رواية حان الوصال الفصل العاشر 10 بقلم أمل نصر
اتكلمي يا بهجة، مين اللي حط في دماغك الكلام ده؟
على اثر صيحته الاخيرة انتفضت بارتباك واضح امامه، ورفض قاطع لاخباره، لكن بذات الوقت تعجزها الحيلة عن إيجاد رد مناسب، لتتلجلج بالكلمات امامه:
– اهوو بقى….. عرفت وخلاص…. لمااا سمعت واحد ااا، بيسأل الريسبشن على اجرة الليلة……في المستشفى، ساعتها حسبتها وقلبي وقع في رجلي……..
– امممم.
زام ليتحرك عائدا لمقعده خلف المكتب، وهي لا تعرف ان كان صدقها ام لا…
ولكنه أظهر اقتناعا زائفًا:
– ماشي يا بهجة، يعني افهم من كدة انك عرفتي بالصدفة
– ايوة بالصدفة..
صدرت منها سريعًا لتردف موجهه له السؤال:
– دلوقتي بقى هسددلك ازاي؟….. انا مخي هيوقف من التفكير.
تبسم ساخرا لمعاناتها:
– طيب يا بنتي ومخك يقف ليه من التفكير؟ هو انا طالبتك؟ انا مش عايز منك حاجة يا بهجة، افهمي بقى.
بقلة حيلة دبت قدمها بإصرار مرددة :
– فهمت………. بس مينفعش.
– مينفعش ليه؟
سألها بابتسامة حاول لملمتها بصعوبة، فكان جوابها:
– عشان هو كدة، المبلغ كبير قوي، وانا اخته يعني لازم اتكفل بمصاريفه، قولي بقى، هسدده ازاي دلوقتي؟ اخد قرض اسدد نصه والباقي مثلا يبقى يتقسم على شهور،
يتخصمو من قبض كل شهر؟
زفر مقلبًا عينيه، وقد يأس من الجدال معها، لينهي حازمًا:
– خلاص يا بهجة، انتي قولتي اللي عندك، وانا هفكر، او لو لقيت طريقة تاني هبقى ابلغك بيها، ممكن بقى تسبيني اكمل شغل دلوقتي؟
لم تتحرك على الفور، ، وكأنها تريد منه المزيد من التوضيح ، فواصل قائلا لها بأمر:
– ما قولنا خلاص يا بهجة، اخرجي ياللا خليني اكمل شغلي ، وروحي انتي سلمي على دادة نبوية .
– والنبي بجد، يعني هي جات فعلا؟
صدرت منها بلهفة، وابتسامة اشرقت بمحياها، بطيبة جعلته يوميء رأسه لها ببطء وعيناه تتأمل فرحتها بانشداه، حتى اذا انصرفت من امامه، ذاهبة نحو المرأة، ظل هو لمدة من الوقت ، يطالع اثرها بشرود، يعيد برأسه كل خلجة وكل همسة صدرت منها، بشغف شغله عما كان يعمل به قبل اقتحامها عزلته، وحين عاد في محاولة لاستعادة التركيز على الملفات، وجد نفسه يدفعها عنه بقرف، وكأن عقله يرفض مشاركه احد ما غيرها ولو حيزًا ضئيلًا من فكره.
❈-❈-❈
خرج من غرفة مكتبه حينما يأس من التركيز، وقد ذهب ادراج الرياح، ليرتدى سترة حلته مقررا الذهاب لعمله، وجدها في وسط الردهة تضحك بعفوية في المزاح والنقاش مع نبوية التي كانت تشاركها هي الأخرى بسجيتها ومزاحها، ووالدته العزيزة، جالسة بينهما، بابتسامة لا تفارق ملامحها، وكأنها تفهم على الحديث الذي يدور بينهم، متشبثة بذراع رفيقتها الاولى، ليصل الى سمعه ما يدور بينهم:
– ايوة بقى، من لقى احبابه يا عم، خلاص نسيتيني يا نجوان هانم بمجرد ما شوفتي حبيبتك.
جاء رد نبوية باعتزاز:
– طبعا يا حبيبتي، دي عشرة عمر بحاله، قبل انتي حتى ما تتولدي يا ست بهجة بسنين .
تصنعت الدراما بقولها:
– اخص ع الصدمة، دا انا كنت قربت اصدق اني بقيت حبها الوحيد، لدرجادي كنت مخدوعه فيكي يا نوجة.
– نوجة.
تمتم بها هو فور ان اقترب منهم، يجفلهم بحضوره، فتدخل مرددًا باندهاش:
– نوجة! دا اسم جديد دلع لماما يا ست بهجة .
اخجلها بسؤاله المباغت حتى جعلها تبرر بحرج:
– لا يا فندم دا مش اسم جديد ولا حاجة، انا بس خدت بالي اني كل ما أدلعها بتبقى هادية ومتتعبش قلبي في اي طلب اطلبه منها.
– امممم.
زام بها، يمط شفتيه بابتسامة يشوبها الرزانة قبل ان يلتف نحو نبوية:
– البيت كان ناقص من غيرك يا دادة، وماما زي ما انتي شايفة، ولا كأنها لقيت مامتها.
ردت نبوية بطيبة ليست بغريبة عنها:
– البيت منور بأهله، انا كمان في بيتي وكنت حاسة كأني غريبة عن المكان، وان دا بيتي الاصلي، اما عن الهانم، دي كانت وحشاني اوي.
قالت الأخيرة بإشارة نحو نجوان التي زادت من تشبثها بها وكأنها فهمت الكلمات، ليتفاجأ هو حينما وجد بهجة تنهض من جوارهم متمتمة بتأثر:
– ربنا ما يحرمكم من بعض يا دادة، اقوم انا اشوف شغلي بقى في المصنع، مدام الحمد لله ربنا يسر الأمور.
– خدي اليوم اجازة يا بهجة، وابتدى من بكرة .
همت ان تفرح بعرضه السخي، ولكنها تذكرت عودة المنزل في ذلك الوقت، والوحدة في انتظار عودة اشقائها من محل دراستهم، لتعبر بالرفض على الفور:
– لا يا افندم الف شكر، نأجل الاجازة لوقت تاني، اصل انا وحشني اوي المصنع وصحابي وحبايبي اللي فيه عن اذنكم بقى.
قالتها وما همت ان تستدير عنهم، حتى اوقفتها نجوان بقولها:
– عائشة.
– يا نهار ابيض تاني برضو؟
صدرت من بهجة، تلوي فمها بابتسامة، ثم تردف بعدها :
– في اقرب وقت هاخدك ليها ان شاء الله، عن اذنكو بقى.
❈-❈-❈
اعتدل بجذعه على الفراش، بعد فترة طويلة من التململ والتقلب على تخته بدون فائدة، وقد ذهب عنه النوم منذ نهوضها من جواره، حين تسحبت بهدوء بظن منها انه مازال نائمًا، لتتجه نحو المرحاض وتغيب به لأكثر من نصف ساعة، حتى اثارت قلقه عليها ، لولا استماعه لصوت المياه من الداخل، لظن ان بها شيء ما.
يعلم انه كان قاسي معها بالأمس، ولكن ماذا كان بيده، ونيران قلبه لم تخمد حتى الاَن، لا يصدق ان تلك كانت ليلة عمره التي كان يخطط لها ويجهز المفاجأت. ان تمر بهذا السوء، هو ابشع كوابيسه.
انتبه على صوت باب الحمام الذي اندفع تخرج منه،
ترتدي منامة قطنية، وشعرها المبتل يحاوط وجهها،
بوجه احمر ندي، رغم هذه الانتفاخات البسيطة حول عينيها، ليتيقن من صدق ظنه انها كانت تبكي بالداخل .
تبدو المنامة منزلية بالأساس، بربع كم وبنطال صغير بالكاد يغطي ركبتيها.
صوت ضعيف خرج منها في القاء التحية نحوه، قبل ان تعطيه ظهرها وتتجه نحو المراَة لتصفف شعر رأسها امامها:
– صباح الخير.
– صباح النور .
خرجت منه جوفاء، بوجه خالي من أي تعبير، لتتركز ابصاره بها، يقيم تفاصيلها بعين الرجل الخبيرة بمفاتن زوجته التي رأها بالأمس، لديها جسد يغوي القديس على الخطيئة، وهو ليس بمحصن، فرغم كل غضبه لم يستطع منع نفسه عنها، فصارت رغبة امتزجت بعنف غضبه، لتؤدي الى هذه النتيجة، وتزيد من اشتعال رأسه ان احد ما اطلع على ملكه غيره، حتى وقد تأكد من صدق قولها باحتفاظها بعفتها، إلا ان باقي التفاصيل الأخرى…..
انتفض كالملسوع عن الفراش كي يهرب من افكاره السامة، فيصبح خلفها تماما، ويظهر لها انعكاس صورته امامها، بانعقاد حاجبيه ، وصوت انفاسه الهادرة، حتى اصابها التوتر ، لتلتف له متسائلة:
– ايه ؟؟ في حاجة؟
ظل على وضعه صامتًا لمدة من اللحظات يتأمل بشرتها، وتلك العلامات المتبقية من اثار معركة الأمس، حتى وقعت عيناه على تلك الشامة التي نال منها، غير مكترث بما يسببه من الم لها، وقد وضح الاثر جليا عليها الاَن، لتندفع حمم سائلة بأوردته، ورغبة جامحة تدفعه لتكرار الامر ،
وفي نفس الوقت، صوت ما بداخله ينادي بالترفق بها،
وما بين ذاك وذاك، لم يشعر إلا بيده قد ارتفعت لتطبق اصابعه على وجنتيها المكتنزتين، وهذه الشفاه المنتفخة بإغراء، فدنى نحوهم دون سابق انذار، ليلتهمهم بنهم، يرتشف منهما ما يسكر عقله ويرطب عليه من التفكير المستمر. غير واعي ان كان شغف او جموح، او عنف، وذراعه تعتصر خصرها، فلم يستفق الا بدفعتها القوية له، لتلتقط انفاسها، ثم قالت لتوقفه، وبصوت يهتز برجفتها:
– امي زمانها على وصول، هي واخواتي البنات، وعيلتك كمان ، دا الميعاد اللي قالوا عليه من امبارح.
❈-❈-❈
بعد قليل،
وقد اجتمعت الاسرة في منزل الزوجية الجديد، قبل ذهاب العروسين الى رحلتهم في قضاء شهر العسل في احدى المنتجعات الشهيرة، كما هو مخطط من البداية.
وكما فعل بالأمس، أجاد تمثيل الزوج السعيد بمهارة اذهلتها، يتبادل النكات والمزاح مع اهل العروس ووالديه وشقيقته، يظهر مشاهد السعادة الجمّة بينها وبينه، وهي تحاول مجاراته، رغم حزنها المتفاقم لجرحه، وما تسببت به من اذى لرجل بأخلاقه، فهي الاعلم الان بحجم معاناته، كم ودت ان يعود بها الزمن وتصلح كل ما فات، او تمحيه من ذاكرة الزمن وذاكرتها، لو كانت تعلم بما يخبئه القدر لها من عوض جميل، ما كانت ابدا قللت من ذاتها بالارتباط بشخص فاسد وقميء مثل ابن خالتها ابراهيم، فليجازيه الله بأفعاله.
❈-❈-❈
وفي محبسه،
بالتحديد داخل مبنى المراحيض ، بزاوية مختصرة، بعيدة عن اعين رجال الامن، اجرى مكالمته الهاتفية عبر الهاتف النقال الذي استأجره من احد المساجين القدامى.
مع والدته، والتي ما ان سمع بردها على سؤاله، حتى صاح لها باستنكار:
– ايه؟ اتجوزت وعملت فرح عليوي كمان؟…….. وما استغربش ليه ياما؟ شكل الظابط بتاعها دا راجل قلة ومعندوش حرارة…………. ايوة معندوش حرارة وانا برضو مش هحلهم من دماغي……. عشان تبقي عارفة……… سيبك ياما من الهرتلة دي وركزي مع محامي الزفت، ادفعيلو ودفي جيبه بالفلوس، خليه يخرجني في اقرب وقت، انا دمي بيغلي………. متقوليليش اهدى، انتي تعملي اللي بقولك عليه وتخرجيني، هو دا اللي هيريحني…….. ماشي ياما؟ اسيبك بقى.
فور ان انهى المكالمة، أٌختطف الهاتف من يده، بواسطة الرجل الذي يملكه، يحدثه بصوته المتحشرج:
– شاطر يا حلو، دقيقة تانية وكنت هحسبها عليك بالضعف، عشان دي تتسمى بعرفنا ضريبة الوقت الزايد.
ختم بضحكة سمجة اثارت سخط الأخر ، يرمقه بازدراء، ثم يبتعد عنه، مغادرا من المرحاض المقرف، ليتناول احدى السجائر من علبتها، يشعلها بالقداحة، يغمغم بالتوعد داخله:
– ماشي يا بنات ناصر الدكش، انا مفيش ورايا غيركم .
❈-❈-❈
على الاريكة التي كان مضجعًا عليها يشاهد مع شقيقه احدى برامج تحليل القنوات الرياضية، يدعي الاندماج مع نقاش المذيع مع المحلل الرياضي، وعيناه تذهب كل دقيقة نحوه بابتسامات خبيثة كان يتجاهلها الاخر في البداية حتى فاض به، لينهره بحنق؛
– ما تتلم يا عمنا انت في يومك ده، شايفني اراجوز قدامك ؟ ولا وشي فيه حاجة مش عاجباك؟
اطلق سامر ضحكته الصاخبة ليردد:
– حاجة واحدة! قول حاجات ، انت وشك كله متشلفط يا باشا، بقى عامل زي الطريق الدائري….
ختم ضاحكا مرة اخرى ليستفز الأخر حتى هدر به :
– احترم نفسك يا سامر، اقسم بالله انا على اخري منك.
ببرود شديد واصل سامر ضاربًا بغضب شقيقه عرض الحائط:
– طب بدل ما تعصب نفسك وتتنزفز كدة، ما تريحني وقولي على صاحب الخناقة الحقيقية ، اللي سببلك البهدلة دي في وشك، قولي يا اخويا عشان اروح اخدلك بتارك من سواق الغبرة اللي زنق عليك بعربيته.
زفر يكظم حقده، يود لو يفتك به، فتلميحات هذا الأحمق تثير بداخله الريبة، ولكنه يأبى كشف الحقيقة امامه:
– لا يا اخويا اطمن وحط في بطنك بطيخة صيفي، انا ظبطت الراجل ومسحت بيه بلاط الشارع، يجي ايه اللي في وشي ده عن اللي انا عملته فيه.
– يا بطل.
تمتم بها سامر ليطلق ضحكة رنانة أذهبت الباقي من عقل شقيقه، لينهض فجأة يهجم عليه ، يمسكه من تلابيب ملابسه، وقد ضج من سخريته:
– تحب اعرفك عملي انا عملت فيه ايه؟ شكلك مش مصدق وانا بقى عايز اثبتلك.
صدح صوت دريه من خلفه يوقف المعركة من اولها:
– في ايه يا زفت انت وهو، فاكرين نفسكم عيال صغيرين وهنحوش ما بينكم، ولا ديوك وهتتناقروا، شيل ايدك عن اخوك يا سمير.
صدحت الاخيرة بأمر اجبره على ترك هذا المستفز، والذي لم يكف عن ابتسامته اللزجة وشقيقه يشتكي لوالدته:
– خليه هو يلم نفسه عني ياما، عمال مقلتة عليا بقالوا يومين وانا ساكتله، انما والمصحف لو زودها…….
– مفيش داعي للحلفان، هو مش هيعملها تاني….
صدرت منها بمقاطعة حادة، لتتوجه بالأمر بعد ذلك نحو الأخر:
– سمعت انا قولت ايه يا سامر؟ مش هتعملها تاني، يا اما هتلاقي حسابك معايا انا يا حبيبي، جاتكم الهم، ولا اكنكم عيال اتناشر سنة، مش رجالة كبار ، قطيعة .
بصقت كلماتها وانصرفت من امامهما نحو وجهتها داخل المطبخ، والذي وقفت على مدخله اسراء تراقب بصمت كعادتها، لترمقه بنظرة لائمة وكأنها هي الأخرى تفهم على ما اصابه، ليزداد الشك بداخله ان تكون شقيقته الملعونة قد افشت امره.
❈-❈-❈
بعد لحظات،
دلف الى داخل غرفتها يباغتها بقوله:
– انتي يا بت، بلغتي الواد ده باللي حصل صح؟ قولي الحقيقة لا اشلفط وشك.
شهقت تخرج صوتا مستنكرا، بعدما أجفلها بحضوره اثناء وضعها لطلاء الاظافر على اصابع يدها:
– ودول بيطلعو امتى دول، محدش قالك يا حبيبي، ان دي اوضة بنات ومحدش ينفع يدخلها هجم كدة من غير استئذان.
اقترب منها هادرا بهمس:
– بطلي قلة حيا وردي على سؤالي، الاوضة اساسا دخلتها لما لقيت بابها مفتوح، يعني مش مقفول عشان اخبط عليكي، ولا انتي عايزة تاخذيني في دوكة وتهربي من السؤال؟
عبست ملامحها بضيق تقر امامه باعترافها:
– بصراحة بقى، امك هي اللي زنقت عليا، وانت عارفها لما بتحتل على موضوع بتجيب قرار اللي قدامها، انا حاولت والله اداري على قد ما اقدر، بس هي بقى فضلت تجرجرني لحد ما حكيتلها كل حاجة.
بحالة من الزعر تمتم خلفها بعدم تصديق:
– يا نهار ابوكي اسود ، انتي كمان حكيتي لامك ، دا على كدة البيت كله عرف.
– لا والله مش كله، انا اعترفتلها هي بس، انما الزفت سامر معرفش لقطها ازاي؟
– سمعنا بقى ولا……
– ولا ايه تاني يا زفتة؟ انا كنت عارف من الاول انك متستريش لذلك نبهت وشددت عليكي، لكن اللي فيه داء ميروحش منه .
اطرقت رأسها بخزي، فهي بالفعل لم توفي بعهدها معه، رغم محاولتها ذلك، لكن والدتها لطالما عرفت كيف تسحب منها ما تريد.
ليضرب شقيقها بكفيه على جانبي فخذيه، يغمغم بتفكير:
– اااه، وطالما امك ماتكلمتش ولا فتحت معايا سيرة يبقى مرقدالي ، او يمكن انا مش في حساباتها من الأساس، وهتجيب اللوم كله على بهجة، دي امك وانا عارفها.
مصمصت بشفتيها لتردد بضيق:
– وانت شاغل نفسك بيها ليه بقى؟ ما هي فعلا السبب يا حبيبي، لولا قعدتها معانا في نفس العمارة، مكنتش هتبقى حاططها في دماغك كل ده، كنت هتبص لمراتك المسكينة دي، بدل ما انت سايبها ومش معبرها.
– اه يا اختي مراتي المسكينة؟ لما هى صعبانة اوي عليكي كدة، ما تروحي تساعديها في المطبخ، ولا هو حط المونكير مينفعش يتأخر.
عقب بها ثم سحب نفسه ليذهب من الغرفة، يكتنفه الغيظ بشدة لفعل هذه الحمقاء.
❈-❈-❈
بهيئة جديدة كليا عن كل ما سبق، قصت شعرها بعدما صبغته بدرجة من اللون جديدة عنها، واسلوب مختلف في الملابس، حتى اثارت انتباه ذلك الذي كان يعمل مع رئيسها في هذه الوقت في مقر المصنع، ليوجه بحديثه عنها معه؛
– رياض…. البت قريبتك اللي برا دي، اقطع دراعي ان ما كانت بتحبك ومتعلقه بيك.
رفع اليه نظرة خاطفة بابتسامة مستخفة، قبل ان يعود إلى عمله ، وكأنه لم يسمع شيء ، ليعيد عليه مشددًا :
– طب وربنا انا ما بقول كلام جزافا، ما تجرب يا بني معاها، مش يمكن تطلع كويسة، انا مش فاهم، انت عايش ازاي من غير نسوان.
اطلق ضحكته النادرة برزانة ليعقب بمرح:
– مفيش فايدة فيك يا كارم، هو احنا في ايه ولا في ايه بس يا بني؟ بقى قاطع الشغل عشان تكلمني عن النسوان في حياتي، وتقولي عايش ازاي؟ عايش عادي يعني يا سيدي، ولا ينقصني اي حاجة.
– لا والله ينقصك.
ردد بها يخالفه بتأكيد :
– بكرة لما تقع على بوزك وتحب، هتعرف قيمة الكلام اللي بقوله دا كويس .
عاد رياض ضاحكا متمتم له:
– ماشي يا حبيبي هبقى افتكرك.
تمتم بها بسخرية، يظهر عدم اكتراثه، بقناعة رسخها بداخله ، ان العشق ضعف وهلاك، ولا شيء يستحق شغل جزء في تفكيره، سوى العمل والنجاح، لكن لماذا صورتها لا تفارقه؟ تلك البهجة التي حلت قريبًا بمحيط حياته، لماذا لا تتركه الاَن بتركيزه الجدي في عمله؟
بعلمه انه لا يفصله عنها الاَن، سوى طابق واحد،
هي في الأسفل تعمل ضمن طبقة العمال لديه، وهو في الأعلى بين اعماله والمناقشات مع شريكه.
بعد مغادرة كارم، ظل لفترة من الوقت يحاول التركيز ولكن عقله المتمرد، ابى الاستمرار.
لينهض فجأة مقررًا الذهاب بنفسه للاطمئنان على سير العمل بين العمال، بلفتة لا يفعلها تقريبا الا في الضرورات القصوى، او نادرا.
هبط الدرج الرخامي، يقف في المنتصف، عيناه تجول على العمال وانشغالهم على الماكينات الحديثة بجد ونشاط في تفصيل الملابس بحرفية عالية الدقة.
الاعداد ضخمة والبحث عنها وسطهم كالأبرة في كوم من القش،
رجال ونساء، كالنحل ميز وسطهم صباح نظرا لجسدها الضخم، او ربما لأنها هي من انتبهت عليه لتهرع من وسطهم مهرولة، وقبل ان تصل إليه، وقعت عينيه على تلك البهجة، بملابس العمل، منكفئة على احدى القطع، وكأنها تصنع لوحة بدقة عالية، حتى انها لا تلتفت للحديث مع احد، لا يستغرب الاَن سر تمسكها بالعمل هنا، لكن مهلا من هذا الذي أتى يقف جوارها ويحدثها ؟!
– رياض باشا، يا أهلا وسهلا نورتنا، دي مفاجأة ولا هلال العيد والله.
كان هذا صوت صباح التي هللت بفرحة لمجيئه، فكان رده ان اومأ لها على عجالة، قائلا بعدم تركيز :
– هلال العيد ليه بس؟ انا جاي اطمن على سير العمل، ايه الاخبار؟
سمعت منه، لتسهب بالحديث عن ما تم تنفيذه في التصميمات الجديدة، وانجاز الطلبيات القديمة، والخ والخ.
وهو غير منتبه لاي جملة منها ، فعيناه كانت تتابع بشغف تلك الحورية، وذاك الغراب الذي يدور حولها، يتصنع الحديث ليلفت انتباهها، ثم يسحب منها ابتسامة توزعها كالبلهاء اليه، ثم تتناول منه كوب الشاي فترتشف منه متلذذة، وتلك الشفاه تترجم الشكر والامتنان له، وكأنه قد أتى لها بعلبة شيكولاتة فاخرة، تبًا.
– عندك تعليمات عايزني ءأمر العمال بيها؟
اردفت بها صباح، حينما طال صمته معها وعدم تعقيبه على كل ما استرسلت به من حديث في التو، ليستدرك بفطنته، قائلا لها:
– لو عندي تعليمات هبلغهالك يا صباح ومش هستنى تطلبي مني. انا بس كنت عايز أسألك ، هو مين اللي واقف هناك عندك بهجة وبيكلمها؟
شبت ببصرها نحو ما يرنو اليه، لتجيبه على الفور:
– دا تميم، شغال معانا هنا تبع قسم القص، بس ايه، واد شاطر وايده تتلف في حرير.
وجه كلماته بحدة نحوها:
– ولما هو واد شاطر وايده تتلف في حرير، سايب مكانه ليه وبيلاغي في العمال؟
دافعت على الفور صباح عن الشاب بلهفة:
– لا يا باشا، هو اكيد خلص شغله، اصله شاطر زي ما بقولك، وان كان على وقفته عند بهجة، فدي عشان ليها وضع خاص معاه.
– خاص.
دوت الكلمة برأسه، لتبرق عينيه بلهيب مخيف، جعل المرأة تسرع في التصحيح:
– خاص مش بمعنى غلط يا باشا، انا قصدي انه رايدها بحلال ربنا، عايز يتجوزها، ربنا يارب يفرحنا بيهم قريب.
تتحدث بتلقائية وابتسامة حالمة بغباء، وكأنها ستفرح بأبنائها، غافلة عن ذاك الذي كان يرمقها بغيظ متعاظم ، يجاهد للمحافظة على ثباته امامها، رغم حمم البراكين التي تغلي بداخله، ليغتصب ابتسامة ليس لها معني في مخاطبته لها:
– طب روحي يا صباح اندهيلها خليها تيجي ورايا ع المكتب، عشان عايزها في امر ضروري.
– بخصوص الست الوالدة يا باشا ولا في حاجة تاني؟
زفر بضيق من تدخلها :
– ميخصكيش يا صباح ، انتي عليكي تنفذي وبس؟
لم ينتظر ردها، وتحرك يستدير معاودا الصعود ليتفاجأ بلورا امامه، تسأل قاطبة:
– انت هنا بنفسك يا رياض باشا، مقولتليش ليه، لو عايز تعمل جولة على الأقسام؟
اجابها بنزق:
– مدام مطلبتش منك يا لورا، يبقى متقلقيش نفسك.
قالها والتفت رأسه نحو صباح يشدد عليها:
– متنسيش اللي قولتلك عليه، ابعتي لبهجة خليها تيجي ورايا حالا .
اكمل طريقه بعد ذلك يتخطاها، غير ابهًا، بغروره المعتاد، لتتوجه هي بغضبها نحو صباح:
– البت دي طالبها في ايه؟
اومأت الاخيرة بهزة من اكتافها، تزيد من حيرتها.
– والله ما اعرف يا هانم.
❈-❈-❈
والى منزل بهجة،
حيث ذهب الجميع منهم الى اماكن دراستهم والعمل، بعد خروج جنات الى جامعتها على ميعاد محاضرتها، لتستغل هي انشغال أبنائها في الوكالة محل ابيهم ، بعد اختفائه هو الأخر، دون ان يخبرها بوجهته.
لتصعد الدرج بخفة، وعيناها تدور في كل الأنحاء بحرص شديد، حتى وصلت الى باب شقتهم، لتُخرج من جب صدرها، تلك النسخة من مفتاح المنزل، والتي مازالت تحتفظ بها حتى الاَن، رغم مرور السنين وموت اصحابها، وقت ما كان الود موصول، قبل ان يتبدل لعداء بعد موت خليل شقيق زوجها.
ليأتي الاَن فائدته، فتضعه في مغلق الباب ، ثم تدفعه بهدوء، لتلج بداخل المنزل، تتأمل محتوياته سريعًا، والتغيرات التي طرأت به حديثًا، ثم تخطو نحو وجهتها في غرفة بهجة.
بحثت سريعًا بعيناها نحو شيء ما تريده، وحين لم يعجبها شيء، لم تجد امامها سوى التوجه نحو خزانة ملابسها، لتعثر اخيرا على هذا الحجاب الصغير القديم ، ترفعه امام عينيه محدثة نفسها:
– هى دى، اكيد مش هتحس بيها لما تغيب ، طرحة قديمة ومرمية وسط الهدوم.
وضعتها على انفها تشتم الرائحة، لتردد بارتياح اكبر:
– وكمان فيها ريحتها، يعني عز الطلب.
وضعتها سريعًا بجب صدرها، لتواصل حديث نفسها:
– كدة بقى سيدنا يشتغل صح.
جرت اقدامها نحو المغادرة بعد انتهاء مهمتها، لتعيد غلق المنزل من الخارج، وتنزل الدرج بخطوات واثقة الى حد ما حتى وجدتها امامها فجأة لتشهق مزعورة، وتبصق في فتحة ملابسها في الأعلى:
– بسم الله الرحمن الرحيم، بيطلعو امتى دول .
توقفت عائشة تطالعها بنظرات ثاقبة ترد بسخرية:
– بيطلعو للي خايفين منهم.
اجفلتها بردها الغريب، ليتسلل القلق بداخلها، توبخها بشجاعة زائفة:
– واخاف منك ليه يا اختي؟ هتولعي فيا ولا افتكرتي نفسك بتخوفي صح؟
تعلم انها ملعونة وحادة الذكاء بإجرام لا يتوفر حتى في اشقائها الكبار، فتأخرها عن الرد ، وهي تحدجها برفع حاجب واحد بشر يبث بقلبها الخوف بالفعل، لتلسعها بالسؤال المباغت:
– هو انتي كنتي نازلة من فين يا طنط؟ ومرات ابنك وابنك مش في الشقة اساسا؟
ابتلعت درية ريقها الذي جف في حضرة هذه الملعونة، لتبرر بغضب:
– وانتي مالك يا اختي ان كانوا قاعدين ولا مش قاعدين، انا اطلع شقة ابني وقت ما انا عايزة، وسعي كدة من قدامي، مبقاش الا العيال كمان، وسعي.
تخطتها لتنزل رافعة رأسها بتعالي، تدعي عدم الاكتراث ، وقلبها يرجف من الداخل، تتخيل نفسها لو تأخرت دقيقتان ودلفت هذه الملعونة عليها الشقة، على اقل تقدير كانت ستتسبب لها بفضيحة، ان لم تلبسها تهمة سرقة، او تشعل بها النار وهي حية ، تجزم انها قادرة على فعل ذلك.
التفت رأسها بدون قصد نحو الأعلى، لتجدها مازالت محلها ، وابصارها منصبة عليها، بصورة اعادت الفزع الى قلبها، لتدلف الى شقتها سريعا ، واضعة يدها على قلبها تلهث ببعض الارتياح:
– يا لهوي عليكي بت، وقفت شعر راسي من الخضة.
❈-❈-❈
أتت بهجة بناءًا على امر استدعائها، لتقابل اولا تلك الفتاة المتعجرفة، ترمقها بنظرات ازدراء من اعلى حجابها في الأعلى حتى ما ترتديه من حذاء في قدمها،
تبرع دائما في بث صفة النقص بداخلها، ورغم ادعاء بهجة غير ذلك، إلا داخلها ينجرح بالفعل ، ولكن ابدا لن تعطيها غايتها في التقليل من ذاتها.
اهدتها ابتسامة صفراء قبل ان تخبرها:
– رياض باشا طالبني .
صدر رد لورا بتعالي، تشير بسبابتها نحو مكتبه دون ان تكلف نفسها حتى عناء الرد، لتعود اليها بهجة بنفس الابتسامة الصفراء دون رد هي الأخرى، قبل ان تتحرك ذاهبة نحو وجهتها، تتمتم بصوتها كالهمس:
– جاتك قرصة في ايدك يا بعيدة.
وصلت الى باب غرفته، تطرق بخفة ، حتى اذن لها بالدخول.
ثم دلفت الى داخل الغرفة التي ولأول مرة تخطوها بقدميها ، لتفاجأ به تاركًا مقعده خلف المكتب، واقفًا امامه بتحفز اثار بداخلها التوتر ، لتوجه سؤالها له بقلق:
– افندم يا رياض باشا، الريسة صباح بلغتني ان حضرتك طلبتني، هي نجوان هانم جرالها حاجة؟
– مجراش اي شيء، وهي تمام وعال العال يا بهجة، انا كنت طالبك في حاجة تانية بعيدة عن البيت والست الوالدة.
اردف بكلماته على عجالة وكأنه لا يطيق الاسهاب، ليثير بداخلها الفضول والسؤال للمرة الثانية:
– افندم يا باشا عايزني في ايه؟
زفر انفاسه الخشنة بصمت دام لحظات وكأنه يبحث عن حجة لسؤاله، ليحسم فجأة مندفعا:
– كنت عايز اعرف منك، صحة الكلام اللي قالته صباح، عن اللي اسمه تميم ده ورغبته ، في انه عايز يتقدملك.
قطبت بعدم استيعاب، وقد تفاجأت بالسؤال الغريب:
– تميم مين يا فندم؟
ردد بانفعال يزيدها اندهاشًا :
– تميم زميلك في المصنع عندنا يا بهجة، انتي مش مركزة ليه؟
الاَن قد فهمت رغم استغرابها لعصبيته المفرطة وسؤاله عن شيء يخصها، الا انها تمالكت تجيبه في الاَخير:
– هو فعلا عايز يتقدملي، بس بلغته كذا مرة انه مينفعش عشان اخواتي.
– يعني صباح بتكدب؟
– لا طبعا الريسة مبتكدبش، اصل هو كل شوية يكلمها عني في انتظار موافقتي .
تتحدث بعفوية، غافلة عن تبدل ملامحه وغضب غير مبرر يلوح في الافق، ليوميء برأسه فجأة ويردد بغيظ مكتوم، يفسر الأمر بمنطقه:
– اااه يعني الباشا مفقدش الامل، ورايح جاي يدور حواليكي، ومهمل في شغله؟
– لا يا باشا، تميم انسان محترم، وشايف شغله كويس.
– متدافعيش عن حد قدامي يا بهجة وخليكي في اللي يخصك ، انا شوفت بنفسي وانا اللي بقولك دلوقتي.
قابلت عصبيته بدفاع عن الشاب، وقد استفزها تحامله عليه:
– انا مش بدافع يا فندم، انا بقول الحقيقة، بس انت شوفته فين صحيح وهو بيدور حواليا؟ قصدك يعني لما جه وجابلي كوباية الشاي من شوية؟ …..
– اسكتي يا بهجة.
صاح بها مقاطعًا، لا يريد شرحا ولا تفسيرا، فقد رأى بنفسه ما يكفيه، ويجعل الدماء تغلي برأسه، ليفاجأها بقوله:
– قوليلي يا بهجة، انتي مشتغلتيش عندنا ليه بشهادتك؟!
– شهادتي.
رددت بها من خلفه، وكأنها تستوعب المغزى من السؤال، لتجيبه بعدها بحرج:
– وشهادتي دي بقى، هشتغل بيها ايه حضرتك؟ دي ثانوية عامة، يعني مفرقتش كتير عن الاعدادية.
– والحقوق……. انا عرفت انك دخلتيها، بس مكملتيش فيها.
اجفلها بمعرفته لهذه المعلومة عنها، فهي لا تتحدث بها على الإطلاق، ولكن يبدو ان لديه سبله الخاصة في البحث خلف من يعمل بمنزله، اذن لما التعجب.
– حضرتك انا مدرستش في حقوق غير سنة واحدة ، والتانية يدوب حضرت فيها كام محاضرة، وبعدها قطعت نهائي، يعني اكيد متتسماش دراسة.
زفر يجلس على كرسيه مرددًا بلمحة من ضيق :
– انا طبعا مش هسألك عن السبب، عشان متقوليش نفس الحجة، في حكاية انك كنتي هتتجوزي ومحصلش نصيب….. لكن دلوقتي انا بتكلم عن الوضع الحالي، وانا شايف انك تصلحي لوظيفة ارشيفية حتى لو بشؤون العاملين، بدل التفصيل والقعدة على المكن يا بهجة .
تخيل موافقتها على الفور، ولكنه تفاجأ بردها:
– بس انا بحب التفصيل فعلا على فكرة.
زفر بغضب مكتوم يردف حازما:
– تقدري تكملي هوايتك دي في البيت يا بهجة، انا بعرض عليكي دلوقتي فرصة ووضع احسن لواحدة متعلمة زيك.
حينما ظلت على صمتها ضرب بكفه على سطح المكتب:
– فكري كويس وخدي فرصتك يا بهجة، وانا من بكرة همضي قرار تعيينك.
اومأت برأسها بموافقة، لكن سرعان ما انتبهت لقوله معقبة بعدم فهم:
– افكر ازاي واخد فرصتي وانت حاسم قرار تعييني؟
اومأ بلهجة لا تقبل النقاش:
– امشي دلوقتي يا بهجة، واعتبري القرار اتنفذ، بقووولك امشي يا بهجة.
اضطرت في الأخير ان تنصرف من امامه، بتشتت اصابها، لا تصدق حزمه في امر يخصها كهذا، غير قابل حتى للمناقشة، لطالما وصفته الفتيات زميلاتها في العمل انه المغرور الوسيم، لتتيقن هي الاَن من صفة جديدة به، وهي انه ديكتاتور أيضا.
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كانت تقلها معه، حيث كانت جالسة بجواره في الامام ، وفي طريقهم نحو المنتجع السياحي، لقضاء شهر العسل ، ليته كان كذلك بالفعل.
تراقب صمته وقيادته الناعمة للسيارة بهدوء يثير تعجبها، رغم صخبه والمزاح المبالغ فيه، حينما يقابله شخص ما يعرفه، او يقف بلجنة ما ويصادف برؤية احد اصدقاءه من أفراد الشرطة، فيُقابل التهاني والمباركات منهم، بالابتسام وسعادة يجيدها امامهم، حتى اذا اختفى الجمع واختلت به كما يحدث الاَن، ظلت ابصاره منصبة على مراقبة الطريق، لا يتلفت اليها الا للضرورة، يحدثها بكلمات محددة ومقتضبة.
برغم كل ما حدث منه بالأمس معها ، إلا انها تعطيه عذره، ولن تتوقف عن محاولاتها في القرب منه مرة اخرى، علُه في يوم ما، يعود اليها عصام القديم.
– عصام…… ممكن تنتبهلي ولو دقيقة.
هتفت منادية حتى تخرجه من حالة الوجوم التي تتلبسه، وكما توقعت جاءها الرد بعد برهة من الوقت .
– نعم يا امنية، عايزاني انتبهلك ازاي وانا بسوق؟
تبسمت بضعف تجيبه:
– والله دي حاجة سهلة اوي، ممكن تتكلم وانت بتسوق عادي، دا لو عايز تتكلم….. انا عايزة اسمع صوتك يا عصام، عايزة نتكلم مع بعض زي الاول ومنوقفش…. حتى لو هتفتح في الموضوع اياه…… انا قابلة.
رغم ترددها ، إلا انها ملكت الشجاعة لقولها، وهذا يحسب لها، ولكنه كان بحالة من الغليان المكتوم من اجلها، حتى لا يجرحها، وما دامت طلبت بنفسها، اذن فلتتحمل.
التف اليها بتنهيدة مثقلة قائلًا:
– ماشي يا امنية نتكلم ، انا بقى عايز اعرف منك، حصل كام مرة؟ والامر دا كان في الخطوبة بس؟ ولا قبل كمان؟
قطبت بعدم فهم في البداية، لكن سرعان ما وصلت لمقصده، لتتنحنح بحرج تجيبه:
– مش بالصورة اللي في دماغك يا عصام، انا مكنتش هبلة للدرجادي، هما كام مرة بس بعد الخطوبة، لكن قبل الخطوبة والله ما حصل .
التف برأسه عنها معقبا بضيق متعاظم:
– في الحالتين مش فارقة، ما دام حصل، وكذا مرة كمان .
زفر دخان من حريق صدره، حتى شعرت بسخونته وصل اليها، لتردد بضعف:
– والله ما حصل غير بعد ضغط منه، كان بيستغل اوي فرق السن ما بينا وعدم خبرتي.
– يعني محصلش مع اي حد تاني غيره؟
اجفلها بسؤاله، حتى ارتجفت بزعر تنفي:
– اقسم بالله ما حصل، حتى جيبلي المصحف احلف عليه.
قبض على مقود السيارة حتى كاد ان يكسره، ليعبر عن حسرته كازا على اسنانه بشدة :
– كان نفسي الإجابة دي تبقى شاملاه هو كمان، تبقى شاملة الجميع، وانا ساعتها وربي كنت هصدقك من غير حلفان، لكن انتي يا امنية…..
قطع بأنفاس لاهثة، يمنع نفسه على المواصلة، بعدما شعر، بيداها التي التفت حول ساعده العضلي، وتميل برأسها عليه تذرف الدموع بندم مرددة:
– وانا والله اكتر منك، كنت اتمنى ابقى اعقل من كدة، كنت اتمنى اشوفك من زمان، انا كنت في احتياج للحب من اي حد، حتى لو كان وهم زي اللي كنت عايشاه مع الزفت ده اللي ربنا يجازيه…
زادت من ضمه ذراعه بقوة لتردف برجاء:
– انا شبعت بحبك عن كل العالم، اوعى تسيبني ولا تتخلى عني، عاقبني زي ما انت عايز، بس متسبنيش لحالتي في الضياع من تاني يا عصام…… ارجوك.
لانت ملامحه برجاءها، ورق قلبه لها حتى تخلى عن جموده، ليربت بكفه على وجنتها مهونا:
– خلاص بطلي عياط، انا مكنتش عايز افتح في مواضيع اصلا، بس انتي اللي جبرتيني.
– عشان عايزاك تطلع اللي في قلبك يا عصام، تجرحني احسن ما تشيل في نفسك ، وعقلك يشتغل بالظنون.
قالتها بضعف ورغبة صادقة التمسها في نبرتها، ليميل على رأسها فجأة يخطف قبلة على جبهتها، قبل ان يعود لقيادته، مردفًا:
– ماشي يا امنيه، ريحي انتي دلوقتي ، لسة قدامنا كذا ساعة على ما نوصل.
لم تتخلي عن تشبثها بذراعه، بل زادت من قربها منه قائلة:
– انا راحتي في قربك يا عصام، هضرك لو انام على كتفك وانت بتسوق؟
رحب بابتسامة رائقة:
– لا طبعا مش هتضريني يا امنية ، اخري بس الكتف هينمل، لكن يا ستي ولا يهمك.
تبسمت بارتياح لتسند رأسها مستسلمة لنوم تنشده منذ الامس، وهو يواصل القيادة، بعقل هدأ قليلًا، او مؤقتًا، ليشعل المذياع على اغنيه هادئه لفيروز، تساهم في ترطيب الأجواء المشحونة الى حد ما .
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
يا عصفورة بيضا لا بقى تسألي
لا يعتب حدا ولا يزعل حدا
أنا لحبيبي وحبيبي إلي
حبيبي ندهلي قلي الشتي راح
رجعت اليمامة زهر التفاح
و أنا على بابي الندي والصباح
و بعيونك ربيعي نور وحلي
و ندهلي حبيبي جيت بلا سؤال
من نومي سرقني من راحة البال
أنا على دربو ودربو عالجمال
يا شمس المحبة حكايتنا أغزلي
❈-❈-❈
بيد مرتجفة صارت تقرأ البنود في العقد الذي امامها، بعدم تصديق، تدقق النظر في الاسم، علُه تشابه يحدث كثيرا، ولكن كيف هذا؟ من في العالم بهذا الاسم غيرها تلك الملعونة؟ لترفع ابصارها اليه ، فيلتقط نظرتها هو بتحدي، وكأنه ينتظرها.
– ايه يا لورا، ساعة بتقري في بنود العقد الجديد!
بغضب مكتوم تجاهد لعدم انفلات الامر من يدها:
– ما انا بصراحة مش مصدقة، إيه لازمة نقل عاملة من قسم الملابس، لموظفة على مكتب، ما احنا لو محتاجين ، في غيرها كتير يستاهل.
تبسم ببرود يجيده:
– اكيد طبعا في غيرها يا لورا ، الدنيا مليانة كفاءات، بس انا قررت نقلها ببنود العقد الجديد اللي قدامك.، إيه المشكلة عندك بقى؟
– يا فندم المشكلة مش عندي، انا بتكلم عن الكفاءة، احنا اساسا لو محتاجين نعمل اعلان وهيتقدم الافات، ليه بقى نبدل ونفتح علينا فاتحة من باقي العمال اللي هيغيروا منها اكيد؟
زاد اتساع ابتسامته في استفزازها، ليردف بحسم:
– انا اصدرت امري، وانتي عليك تنفذي اللي عليكي، اما بقى عن مشاكل ولا اي عوق تاني، ميخصكيش يا لورا، انا المسؤول عنها يا ستي.
افحمها عن المجادلة لترفع راية الاستسلام امامه، وتستأذن للانصراف حتى اذا وصلت الى مكتبها، لطمت بكفيها على سطحه، تضغط على اسنانها، مانعة نفسها بصعوبة عن الصراخ او تكسير اي شي امامها تعبيرا عن غضبها ، حتى اذا تمالكت بأسها اخيرا رفعت رأسها متمتمة داخلها بتوعد :
– انا لازم يكون لي صرفة المرة دي وبسرعة .
❈-❈-❈
استيقظت من نوم القيلولة على اثر حركة ما في غرفتها، وبجوارها على الفراش، حتى اذا فتحت عينيها صرخت مزعورة:
– انت مين يا راجل انت……
قطعت مجبرة حينما حطت الكف الغليظة التي تعلمها جيدا، مع صوت صاحبها وهو يحذرها:
– اسكتي يا ولية هتفضحبنا ، انتي ايييه؟ مجهزة نفسك ع الصريخ .
رفع كفه حينما شعر بارتخائها، وهذه النظرة المندهشة منها ، لتعقب بعدم تصديق لما تراه امامها:
– انت ايه اللي عامله في نفسك دا يا خميس؟
تبسم يمسح بكفيه على جانبي شعره بزهو مرددًا:
– ايه فاجأتك صح؟ بس ايه رأيك في النيولوك الجديد؟ لايق عليا؟
هدأت اخيرا من صدمتها لتردد رافعة طرف شفتها بنزق:
– هو ايه اللي لايق عليك؟ انت صبغت شعرك ولا عملت ايه بالظبط؟ انا حاسة ان فيك حاجة غريبة مش فاهماها.
افتر فاهه بابتسامة بعرض وجهه تظهر الصف الامامي لاسنانه بالكامل، وهو يجيبها بفرحة:
– صبغت وزرعت يا درية، مش بقولك نيولوك.
اهتزت رأسها باستفسار تنقل بابصارها نحو الصلعة التي تقلصت الى حد ما :
– زرعت فين؟ ما الصلعة موجودة لسة؟
– لا ما انا زرعت نصها، لسة الباقي هياخد كام يوم .
مالت رأسها للخلف تطالعه بريبة لهذه اللهفة:
– والشعر اللي زرعته ده جيبته منين؟ انت ضامن دا جايبنه من فين؟
ضحك بتفكه ومبالغة لم تستجيب لها وهو يخبرها بتفاخر:
– يا ولية مايبقاش ضميرك سو ، مفيش حاجة اتزرعت من برا ، جوزك كله خير، ولا انت ناسية اني عندي غزارة في الانتاج ، وسوء في التوزيع.
ختم بضحكاته رافعا ذراعه امامها، لتظل هي على صمتها وراسها الاجرامي يدور بالظنون، حتى صدر ردها اخيرا:
– مبروك يا خميس ، الف مبروك يا حبيبي، عقبال يارب ما تحصد اللي زرعته.
جاء رده بالضحكات:
– حلوة احصد دي.
– عجبتك؟
– ايوة عجبتني اوي .
– اممم.
زامت بالاخيرة بابتسامة صفراء واضعة كفها على وجنتها تسمع منه الأحاديث التافهة التي كالعادة يجيد تأليفها من خيال عقله، حينما يريد التغطية على شيء ما برأسه.
فهي تفهمه اكثر مما يفهم هو نفسه.
❈-❈-❈
بداخل مطبخها، بعدما عادت من عملها، تقف امام القدر التي تقلبه على النار ، وتستمع الى حديث شقيقتها:
– يا بهجة صدقيني، صوت الباب اللي سمعته وانا طالعة، دا صوت بابنا ، انا حاسة الست دى دخلت شقتنا .
التفت لها شقيقتها بسأم:
– للمرة التانية بتقولي نفس الكلام يا عائشة، ايه هيدخل بس الست دي بيتنا؟ ليها ايه عندنا؟ ثم ازاي كمان؟
دبت عائشة قدمها على الارض بيأس:
– انا بقولك ع اللي حاساه يا بهجة، وانت مش عايزة تصدقيني.
– عشان انا بتكلم بالمنطق يا قلبي .
قالتها ثم دنت تطبع قبلة على وجنتها، تضمها اليها بحنان:
– ياريت الشطارة دي والبحث نوفرهم للمذاكرة، مش التفكير في حاجات تضر.
اومأت بهز رأسها، رغم عدم اقتناعها ، لتخطف قبلة اخرى قبل ان تامرها :
– ياللا بقى خدي اطباق السلطة دي وحطيهم ع السفرة ، على ما أكون جهزت الاكل اللي في ايدي .
اذعنت تطيعها، وما كادت ان تخرج من المطبخ، حتى دوى صوت الهاتف ، لتتناوله، تجيب نفس الرقم الذي اجابت عنه سابقًا:
– الوو يا رياض باشا، فيه حاجة؟
وصلها صوت ضحكته ، ليردد بمرح:
، ليه يا بهجة؟ هو انا لازم يبقى في مصيبة عشان اكلمك .
تحمحمت بحرج، لتصمت لحظات حتى أتى ردها:
– انا اسفة حضرتك.
– مفيش داعي للأسف يا ستي،انا كنت بتصل عشان ابلغك ، بقرار التعيين الجديد، انا مضيته ومن بكرة تيجي تستلمي كموظفة.
رفرفرت اهدابها بعدم تصديق تجادله:
– مضيت امتى حضرتك؟ هو انت مش قولتلي فكري وخدي فرصتك.
– وقولت اني هنفذ برضو يا بهجة .
ختم بضحكة نادرا ما تصدر منه ، لتبرق عينيها بدهشة للتغير المفاجيء لهذا الرجل ، حتى اذا انتهت المكالمة، غمغمت متسائلة مع نفسها بعدم تصديق :
– دا ايه اصله ده ؟
يتبع….