رواية سجينة جبل العامري الفصل الخامس عشر 15 بقلم ندا حسن
“قاربت على لمس الحب، والشعور بلهفة العشق، مررت بلوعة الاشتياق فلا تعترض على مرارة الكبرياء ولا تحزن عزيزي من كسرة الأحباب”
بعد تفكير دام طويلًا ونظرات يتبادلونها الاثنين واحدة لا تبغي إلا تحقيق حلمها بذهاب غريمتها من الجزيرة بأكملها لتبقى هي الوحيدة معه فيعود عما يفعله ويترك كبريائه على أحد جوانب مذلة الحب..
أما الأخرى طال تفكيرها في كيفية الهروب ولما! ترك الجزيرة وجبل، ترك حقيقة زوجها وماضي عائلة ابنتها..
هل ستذهب ولن تنظر وراءها؟ ماذا عن الوعد الذي قطعته لجبل أنها هي المرأة التي ستكشف كل شيء وستهدم شموخه وقوته وتجعله يعود محملًا بالخيبات معترفًا بحريتها.. معترفًا بأنه لم يكن جديرًا بها ولم يستطع ترويضها..
خرج صوتها حاد واثق ومازال عقلها يعمل كـ آلة لا تتوقف عن الدوران تأتي بكل الأفكار وتحاول تجميع كل الخيوط:
-لأ يا تمارا.. أنا مش عايزة أهرب ولا عايزة اسيب الجزيرة
أكملت تنظر إليها بخبث ومكر تعلم كيف تكيدها وتجعلها تستشيط غضبًا وغيرة:
-أنا هنا في بيتي.. قصري مع بنتي وجوزي وعيلتي، وقولتلك إني لما هربت كنت لسه متجوزتش جبل لكن دلوقتي مقدرش أبعد عنه
جزت على أسنانها بعصبية وغيرة شديدة تنظر إليها بملامح حادة تود لو تتقدم منها تأتي بخصلاتها بين يديها وتلقيها خارج القصر، تحدثت بجدية:
-هديكي فرصة تفكري يا زينة وأنا بنفسي هخرجك من الجزيرة
ابتسمت بسماجة وتقمصت دور الزوجة السعيدة التي لا تستطيع ترك زوجها لحظة واحدة وأجابتها بفتور غير مبالية بحديثها عن الهرب:
-وأنا مش محتاجه أفكر يا تمارا قولتلك الهرب مش لازمني أنا هنا في مكاني ومش هسيبه
ابتسمت “تمارا” ساخرة بشدة وهي تحرك أهدابها بطريقة متهكمة عليها وسألتها باستهزاء:
-يعني أنتي مش كدابة يا زينة
جعلتها تشعر بالغيرة أكثر وهي تقول ببرود تام تذكرها بمن هي وما مكانتها هنا وكل كلمة تخرج منها ذات مغزى تصل إليها بتعالي:
-وأنا هكدب ليه؟ اسألي أي حد في الجزيرة قوليله مين هي زينة مختار هيقولك مرات كبير الجزيرة جبل العامري
امتعض وجهها وشعرت بالسخط منها، اعتدلت في جلستها تنظر إليها بحدة وعنفوان قابل للخروج في أي لحظة وتفوهت محاولة إظهار السخرية والبرود:
-ليه بتحاولي تبيني أن أمورك معاه تمام مع أن عارفه أنكم مش طايقين بعض
خرج صوت “زينة” الضاحك بصخب وارتفع عاليًا، تابعتها وهي تسألها عدة مرات وقد راقت لها اللعبة كثيرًا:
-مش ايه؟ أنا وجبل؟ معلش بس أصلًا أنا ليه ممكن أكون بعمل كده؟
أجابتها الأخرى بضيق تحاول كبته داخلها:
-علشان أنا هنا مثلًا
لوت شفتيها باستهزاء وابتعدت عينيها إلى ابنتها وهي تبتسم بتشفي ثم عادت إليها مرة أخرى تكمل دون اهتمام مقلله منها دون أن تدين نفسها:
-وايه يعني أنتي هنا ولا مش هنا.. هل ده عامل فرق، تمارا حبيبتي الشخص لما بيدي لنفسه حجم أكبر من حجمه بيخسر كتير
استردت تكمل ما بدأته ترسل إليها من خلال كلماتها أنها على علم بما كان بينهم سابقًا حتى لا تظن أن هذا سيكون فرصة لها للتغلب عليها:
-أنتي مثلا كان ليكي مكان هنا لكن زمان.. قبل ما تسيبي جبل وتمشي حتى مكانك اللي كان في قلبه أنا أخدته فأنتي بالنسبة ليا وليه مش موجودة
لا تستطيع مجابهة “زينة” تشعر بالنيران تكوي قلبها من شدة الغضب والعصبية تكاد تخرج دمائها من عروقها، فلم تستطع فعل شيء إلا الابتسام ببرود تنظر إليها قائلة بدلال:
-مش واضح.. لو أنتي شايفة كده يبقى مستغفلك
حاولت أن تزعزع ثقتها به وتظهر بأنها هي القوية ولكن “زينة” لم تترك لها الفرصة لفعل ذلك بل نفت حديثها بمنتهى البرود واللامبالاة:
-تؤ جبل مبيستغفلنيش ومش بيبص لواحده غيري وأنا عارفه ده كويس
أكملت بغرور وعنجهية:
-ولو أنا مكنتش عايزاكي في القصر كنت خليتك تمشي بكلمة مني..
اعتدلت “تمارا” تنظر إليها بشراسة قائلة بصوت جاد يشبه الصراخ عليها:
-هو ده تهديد!
تصنعت البراءة ناظرة إليها بهدوء ورفق قائلة بجدية تضغط على كل حرف يخرج من بين شفتيها:
-لأ خالص اهددك ليه.. أنا بس بحاول افهمك وأقولك تعقلي علشان جبل عنده حياة مع مراته وبنته
عارضتها الأخرى بقوة تنظر إليها بتحدي وتشفي:
-وعد مش بنته
اتسعت ابتسامتها ترسل إليها أسهم مشتعلة بالنيران تنهش قلبها من حالة البرود الذي انتابتها وقالت بثقة وغرور:
-طيب ابقي قولي الكلمتين دول لجبل ونشوف هيقول هو ايه
رأته يأتي عليهم ينظر إليها بجدية يستغرب جلوسهم سويًا فقالت لها:
-أهو جه
وقفت تقترب منه وهو يقدم عليهم وكأنها زوجة أصيلة وزوج مُحب حقًا يتبادلون النظرات ولكنه كان مستغربًا من ابتسامة مشعة مشرقة مرتسمة على محياها في استقباله..
وقف أمامهم فاقتربت منه زينة تحتضن خصره بيدها الاثنين تميل برأسها على صدره وقالت بدلال وحب مُصتنع:
-حبيبي
لحظة واحدة كانت تقرع بها الطبول داخل أذنيها وهي مستغربة من نفسها للغاية.. كيف خرجت منها هذه الكلمة كيف عبرت له أنها تحبه بقول “حبيبي” وحتى إن كان كل ما يحدث ماهو إلا تمثيل..
رفع يده يحيطها بها وقد فهم أنها تحاول كيد ابنة عمه فلم يجد شيء يفعله إلا أن يجاريها فيما تفعل.. فهذا يصب في مصلحته من الأساس
ارتعش جسد “تمارا” وهي تنظر إليهم بهذه الطريقة، يبدو أن ما قالته كان حقًا لا يوجد شيء يبقى على حاله..
لقد نسى “جبل” حبه الوحيد ونظر إلى زوجة أخيه وأحبها أيضًا، ينظر إليها بقوة وعيناه تقابل عينيها بجمود وكأن ما كان بينهم لم يكن.. يقول لها من خلال بريق عيناه أن وجودها لا يمثل فارقًا.. لا يحدد موقفًا، لا يسعد أو يحزن أحد أنها هنا كما لو لم تكن هنا..
عادت “زينة” للخلف مُبتسمة مُتصعنة كل هذا تنظر إليها بطرف عينيها، لم تكن بحاجه لاغاظتها أكثر فقد وصل إليها الغيظ والضيق ودلف إلى جسدها يجعله بالكامل في حالة غير طبيعية..
وضع جبل يده على رأس “زينة” يمررها على خصلاتها بحنان وما كان يصدر عنه هو كان حقيقي بالكامل وليس به ذرة من التمثيل، خرج صوته شغوفًا قائلًا:
-وحشتيني
ابتسمت إليه باتساع ولكن الحقيقة أنها لم تكن تستطيع مجاراته هو.. لقد كانت تحاول أن تتعالى به على تلك ابنة عمه وفعلت ذلك وجعلتها تعلم أنها المرأة الوحيدة بقلبه وحياته وكل هذا كان بالكذب..
حقًا كل قوي هناك الأقوى منه.. لا تستطيع النظر إلى عيناه والاستماع إلى تلك الكلمات القاتلة وكأنها حقيقة..
نظرات عينيه المخيفة دائمًا في تلك اللحظات كانت شغوفه نحوها، تلتمع بحنان وغرابتها تحدثها بالحب تلقي سهام العفو والمغفرة، شفتيه الغليظة التي عذبتها دومًا بكلمات من القسوة والجمود تحركت قائلة كلمات الحب والغزل، يده التي أشتدت في صفعها كثيرًا من المرات تسير على خصلاتها برفق ونعومة وكأنها قطة صغيرة تحتاج لمن يحنو عليها..
تابعها ينظر إلى عينيها السوداء يخرج منها سؤال وخلفه سؤال، من أنت يا حضرة القاضي؟ من أنت أيها الجلاد؟ يشعر بتردد شفتيها بعدما زل لسانها وهتف بكلمة من كلمات الغرام التي لم تعتاد يومًا على قولها ويظن أنها لن تعتاد.. ولأول مرة على الإطلاق تقترب منه إلى هذا الحد بكل هذه الرغبة تضمه إليها!..
تبادل النظرات كان عنيف للغاية، حرب ضارية ولجوا بها سويًا وكل منهم يبحر داخل أعين الآخر في محاولة بائسة منه معرفة ما المخفي داخله وما السبيل للوصول إليه..
خرج من كل هذا وهو يُشير إليها أمامه قائلًا بصوت رجولي أجش أثرت عليه مشاعره:
-تعالي معايا عايزك
ذهبت معه إلى الداخل وتركوا خلفهم قلب يشتعل، يحترق، نيران تأججت داخله فقتلت كل ما به، الغيرة تنهش داخلها، روحها تزهق بسبب نظراته نحوها وحديثه معها.. لم يهتف يومًا لها بكلمة من كلمات الغزل.. لم يفعلها يومًا.. إلى هذه الدرجة قامت بتغييره؟
لن تتركه، لن تصمت وتتركه يُسلب منها بهذه الطريقة المهينة.. إنه كان ملك لها هي من تركته ومن ستعيدة مرة أخرى.. لن تكون لغيره وهو لن يكن لغيرها..
ستنشب حربًا قريبًا ستخرج منها فائزة فرحة بجمع الغنائم..
ولج إلى الغرفة وهي خلفه أغلقت الباب ووقفت تنظر إليه محاولة الثبات تمحي ما فعلته بالأسفل منذ قليل تتعامل بهدوء وكأن لم يحدث شيء ولكنه لم يسمح لها بهذا بل بقي ينظر إليها بابتسامة خبيثة ماكرة يتابعها بزاوية عينيه..
يعلم أنها تريد أن تمحي ما حدث ولكنه انتهز الفرصة بسرعة ينظر إليها ضاحكًا، اغتاظت منه فاقتربت تُشيح بيدها بهمجية قائلة بانفعال:
-ايه.. ايه بتبصلي كده ليه
استقام في وقفته ينظر إليها محاولًا كتم ضحكته التي تريد الفرار من بين شفتيه:
-ولا حاجه مالك
أشارت إليه بيدها مضيقة عينيها السوداء عليه تدرك جيدًا إلى ماذا يريد أن يصل فقالت موضحة:
-بقولك ايه أنا فهماك كويس.. اللي عملته ده كان بسبب تمارا دي بنت مستفزة
سألها مُبتسمًا مُعتقدًا أنها تبرر فعلتها ليس إلا:
-ليه؟ ايه الحاجه الكبيرة أوي اللي عملتها خلتك تتخلي عن كل حاجه وتقربي مني كده
أشاحت بيدها وهي تبتعد للخلف تتحدث ببرود ولا مبالاة:
-كانت عايزاني أهرب ومصدقتش إني مش عايزة وإني مغصوبة فاضطريت أعمل كده علشان تصدق زي ما أنت عملتها قبل كده
أقترب منها وتحولت ملامح وجهه للجدية التامة والحدة الخالصة يقف أمامها يسألها بقسوة وخشونة:
-كانت عايزة ايه؟
نظرت إليه ولم تدرك ما فعلته إلا بعدما باغتها بنظراته الغاضبة والشرسة الموجهه نحوها، لم يجد منها ردًا بل وقفت متوترة فصاح بعصبية:
-انطقي.. كانت عايزة ايه
أردفت كاذبة كي تنهي الأمر قائلة بهدوء:
-استفزتني بالكلام إني حاولت أهرب قبل كده وإني ممكن أعملها
أقترب منها ليقف أمامها مباشرة عيناه منصبة على عيناها وملامحها ومن خلال توترها ونظراتها المشتتة نحوه علم أنها كاذبة فقال بقوة:
-أنتي كدابة.. قولي الحقيقة يا زينة وإلا مش هيحصل كويس
ضغطت على شفتيها بعنف وأبعدت عينيها للفراغ بعيدًا عنه قائلة بإيجاز:
-كانت عايزة تساعدني أهرب من الجزيرة
ضغط عليها وهو يقوم بالإمساك بيدها عندما فهم أنها تريد الهرب منه ومن حديثه يهتف متسائلًا مضيقا عينيه عليها:
-قالتلك ايه بالحرف
لم تجد مفر آخر بعيد عنه فقالت ما حدث بجدية:
-قالتلي أنها ممكن تساعدني يا جبل علشان أهرب من هنا وأبعد عنك من غير ما حد يعرف ولا حد يمنعني لأنها تقدر تعمل كده.. فأنا حاولت افهمها إني مش عايزة
استردت تكمل مبررة ما فعلته:
-بس هي كانت فاهمه إني بكدب وأننا مش كويسين مع بعض أصلًا علشان كده لما أنت جيت عملت كده وقربت منك
صمت للحظات وهو يتابع وجهها وملامحها المتغيرة كل لحظة والآخرى، ضغط على يدها وهو ينظر إليها بعمق متسائلًا:
-أنتي رفضتي؟
أومأت إليه برأسها قائلة بتأكيد:
-أيوه رفضت
سألها مستغربًا محركًا رأسه بغرابة وذهول ولم يكن يتوقع أن ما قالته سابقًا ستفعله حتى وإن أتت إليها فرصة للهرب منه:
-ليه؟
جذبت يدها منه بإصرار قائلة بجدية وثقة ورأسها عاليًا تنظر إليه بقوة وتأكيد:
-مش عايزة أخرج من الجزيرة.. أنا وعدتك إني هفضل ووعدت نفسي إني مش هامشي غير لما أعرف كل حاجه بتحصل ووقتها هقرر ايه اللي هعمله
تابعها للحظات ثم سار مبتعدًا عنها متجهًا يفتح باب الغرفة قائلا بانفعال:
-هي اللي جابته لنفسها
علمت أنه سيتوجه إليها يحاسبها عما أرادت فعله ولم يروقها ذلك الأمر فبهذه الطريقة ستظهر أنها امرأة خبيثة حقودة:
-جبل رايح فين
لم يستمع إلى حديثها ولم يُجيب عليها بل استمر في طريقه إلى الأسفل تخترق كلماتها المنفعلة أذنه:
-جبل ماينفعش كده أنت عايز تطلعني كدابة مش معقول اللي بتعمله
لحقته وهو يهبط الدرج متقدمًا للأسفل تمسكت بيده بقوة تحاول إقناعه قائلة بصوتٍ جاد:
-أنا قولتلك اللي حصل وخلاص مش لازم تعمل مشكلة وتطلعني وحشه كده
أبعد يدها عنه مقررًا عدم التنحي عما يريد فعله قائلًا بقسوة وعنف وهو يدفعها عنه:
-اخرجي من الموضوع ده يا زينة
أتت والدته على صوتهم المرتفع خرجت تنظر إليه واقفة أسفل الدرج متسائلة باستفهام:
-في ايه يا جبل
خرجت تمارا وفرح من الغرفة خلف والدته لينظروا إلى “جبل” و “زينة” أعلى الدرج بغرابة ولا يفهم أحد منهم ما الذي يحدث..
نظر إلى “تمارا” عندما خرجت من الغرفة بعنف وقسوة، يبعث إليها من خلال عيناه كم يكرهها ويبغض النظر إليها، أبتعد عن زوجته وهبط إليها ليقف أمامها مشتعلًا بالغضب يسألها:
-قوليلي ايه بقى اللي قولتيه لزينة
تقدمت زينة سريعًا تجذبه من ذراعه قبل أن تجيب ابنة عمه قائلة بانفعال منزعجة من طريقته وما فعله:
-جبل خلاص محصلش حاجه لكل ده
نفض ذراعه منها وأبصرها بحدة قائلًا بغلظة:
-قولتلك اخرجي من الموضوع ده.. أنا هعرف اتصرف كويس مع اللي زيها
نظرت إليه “تمارا” بقوة وذهول وعينيها متسعة عليه من هول الصدمة، إلى هذه الدرجة أصبحت لا تعنيه في شيء.. إلى هذه الدرجة!.. كررت كلمته بصدمة:
-اللي زيها
أقتحم مكانها واندفع يتمسك بذراعها قابضًا عليه بقوة ألمتها وتحدث أمام وجهها بغضب وعنف، ونبرته لا تحمل إليها إلا القسوة والبغض:
-آه اللي زيك.. عايزة زينة تهرب ليه؟ مفكرة أنها زيك مش كده؟ عايزة تسهلي ليها طريق الخروج من الجزيرة وتكرري اللي حصل قبل كده.. عايزة يبقى أنتي بس اللي قدامي
دفعها للخلف بقوة فتراجعت للوراء واستمعت إليه يقول باشمئزاز:
-تعرفي إن حتى لو زينة مشيت وسابت الجزيرة أنا مش هبصلك يا تمارا.. وجودك زي عدمه في حياة جبل العامري
اغتاظت مما فعلته وكوتها نيران الغيرة مرة أخرى وأخرى فصاحت قائلة ثم وجهت حديثها لها بعنف:
-هي لحقت تقولك.. أنا كنت عايزة أساعدك يا مدام زينة معرفش إنك عصفورة سريعة كده
بررت “زينة” موقفها محاولة تجميل مظهرها الذي شوهه هو بفعلته تلك:
-أنا مكنش قصدي أقوله
صدح صوته عاليًا يصرخ عليها مناديًا باسمها لأنها تبرر لها ما حدث:
-زيـنـة
ضيق عينيه عليها، محى كل ما كان بينهم من حب وذكريات، أنفاس لاهثة وغرام واشتياق، تناسى كل شيء بمجرد تركها له.. إذا فالعودة لا تشكل فارقًا..
أردف بصوت حاد غليظ مهددًا إياها تهديد واضح وصريح وهو كفيل به ويستطيع تنفيذه الآن:
-ده أول وآخر تحذير ليكي يا تمارا.. الغلط الجاي أنا بنفسي هرميكي بره الجزيرة
نظرات نارية خرجت من عيناه تجاهها غير مهتم بنظرات عينيها التي تبادلة بصدمة وخذلان تحاول أن تبعثه إليه ربما بعطف عليها ولكنه استمر على وضعه ثم استدار تاركًا إياها يرحل عنهم.. لاعنًا الساعة التي أتت بها هنا مرة أخرى..
تابعته زينة وهو يرحل فنظرت إليها لتجدها تبعث إليها جمرات من النار فقالت بجدية محاولة تبرير ما حدث:
-أنا مكنش قصدي أقوله.. وافهميها زي ما تفهمي بس بجد مقصدتش
لم تستمر طويلًا هي الأخرى وتركتها وذهبت إلى الأعلى غير عابئة بنظراتها النارية نحوها المعبئة بالغيرة والحقد الواضحين للغاية.. على ملامحها وحديثها وتصرفاتها..
لم يتبقى سوى هي وشقيقته ووالدته التي تقدمت نحوها لتقف أمامها تنظر إليها بعيون قاسية عنيفه لن ترحمها أو تغفر لها..
خرجت الكلمات بقسوة من بين شفتيها:
-أنا قولتلك ايه أول ما جيتي يا تمارا؟ الظاهر أنك مفهمتيش كلامي كويس
أكملت بوضوح تستمر في تهديدها كما فعل ولدها منذ لحظات:
-زي جبل ما قال.. أول وآخر غلطة والجايه بموته لو مش منه مني ولو مش مني منه.. حافظي على اللي باقيلك واكفي خيرك وشرك لنفسك..
استردت بجدية شديدة تؤكد مرة أخرى وملامح وجهها لا توحي بالخير أبدًا:
-زينة ووعد مش هيطلعوا من الجزيرة.. بقت مرات جبل خلاص وهي قاعدة هنا برضاها مش غصب
ألقت عليها نظرة أخيرة ثم تركتها ورحلت ولكنها أقسمت بداخلها إن بدر منها شيء آخر ولو كان كالهفوة لن ترحمها ولن تجعل غيرها يرحمها.. ستكون هي الجاني على نفسها..
بينما وقفت تمارا حائرة، تنظر إلى الجميع الذي تبدل حالهم من الحب إلى القسوة، واجتاحت ثنايا عقلها الصدمة التي أخذتها منه هو بالأخص وكأنه لم يحبها يومًا ولكن.. هل سيمر ما حدث!..
❈-❈-❈
سارت في شوارع الجزيرة بحماس، لهفتها تظهر على ملامحها ونظرتها الشغوفة التي تدور في كل إتجاه..
كانت ترتدي بنطال من الجينز الأزرق يعلوه قميص أبيض يشبه أقمصة الرجال تضعه داخل البنطال يحاوط خصرها حذاء نسائي رقيق..
التفت حول نفسها وهي تسير بين الناس في الجزيرة تنظر إلى بيوتهم وأماكن عملهم، تتابع الأطفال بشغف وحب كبير تنظر إلى النساء باستنكار عندما يبادلونها نظرات مستغربة من هيئتها الغريبة عليهم..
النساء ترتدي عباءة سوداء ووشاح على رأس كل منهن تغطي به خصلاتها وهي الوحيدة فقط التي سارت بينهم بخصلات شعرها صفراء اللون الحريرية..
نظرت إلى “عاصم” الذي كان يسير جوارها ينظر إلى فرحتها بحب ولهفة، خرج صوتها الرقيق وهي تعتدل في سيرها تنظر إليه بسعادة قائلة:
-أنا مبسوطة أوي إنك خرجتني
بادلها نظرة عاشق متلهف وابتسامة رائعة تظهر على محياة تجعلها تنكمش على نفسها خجلًا غير مصدقة أن كل هذا لها:
-وأنا مبسوط علشانك
اتسعت ابتسامتها وهي تنظر أمامها على الأرضية تسير برقة وتحدثت بدلال وغنج:
-شكرًا يا عاصم
أمسك بيدها يجذبها عندما وقفت أقدامهم أمام بيت كبير في الجزيرة يهتف بجدية:
-تعالي
سألته وهي تسير خلفه لا تعلم إلى أين يأخذها مضيقة عينيها عليه:
-على فين
جذبها إلى باب البيت ووقف أمامه يخرج المفتاح من جيبه قائلًا بجدية:
-تعالي بس هوريكي حاجه
وقفت تتابعه إلا أن فتحه وتقدم إلى الداخل يأخذها معه ينظر إليها بلهفة متشوقًا للقرب منها، باغته سؤالها المُستفسر:
-هو إحنا هنا فين! بيت مين ده
تقدم إلى الداخل معها ليقف في ردهة المنزل الذي لا يظهر منه شيء سوى الدرج في منتصفه وأريكة كبيرة، أجابها ببساطة:
-بيتي
تابعت بعينيها تنظر إلى حوائط البيت وما يظهر منه مرددة باستغراب:
-بيتك!
أومأ إليها برأسه مبتسمًا محركًا شفتيه مؤكدًا ما قاله:
-آه
تقدمت للأمام تسير مبتعدة لتخرج من المنزل بعد أن دق قلبها بعنف يقدم إليها إنذار معلنًا عن الخطر الذي يحيطها:
-طيب يلا نمشي
ذهب خلفها مناديًا إياها قائلًا بلهفة:
-استني
استدارت تنظر إليه، نظرة خيالية، جذبته إلى الوراء تعود به إلى لحظات لا يدركها إلا معها، سألته باستفهام:
-ايه
أشار إليها بيده إلى الداخل يتحدث بجدية ونظرته نحوها هادئة:
-تعالي هوريكي البيت.. اتفرجي عليه..
رفضت مقاطعة إياه قائلة بحزم:
-لأ خلينا نمشي.. فرجني على الجزيرة
أقترب منها ووقف أمامها ينظر داخل عينيها مباشرة يستقبل خوفها ورهبتها منه، يفهم شعورها ومحاولة هروبها السريعة، قال بصوت أجش يسألها:
-أنتي خايفة؟
ارتبكت وهي تستمع إلى سؤاله وتنظر إلى ملامحه الحادة، وكأنها تعرت أمامه وجردها من ملابسها وكل شيء يسترها عندما أدرك خوفها منه:
-وهخاف من ايه
ابتسم بخبث وازداد مكره قائلًا:
-مني مثلًا
فركت يدها الاثنين ببعضهم البعض وهي تعود للخلف خطوة مرة أخرى تبتعد عنه لتذهب من باب المنزل إلى الخارج قائلة بتعلثم وخوف:
-وأنا… أنا هخاف منك ليه
أقترب منها وعبر من جوارها فاستدارت تنظر إليه سريعا بلهفة وتمكن منها الذعر وهي تراه يغلق الباب وعاد ينظر إليها بقوة:
-أنت قفلت الباب ليه.. افتحه
تقدم ببطء شديد يسير في اتجاهها قائلًا ببرود ولا مبالاة يتابعها بعيناه الذي تحول بريقها:
-ولو مفتحتوش
كلما تقدم منها كانت هي تبتعد للخلف تنظر إليه غير مصدقة ما يفعله معها، يرهبها أكثر من كونه يسعدها، صاحت بصوت عالي نسبيًا متوترة للغاية خائفة مما هو قادم عليها خاصة بعدما رأت ملامحه تتغير:
-عاصم.. بلاش هزار لو سمحت، أفتح الباب
رفض حديثها بمنتهى السهولة واللا مبالاة ناظرًا إليها ببرود ونظرته نحوها جامدة وكأنه غير متأثر بأي شيء حوله:
-مش هفتحه
ابتعدت قليلًا إلى الناحية اليمنى حتى تسير وتعبر من جواره ولكي يكن هناك مسافه بينهم، حاولت فعل ذلك ولكنه أقترب منها وهي تبتعد متقدمة إلى باب المنزل يتمسك بيدها بين قبضته بقوة واستماته فصرخت به بغضب:
-أنا عايزة أمشي
ضغط بكف يده على يدها أكثر وكل لحظة والآخرى يغير نظرة عينيه عليها فالأن رأته يتمثل أمامها في هيئة “جلال”:
-اوعا أنت ماسكني كده ليه.. سيب أيدي
كشف عن أسنانه البيضاء وهو يبتسم باتساع يستهزأ بها قائلًا:
-ولو مسبتش هتعملي ايه
نظرت إليه قليلًا وهي تحاول أن تجذب يدها منه دون حديث، تكونت العبرات داخل مقلتيها محاولة تحرير نفسها منه وصاحت بصوت مهزوز متعلثم خائفة منه:
-عاصم أنت اتجننت اوعا أنا عايزة أمشي
أقترب منها ليقف أمامها مباشرة، ترك يدها ورفع كف يده إلى وجنتها يسير عليها برفق ونعومة، مقتربًا بوجهه أمام وجهها يستند بجبينه إلى خاصتها، ثم خرج صوته الأجش قائلًا:
-أخر حد تخافي منه أنا.. أنا أقدر احميكي من نفسي قبل أي حد
شعر بعلو صدرها وهبوطه، يستنشق أنفاسها اللاهثة بعنف وجنون وللحظة شعرت بأن النهاية المكتوبة حقيقيًا وقعت، هربت من براثن شخص لتقع مع آخر..
دفعته بعنف وقوة بكلتا يدها الاثنين وعادت للخلف تبتعد عنه تنهمر عبراتها بغزارة صارخة به بنبرة خائفة:
-أنت خوفتني
رفع يده الاثنين أمام وجهه عندما وجدها بدأت في البكاء بهذه الطريقة الحادة قائلًا بأسف:
-أنا آسف مكنش قصدي.. أنا كنت بهزر معاكي مش أكتر
صرخت بوجهه ومع ذلك كانت نبرتها رقيقة هادئة:
-ده مش هزار
حاول الإقتراب منها وهو يتحدث بأسف معتذرًا عما بدر منه ينظر إلى خوفها وارتعاش جسدها الظاهر أمامه:
-أنا آسف طيب سامحيني.. بجد آسف مش قصدي أعمل فيكي كده
عادت تبتعد عنه وجسدها ينتفض، لعن نفسه وهذه الفكرة الغبية التي طرأت عقله دون سابق إنذار، لم يجد شيء يفعله وهي بهذه الحالة إلا أن يذهب معها إلى الخارج:
-يلا نمشي طيب..
أشار لها بيده محاولًا أن يجعلها تطمئن فهي تنظر إليه بشك وغرابة ترسل إليها بعينيها عبارات الحزن والخذلان منه:
-أهو خلاص أمشي مش هعمل حاجه ولا هتكلم أنا آسف
عادت مرة أخرى تبتعد عنه تنساب دموع عينيها بشدة تنظر إليه بعتاب خالص وتوابع ما يقابله منها لن يكن جيد أبدًا..
حاول التحدث نادمًا يوضح لها أنه لن يفعل لها أي شيء ولن يقوم باذيتها معترفًا بما كنه قلبه عن الجميع سواها:
-إسراء.. إسراء أنا مش ممكن اذيكي. أنا بحبك
اتسعت عينيها الدامعة ووقفت ثابتة تنظر إليه تحيط نفسها بيدها الاثنين غير متوقعة أن يلقي عليها قنبلة محملة باللهفة والحب..
أكمل وملامح وجهه تتجه إلى اللين يُشير إلى نفسه غير قادرًا على استيعاب ما حدث أو حتى شرح ما يريد قوله فلم يكن في حسبانه أن يعترف إليها:
-صدقيني أنا بحبك.. مهما اوصفلك حبي ليكي عامل إزاي مش هتفهمي ولا تصدقي حتى
وجدها كما هي تنظر إليه بنفس الطريقة الخائفة، مستغربة مصدومة لا تفقه شيء فيما يحدث الآن فعاد يقسم يقول بلهفة وصوت أجش:
-قسمًا بالله بحبك وعمري في حياتي ما واحدة حركت مشاعري زيك ولا اهتميت بيها زيك ولا حسيت أنها مسؤولة مني.. أنتي بس اللي خطفتني من نفسي وحياتي
ضيقت عينيها عليه ولم تعد تشعر بأي شيء، أي شعور ينتابها لا تدري، أهو صدمة؟ أو سعادة لأجل أنه اعترف بحبها، أو خوف لأجل ما فعله بها، استمرت على وضعها هذا فقال يتسائل مضيقًا عينيه عليها خائفًا من ردها:
-كلامي مضايقك؟ أنا بقول الحقيقة وعارف إنك حاسه بنفس الشعور من ناحيتي.. صح
استرد مرة أخرى بخوف أكبر من السابق، عيناه تتحرك عليها بلهفة وشغف ولكن قلبه يدق بعنف لطول صمتها ونظراتها نحوه:
-اتكلمي عرفيني على الأقل ابقى فاهم أنتي عايزاني ولا لأ.. بلاش اتعشم
أقترب منها خطوة والأخرى خلفها، وسألها بصوت خافت ضائع بين جدران غرامها:
-عايزاني زي ما أنا عايزك؟ بتحبيني؟
لحظة والأخرى وهو يقترب منها، ومازالت هي تحيط نفسها غير مستوعبة أي مما يحدث فوقف ضائع غير مبالي بأي شيء يستقبل رفضها له وكسرة قلبه، في لحظة يعاني شعور الألم بعدما فهم صمتها رفض وعدم تقبل لما عبر عنه واعترف به..
نظر إلى الأرضية بخيبة أمل ثم رفع رأسه ينظر إليها يُشير بيده إلى الخارج كي يذهب معها وما كاد إلا أن يتحدث وجدها تبعد ذراعيها عنها تومأ برأسها عدة مرات تعلمه باستقبالها اعترافه بكل سعادة وابتسامتها تتسع أكثر وأكثر تزيل عباراتها بأصابع يدها المرتجفة..
ابتسم بسعادة كبيرة، غمرته الفرحة واللهفة للاقتراب منها ونيل عناق حاد يكسر فيه أضلعها في محيط جسده.. أومأ برأسه بسعادة غامرة وهو يقول غير مصدق:
-أيوه!.. بجد؟
مرة أخرى أومأت له برأسها وتناثرت فراشات الحب بينهم وهو على بعد خطوات منها ينظر إليها بهيام وغرام عينيها يناديه إلى الأعمق من وقلبه يشتهي القرب وجسده يآن متالمًا ابتعادها تلك المسافة..
كبت جموح نفسه، واخرس نبضات قلبه ينظر إلى زرقة عينيها وبريق العشق داخلها، خجلها وما به من نهر تبحر داخله تغوص ولا تريد العودة أبدًا حتى وإن قارب على الغرق.. ملامح طفلة بريئة لا يريد الابتعاد عنها ولا تركها لغيره، لا يريد إلا أن تكون له ملكه ومعه هو فقط.. ينظر إليها وإلى كل ما بها معترفًا بأن الحب لا مثيل له وخاصة إن كان بالرضا والحلال،
هبطت بنظرات عينيها إلى الأرضية بعدما بلغ الخجل ذروته، ملامحه الرجولية وصوته الأجش المعترف بحبه لها أغراها وجعل الغنج يتملكها، عيناه الحادة التي لانت فقط عندما رأى خوفها، جسده الصلب الذي يبتلعها أن وقفت أمامه لم يميل إلا عندما شعر بارتعاش جسدها..
أنه “عاصم”، وكيف للحب أن يكون هكذا معه، ضربات سريعة نبضات متكررة راكضة، خجل مميت، نظرات تلقي بأسهم الحب والغرام، جسد يشتهي القرب ولو بعد حين..
إنه الجوى، الذي انكوت بنيرانه معه، تعبر على جسر المشاعر المختلفة غير قادرة على تحديد أي منهم، أهو حب، لهفة، غرام، حنين، شغف، رعبة.. وما غير الهوى سيكون متعدد المشاعر!..
❈-❈-❈
رأته يخرج من المرحاض يجفف خصلات شعره بمنشفة صغيرة بيده، ينظر إلى الأرضية سيرًا في الغرفة، ولجت إليه حيث أنها كانت تقف في الشرفة تابعته بعينيها ورأت اللا مبالاة وهدوءه الذي يتحله دائمّا فقالت بجدية تقترب منه واضعة يدها الاثنين أمام صدرها:
-مكنش ليه داعي كل اللي عملته
ألقى بالمنشفة على الأريكة ونظر إليها بحدة وانفعال، منذ الصباح تثرثر بنفس الحديث ولا يشغل تفكيرها إلا مظهرها أمامها كيف لها أن تقول ما حدث له بهذه السرعة! أليست زوجته هي!، ضغط على حروف كلماته بانفعال يماثلها:
-بالنسبالي أنا ليه ستين داعي.. اتجرأت وعرضت عليكي أنها تهربك، بعد كده هتعمل ايه؟ لازم تقف عند حدها يا إما ترجع مكان ما جت
رفعت حاجبيها تعمق نظرها وتفكيرها في انفعاله الزائد عن حده وأردفت ببرود متسائلة:
-هو أنت محموق كده ليه! أنا مش فاهمه
عبثت ملامحه زافرًا الهواء من رئتيه بانزعاج شديد قائلًا بحدة يتقدم منها:
-محموق علشان كنت متوقع تهربي، لو كان اللي في دماغي صح وهي نجحت أنها تخرجك بره الجزيرة كان زماني بدور عليكي ومش لاقيكي
بادرت بالكلمات وهي تبتسم بزاوية فمها تسخر منه مردفة:
-وأنا أهمك في ايه
اشاح إليها بيده بهمجية ينظر إليها باستغراب شديد وعيناه تطلق الشرر نحوها فيكفي ما تخفيه عنه:
-أنتي مراتي بلاش جنان
لحظات من الصمت حلت عليهما معًا، شعرت بحرقة تخرج من بين شفتيه مع نطقه بتلك الكلمات البسيطة التي تدل على أنها ملكه هو، حمحمت واعتدلت في وقفتها قائلة برفق:
-بس أنا مش ههرب يا جبل متقلقش.. يوم ما أطلع من هنا هيبقى بمزاجك ومزاجي
ابتسم ساخرًا يشير إليها بيده باعثًا إليها اليأس من خلال نبرة صوته الساخرة ونظراته المتهكمة بسبب حديثها:
-يبقى كده مش هتخرجي من الجزيرة أبدًا
أبتعد من أمامها في الغرفة فعادت للخلف تتمسك بأحد أعمدة الفراش تنظر إليه وهو منشغل عنها يعطي إليها ظهره، تذكرت ما حدث في الجبل وهي أخفته عنه، طوال الوقت تفكر وتحاول الوصول إلى أي شيء تبحث بين العاملات في المنزل، تحاول أن تأخذ الحديث منهن عنوة ولكن لا فائدة، لا والدته تتحدث ولا شقيقته وليس هناك ما تستطيع الوصول إليه من خلال أي أحد وإن لم تقدم خطوة للأمام ستبقى حقًا عمرها كله هنا دون معرفة شيء ولن ترحل كما قال
تنهدت بصوت مرتفع وتابعته قائلة بتردد وخوف من نتيجة ما تريد فعله:
-أنا عايزة اعترفلك بحاجة
استقام في وقفته واستدار ناظرًا إليها بهدوء دون انفعال يتابعها منتظرًا أن تقول ما يريد أن يستمع إليه:
-حاجة ايه
ابتلعت غصة وقفت بجوفها عرقلت الحديث على شفتيها، أبصرت عيناه الحادة بتوتر شديد والرهبة تقتلها:
-أنا خرجت وراك وأنت في الجبل
ظل يتابعها بأعين مفترسة، تفترس كل انش بوجهها تتابع حركاتها دون حديث ينظر إلى ارتجاف جسدها وخوفها الشديد منه، اخفضت عينيها عندما أطال هو النظر تبتعد عن محاصرته لها والتي لم تفهم منها ما الذي يشعر به.. الغضب مما فعلته أو الصدمة مازالت تلجمه.. أخرجت الهاتف من بنطالها وفتحته تقدم إليه التسجيل قائلة بصوت واثق محاولة الثبات أمامه:
-وصورت كل اللي حصل ووصلني أنك زي ما قولت بس أنا لسه رافضة ده معرفش ليه حتى
جلست خلفها على الفراش، حائرة خائرة القوى، لا تدري لما لا تصدق ما هو عليه ولا تدري لما إلى الآن تلتمس العذر لوجودها
قالت تنظر إليه باستغراب والحيرة تنهش عقلها تشتته أكثر مما هو عليه:
-واللي أكد رفضي.. الراجل اللي كان بيصوركم، يا أما هو معاك يا إما هو ضدك
أقترب منها وأخذ الهاتف من يدها منفعلًا بضراوة مما فعلته يصيح بصوت حاد خشن ناظرًا إليها بحدة:
-أنا عارف إنك خرجتي ورايا.. وكنت مستني إنك تيجي تقولي لكن مكنتش أعرف أنك صورتي اللي حصل
لم تستطع الحديث أمام نظراته عليها التي اربكتها للغاية، دومًا كانت لا تخاف لا تهاب أحد ما دام ما تفعله لا يغضب أحد ولا يؤذيه ولكنه الوحيد الذي جعل قلبها يرتعش داخل قفصها الصدري وتخاف من تلك اللحظات الهمجية التي يمر بها..
اخترق صوته أذنها يسأل باحتدام وحنق:
-صورتي ليه؟
خرجت منها تنهيدة أكثر حيرة وارتباك، فهي إلى الآن لا تجد سبب واضح وصريح فعلت هذا من أجله، قالت بتشتت:
-معرفش، يمكن علشان يبقى دليل في ايدي يدينك رغم إنك مش ظاهر، أو يبقى سبيل الخروج لو حبيت بعد كده.. بجد معرفش بس لقيتني بعمل كده
عبث بالهاتف بعد أن استمع حديثها قليلاً يتمسك به ثم أقترب يقف أمامها شامخًا يلقيه جوارها على الفراش قائلًا بحدة وشماته:
-واديني محتلك سبيل الخروج…
أكمل مبتسمًا بشر وسخرية بذات الوقت يقترب بيده منها يملس عليها برفق:
-علشان مافيش خروج يا غزال
تعلقت بعينيه، تذكرت ذلك الرجل متعجبة لتقل دون إنذار:
-مشوفتش منك رد فعل على الراجل اللي كان بيصورك
أبتعد يرسم الحيرة على وجهه واضعًا يده الاثنين بجيوب بنطاله يقف شامخًا كما عادته في تلك المواقف قائلًا بقسوة ظاهرة عليه:
-هعرفه.. متقلقيش
أبتعد أكثر ليخرج من الغرفة فوقفت سريعًا وجذبته من ذراعه متعلقة به تحيط عينيه بنظراتها المتوسلة وملامحها الواهية ونبرة صوتها تخرج بخفوت وارهاق:
-جبل… مش عايز تقولي حاجه!
حرك عينيه عليها ينظر إلى كل ما بها ويصل إليه شعورها يدلف قلبه مباشرة شاعرًا بالشفقة نحوها، تسائل بخشونة:
-حاجه زي ايه
لمست الشفقة في نظرته نحوها فحاولت أن تستعطفه أكثر وهي تحيد عليه متمسكه به أكثر قائلة بلين ورفق:
-حاجه تبرأك قدامي
قهقه ضاحكًا بصوت مرتفع مفتعلًا جلجلة في الغرفة وهو ينظر إليها باستهزاء:
-ومين قالك إني عايز ابقى برئ قدامك
ضغطت على ذراعه بيدها بين قبضتها القوية ترفع عينيها إليه متفوه تتوسله:
-أنا عايزة
شعر أنها تتمادى أكثر كل يوم، وفي كل جلسة وتجرأت أكثر عندما أصبح لين معها يتحدث برفق واريحية مبتعدًا عما كان يفعله معها سابقًا..
أراد أن يذكرها أنه هو مثلما كان لم يتغير به شيء، يخبرها أنه المتحكم الوحيد في كل ما يفعله إن كان لين أو قسوة:
-زينة.. جبل بتاع دلوقتي هو نفسه بتاع قبل كده، أنا بس اللي متهاون معاكي لكن كل ده بايدي أنا متفكريش إني ضعفت أو اتغيرت أنا هو جبل العامري اللي مشوفتيش أقذر منه
تركت يده وابتعدت للخلف نادمة على ما أقدمت عليه معه فهو كلما أرادت القرب لفهم وإدراك ما يحدث صدمها في حائط صلبه وقسوته، عقبت على حديثه بقلة حيلة:
-وأنا لسه زينة اللي وقفت قصادك في كل حاجه قولتها، بس بحاول ألاقي حاجه كويسه فيك.. هتقولي ليه هقولك معرفش بس يمكن علشان رضيت ابقى هنا وفي نفس الوقت مش عايزة ابقى مع مجرم
ابتسم باستهزاء شديد مبتعدًا عنها متقدمًا من باب الغرفة قائلًا بخبث وحقارة:
-اللي فات كان نزاهة وبراءة.. اللي جاي كله إجرام
فتح باب الغرفة تحت أعينها بحقارته وتلك النظرة الدنيئة، ما كاد إلا يخرج ولكنه وجد شقيقته “فرح” تقف أمام باب الغرفة قاربت على دقه لكي تناديه ولكنه سبقها وفتحه
سألها مضيقًا عينه عليها:
-مالك
أجابته بنظرة حزينة وصوت مرهق ضعيف:
-عايزة أتكلم معاك
أشار إليها بالولوج إلى الداخل، دلفت تنظر إلى “زينة” نظرة عادية خالية من أي مشاعر، جلست على الأريكة فأغلق الباب وعاد مرة أخرى إلى الداخل ليجلس أمامها على المقعد متسائلًا بنبرة اعتيادية:
-اتكلمي
رفعت بصرها إلى “زينة” مرة أخرى فشعرت أنها لا تبتغي وجودها لتستمع إلى الحديث الذي سيدور بينهم فتقدمت “زينة” تخرج من الغرفة قائلة:
-أنا هنزل تحت
عرقلت طريقها “فرح” عندما اعترضت على حديثها قائلة:
-خليكي يا زينة
صمتت كثيرًا بعدما عادت إلى الداخل تجلس على الفراش فوضع “جبل” مفصل يده على ذراع المقعد يستند بإصبعيه السبابة والإبهام على وجهه بحركته المعتادة دليل على الملل الذي يشعر به..
خرج صوته ببرود:
-مطولين إحنا
ترقرقت الدموع بعيونها وهي تنظر إليه، هبطت بها إلى الأرضية تحرك أهدابها وارتجف جسدها خوفًا مما هي مقدمة عليه ثم قالت متعلثمة:
-أنا عملت مصيبة
اعتدل في جلسته عندما شاهد حالتها التي تغيرت مئة وثمانون درجة ينظر إليها بتمعن شديد متسائلًا بقوة:
-عملتي ايه
اجهشت في البكاء بعدما سألها فوقفت “زينة” تنظر إليها باستغراب لترفع “فرح” إحدى عينيها وهي تبقى قائلة دون سابق إنذار تلقي قنبلة موقوتة داخل مجلسهم:
-أنا حامل
هب “جبل” واقفا تجتاح خلايا جسده بالكامل الصدمة والذهول ينظر إليها بغضب عارم وقسوة خالصة مميته قهرية على حالها..
وضعت “زينة” يدها على فمها تشهق بعنف غير مستوعبة تلك الصدمة وباغتتهم بسؤال عنيف:
-مين عمل كده!
بقيٰ هو على حاله ينظر إليها تفور الدماء بعروقه يشعر بتضخم رأسه وتأجج النيران داخله وما كاد إلا أن ينقض عليها بعدما تحولت عيناه إلى السواد الحالك بسبب كثرة الغضب والاشتعال الموقوت ولكنه توقف عندما تفوهت باكية..
-عاصم.. عاصم اللي عمل كده
صدمة لم تلجم ألسنة الجميع بل ألجمت عقولهم، وتفوقت على إدراكهم لأي حقيقة أخرى، معلنة عن شلل موقت لبدن كل من استمع اسم “عاصم” وفهم ما قصدته..
يتبع…