رواية تشابك ارواح الفصل الثاني عشر 12 بقلم أمينة محمد الالفي
الفصل الثاني عشر من -تشابك أرواح-
«مواجهة قوية»
الظلم إن أمسك المظلوم لا يتركه حتى يجعله مسلوبًا من الحرية، مشردًا من المشاعر، وأما الظالم فهو يعيش حياة لا بعدها حياة؛ متمتع، سعيد، يشعر بانتشاء، ولكن في نهاية المطاف المظلومون يربحون والظالمون سيذيقون من العذاب أضعافًا مضعفة
مسح وجهه بكفه يحاول أن يلتقط أنفاسه المتسارعة بشكلٍ قوي، صدره به أجيج من شدة فزعه بذلك الحلم الذي شعر وكأنه لن يفق منه، رأى به «مرام» بشكلٍ مرعب لم يرها هكذا من قبل، وأيضًا رأى «رنا» تقف بعيدًا عنهما بشكلٍ غريب، مقيدة مكممة الفم!
ظل مكانه لم يتحرك لبضع دقائق حتى يفق بشكلٍ كامل من نومه وجسده المتألم من ذلك الحلم الغريب، تحرك من فوق الفراش نحو المرحاض دون قول كلمة لأحدٍ، غسل وجهه جيدًا بالماء البارد ونظر لنفسه، أصبح مؤخرًا باهتًا ووجهه بدأ يضعف عن قبل، يتملك الأسى ملامحه وقلبه، عينيه الخضراوتين بهما لمحة ضعف وحزن.
سحب نفسًا عميقًا وخرج ليجد «مرام» واقفة أمام التلفاز وبيدها جهاز التحكم، طالعها من أعلاها لأسفلها بإسدالها الأزرق وحجابها الموضوع بشكل عشوائي يغطي شعرها، استقرت على القرآن الكريم ورفعت الصوت قليلًا ليبدأ هو بالانزعاج وتحدث بشكلٍ أجفلها:
"وطي شوية أنتِ معلية كدا ليه؟"
ألتفتت سريعًا له تطالعه بملامح مستغربة فزعة، بينما هو تحرك يجلس على الكرسي ورفع أصابعه نحو جبهته يفركها بشكلٍ قوي، اخفضت الصوت قليلًا بينما هو يحاول التقاط أنفاسه المتسارعة في جلسته تلك.
اقتربت نحوه ووقفت تحديدًا جواره وهي تسأله بنبرة تحمل القلق عليه والذي بدى على وجهها أيضًا:
"آسر أنت كويس؟ حاسس بحاجة!"
سألته ليومأ بإيجاب فقط بحركة بسيطة، ضمت شفتيها تُكذب حديثه فهو لا يبدو عليه أنه بخير، تناولت كأسًا به الماء وأتت مجددًا لجواره تحثه على الشرب:
"طب اشرب شوية ماية، وحاول تتنفس كدا براحة أنت شكلك مش كويس خالص"
أخذ منها الكأس بيدٍ مرتجفة استغرب من اهتزازها وكانت هي الأخرى لها نصيبًا من الدهشة لحالته تلك، فرفعت رأسها سريعًا تطالعه تحديدًا بعينيها الخضراء داخل عينيه وتسأله بخوفٍ:
"مالك يا آسر، نروح المستشفى؟"
رفع الكأس وتجرعه كاملًا وأعطاه لها ثم استند بشكلٍ مريح مغمضًا عينيه ليسحب الراحة لأعماقه وهو يهمس:
"أنا كويس يامرام.. سبيني بس كدا وهقوم كويس دلوقتي"
لم تستمع لما يقول بل دلفت للمطبخ نحو أمه ووقف جوارها تتحدث بسرعة وبتوتر من القلق عليه:
"خالتو آسر صحي من النوم وشكله تعبان أوي، وشه دبلان كدا وأصفر، وجسمه عمال يرتعش!"
تركت أمه مابيديها بسرعة شديدة وتحركت للخارج ولجواره تحديدًا وهي تسأله بقلق ممسدة بيدها على ظهره:
"آسر أنت كويس؟ مالك يابني حاسس بإيه ياحبيبي قولي؟"
ربت على يد أمه بخفة يطمئن قلبها عن حاله متحدثًا بصوتٍ خافت:
"أنا كويس والله ياحبيبتي متقلقيش، أنا بس يمكن عشان نمت في نص النهار وأنا مش متعود، هقوم أنزل تحت شوية لمروان وعبدالله وحمزة أغير جو وأشم شوية هوا، متقلقيش عليا"
بينما هي كانت تقف تتابعه وهو يتحدث بملامحه تلك المتعبة، ودت لو تحمل عنه من أثقاله لتريح قلبه قليلًا ونفسه المُتثاقلة بتعبٍ واضح، عرضت عليه فكرتها بهدوءٍ وابتسامة بسيطة:
"طب هعملك كوباية عصير أشربها قبل ما تنزل"
اكتفى بالإيماء وهو يتابع تحركها أمامه متذكرًا هيئتها بالكابوس الذي رآه قبل قليل، لا يعلم كيف يصف ذلك لشخصًا أو لمَ تواجدت هي و«رنا» المُقيدة بذلك الشكل.
أعطته بعد قليلٍ العصير ليتجرعه على مهلٍ مع حنان أمه المبالغ من خوفها عليه ومما قد يصيبه، ثم غادر المنزل بعدما أرسل بالمجموعة التي بينه وبين أصدقائه على <Whatsapp> بأن يلتقوا جميعًا.
________________
مِمَن أخاف وأنا من يثير في نفوسهم الرعب، ومِمَاذا أهرب وأنا أضع لهم حدودًا لا يمكن تخطيها، ففي بعض الأحيان تجبرنا الحياة على إتخاذ سلوك مختلف عن شخصياتنا، وفي أحيانٍ أخرى نضع نحن السلوك الذي نود أن يسير عليه أحد.
كان يجلس ممسكًا بيده الدخان وبالثانية الشاي، بعقلٍ شارد الذهن يفكر في ألف شيء من حيث العمل والحياة وما هو قادم، وهي!
وعند ذكر اسمها وجدها تتقدم نحوه وتجلس جواره تمرر نظرها بينه وبين سيجارته، تود أن تتحدث ولكنها تشعر بالخزي منذ أن صارحته ببعض الأمور التي حدثت بينها وبين «نادر»، كان لديها خوفًا من أن يراها شخصًا بمنظرها الضعيف وهي كشفت له كل شيء.
تحركت شفتيها تنطق بصوتٍ خافت مملوءًا بالحرج:
"أنت كويس؟ يعني حاسس إنك أحسن ولا لسه جسمك واجعك؟"
أخرج الدخان من فمه وأومأ برأسه لها مع ابتسامة خفيفة توسعت على ثغره:
"لا أنا كويس متقلقيش، أنتِ بقى كويسة؟ عشان مش باين عليكِ وقاعدة عمالة تفركي وتتحركي كتير، بتفكري فـ إيه؟"
كان يبدو عليها التوتر بالفعل فهي بالعادة يُختطف لونها ليظهر وجهها بلونه الشاحب كما رآها أول مرة، تتشابك أصابعها ببعضها وتضغط بأظافرها على جلدها؛ ففي بعض الأحيان تجرح نفسها وفي البعض الآخر ينتهي بها المطاف تاركة علامات واضحة، تحدثت بنبرة خافتة:
"هو بابا مردش عليك؟ أنت قولتلي هتكلمه ومقولتليش حصل إيه تاني، وأنا محبتش اضغط عليك بالكلام عشان أنت تعبان!"
مال بجسده ناحية الطاولة يُطفئ السيجارة التي كادت أن تنتهي، يضعها بقوة يطفئ نارها كما كان يفعل «نادر» أمام عينيها تمامًا ثم يكمل عليها بعدما ينتهي من سيجارته، ولكن الفرق الوحيد الآن أنها أمام «حمزة» وليس المريض «نادر».
فبالله كيف ينسى الإنسان أمرًا عانى منه لسنواتٍ عدة، زُرع داخله الخوف والذُعر؛ فنضج ذلك داخله ليملئ فؤاده، كيف يمكنها نسيان تلك الليالي التي مرت بها وحدها ما بين جدران غرفة مظلمة يغزو البرد جسدها، وصراخها فقط المدوي في أرجاء المكان.
تناطقت شفتاه بصوتٍ عميق وهو يرفع نظره عليها ويتابع التوتر البادي عليها:
"كلمته، وأتضح إن روان أختك مقالتلوش حاجة وده أنا مستغربه، وسألتك روان دي فيه حاجة بينكم عشان متقولش لأبوكِ، قولتيلي لا ياحمزة دي أختي، كلمته ومكنش مصدقني وقالي إني بشتغله وبتاع عشان مصلحة، وقالي إنه قدامه فترة لحد مايجي يعني آخر الأسبوع أو بداية الأسبوع الجاي!"
ظهر الأمل مجددًا على وجهها وتعالت الأسارير عليها تحاول رسم ابتسامة، وتفوهت بلهفة بها الشوق والأمل لأهلها:
"بجد، طب الحمدلله يارب، شكرًا أوي ياحمزة والله، مش عارفة أقولك إيه!"
مد يده يفرق بين يديها التي نست أنها تعذبها بالضغط عليها بأظافرها، وربت عليها مبتسمًا بخفة وهو يجيبها:
"متقوليش حاجة، كله هيبقى تمام وأنا وعدتك مش هسيبك غير وأنتِ في حضن أهلك"
تحركت عينيها تجاه يديهم ثم لعينيه تحديدًا تقرأ تلك المواساة التي يحملها له ويبثها لقلبها، رسمت ابتسامة على فمها له ودودة وهي تقول بودٍ:
"حاضر، أنا كويسة متقلقش عليا ياحمزة وبجد شكرًا أوي ليك، أنتَ عملت معايا حاجات كتير القريب مني معملهاش، أنا عمري ما هنسالك كل ده!"
توسعت ابتسامته وبعينيه لمعة غريبة كادت أن تفضحه لولا تداركه لنفسه مُخرجًا صوتًا من حلقه ينبه نفسه لما سيقع به:
"مافيش شكر ولا حاجة، وياستي أنتِ بس أوصلي لأهلك بخير ووقتها ربنا يفرجها!"
تنهدت بعمقٍ تفكر فيما سيحدث بعدما تعود لأهلها، وبأي حياة أخرى ستلتهي وهي داخلها كل الآلام التي لا يمكن شفاؤها، ثم انتطقت بصوتٍ متحشرج:
"أنا محتاجة أتعالج نفسيًا بعد ما أرجع لأهلي، محتاجة أبعد عن العالم كله وعن معاملة البشر عشان أقدر اتعافى من اللي أنا فيه، انا باينة بشكل دلوقتي متماسك بس أنا أول ما هترمي في حضن بابا هنهار والله"
لا يعلم أتلك شفقة أم أنه غضب يجتاحه من أعماقه لما عاشته ورآته، أم أنه حزنٌ لأجل نظرة الانكسار التي داخل عينيها، نطق بنبرة بها حقدٍ على ذلك الحقير مواسيًا إياها:
"حقك، حقك ونص يا رزان تعملي كل ده، بس متسبيش اليأس يتملك منك عشان واحد ميستاهلش ضعفك ده، أنتِ عشتِ وشوفتِ كتير منه وقت ما تتخلصي منه متنهاريش، خليكِ قوية زي ما أنتِ!"
تحدثت بضعفٍ يخرج من ثناياها:
"بس اللي شوفته كان صعب أوي، أنا تعبانة نفسيًا وقلبي فيه وجع الدنيا كلها، قلبي مربوط بحديد ضاغط على روحي ونفسي، حتى الروح مش هادية مكانها وحاسة بصعوبة في التنفس، فيه حجارة تقيلة محطوطة فوقي نفسي تتكسر وتتشال عني ياحمزة، نادر كان شخص مريض أوي بيطلع فيا كل مرضه، كان بيتفنن في تعذيبي وإزاي يشوفني مكسورة!"
روحها الهائجة كأمواجٍ تتلاطم مع الصخور وفي نفسها، متألمة كمقيدٍ من جميع النواحي، مكمم الفم، مكبل الجسد، لا يستطع وصف مابه لأحدٍ، تبحث عن الدواء لداءٍ لا علاج له، وبات القلب يشعر بالاستقرار، والروح متأججة متضطربة لم تجد الراحة.
كيف يمكن للإنسان أن يحمل أثقال أحبابه ويخففها عنه راميًا إياها لبعيدٍ، ثم يضمه نحو قلبه بلغة مميزة تسمى العناق؛ شفاء للروح والقلب.
نبس بصوتٍ يحمل الدفئ الذي سار في حلقاتٍ نحو قلبها يضمه مخففًا عنها:
"حقك عليا، صدقيني نادر له يوم ويومه صعب أوي، سواء معايا أو مع أهل الحارة أو من دعواتك عليه، ربنا مبيسيبش حق حد أبدًا وحقك هيرجعلك، بس لوقتها تماسكي وشدي حيلك"
أومأت له بضعفٍ وانكسار، ذليلة للأيام التي جعلتها تقابل شخصًا «كنادر» مُعتقدة بأنها تستطيع أن تحبه في يومٍ من الأيام، كان حينما عرفته متلاعبًا وعندما تزوجته ظهر على حقيقته، قاسيًا، غليظًا، لا يملك قلبًا بالأساس.
واسى قلبها بكلماته الدافئة وبابتسامة خافتة:
"قومي اغسلي وشك وأمي دلوقتي خلصت صلاة اقعدي معاها وهي شاطرة أوي فالتخفيف والطبطبة، هتخفف عنك حزنك، وأنا هنزل للشباب"
أكدت حديثه عن أمه بكلماتها المُمتنة مع ابتسامة زينت ثغرها:
"عندك حق، مشوفتش في حنية طنط بجد، بتفكرني بماما حبيبتي ربنا يكتبلي شوفتها تاني، وربنا يباركلك في طنط يارب ويحفظهالك!"
_"يارب ... ويديمك"
نطق بآخر كلماته مع ابتسامة عابثة تعالت على زاوية فمه فتابعتها هي بجهلٍ ولكن وقع كلماته على أذنها أعجبها، تحرك من جوارها لخارج المنزل، بينما هي توجهت لأمه تجلس جوارها واضعة رأسها في أحضانها تُخرج كل الثقل في تلك الجلسة التي تذكرها بأمها، بينما «نادية» كانت تحب ذلك العناق الذي تمنت أن تعطيه لابنتها في يومٍ، ولكن شاء الله أن يرزقها برجلًا فقط وأسمته «حمزة» ليكن لها السند بعد موت زوجها، الأسد الذي يحميها ويخفف عنها ثُقل الأيام، صاحب قلب طيب وكان صبورًا على المِحن التي أصابتهم متحملًا المسئولية التي وُضع بها بعد موت أبيه.
_______
قد لا يؤلم الهجر بقدر ما تؤلم الذكريات صاحبها، فمن أين يهرب من شتات الذكريات لشتات نفسه، تلك التي إن راودته انقطع اللسان عن الكلام، واستجاب الدمع ليأخذ مجراه على خدين جافين كصحراءٍ جرداء أرادت الغيث ليسقيها.
تحرك نحو محل الزهور المتواجد عند أول الحارة، يقف مبتسمًا يتابع الرجل يقص له ما طلبه، تفوه بنبرة متحمسة للقاء الذي يَعد له منذ الصباح:
"حط خمس وردات مع دول من الورد البلدي، هي ملهاش فيه أوي بس أنا بحبه"
ضحك الرجل المُسن عليه بخفة، وبدأ يقص الورد ليضعه رفقة تشكيلة الورود مع الباقة المُجهزة لها خصيصًا:
"ربنا يخليكم لبعض يا مروان ويتمملكم على خير"
توسعت ابتسامة «مروان» العاشق الولهان على تلك الدعوة التي أسرت قلبه، كأنه يتمنى أن يُتمم الله لهم الآن لا بعد شهورٍ، وردد هو خلف دعواته بحبٍ:
"اللهم آمين يارب"
أخرج النقود من جيبه وأعطاها للرجل ثم حمل الباقة وغادر بها نحو البناية يستعد لرؤية وجهها الذي يشتاق له دومًا، يشتاق لها حتى بعدما يتركها بلحظاتٍ، كان حبه منذ الصِغر، وفي مدة شبابه وحتى أصبح رجل الآن، لم ير غيرها ولن يفعل طيلة حياته.
وصل عند البناية وكاد أن يصعد فوجد من يناديه من الخلف بصوتٍ حاد منزعجٍ:
"أنت يا أخينا رايح فين كدا؟"
التفت يطالعه بضجرٍ وزفر قائلًا بلا صبر؛ فهو لم يكن يود أن يوقفه أحدًا في تلك اللحظة بالأساس:
"طالع لأختك!"
اقترب «عبدالله» يقف قبالته بنظراتٍ تشع شرارًا له وقال بغيظٍ:
"إيه أختك دي ياعم، ما تقول خطيبتي، لم نفسك يامروان أنا ساكتلك من ساعة ماخطبتها، إيه قلة الأدب دي"
ابتسم «مروان» بزاوية فمه يتشدق بنزقٍ وهو يربت على كتف صديقه كأنه ينفُض غبارًا من عليه:
"معلش، طالع لأختك، شهرين وأختك هتبقى في شقتي على فكرة فـ لم الدور أنت"
_"استففر الله العلي العظيم، يارب صبرني، وبعدين إيه مزرعة الورد اللي أنت جايبها دي، البت اوضتها بقت كلها ورد فوق، خِف يا أخويا أنت وهي أنا مش اوبن مايند"
قالها بتهكمٍ، والغيظ يعتلي ملامحه بقلة حيلة منه، فهو يغار على أخته من صديقه وابن عمه، ولكن ماذا سيفعل وبالأساس هي ستصبح زوجته بالفعل!
يراها يوميًا تبتسم بعشقٍ عند ذِكر اسمه، ويرى العشق باديًا على ملامح صديقه عند ذِكر اسمها، وهو بالمنتصف يشتعل نيرانًا!
أبعده «مروان» بدفعة خفيفة وهو يتحدث بحنقٍ ويتحرك نحو الدرج:
"ولا أنا مش فاضيلك، عايز أطلع أشوفها بقالي 10 ساعات مشوفتهاش بسبب الشغل، غور روح شوف شغلك قبل ما أبوك ينزل من فوق ولا هعرف أشوفها ولا اتنيل"
_"طب ماتيجي اعزمك على شاي يكون نزل عشان متعرفش تشوفها"
قالها «عبدالله» بمكرٍ رافعًا صوته ليستمعا لصوت ضحكات ناعمة آتية من الطابق الأعلى، ليلتفت «مروان» برأسه يطالع «عبدالله» المغتاظ منهما بينما توسعت ابتسامة «مروان» عند سماع صوتها، وهدر أخيها بصوتٍ عالٍ ليصلها بإمتعاض:
"متضحكيش ياعهد عشان مطلعش أولعلك في مروان!"
_"غور يالا بقى"
قالها «مروان» وتحرك بسرعة يصعد قبل أن يلحقه «عبدالله» الذي هم بالصعود يخيفه ثم عاد أدراجه محملًا بالحنق والغيظ نحو عمله.
وصل نحوها بينما هي كانت تقف عند الباب تنتظره بابتسامة واسعة، بنظراتٍ عاشقة، وخدودٍ متوردة من الخجل، غمزها بطرف عينه ومد لها الورد هامسًا بهيامٍ:
"جاي ومعايا 49 وردة للوردة رقم 50 في حياتي"
ضحكاتٍ خافتة اخرجتها وهي تتناول من يده الورد وتشم رائحتها بحبٍ ونبست بصوتٍ خجل:
"تسلم ياحبيبي، تعيش وتجيب يارب، ربنا يديمك ليا"
تابع تلك الضحكات التي كان دومًا يعشقها ويعشق سماعها، ثم تابع حديثه بنفس نبرته المُحببة:
"وحشتيني على فكرة، الشغل سحلني النهاردة معرفتش أكلمك كتير"
أبتعدت من أمام الباب ليدخل وهي تتحدث معه بتنهيدة:
"ربنا يقويك ياحبيبي، اقعد هعمل شاي وأجي نقعد نشربه في البلكونة!"
أومأ لها بابتسامة وتوجه ناحية الشرفة يجلس بها ينتظرها بابتسامة واسعة، بينما هي سارت المطبخ تعد الشاي لهما وخرجت نحوه مجددًا:
"جبت بضاعة النهاردة للمحل؟"
أخذ كوبه يرتشف منه بعضًا من المشروب الساخن وهو يجيبها:
"اه جبت الحمدلله، إيه الدنيا عملتوا إيه النهاردة في محل الفساتين؟"
توسعت ابتسامتها بفرحٍ وحماسٍ وهي تحكي له ما حدث تحت نظراته المُحببة لها:
"لقيت وأخيرًا الفستان اللي كنت عيزاه، وقولتلها تحجزهولي، شكله تحفة بجد يامروان، رسمته جميلة بس لونه بيچ فاتح مش أبيض، ومنفوش ورسمته جميلة وبأكمام، نفسي أطل بالابيض من بعد ما شوفته"
_"طب ماتيجي نتجوز بكرا ونخلص بقى!"
قالها بعبثٍ يغمزها بطرف عينه لتضحك وهي تخفي وجهها بين يديها بخجلٍ:
"خلاص هانت لسه شهرين و5 أيام، متستعجلش!"
سحب نفسًا عميقًا وهو يتمعن النظر بها قائلًا:
"ربنا يرزق كل مشتاق والله، هانت!"
دمعة ساخنة هبطت على خده تحرقه متذكرًا تلك الجلسة الأخيرة بينهما قبل أن تغادر الحياة مرتدية الكفن لا فستانها الذي لطالما تحمست لارتدائه، مسح الدمعة بقوة ووجهه كاملًا أيضًا وهو يرى صديقيه «حمزة» و«آسر» يقتربان منه.
كان بوجهٍ مختنق، بينما «آسر» بوجهٍ شاحب، والذي يجاوره «حمزة» بوجهٍ مملوء بالكدمات والجروح، ثلاثي غريب تمكنت منهم الغربة على الرغم من تواجدهم في مواطنهم وأراضيهم، ولكن الغربة تمكنت من قلوبهم جميعًا بالأخص الذي أوقف سيارته أمامهم وغادر منها نحوهم ساحبًا كرسيًا وجلس عليه دون التحدث بكلمة.
كل منهم ينظر للآخر يتابعون ملامح بعضهم البعض وآهٍ لو يعلم كل منهم ما يفكر به الثاني، أو إن اجتمعت مأساتهم -سويًا- مدموجة ببعضها البعض.
أكثرهم هدوءًا ورزانة؛ «مروان» مازال يفكر في تلك الذكرى التي احتلت عقله ممزقة إياه لأشلاء، تفتك بقلبه المسكين فتعيد النزيف مجددًا له، دومًا ما يرحل الطيبون عن حياتنا سريعًا وكانت هي منهم تاركة آلام كبيرة في فؤاده.
بينما «عبدالله» الغاضب من نفسه ومنها، الحاقد على أبيها جالسًا بوجهٍ محمر من الغضب، وبعينين كاد الشر يتطاير منها، ازداد تقطيب وجهه وعبوسة لدرجة أنه كاد بنيرانه أن يحرقهم جميعًا حوله، رُفض وتمت إهانته لأجلها وبالنهاية ستتوج لغيره كزوجة، يلعن كل مشاعر خرجت من قلبه لها في يومٍ من الأيام.
التائه في الحياة الواسعة «آسر» عينيه تحمل الضياع يفكر جديًا في الحلم الذي رآه قبل قليل، يحمل قلبه الخوف من القادم والتذبذب من اتخاذ قرارٍ، لم يكن يومًا هكذا بل أصبحت عادة مكتسبة منذ مدة قصيرة عندما كانت «رنا» تمرض فيركض بها في المشافي خوفًا من فقدها، فيضيع عقله بل يتوقف عن العمل لأجل لحظات الصدمة التي يُوضع بها، والآن ستشاركه ثانية تلك اللحظات التي يخاف أن يظلمها بها، يخاف أن يقسو على الرقيقة التي ربتها أمه برفقته، إن أذاها لن يسامح نفسه.
بينما رابعهم الذي لا يُحسد على شعوره بالغضب تجاه شخص يُخرج غضبه كرجلٍ وقوته على امرأة أضعف منه جسدًا وقوةً، جعلها ذليلة أسفل قدميه وعند تخيله لذلك يغتاظ أكثر، تمنى لو يقف هو و«نادر» بحلبة وحدهم ويفتك به!
هكذا كانت جلستهم لمدة لا تقل عن الربع ساعة في صمتٍ، يرتبون أفكارهم ليخرجوها على هيئة حديث متشابك فتُحل عائدة لهم بشكلٍ سليم.
بادر «مروان» بحديثه بصوتٍ مختنق وبسؤاله:
"مين هيبدأ؟"
كان سؤاله محددًا بمن سيبدأ بقول مشاكله، طالعوا بعضهم ثم تعالى صوت ضحكاتهم على تلك المأساة التي تحاوطهم، انخفضت ضحكاتهم نسبيًا وأردف بعدها «عبدالله» وهو يمسح وجهه زافرًا:
"ياعم بقى خلتنا نضحك وأحنا جايين نقابل بعض كل واحد بوش يسد النفس عن التاني"
نبس «حمزة» من بين ضحكاته بسخرية وهو يطالع «مروان»:
"إحنا من كتر ما كل واحد شايل هم، مروان قال مين يبدأ عشان نمشيها بالدور، أصله طابور الصباح هو!"
أعاد خصلاته بأصابعه للخلف وهو يجيبه من بين ابتسامته الواسعة:
"ماهو أصل فعلًا إحنا نازلين نتقابل نخفف عن بعض ولا نقعد في وش بعض، انجزوا وكل واحد يحكي اللي عنده!"
تحدث «آسر» بعدما توقف عن الضحك بسذاجة:
"والله دمنا الخفيف ده ميستاهلش إننا نزعل، بنضحك على أحزانا قبل مانحكيها، ربنا يحمينا يارب، عمومًا أنا هبدأ عشان أنا همي كبير!"
_"مش أكبر من همي بس أحكي"
قالها «عبدالله» وعاد العبوس يحتل ملامحه ليتحدث «آسر» بتنهيدة بعدها وثقلٍ بالكلام:
"بصراحة أنا حلمت حلم وحش من شوية، حلمت أن قدامي مرام بنت خالتي وشكلها في الحلم وحش، ووراها بشوية رنا مراتي وهي متربطة وحد لازق بوقها بحاجة، مبقتش عارف في إيه بس أنا اليومين دول مش على بعضي، أنا بقالي يومين جسديًا تعبان وجسمي كله متكسر، أنتو عارفين بحب الچيم إزاي ومبغيبش عنه ولا يوم بس أنا غايب عنه بقالي يومين بسبب التعب، شوية جوايا إحساس إني مش طايق مرام وشوية مش طايق رنا، وبشوف خيالات كتير اليومين دول ونومي كله كوابيس!"
طالع «مروان» و«عبدالله» كل منهما بعضهما لتأكدهما مما يصيب صديقهما، ثم أعتدل «مروان» في جلسته يسأله بجدية:
"أنت مبتصليش ليه اليومين دول؟ مبقتش بشوفك في المسجد!"
نظر «آسر» له بخزي وهو يجيبه بنبرة خافتة:
"معرفش يا مروان، هتفكرني كداب لو قولتلك إني بكون عاوز أنزل ومبقدرش، بس أنا فعلًا فيه حاجة ربطاني عن الصلاة .."
صمت يستجمع شيء ما وقاله باستغراب:
"حتى النهاردة القرآن كان شغال ومكنتش طايق أسمع حاجة، مش عارف في إيه!"
_"ألعــب!"
قالها «حمزة» متشدقًا بينما تعالت ملامح الاستغراب على وجه «مروان» الذي بدى متضايقًا مِمَا تفوه به «آسر» للتو، ثم تحدث بنبرة هادئة مُتسائلًا:
"بتحس بـ إيه بالظبط يا آسر، وإيه الأحلام اللي بتحلمها؟"
انتبهوا جميعًا بتركيزٍ «لآسر» الذي بدأ يحكي مسترسلًا لهم كل شيء بتنهيدة قوية حزينة؛ فإن كتم ذلك داخله فلن ينجو، بل سينفجر من الألم:
"بص أنت عارف إني تعبت من فترة التعب ده وكان بيجيلي تشنجات ولما روحت كشفت مطلعش عندي حاجة وأمي فكرته من الچيم والكلام ده، بس أنا سألت حد يعني من الشغل وقالي أروح لشيخ، كلمت شيخ فعلًا وقالي أروح يشوفني لأن اللي بحكيه خطير جدًا، مروان أنا بقيت بحس إني فمكان ضلمة متقيد ومتربط وفي حد واقف قدامي شكله مرعب ممشيني بالشكل اللي هو عايزوا، دي معظم الأحلام اللي بشوفها، وبقيت بشوف شكلي في المراية غريب لدرجة إني مش عايز أبقى واقف بين ايد ربنا بشكلي ده، بقيت بحس إني مش طايق حاجة ولا طايق حد ولا حتى شغلي اللي كنت مهووس بيه وبحبه، حتى الچيم مبقتش قادر أروحه، انا بعت رنا النهاردة بيت أهلها ترتاح وأنا أرتاح عشان أنتو عارفين بكرا هيبقى كتب كتابي على مرام، بس فيه حاجة منعاني من اللي بيحصل وحاجة تانية بتزقني ناحية اللي هيحصل عشان أعمله، مبقتش فاهم حاجة ودماغي هتطق مني!"
كان «مروان» يطالعه بإنتباه شديد، يرتب ما قاله «آسر» برأسه ثم تفوه بنبرة خافتة:
"هو فعلًا كل اللي بتقوله غريب، وغريب جدًا كمان بس اشمعنا ده بيحصل معاك كل فترة يعني أنا حاسس إنه بيحصل كل ما بيبقى فيه حاجة مهمة هتاخدها في حياتك، المرة اللي فاتت حصلتلك لما كنت بتسيب الشركة القديمة وهتمشي منها ورايح جديدة وكنت متردد وقتها، والمرادي عشان هتتجوز مرام وأنت برضو متردد، لو هنفترض إن حد عاملك حاجة مثلًا، عاملها على أساس إيه طيب، ومين؟"
هز كتفيه بلا علم وبتنهيدة قوية خرجت من داخله مُحملة بضجيج عالٍ؛ وكأنه يحمل بقلبه ثقل العالم بأكمله، تناطقت شفتي «حمزة» بنبرة هادئة وهو يمرر نظره تجاههم:
"طب الشيخ اللي هتروحله ده واثق فيه ولا إيه؟ أنت عارف الشيوخ دلوقتي نصها بقوا كفتة وعشان تدفعلهم فلوس كتير بيعملولك هما الوحش عشان تفضل تروحلهم!"
تدخل «عبدالله» بعدما سحب نفسًا عميقًا يحل ذلك التساؤل الذي بينهم بقوله:
"أبويا يعرف واحد، هكلمه وأقوله ونروح مع آسر والشيخ ده كويس يعني"
أومأ لهم «آسر» دون إضافة كلمة لهم مجددًا، بينما تحدث هذه المرة «مروان» بهدوءٍ:
"إحنا هنفضل قاعدين لحد الفجر ونقوم نصلي كلنا وهقرأ على آسر شوية قرآن وإحنا في المسجد لعل يهدي قلبه شوية ويقدر ينام!"
وافقوا جميعًا على ذلك الإقتراح وأمسك «عبدالله» الدور بعد «آسر» بقوله بحنقٍ:
"تسنيم هتتخطب، جالها عريس دكتور وأبوها طاير بيه السما وهيجبرها توافق عليه!"
_"ألعــب"
قالها «حمزة» بصدمة هذه المرة، ولكنه سرعان ما صمت عندما لمح تلك النظرة النارية تجاهه من «عبدالله».
يعلمون أنه مُحمل بالأثقال الآن وبالكاد يستطيع التحدث، فهو الحبيب الذي خُذل، والعاشق الذي عُذِب، ويا ليته لم يحب يومًا وبالأخص هي، تحدث «مروان» بجدية وهو يصوب بصره عليه:
"عبدالله أنا حاولت اتماسك ونصحتك وقولتلك أبعد عنها بس أنت عاندت وقولتلي على جثتي وأنها بتاعتي والكلام ده، وأنا كنت عارف إن دي نهايتها ومرضتش أقولك عشان أنت آخر مرة عملت معايا حوار، بس ماعلينا يعني .. أرضى باللي ربنا كاتبهولك يا عبدالله وأرضى بأنك خلاص مينفعش تبقى حلالها ولا هي من نصيبك، يمكن لو كنتوا اتجوزتوا كان ربنا كتب عليكم حاجة وحشة ولا كان حصل مشاكل كبيرة كبرت بين أبوها وأبوك، أنهي بقى الحوار ده وشوف بنت الحلال اللي بجد تستاهلك وتستاهل قلبك وحُبك، وطلع تسنيم من دماغك عشان هي مبقتش من نصيبك وأنت كنت عايش على أمل فاضي وخلص خلاص، مينفعش تفضل في دماغك أصلًا بعد النهاردة!"
اعتلى اليأس والقهر ملامحه، وكأن حديث «مروان» أتى على قلبه كصاعقة كهربائية تجعله يفيق للواقع، والحياة التي رغب أن يعشها رفقتها؛ إنتهت قبل أن تبدأ بالأساس، ليته كان حبًا من طرفٍ واحد لصبر نفسه أنه هو فقط من أحب، ولكنه كان متبادلّا له أيضًا، يعلم هو الآخر أنها واقعة في غرامه وتحبه.
تدخل «حمزة» بالحديث بنبرة مواسية لصديقه:
"ربنا يعوض قلبك ياصاحبي بس كفاية بجد تعذب نفسك لحد هنا، أنت تعبت كتير أوي عشانها واتقدمتلها بدل المرة يمكن عشرة واترفضت، أنت عملت كتير أوي ياعبدالله ولو ربنا كاتبهالك هتيجي لوحدها، سيب كل حاجة على ربنا بقى وكفاية تعذب نفسك كدا وكفاية جلد الذات اللي أنت عايش فيه ده!"
تسائل بنبرة متألمة يشوبها الأسى على حاله:
"وهو يعني الحب ده بأيدي ولا إني أخلي قلبي يبطل يحبها حاجة أقدر اتحكم فيها، أنا حبيتها من وإحنا لسه عيال بنلعب في الحارة وكبرت وأنا بحبها، وده جزاتي عشان فضلت محافظ عالحب ده، تروح تتجوز غيري في الآخر! طب ما أنا عملت اللي عليا ياجماعة واتقدمتلها فعلًا بدل المرة سبع مرات، وأترفضت عشان إيه! أصل انا مش دكتور زيها وأبوها مش هيجوز بنته الدكتورة غير لدكتور، أنا بعد ما جريت وشوفت ألف حاجة أعملها لنفسي عشان أبقى جامد كدا وأنا واقف قدام أبوها وبقوله إنه في النهاية مش بالكليات القمة وإني بقى عندي بدل الورشة اتنين في القاهرة وحالي تمام، بس إزاي ما أنا معيش كلية قمة برضو!"
ثم ضحك بصوتٍ مملوءٍ بالوجع على حاله مُحركًا كتفيه للأعلى بقلة حيلة ونبس مكملًا حديثه:
"عبدالله مش قد المقام عشان خريج آداب بس، أما الست تسنيم في صيدلة إزاي تبقى مراتي في يوم من الأيام، ياخي ملعون التفكير اللي زي ده وملعون المجتمع اللي طلع حاجة زي دي، وأنا مش مسامح أبوها على كسرته ليا طول الوقت ده!"
ربت «آسر» على فخذه بعطفٍ على صديقه وهو يردد بتنهيدة:
"متزعلش نفسك، حقك عليا أنا والله ياعبدالله، محدش فيهم يستاهل وجعك ده لا هي ولا أبوها ولا أي حد، انسى وعدي وربنا هيكتبلك حب حد جديد!"
أومأ برأسه مؤكدًا على حديثه بينما تحرك «مروان» ناحيته واقفًا جواره وضم رأس صديقه لصدره يربت عليه بحنية بالغة، يواسيه بلغة العناق الأخوي، يضع الحنية داخل قلبه حتى يُشفى من هموم الحياة تلك، ومن كسرة ووجع الحب والفراق، ردد بنبرة هادئة تحمل الطمأنينة:
"بسم الله على قلبك حتى يهدأ من أوجاع الحياة، بسم الله على روحك حتى تستقر، ربنا قال في القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)، يعني أنا وأنت وكلنا عارفين إنك متضايق وقلبك مقبوض وحاسس إن دي آخر الدنيا ومتضايق من كل الكلام اللي قاله مُحسن عنك، بس برضو ربنا مُطَّلِع على كُل حاجة وعارف أنت حاسس بإيه وقد إيه أنت تعبان، فصلي لربنا واشكيله واتذلل، وسبح كتير لحد ما ربنا يبعتلك اليقين اللي هيخليك تنسى كل أوجاع الدنيا دي، ومتنساش إن ده حُكم من عند ربنا ولازم ترضى بيه مش غصب عنك لأ، ده عشان أنت راضي بكل ما قسمه الله لكَ، وعشان أنت عارف كل حاجة ربنا كاتبهالك هي الخير وهي اللي في مصلحتك، ربنا قال سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا، ربنا شايفك يا عبدالله وعارف قد إيه انت مهموم وتعبان، اصبر على البلاء."
لم يكن حديثه بمثابة شفاء «لعبدالله» الذي شدد قبضته على عناق صديقه، بل كان بمثابة دواء لداءهم جميعًا ولج للقلب فسكّن الآلام التي يشعرون بها، يأتي دومًا بكلماته لينقذهم من الغرق وهو أولهم بكلماته المواسية لقلبه قبل قلوبهم.
مال يقبل رأس «عبدالله» مربتًا على ظهره بشدة قليلًا ومبتسمًا بخفة عائدًا لمكانه:
"متحزنش على حاجة مش بتاعتك ياعبدالله، وزي ما قولت اللي استغنى إحنا عنه هنستغنى، وهما استغنوا فأنت هتعمل كدا بالظبط إن شاء الله"
أومأ له «عبدالله» بابتسامة وهو يمسح وجهه من الدمعتين اللتين غادرتا غدرًا من عينيه، وحاول «حمزة» تلطيف الجو بمشاكسة قائلًا:
"طب وأنا؟ محدش هيحضني طيب! عايز اتحضن ياجدع!"
ضحك «آسر» عاليًا وتحدث غامزًا إياه بطرف عينه بمكرٍ:
"أنت عندك جفاف ولا إيه يالا، ما تظبط كدا!"
وأكمل على حديثه «عبدالله» يغيظه:
"لا ده غيران مني بس عشان مروان حضني وهو لأ، ما قولتلك كفاية غيرة بقى يابني أنت بتولع ليه، ريحة شياطك طلعت!"
عبس «حمزة» بوجهه بغيظٍ وهدر وهو يسدد له ضربة بقدمه لقدم «عبدالله»:
"دي ريحة رخامتك يالا، بلا ريحة شياطي أنت عبيط في دماغك شكلك كدا وبعدين أنا هشوف حضن حنين قريب، حضن مروان ناشف!"
تعالت أصوات ضحك «مروان» بسخرية وهو يلكمه في كتفه:
"دلوقتي حضني بقى ناشف، ماشي!"
_"ياعم ده دماغه فيها عربية كبدة كلاب، فكك منه وبعدين هو بالشلوحة اللي فيه دي مش قد هزار حد فينا دلوقتي، فأتلم أحسن أقوم أكمل عليك خلي وشك يطيب كدا عشان نعرف نشوف ملامحك تاني"
قالها «عبدالله» يهدده في نهاية حديثه ليزفر «حمزة» بغيظٍ صامتًا تحت ضحكات البقية، وأنتهت ضحكاتهم وهم ينظروا تجاه «حمزة» ليقل ما به حتى تنهد بجدية وتحدث:
"نادر شاغل تفكيري باللي عمله فيا ده، واللي لسه هيعمله لما يعرف ان مراته معايا، وغير حوار الحارة والأرض!"
رد عليه «عبدالله» بثباتٍ:
"متقلقش ميقدرش يصطادنا وإحنا سوا، هو غدر بيك، وبعدين ماهو أبوها لما كلمته قالك هيكون عندك آخر الأسبوع أو أوله كدا، متقلقش ياحمزة!"
كان «مروان» يتابع ملامح «حمزة» المضطربة، ونظراته التي تجول بينهما ثم سأل بخفوتٍ:
"فيه حاجة تانية غير ده، ولا ده بس؟"
هو الوحيد الذي يفهمهم جميعًا دون أن يتحدثوا، يعلم بأن صديقه يخبئ شيئًا آخر وبالفعل كان هنالك شيء عندما تحدث «حمزة» بخزي منهم:
"مش عارف يامروان، أنا حاسس إن فيه حاجة بتحصل أنا مش مدرك عنها حاجة، تجاه رزان نفسها!"
_"ألعـب"
أتخذ «آسر» مكانه تلك المرة وهو ينطق بالكلمة خاصته، ثم أكمل بضحكة ساخرة:
"بصراحة اللعب اللي بجد كان يتقال عنك أنت مش عني أنا وعبدالله، عشان كدا كان لازم أقولها!"
نظر له «حمزة» متشدقًا بغيظٍ وهو يهدده:
"طب متعملهاش تاني ياشاطر، متسرقش كلماتي وايفيهاتي"
لوح له «آسر» بيده بلا مبالاة وتوجهوا بأنظارهم ناحية الجالس بهيبته ووقاره يسأله:
"طب هتعمل إيه ياباشا، الاحساس ده لو زاد هيبقى مش صح بالذات إنها ست متجوزة وممكن تتصالح مع جوزها لما أبوها ياخدها!"
أجاب «حمزة» بنبرة سريعة مؤكدًا على صدق كلامه بسفاهة:
"لا ماهي هتطلق أكيد، متقلقـ.."
صمت من النظرات النارية التي حاوطته منهم، ثم تدارك نفسه سريعًا وقال بتنهيدة:
"معرفش بقى بصراحة، بس اللي أعرفه هي ماشية ووقتها نشوف الدنيا دي هترسى على إيه، عشان هي حالتها مش كويسة أصلًا ولوقتها لما تبقى كويسة نشوف الدنيا هترسى على إيه!"
أومأ له «مروان» بتنهيدة عميقة وهو يلعب بذقنه بيده وتفوه بحرارة:
"ربنا يعديها على خير، ومتعملش حاجة تندم عليها يا حمزة!"
وهنا كان دوره هو ليحكي لهم مابه، كانت نظراتهم مستقرة عليه تحديدًا، فسحب نفسه على مهلٍ ثم أخرجه ببطءٍ وهو يقول:
"مافيش أنا أمي وأبويا وحشوني أوي، وعهد كمان قلبي مش مرتاح قبل ما أخد حقها!"
رفع«عبدالله» بصره ناحيته يفكر بكل تلك الأمور التي مرت، وكيف انشغل في كسب حب «محسن» وارضاء «تسنيم» وغفل بعض الشيء عن حق أخته الذي دفنها بيده بعدما كان يضمها لأحضانه يُشبعها بالأمان، آنب نفسه بشدة لتلك الحالة التي وصل لها مؤخرًا؛ تناسى العالم بآسره، انتبه لصوت «حمزة» المواسي:
"ربنا يرحمهم جميعًا يا مروان، خالتي وعمي كانوا تعبانين أوي من كورونا وربنا أراد ليهم الرحمة والراحة، ادعيلهم كتير بس، وعهد إحنا كلنا بنحاول نرجع حقها معاك ومع الحاج إبراهيم، متشيلش نفسك فوق طاقتها!"
أومأ لهم بابتسامة خافتة وكأنه يجيبهم بذلك فقط؛ فهو لا قدرة عنده للحديث بعد الآن وفي الحقيقة ولا هم.
انتهت الجلسة بتواجدهم سويًا في المسجد لصلاة الفجر التي كان إمامها صديقهم «مروان».
__________________
سهرت ليلًا أعد النجوم، فوقع بصري على قمر حسبته أنت، أكنت مثلي تعدها ليلًا أم أن النوم خطفك من ليلة كانت مملوءة بجمال السماء وجمالك!
أذن الله بصباحٍ جديد لسائر المخلوقات، ليتوب العاصي، ويفرح الحزين، ويؤمن الكافر، وتولد حياة جديدة ويموت مقابلها حيوات أخرى.
كان يقف في شرفته يسقي زرعه الذي يضع به مجهودًا جبارًا ووقتًا، تركه «عبدالله» منذ قليل وتوجه ناحية ورشته ليبدأ عمله، كانت القطتين أسفل قدميه يتابعان تحركاته وحديثه بصوتٍ خفيضٍ معه، حتى شعر بأن هنالك عينين تراقبه، عينين بلونهما الأزرق المماثل للسماء الصافية اليوم؛ فألتفت ناحية الشرفة التي تجاوره ولم تكن سواها تقف تراقب تحركاته كالقطط تمامًا، رفع يده مُلقيًا السلام عليها بهدوءٍ اكتسبه بعد ليلة أمس القوية المؤلمة:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
_"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، زرعك شكله جميل أوي، والقطط بتاعتك حلوة اوي، حتى أنت شكلك حلو!"
قالتها غافلة عن حديثها الذي خرج بشكلٍ عفوي زاد من حمرة خديها، فأومأ لها وعاد يسقي الزرع قائلًا بتنهيدة:
"متركزيش معايا، ركزي مع الزرع والقطط بس بلاش شكلي الحلو ده يلفت نظرك!"
عبست باستغراب لحديثه فتسائلت سريعًا:
"ليه طيب، ما أنا متعودة عالحاجة الحلوة أقول عليها حلوة"
صوب بصره عليها مبتسمًا بخفة ثم أبعده مجددًا ناحية الزرع يقص منه الذابل واسترسل بحديثه يشرح لها ما يود:
"مافيش مشكلة تقولي عالحلو حلو، وتتأملي في خلق ربنا وتقولي سبحان الله، بس اللي بتعمليه دلوقتي ده ربنا حرمه والمفروض تغضي البصر، يعني إيه تغضي البصر! يعني لما تشوفي حد حلو متفضليش مركزة في ملامحه وتقولي قد إيه هو حلو وجامد، لأنه محرم عليكِ تبصي عليه بالتركيز ده عشان هو لا أخوكِ ولا أبوكِ ولا جوزك، وأنا المفروض أعمل كدا وكل البشر عمومًا!"
تنهيدة قوية خرجت منها وهي تفكر بحديثه وداخلها ألف شيء يدور متشابكين ببعضهم غير قادرة على فك العُقد تلك وحدها، ترى أنها بعيدة تمام البُعد عن الدين وعن إرضاء الله عز وجل، وشعرت بكم القهر الذي داخلها من تلك الحياة التي كانت تعيشها!
حاولت تغيير الموضوع بقولها بابتسامة خفيفة وهي تتابع تحركات القطتين مع بعضهما:
"أنا عندي كلب على فكرة، اسمها Bella هي صغيرة كدا وبتحبني أوي وأنا بحبها أوي!"
ابتسم بخفة وتحدث مصوبًا عينيه على القطتين أيضًا:
"الرفق بالحيوان بيزود القلب حنان، مشمش ومشمشة جبتهم سوا عشان أنا بحب القطط وعهد الله يرحمها بتحبهم أوي، كنا متفقين مشمش هيبقى معايا ومشمشة معاها ولما نتجوز هتجيب مشمشة ونبقى إحنا الأربعة سوا...."
صمت للحظة يستجمع كلامه تحت نظراتها الدامعة المقهورة على حاله وحال عائلة «عهد»، ثم أكمل حديثه بتنهيدة:
"بس شاء ربنا يحصل حاجة تانية وعهد ماتت، وأنا جبت مشمشة تعيش معانا هنا عشان أخد بالي منها!"
انتطقت بصعوبة بالغة بسبب الغصة العالقة بحلقها، الكلمات أصبحت ثقيلة على قلبها:
"ربنا يرحمها يارب، متزعلش هي عند الأحسن مننا كلنا، يعني طنط مامت صحبتي كانت بتفضل تقولي كدا على ماما الله يرحمها، كانت بتقولي هي عند الأحسن مننا كلنا وربنا ريحها من التعب اللي كانت فيه!"
لمح عيون متربصة من الشرفة التي تقابلهم لشابٍ من أهالي الحارة كاد أن يأكلها بنظره في وقفتها تلك، فنظر نحوها ونبس بهدوء:
"ربنا يرحمها، ادخلي جوا يا سيلين ومتنسيش تصلي، واقعدي اقرأي قرآن ولو عندك أي حاجة حابة تسألي فيها من الدين أبقي قوليلي لما نيجي نتغدى النهاردة!"
_"طب أفرض هي حاجة عن بابي؟"
قالتها بترقب ليرفع بصره سريعًا من ذلك الشاب الذي لاحظ نظرات «مروان» النارية له ثم لها سريعًا بلهفة:
"إيه هي؟"
تنهدت بعمقٍ وعانقت نفسها وأردفت بهدوء:
"لما نتغدى هقولك أنت وعمو إبراهيم سوا على حاجة افتكرتها، عن أذنك يامروان"
اختفت من أمامه للداخل بينما هو سحب نفسًا عميقًا راجيًا الله داخله أن تمر تلك الأيام على خير على قلوبهم جميعًا، سواء كان هو أو أهل حارته أو حتى «سيلين» الضحية لأبيها بكل شيء يحاول فعله لمصلحته حتى وإن كان على حساب ابنته الوحيدة.
كانت مختلفة، ليست كغيرها مِمَن رآهن، تغير حالها من حالٍ لحال آخر تمامًا، من فتاة كانت تلهو في الحياة ناسية الآخرة لأخرى تود أن ترضي الله سبحانه وتعالى، وتناست تمامًا مغريات الحياة التي كانت أمامها.
{يهدي الله من يشاء}، تلك الآية تتردد بمسامعه الآن بسبب تفكيره من تغيرها، تُرى ما المكتوب لأجلها في نهاية المطاف؟
________________
ذنبه الوحيد أنه أحب، وما لقى من الحب سوى جفاء لم يستحقه.
كان يقف أمام ورشته يحتسي قدحًا من الشاي وهو يتابع العُمال أمامه في عملهم، وقف يرتاح قليلًا من عمله وعقله مشتت يفكر في ألف شيء، وهي الألف كلهم بتفكيره، رآها تقترب نحوه بعينين تشعان من الغضب، والحزن، والقهر، مشتتة هي الأخرى مابين ألف شيء.
رفع القدح يحتسي منه بصوتٍ مزعج، يتابعها بملامح باردة ونبس ببرودٍ:
"ألف مبروك عقبال الليلة الكبيرة يارب يادكتورة تسنيم"
وقفت أمامه بالنيران الخارجة منها كادت أن تحرقه، لماذا يبدو بذلك البرود أمامها وهي أعتقدت أنها ستأتي وتراه غاضبًا:
"هو أنت فرحان، أنا هتجوز حد تاني!"
احتسى من الشاي مجددًا بصوتٍ مزعج وهو يهز رأسه نافيًا ذلك وأردف بسخرية:
"ومفرحش ليه، الدكتورة تسنيم بذات نفسها هتتجوز ده إحنا نرش لعريسك الحارة كلها ورد، ونعلق فروع النور في كل حتة عشان نفرح بيكِ!"
أغضبها بشكلٍ أكبر ولكن تبدل لحزنٍ مُحملًا بقهرٍ وهي تسأله:
"عبدالله أنا غصب عني، أنا والله خايفة أخسر بابا وأحنا.."
قاطعها بحديثه بجدية ممزوجة بالحدة التي ظهرت بعينيه:
"لا أنتِ ولا أنا ياتسنيم، أنسي خلاص مافيش أي حاجة اسمها إحنا دي، أنتِ اخترتي كدا من الأول وأنا اللي كنت بعافر عشانك وبحاول عشانك، وأنتِ من كلمة من أبوكِ بعتيني فـ لحظة، وأنا بصراحة مشاعري مش لاقيها في كيس شيبسي على حد ميستاهلش، أنا مشاعري هتبقى لحد يستاهلني ويقدرني ويحاول عشاني زي ماحاولت عشانه، مع إني مكنتش مستني منك حاجة غير إنك تبقي جنبي، بس أنتِ منعتي كل حاجة وقفلتي كله، خلاص مترجعيش تتكلمي"
حديثه واقعي لدرجة أنه هبط على فؤادها كسره لأشلاء، فهدرت بما ستندم عليه بعد ذلك بضيقٍ:
"وأنت عايزني أقف قدامه عشان أخسره زي ما خسرت أمي بسببك!"
_"بسببــي؟"