت تعرف إن أبوها الكلب خلى رجالته يغتصبوا أختي وبعدين قتلوها؟"
شهقة عنيفة دوّت بالمكان من «فاطمة» وهي تتجه ناحية «عبدالله» تسأله بإنكارٍ:
"أنت بتقول إيه يابني! انطق بتقول إيه؟"
أجابها بعنفٍ وهو يشير نحو «سيلين»، كان هائجًا كالثور وعماه الانتقام في تلك اللحظة تحديدًا بغضبه الذي لا يتحكم به:
"دي الحقيقة، أبو الكلبة بنت الكلاب دي أمر رجالته يغتصبوا أختي، ويدبحوها يا أمي، ولاد الحرام كلهم خلصوا عليها، قتلوها وهي مأذتش في حياتها نملة حتى، ومش عايزين أخلص عليها ولا اقتلها!"
_"ياحظك التعيس في الحياة يابنتي، يالهوي ياحبة عيني عليكِ وعلى حظك يا عهد يابنتي!"
ولولت «فاطمة» ببكاءٍ مرير ليضمها «عبدالله» لأحضانه يربت على كتفها، بينما الثانية تقف خلف «مروان» تستمع بصدمة لا تقل عنهم، شعر بيدها تشدد على مسكتها لكنزته بخوفٍ ورهبة، شعر بأرتجافها خلفه من الذُعر الذي تملكها.
تدخل «إبراهيم» بقوله بحدة وصوتٍ مرتفع نسبيًا:
"أختك اتدفنت بالماضي بتاعها يا عبدالله، وحقها هيرجع تالت ومتلت، إنك تقتل روح تانية فأنت كدا مبتجبش حق أختك ولا هي هتبقى مرتاحة في تربتها، حقها هيرجع من وليد الأنصاري مش من بنته الضعيفة!"
وأكمل على كلامه قول «مروان» يحاول تخفيف الموقف وحدته بينما هو داخله النار تأكله ولن يقدر على اطفائها الآن أبدًا:
"عبدالله .. إحنا مبناخدش حقنا من ستات ضعيفة، العصبية دي مش هتفيدك ولا إننا نقتلها هيفيدنا، وبعدين يا أخي قتل إيه؟ إحنا مش أوساخ زي وليد عشان نعمل نفس عملته، إحنا انضف منه ألف مرة، ربنا مأمرناش بكدا يا عبدالله، استعيذ بالله من الشيطان الرجيم واهدى بالله عليك، اهدى"
أكمل على كلامه «إبراهيم» وهو يتابع الواقفون على الباب يرون ذلك المشهد المهيب بالنسبة لهم جميعًا:
"كلام ابن عمك صح يا عبدالله، استهدى بالله يابني!"
اغمض عينيه وهو يضم أمه له، يمدها بالطاقة غير الموجودة عنده بالأساس، يحاول أن يواسيها ويربت على قلبها، يهدئ من روحها ولكن من سُلب منها ضنى، سُلبت روح ابنتها بأبشع الطرق وأكثرها ألمًا.
_"أنت أنس؟"
صوت «إبراهيم» صدح بالمكان وهو يتابع الواقف يطالعهم، ولم يفعل سوى أنه أومأ له ووجه نظراته للمرتعبة خلف «مروان» تتمسك به بشكلٍ ملحوظٍ، بينما هي عندما سمعت اسمه التفتت سريعًا له تطالعه بتيهٍ وحزن، لم يعهدها بذلك الشكل لذلك هو مصدوم مما يراه، كاد أن يتحرك «مروان» بقوله:
"خلونا ننزل عشان الحاجة فاطمة وعبدالله يرتاحوا ..."
تمسكت به بقوة وقبضت بيدها على سترته وهي تقول بترجي والدموع مازالت تنساب على خدها:
"أنا خايفة، متسبنيش هنا!"
كانت قبل قليل تبغضه لأتهامها بأنها الفاعلة، والآن ها هي تلجأ له في خوفٍ وعينين تطلب الأمان والنجاة، نظر نحوهها ولعينيها تحديدًا ثم وجه بصره «للحاج إبراهيم» ليومئ له بأن يأخذها معه الآن، فوجه بصره لها مجددًا وحرك رأسه قائلًا بنبرة حانية:
"طب أهدي أنتِ كمان، تعالي انزلي معانا تحت شوية شمي هوا!"
تحركت سريعًا لتجاوره في خطواته بينما هو يسرق منها النظرات كل دقيقة، يراقب ملامحها التائهة المصدومة مما سمعته، وتحركا رفقة البقية نحو المجلس مجددًا واختارت أن تجلس جوار «مروان» وهي تتابع نظرات «حمزة» «وآسر» الحاقدة والحانقة عليها.
انتبهوا جميعًا لصوت «أنس» المتسائل:
"أنتِ كويسة؟"
ارتفع حاجبي «مروان» وهو يطالعه بنظرة ثاقبة ثم وجه بصره نحوهها مجددًا وسأل بهدوءٍ:
"تنفسك كويس ولا حاسة بحاجة؟"
أجابت باختصارٍ في محاولة منها لعدم إخراج المزيد من الكلمات في تلك الجلسة التي تشع نارًا:
"كويسة.. متقلقوش!"
أردف «آسر» بعينين تائهتين يفكر فيما حدث قبل قليلٍ وهو يدعو داخله بأن يمر كل شيء على خير:
"ربنا يسترها على عبدالله والست فاطمة، ربنا يعديها على خير وينتقم من اللي كان السبب!"
رفعت بصرها بترددٍ ناحية «آسر» ثم اخفضته مجددًا ليقابل الأرضية، تتذكر أول أيامها عندما حبسوها بهذا المجلس حتى يقرروا ما الذي سيفعلونه معها، نظر «مروان» «لأنس» الذي كانت أنظاره معلقة عليها لينبهه بقوله:
"بعد اللي حكيته مبقاش فيه حاجة كدا مستخبية يا أنس، بصراحة وليد عرف إنك هتتعاون معانا وكان باعتلي رسالة تهديد ومن ضمنها إنه بيجهزلك لحاجة تقيلة أوي، فأحنا لازم نقرر ونشوف هنبتدي منين عشان ناخد خطوة، المرة الجاية الحاج إبراهيم هيكلم المحامي «ثابت» ويجي عشان يفهمك القضايا ماشية إزاي!"
سحب «أنس» نفسًا عميقًا ووقف في مكانه:
"ماشي، هجيلكوا تاني بكيا "بكرا" ان شاء الله، وأنا معاكم لآخي "لآخر" لحظة عشان وليد أذاني كتيي "كتير" في شغلي، وده لازم يتيدله "يتردله"!"
ثم ألقى عليهم التحية وغادر من أمامهم نحو سيارته راحلًا من الحارة بأكملها، بينما هي اقتربت من «مروان» بشكلٍ أكبر بسبب نظرات صديقيه المرعبة التي تحاوطها، زفر «مروان» بضيقٍ وهو يبتعد في جلسته حتى لا تكون ملتصقة به فرفعت بصرها سريعًا لتقابل نظراته الواهنة التي بدأ الحقد يمتلأها، وشعرت وكأنها في عالم غريب عليها، منبوذة، لا يطيق وجودها أحد.
غادرت دموع حارقة من عينيها على خديها تسير في مجرى واضح ومؤلم، وها هي الآن تستقبل أقسى أيام حياتها.
تابعتهم يخرجون من الغرفة ثم ولج لها «مروان» وحده بعد قليل وجلس جوارها وهو يسألها بثقلٍ:
"هديتِ؟"
_"الحمدلله، شكرًا!"
أجابت باختصارٍ وصوتٍ مرتعش، ليتفوه هو مجددًا بنبرة هادئة وفي منتصف حديثه تحولت لقهرة وحسرة:
"متقلقيش محدش هيعملك حاجة، إحنا مش هنأذيكِ زي ما أبوكِ عمل مع عهد.. عهد اللي كان فرحي أنا وهي باقي عليه شهرين وأبوكِ قتلها ولبست الكفن الأبيض بدل ما تلبس فستانها اللي كانت عايزة تلبسه في أسرع وقت، زيها زي أي بنت بتحلم بيوم فرحها يجي على اللي بتحبه وبيحبها، أنا لسه عارف دلوقتي إن أبوكِ خلى رجالته الحقيرة يعملوا فيها الفعل الحقير زيهم ده، وكرهي له زاد أكتر وأكتر، مش هكدب عليكِ لو قولتلك إني كان جوايا غضب تجاهك أنتِ كمان، بس أنتِ ملكيش ذنب، وعهد ملهاش عمر، الطيبين اللي زيها خسارة في الحياة اللي إحنا بنعيشها!"
بدموعٍ مقهورة، وغصةٍ مؤلمة ابتلعتها لتستطيع التعبير عما ستقوله برجفة وعجزٍ:
"حقكم عليا، معرفش أقول إيه والله بس أنا.. يارتني أنا والله كنت مُت مكانها ولا إنها تموت وتعيشكم في القهر ده.. حتى أنا يوم ما هموت محدش هيزعل عليا ولا يتأثر بيا أصلًا، ده كمان ممكن محدش يدعيلي بعد ما أموت ولا يحضرلي عزا كمان، يارتني كنت أنا مكانها عالأقل كانت هتفضل وسط أهلها و.. وحبيبها، أما أنا وسط الوحدة بتحاوطني من كل مكان، مليش أهل.. مليش أحباب."
أنهت جملتها ببكاءٍ مرير، وعادت المشاعر السلبية تنغص عليها معيشتها مجددًا وهي تردد بحسرة:
"عارف يا مروان! لو مامي لسه عايشة مكنش ده هيبقى حالي، بس هي مشيت بدري أوي وسابتني لوحدي في الدنيا دي، كنت فاكرة كل حاجة بفلوس بابا بس دلوقتي تأكدت إن مافيش حاجة بالفلوس، وأنا دلوقتي وحيدة ولما تاخدوا حقكم وأمشي هلاقيني وحيدة لا صاحب سأل عليا ولا أي حد، أنا ليه مليش حد يحتويني ويحضني، أنا محتاجة حضن حنين يامروان، محتاجة حد يواسيني حتى ولو مرة وأنا حزينة بالشكل ده، محتاجة حاجات كتير ومحدش حاسس بيا، حاجات فلوس بابي متشتريهاش، مشاعر محدش بيشتريها بالفلوس!"
تفوهت بأصدق جملة مرت عليه؛ المشاعر لا تُشترى، والحب لا يُباع، هي الآن في ظلامٍ دامس، تتمنى ولو يد ضعيفة تمتد لها وتُنجيها من تلك الوحدة التي تحاوطها، عهدها مدللة أبيها، الآن هي مقهورة، مخذولة، مُتعبة!
أردف في محاولة من شفاء روحها بحديثه الخافت بنبرته العذبة:
"فيه حاجات بتطبطب على الروح تانية غير الحضن، ربنا سبحانه وتعالى قال {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، ربنا قريب لعبده أكتر من أي حد، وقال سبحانه وتعالى {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، اذكري ربنا كتير ياسيلين عشان قلبك يطمن، كل الفلوس اللي بتتكلمي عليها دي دنيا، بتاعت دنيا فانية آخرها قبر هندفن فيه لوحدنا ونتحاسب لوحدنا .. ربنا سبحانه وتعالى قال بسم الله الرحمن الرحيم ﴿یَـٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا مَتَـٰعࣱ وَإِنَّ ٱلۡـَٔاخِرَةَ هِیَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ﴾، وربنا سبحانه وتعالى له حكمة في إنه ميديش كل الناس كل حاجة، ممكن يكون معاكِ الفلوس بس فاقدة شعور الأمان، غيرك معاه أمان ومعهوش فلوس، غيرك ربنا كرمه بأراضي وأموال الدنيا ومبيخلفش وهو بيحب الخلفة وبيصرف فلوسه دي على العلاج، ربنا موزع على كل عبد أربعة وعشرين قيراط بالعدل، ممكن عندك يبقوا صحة وعند غيرك يبقوا ابناء صالحين يبروا أهاليهم وعند غيرك عيلة بسيطة حنونة وعند غيرك زوج أو زوجة صالحة يعيشك في جنة الدنيا ويتمناكِ في جنة الآخرة، وغيره كتير كتير ميتعدش عن عدل ربنا وكرمه بالعبد، ومتفتكريش إن ربنا مش حاسس بيكِ، ده سبحانه وتعالى قال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}!"
_" ونعم بالله، كل كلمة قولتها طبطبت عليا، بس أنا خايفة!"
قالتها برجفة واضحة ووجه محمرٍ من البكاء بشدة، ليتحدث بابتسامة خفيفة:
"بسم الله الرحمن الرحيم {قال لا تخافا إنني معكما اسمع وأرى}، ربنا سامع وشايف كل حاجة، وأكيد هيراضيكِ رضى يخليكِ في يوم بدل ما بتعيطي بقهر وحزن كدا، تعيطي بسعادة وفرحة، ولو مكنش في الدنيا، هيبقى في الآخرة ان شاء الله!"
أومأت برأسها مؤكدة على حديثه تحاول أن تدخله لثنايا قلبها لتطمئن روحها ويطمئن فؤادها، تحاول أن تستلهم من آيات الله الطمأنينة، ومن كلماته الحنونة الحنية، ومن عباراته الرقيقة الرفق.
____
وقفوا هم الأربعة والرجال يحاصرونهم من جميع الإتجاهات، تطلعوا لبعضهم تائهين للحظة؛ فما هم به الآن لم يكن سوى فخ من الخبث والخبائث، ولن يخرجوا سالمين أبدًا.
اقتربوا منهم العشرة رجال،
عشرة ضد أربعة،
الدماء ستنتشر في الإرجاء.
_"وربنا أنا لسه متعافتش من العلقة اللي فاتت!"
قالها «حمزة» بسخرية، وترقب الرجال يقتربون منهم وبدأت حلبة ملاكمة في وجوههم، بعضًا من لكماتهم على العديد من لكمات الرجال.
يتبع



السادس عشر من هنا
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close