رواية غوثهم كاملة وحصرية بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الحلقة الأولى
“وأنظر لحالي…. أنظر لحالي في خوفٍ وفي طمعٍ هل يرحم العبد بعد الله من أحدٍ”
_”النقشبدي”
_________________________
الطُرق مَفروضة و الحُرية مرفوضة، هي دنيا تشبه السجن للمؤمن و نُزهة الضال، عليك السير فيها بحثًا عن الأمان و الطمأنينة، وكأنك تبحث عن مأوىٰ وسط صحراءٍ كاحلة، إن أبصرت بها أملًا…أحرص حتى لا ينقلب ألمًا…
______________
مَنْ لي سِواك، ومَنْ سِواك يَرى قلبي … ويسمَعُه؟ كُلّ الخَلائِق ظِلٌّ في يَدِ الصَمدِ
أدعوكَ يَا ربّ فاغفر زلَّتي كَرماً … واجعَل شَفيعَ دُعائي حُسنَ مُعْتَقدي
وانظُرْ لحالي في خَوفٍ وفي طَمعٍ … هَل يَرحمُ العَبدَ بَعْدَ الله من أحد؟
مَولاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُّ يَدي … مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟
صدح صوت ذلك الابتهال عاليًا في سكون الليل بغرفته كعادته دومًا في الليل يُروح عن نفسه بكلماته، حيث ترسله إلى عالمٍ أخر حيث الهدوء و السكينة، انتهى صوت الابتهال فتنهد هو بعمقٍ ثم أغلق الصوت ثم فتح شرفة غرفته يطل منها على الشارع، لكن هناك صوت خطواتٍ أتت من الخارج أقرب إلى التَسحب وكأنها واحدة من الزواحف تسير على الأرض، وقد رافق تلك الحركة ظلٌ لاحظه “أيوب” من أسفل عتبة باب غرفته، فضيق جفونه بغموضٍ سُرعان ما تحول إلى الخبث وقرر اللعب هو الأخر.
_”أيوب عبدالقادر بكر العطار”
شاب في العام التاسع والعشرون من عمره، ملتزم دينيًا يسعى دومًا إلى منفعة الناس بعلمه و عمله، حيث مَنَّ الله عليه بتعلم أمور الدين الإسلامي.
ملامحه الهادئة دومًا تجعل من ينظر له يشعر بالراحةِ، السكينة تسكن وجهه، بشرته حنطية اللون حيث تمتزج بين البني الفاتح والبني الداكن، عينيه بُنيتين وأهدابه كثيفة باللون الاسود، طويل القامة وجسده قوي البنية، خصلاته سوداء كثيفة مرفوعة دومًا وكثيفة، لحيته السوداء المنمقة تُزين وجهه دومًا، على الرغم من الحزم البادي عليه، إلا إنه عُرف بالهدوء و لين الطبع.
خرج من الغرفة يسير بنفس سير الجسد الأخر الصغير وكأنهما سربًا مع بعضهما، ثم توقف لبرهةٍ عابرةٍ، ينتظر فيها مرور الأخر نحو وجهته _الغير معلومة _ ثم وقف على أعتاب المكان ينتظر القادم.
دخل الطرف الثاني بنفس طريقة السير نحو الثلاجةِ على الرغم من الظلام الدامس بالمكان يفتحها في منتصف الليل كما السارق يود تفريغ الخزينة، فتح بابها وظهر الضوء منها و مبتغاه بها مُنيرًا، ضرب كفيه ببعضهما في اشتهاءٍ واضحٍ ثم بلل شفته السُفلى وهو يقول بنبرة شرٍ:
“مش عيب تباتي برة أوضتي؟”
فور انتهاء جملته وجد من يمسكه من سترته في الخلف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
“العيب هو أنتَ بنفسه يا إياد، بتسرقنا !! بتسرق بيت جدك؟”
اتسعت عينيه بدهشةٍ وظل ثابتًا يمسك قالب الحلوىٰ، ثم التفت برأسه يقول بخوفٍ:
“أيوب !! أوعى تفهمني صح !!”
نظر له “أيوب” بسخريةٍ وقبل أن ينطق شعر باقتراب أحدهم من المطبخ فخطف قالب الحلوى يضعه على الطاولةِ، ثم كمم فم الصغير ووقف به منزويًا في أحد أركان المطبخ متخفيًا عن الأنظار و الصغير يقف أمامه وكف “أيوب” على فمه.
دلف ذلك الشخص في الظلام يحاول ألا يصدر أية أصواتٍ قد تزعج الآخرين، بالطبع ليس حبًا بهم، لكن خوفًا على هيئته.
أخرج هاتفه يضيء مصباحه فوجد قالب الحلوىٰ على الطاولةِ فابتسم بظفرٍ وهو يقول بنبرةٍ هادئة لم تخلو من الفرح:
“أنا كنت عارف إنك مستنياني، مش هتعرفي تباتي من غيري”
كاد أن يضحك الصغير لكن “أيوب” ضغط على فمه أكثر ثم مال عليه يهمس له بنبرةٍ خافتة بالكاد سمعها هو:
“ما شاء الله، دي وراثة بقى”
حرك رأسه موافقًا وعينيه تضحكان على الموقف، فتحدث الأخر باشتهاءٍ يقول:
“أنتِ حلوة أوي أوي، و نوعي المفضل على فكرة”
كان يتحدث مع قالب الحلوى وهو يقلبه في يده، ثم نطق بأسفٍ:
“الواد إياد برضه حبك على فكرة، و أيوب كمان، بس على رأي المثل، الغايب اهضمله النايب، علشان كدا تعالي اهضم نايبهم فيكِ”
وضعها على الطاولةِ ثم اقترب من مقبس الكهرباء يضيء المطبخ، ثم التفت من جديد فوجد “أيوب” و “إياد” الصغير يجلس بجواره، حينها شهق بفزعٍ ثم تابع بقوله:
“أعوذ بالله من الخبث و الخبائث”
تحدث “أيوب” بتهكمٍ:
“يا جدع ؟؟ دا احنا في المطبخ حتى، عيب يا أيهم، عيب”
تحولت ملامحه إلى الضجر ثم اقترب يسحب مقعدًا يجلس بجوارهما وهو يقول بتهكمٍ:
“ولما هو عيب ليا، مش عيب عليكم، جايين تمدوا ايدكم في الحرام ؟؟ إخس !!”
رفع “أيوب” طرف فمه بسخريةٍ، بينما تحدث الصغير “إياد” بسخريةٍ:
“هو أنتَ كنت جاي تكشف عليها يعني يا بابا ؟؟ جاي علشان تعمل زينا كدا”
تدخل “أيوب” يمنعه بقوله بنبرةٍ اقرب للانفعال:
“لأ ولا !! زيك أنتَ و أبوك يا حبيبي، أنا واحد في أوضتي لمحتك بتتسحب من الأوضة، مشيت وراك علشان أمسكك، طلع أبوك ما شاء الله خبرة”
هتف جملته الأخيرة بسخريةٍ وهو يوزع بنظراته بين أخيه و الصغير، وقبل أن يتشدق أخيه هو الأخر، أرهف “أيوب” سمعه، فوصله صوت خطواتٍ تقترت منهم، فاشار لهم وركضوا معه يختبئون في زاويةٍ بعدما أغلق “أيهم” الضوء.
دلف صاحب الخطوات حيث المطبخ ثم فتح الضوء وقبل أن يتجه للثلاجة، لفت نظره قالب الحلوى الموضوع على الطاولةِ، فاقترب يقول بتعجبٍ بعدما وضع عصاه جانبًا:
“مين اللي ساب دي هنا !! إيه بيت المجانين دا”
تحدث “أيوب” بنبرةٍ خافتة يهمس لهما:
“طب والله راجل كُبرة ومحترم، عمره ما يمد أيده في الحرام”
أنهى جملته فوجد والده “عبدالقادر” يتنهد بعمقٍ وهو يقول:
“أنا بقول خسارة تتسابي هنا وأخدك الأوضة مع كوباية شاي بالنعناع”
تلاشت البسمة من وجه “أيوب” فيما جاهد “أيهم” ليكتم ضحكته وهو يقول هامسًا:
“يابا بيقولك العِرق دساس”
نظر له “أيوب” بحاجبٍ مرفوعٍ، بينما “عبدالقادر” أوشك على المغادرة فركض له “إياد” يقول بنبرةٍ مرحة:
“استنى يا جدو هاجي آكل معاك”
انتقض “عبدالقادر” فزغًا من ظهور الصغير المُفاجيء له، بينما “إياد” توسعت ضحكته أكثر خاصةً وجده يرمقه بغيظٍ قائلًا:
“ياض هتوقفلي قلبي في مرة، مش حملك ولا حمل أبوك أنا”
خرج “أيهم” من مخبئه يقول معاتبًا بمرحٍ:
“لأ لأ مش اسلوب أبدًا دا يا حج”
نظر له والده بسخريةٍ وهو يقول:
“أنتَ كمان هنا !! ما شاء الله على الخِلفة و الأصل ؟؟ الواد و أبوه؟؟”
_”وعمه كمان يا حج”
هتفها “أيوب” بمرحٍ وهو يقترب منه، فزادت السخرية أكثر من قِبل والده الذي قال بنفس السخرية:
“حتى أنتَ !! يا فرحتك يا عبدالقادر، مكانش العشم أبدًا”
ضحك “أيهم” ثم أشار لابنه بسخريةٍ وكأنه يدعوه للمشاهدة، بينما الصغير ضحك أكثر وهو يوزع النظرات بينهم وكأنه يسأل ما القادم ؟؟.
_”أيهم عبدالقادر بكر العطار”
الابن الأكبر لعبد القادر يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثون عامًا، والد “إياد” ذلك الصغير الذي يبلغ من العمر ٩ سنوات.
يشبه “أيهم” والده كثيرًا حيث الملامح الحادة نفسها، بشرته تميل إلى البني، أغمق من بشرة أخيه بنسبة قليلة، عينيه باللون العسلي الداكن، خصلاته بنية داكنة طويل القامة كما أفراد عائلته و كما المعروف عنهم حبهم للرياضة الجسدية منذ الصغر لذلك وجدوا أقوياء البنية، لحيته داكنة اللون البني، أكثر وسامةً من أخيه كما أن شخصيته حازمة تميل إلى الجدية مع الغرباء لكن مع ذويه تظهر طبيعته المرحة، و يشبهه ابنه كثيرًا في نقاط شخصيته وملامحه أيضًا.
_”عبدالقادر بكر العطار”
والد الشباب، رجلٌ عرف بالهيبة والوقار وسط الجميع، من تجارته الواسعة أو معاملته الحسنة مع الجميع ومساعدته للمنطقةِ بأكملها حتى ذاع صَيته وعرفت المنطقة باسم “حارة العطار”.
يخالط الشيب رأسه والهيبة دومًا مرسومة على ملامح وجهه، على الرغم من لينه و رزانته، إلا أن الجميع يهابونه كما لو أنه أسدًا أمام سربًا من الضباع، حازم الطباع، جاد في كل شيءٍ، صارمٌ في عمله و قرارته، يعتبر بيته هو المملكة الخاصة به و بأولاده خصيصًا بعد وفاة زوجته و حبيبة عمره، و قبل وفاتها تركت له ثلاثة هدايا كما يلقبهم هو، أكبرهم “أيهم” و أصغرهم “آيات” تلك الفتاة التي ورثت كل صفات والدتها الشكلية أو التعاملية.
التفوا حول الطاولةِ مع بعضهم، فسأل “إياد” بتعجبٍ من سكونهم أمام قالب الحلوىٰ:
“هنفضل نتفرج كتير ؟؟ حد يأكلنا طيب ولا ندخل ننام؟؟”
تحدث “أيهم” بثباتٍ:
“جدك موجود أهو يبدأ هو افتتاح المشروع، يلا يا حج ورانا هم متلتل الصبح”
نظر “عبدالقادر” لابنه الأخر بسخريةٍ ثم قال:
“و حضرتك مش ناوي تقول حاجة ؟؟”
رد عليه “أيوب” ببساطةٍ:
“كدا كدا نازل أروح المسجد كمان شوية، مش فارق معايا أنا لسه واكل الحمد لله”
استمع “أيهم” إلى صوت خطواتٍ يقترب منهم، فقال بهمسٍ يحذرهم من مجيئها:
“الباب بتاع أوضة آيات فتح، يلا بسرعة اتحركوا”
اختبأ “أيوب” ومعه الصغير في الجهة اليسرى و الآخرين في الجهة اليُمنى، وظل المطبخ فارغًا بقالب الحلوى على الطاولةِ.
دلفت “آيات” المطبخ فشهقت ما إن أبصرت القالب على الطاولة ثم اقتربت منه بلهفةٍ تبحث عن السبب في وجوده هنا، فتنهدت بعمقٍ ثم قالت ومازالت توليهم ظهرها:
“اللي طلع التورتة من التلاجة يطلع بكل براءة كدا علشان مزعلهوش، يلا مين اللي كان ناوي يعمل كدا فيها”
تقدم “إياد” منها يقول ببراءةٍ:
“أنا يا عمتو، هتستخسريها فيا؟”
نظرت له من فوق كتفها بعدما حانت منها التفاتة، بينما هي تنفست بعمقٍ وقبل أن تنطق خرج “أيوب” يقول ببراءةٍ مُقلدًا طريقة الصغير:
“أنا يا أختي، هتستخسريها فيا؟”
رفعت حاجبها تطالعه باذدراءٍ وهي تقول ساخرةً:
“دا انتم تشكيل عصابي بقى !!”
اقترب “أيهم” يقول بضجرٍ:
“فيه إيه يا بت !! كل دا علشان أهل خطيبك جايين بكرة يعني ؟؟ اعملي غيرها يا حبيبتي، حرام عليكي تكسري بخاطري العيال دي”
حاولت التحدث فأوقفها “أيهم” بقوله الذي ظهر به الأسىٰ:
“قبل ما تتكلمي افتكري إن محدش فينا عمره بخل عليكِ بحاجة، ياما طلعتها من بوقي علشانك”
تحدثت “آيات” بنبرةٍ جامدة:
“بس قرف !! وسعت منك شوية بقى علشان أنا بقالي يومين بظبط فيها، والناس جاية بكرة خلاص، حرام عليكم بجد، أنا هقول لبابا هو يجي يشوف حل”
التفتت تغادر المطبخ بعد جملتها فوجدت والدها يقف أمامها بهيبته وهو يستند على عصاه الخشبية التي اعتلى رأسها حصانًا من اللون الفضي، بينما هي سألته بتعجبٍ:
“بتعمل هنا إيه يا بابا ؟؟ دا أنا كنت جاية أشتكيلك منهم”
تحدث “إياد” يجاوبها بفرحةٍ امتزجت بالبلاهةٍ:
“تشتكي لمين بس !! دا كان جاي يعمل زي اللي إحنا عملناه بالظبط، اتارينا كلنا طالعين للراس الكبيرة”
حدجه “أيهم” يحذره بسبب طريقته، فسكت “إياد” عن الحديث بإحراجٍ من حديثه، بينما “عبدالقادر” قال لها بثباتٍ:
“أخواتك كانوا نفسهم في حاجة حلوة، وخير ربنا كتير أهو، ولا هو علشان خطيبك بقى أنيم العيال جعانة يا أستاذة آيات؟؟”
تنهدت بعمقٍ ثم قالت بمرحٍ:
“طز في خطيبي وعيلته كلها، يلا كلوا منها ومش مهم هو، بكرة هتجوز عندهم و اعملهم كتير إن شاء الله”
ظهر الحماس على ملامحهم، فأضاف “أيهم” يوعدها بقوله:
“وعد مني بكرة الصبح هيكون عندك محل حلويات، بس دي بصراحة عيب تتساب كدا، المفروض نقدر الجمال دا، ولا إيه يا شيخ أيوب؟؟”
حرك رأسه موافقًا بينما سحب “عبدالقادر” مقعدًا ثم أشار لـ “إياد” الذي اقترب منه فأجلسه على قدمه وهو يقول بزهوٍ:
“إياد هيقطعها أهو، وأنا معاه، بسرعة قبل ما أخوكم يروح المسجد يلا، اقعدوا”
تحدث “أيهم” بطريقةٍ مصطنعة يقول:
“لو حد بس ربنا يكرمه ويقوم يعملنا كوبايتين شاي كدا جنبها يبقى كدا فل أوي، بس مين هيقوم؟؟”
سحبت “آيات” المقعد تجلس عليه وهي تتشدق بنذقٍ:
“آه إن شاء الله، لأ أنا من الصبح واقفة بعمل الأكل والحلويات، خلوها مرة تانية إن شاء الله”
كان “أيوب” الوحيد الذي يقف بينهم وقبل أن يسحب المقعد تحدث “أيهم” بقوله يردعه:
“أيوب !! أنتَ هتقعد ولا إيه؟؟ أخوك الكبير قاعد و الحج واختك الصغيرة البريئة دي، و أنتَ عاوز تقعد !! أعمل الشاي يا حبيبي يلا”
رفع “أيوب” حاجبه فعضعض “أيهم” شفته وهو يغمز له وكأنه يتعامل مع طفلٍ في صغر عمره، فقلد “أيوب” حركته وهو يقول بتهكمٍ:
“إيه دي؟؟ إيه دي مش فاهم بجد كدا أنتَ بتشتغل مين فينا؟؟”
تحدث “عبدالقادر” بنبرةٍ هادئة:
“طب لو قولتلك إني عاوز الشاي من إيدك أنتَ ؟؟ هترفض؟”
حرك رأسه نفيًا ثم رد مُبتسمًا:
“مقدرش، أعمله من عيني كمان”
ابتسم له “عبدالقادر” فيما تحرك “أيوب” في المطبخ الواسع يقوم بصنع الشاي للجميع و “آيات” تنظر له بحبٍ.
_”آيات عبدالقادر بكر العطار”
الفتاة الصغيرة لعبد القادر، تبلغ من العمر خمسٌ وعشرون عامًا، عينيها باللون العسلي الفاتح كما لون أعين والدتها، بشرتها بيضاء اللون و وجنتيها ومنطقة الأنف باللون المتورد، جسدها لم يكن نحيفًا لكنه ضعيفًا مقارنةً بعمرها، طويلة القامة كما أبيها وأخوتها، عرفت بالتزامها وسط فتيات المنطقة و خجلها الدائم من الجميع عدا أفراد أسرتها تتعامل وكأنها الابن الثالث مع أخوتها، لينة الطباع ورقيقة، تمت خطبها منذ فترة وقد شارف موعد الزفاف على القدوم.
أنهى “أيوب” عمل الشاي ثم اقترب منهم بالصينية يجلس وسطهم فَـ ساد المرح بينهم وهم يتقاسمون قطع الحلوىٰ، بينما “عبدالقادر” وزع نظراته عليهم وهم يضحكون مع بعضهم ثم تنهد بعمقٍ وظهرت الدموع في أعينه وهو ينبس بنبرةٍ خافتة يدعو لحبيبة عمره”.
“الله يرحمك يا رُقية”
_________________________
تعددت الأوصاف في الغُربة، وكلٍ منهم ينعتها بأبشع الصفات، الغُربة…كُربة، الغُربة….مُرة، لكن تلك هي الغُربة التي يعيشون هم بها، فماذا عن الغُربة التي تسكنهم !! ماذا عن خمول روحهم، تأتي عليك أحيانًا لحظات تجعلك تفكر على أنتَ من يسكن الغربة أم أن الغربة هي التي تسكنك !!.
تنهد بعمقٍ ثم رفع رأسه للسماء يطالع نجومها وفي يده سيجارته المشتعلة، ثم رفعها باصبعية السُبابةِ و الإبهام يَضعها بين شفتيه يسحب هوائها داخل رئتيه ثم يُخرجه من جديد.
كان يجلس في مدينة
“العين السخنة” على الشاطيء ليلًا وسط الطبيعة التي تبدو للآخرين موحشة، لكنها تشبهه كثيرًا فارغة… شاغرة لكن بتواجدك بها تجد الراحة.
أخرج هاتفه وخاصةً موقع التغريدات “تويتر” حيث يُعد واحدٌ من أشهر رواده في التغريدات حيث العبارات التي يدونها به، وتُلاقي إعجاب الكثيرين، رأى أيقونة الاشعارات مُمتلئة فضغط عليها ليظهر له اعجاب المتابعين بما يكتبه.
سحب نفسًا عميقًا ثم دون كعادته واصفًا ما يشعر به:
“بس أنا لوحدي كتفي من غير طبطبة و دماغي لسه مفضيتش من الكركبة”
دون تلك العبارة ثم أغلق الهاتف ورفع رأسه للسماء من جديد يتذكر ماضيه الذي مر بعدة محطاتٍ كلما زاد عمره زادت معاناته، ارتوىٰ الكثير من المعاناة وكأن روحه تتعطش للعذاب.
صدح صوت هاتفه من جديد في تلك اللحظة، فرفعه ينظر على اسم المتصل ليجده رقم عمته، تنهد بضجرٍ ثم تجاهل المكالمة، فحاولت هي من جديد.
زفر بقوةٍ ثم وضع الهاتف في جيبه بعدما ألقى سيجارته، فوجد أحد العاملين معه يقترب منه وهو يقول بلهفةٍ:
“يا بشمهندس يوسف، فيه مكالمة على تليفون المدير علشانك، تعالى علشان عاوزك ضروري”
زفر “يوسف” بحدةٍ ثم رد بإيجازٍ:
“مش جاي، قوله مش فاضي”
رد عليه الرجل الذي تقريبًا في ضعف عمره:
“مش هينفع صدقني، قوم بس تعالى ربنا يكرمك عدي الليلة دي”
وقف “يوسف” ثم نفض كفيه ببعضهما من الغُبار الذي علق بهما، ثم قال بتهكمٍ:
“خليه ميعديهاش، يبقى جاب أخره في صبري”
تحرك أمام الرجل، بينما الأخر نظر في أثره بيأسٍ من طريقته الجامدة معهم، وبحثه عن المشاكل دومًا وكأنه يستلذ بذلك.
وصل لغرفة المدير ثم طرق الباب حتى وصله إذن الدخول، ففتح الباب ثم وقف أمامه يقول بثباتٍ لم ينفك عن محله على الرغم من ملامحه المقتضبة:
“نعم يا فندم ؟؟ خير ؟؟”
أخفض المدير نظراته الطبية ثم قال بنبرةٍ هادئة:
“الأتوبيس اللي جاي كمان ساعة حضرتك هتنزل فيه إن شاء الله مع الطقم كله، مش هتفضل قاعد هنا”
حرك رأسه باستفهامٍ دون أن يتفوه بذلك، فطالعه الأخر مستنكرًا وهو يسأله:
“خير فيه حاجة؟؟”
سأله “يوسف” بنبرةٍ أقرب للانفعال على الرغم من محاولة تمسكه بالهدوء:
“بس أنا قولت أني مش هنزل، وإني هستنى لحد البريمة الجديدة تشتغل، لازمته إيه انزل بقى ؟؟”
رد عليه الأخر مفسرًا:
“لازمته إن لسه في شهر كامل لحد البريمة ما تتحرك، و كل حاجة هنا هتمشي لأن الشركة خلصت دورها، أكيد وجودك هنا ملهوش أي داعي، يبقى تنزل تقضي اجازتك لحد ما البريمة الجديدة نعرف مكانها فين”
زفر “يوسف” ثم التفت يغادر الغرفة، فسأله المدير بتعجبٍ من صمته:
“أنتَ رايح فين؟؟ رد عليا”
التفت يتحدث بضجرٍ:
“رايح ألم حاجتي، مش قولت الاتوبيس جاي في الطريق ولا دا كان كلام فاضي؟؟”
رفع المدير حاجبيه بغير تصديق لطريقة الأخر الذي عاد من جديد يستأنف خروجه من الغرفة، فضرب المدير كفيه ببعضهما يقول بدهشةٍ:
“مجنون دا ولا إيه؟؟”
خرج “يوسف” من غرفة المدير يتجه نحو غرفته هو بخطواتٍ واسعة ثم ضرب الباب بيده فوجد زميله بالغرفة يقول بفزعٍ من دخوله بتلك الطريقة:
“ياعم قولتلك خبط ولا أعمل أي حاجة كدا بدل دخلة الحكومة دي، هتقطعلي الخَلف يا عم”
زفر “يوسف” ثم تجاهله تمامًا وسحب حقيبته يضع بها أغراضه فتحدث الأخر بتهكمٍ:
“يا سلام ؟؟ مش قولت إنك هنا لحد البريمة الجديدة؟؟ بتعمل إيه بقى؟؟”
وقف “يوسف” يضع كفيه في خصره بحيرةٍ ثم أطلق زفيرًا قويًا وقال:
“الحاجة هتتفك ومش هينفع أفضل هنا خلاص، أكيد حد كلمه علشان انزل طالما مبردش عليهم، هنزل أشوف عاوزين إيه و أخد إجازة شوية لحد البريمة الجديدة، خصوصًا إن فلوسي قربت تخلص”
تفهم زميله حالته، فاقترب منه يقنعه بالحديث قائلًا:
“أديك قولت أهو أنزل غير جو وشوف الدنيا هناك و هات فلوسك لحد الشغل الجديد اللي لسه مش معروف وقته ومكانه، هتقعد هنا تأجر شقة تصرف فيها فلوسك كلها بعدين ترجع تندم؟”
تنهد “يوسف” ثم جلس على الأريكة ينظر في الفراغ أمامه محاولًا الوصول لنقطةٍ ترضيه، فصدح صوت هاتفه عاليًا بنفس الرقم، فتح الهاتف أخيرًا يجاوب باقتضابٍ:
“نعم ؟؟ خير حصل حاجة ؟؟”
وصله صوتها تقول بنبرةٍ مختنقة وكأن البكاء يداهمها:
“يوسف…ازيك يا حبيبي، وحشتني أوي…كل دا علشان ترد عليا ؟؟؟”
تنهد بضجرٍ ثم قال بحديثٍ مقتضبٍ:
“مش فاضي عندي شغل، خير؟”
ابتلعت طريقته ومعاملته الجافة ثم قالت بنبرةٍ باكية:
“صدقني أنا عاوزاك ومحتاجالك أوي، لو ليا خاطر عند ورحمة مصطفى عند…..”
تحدث بنبرةٍ جامدة بعدما نفذ صبره:
“متحلفينيش برحمته !! ومحدش يجيب سيرته على لسانه منكم، مفهوم !!”
ردت عليه ببكاءٍ وقد أحزنها حديثه:
“على فكرة مصطفى كان أخويا زي ما هو كان أبوك، محدش قالك أني كنت بكرهه، بالعكس أنا روحي كلها كانت فيه هو”
ابعد الهاتف عن أذنه يهمس بضجرٍ:
“استغفر الله العظيم”
أعاد الهاتف من جديد ثم قال بإيجازٍ:
“الله يرحمه، نعم برضه ؟؟”
مسحت دموعها ثم قالت بتوسلٍ:
“تعالى أبوس إيدك، أنا مش حمل اللي بيحصل هنا كتير عليا، تعالى يا يوسف وابقى أرجع تاني”
استسلم هو لكل ما يحيطه من ضغطٍ ثم تشدق بنذقٍ:
“جاي…. إن شاء الله، سلام”
أغلق الهاتف ثم ألقاه على الطاولةِ وفرد جسده وزفر بعمقٍ فيبدو أن القادم يحمل معه الكثير وهو أضعف من مواجهة كل ذلك.
_”يوسف مصطفىٰ الراوي”
شابٌ في العام الثلاثون من عمره ، يعمل مهندسًا بتروليًا، لم يكن له يومًا مستقرًا، بل دائم الترحال بسبب عمله، ومنذ صغره أيضًا فرضت عليه الغربة و التنقل خصيصًا بعدما فقد أسرته بالكامل في حادث سيرٍ على الطريق ولحسن حظه أو سوءه لم يكن مع أسرته في ذلك اليوم، إنما كان في بيت العائلة القديم.
بشرته حنطية و خصلاته سوداء لامعة وثابتة دومًا، مرفوعة بثباتٍ و عينيه بُنيتين قاتمتين نظراتهما حادة ورغم ذلك هناك نظرة بريئة تشبه نظرات الطفولة التي تطل منها، قوي البنية ولم يكن مبالغًا في عضلات جسده، حيث كانت طبيعية، طويل القامة بشكلٍ طبيعي، أخذ من والده وسامته و اهتمامه بنفسه و هيئته، ولم يأخذ أية صفة من صفاته، بل جميعها غريبة حتى عنه هو.
_______________________
في صباح اليوم التالي
_”يا حج كتر ألف خيرك لحد كدا، إن شاء الله هيكونوا معاك النهاردة، ربنا يكرمك ويجعلهم فكة في إيديك دايمًا، مع ألف سلامة في رعاية الله”
صدح صوت “فضل” وهو يتحدث في الهاتف ثم أغلقه وقد اقتربت منه زوجته تضع أمامه كوب الشاي وهي تسأله بلهفةٍ:
“ها يا فضل ؟؟ هياخدهم خلاص اجهزهم ؟؟”
رد عليها بملامح وجهٍ ظهرت بها الراحة وكذلك نبرته وهو يقول:
“آه يا ستي الحمد لله، كتر ألف خيره لحد كدا، كان رافض ياخدهم خالص وبيقولي ضحى زي بنتي، الحج عبدالقادر طول عمره راجل محترم وخيره على الكل وحارة العطار كلها تشهدله”
ردت عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
“أنا مصدقتش بصراحة أنه مش هياخدهم ساعتها، يبان جد وناشف بس لما عرف حوار الخطوبة سامح فيهم بقاله ييجي سنة، أبن حلال أوي”
أمسك كوب الشاي في يده ثم ارتشف منها رشفةً كبيرة ثم قال يذكرها:
“آه شوفي عُدي كدا ياخدهم يوديهم النهاردة علشان هتأخر في الشغل شوية، مش هلحق أروحله”
ردت عليه بقلة حيلة:
“عدي ؟؟ يا حبة عيني نزل يلف على شغل من ساعة ما مشوهم وباعوا الشركة، وشايل هم عروسته اللي لسه متقدملها دي لو عرفت، ربنا يصلحله الحال”
وقف “فضل” ثم قال بنفاذ صبرٍ:
“قولتله ييجي يشتغل معايا في المحل، ماله يعني ؟؟ صنعة قديمة والكل بيشكر فيها”
ردت عليه بقلة حيلة تحاول بها إرضاء جميع الأطراف:
“مش شغلته يا حج، عدي عنده طموح وعاوز يوصل بشهادته، بس تقول إيه بقى ؟؟ معاه شهادة وخلاص، متزعلش منه هو برضه مضغوط”
حرك رأسه موافقًا ثم لوح لها بكفه وهو يقول:
“هو حر خلاص، المهم شوفي الفلوس مين هيبعتها، لو ضحى أو قمر هنا، خلي واحدة منهم تروح حارة العطار تديهم الفلوس”
وافقت على حديثه ثم دعت له بالرزق والخير في الصباح وأن يفتح له الله أبواب الرزق.
تحركت “أسماء” من محلها بعد تحرك زوجها ثم فتحت باب الشقة واتجهت للشقة المجاورة ففتحت لها فتاةٌ من عمر ابنتها، فقالت بضجرٍ:
“وسعي يا ضرتي من وشي، خليني أدخل أشوف أمك”
تحركت الفتاةِ تشير لها بالدخول، بينما الأخرى رمقتها بغيظٍ ثم رفعت صوتها تقول:
“يا ضحى !! يا ضحى أنتِ فين”
خرجت ابنتها من الداخل وهي تقول بضجرٍ:
“نعم يا ماما ؟؟ أنام في شقتنا تصحيني، أنام عند عمتي برضه تصحيني ؟؟ أنام فين تاني على السلم ؟؟!”
أتت عمتها من الداخل تقول بسخريةٍ:
“ما أنتِ صاحية أهو وزي الفل، يعني الست مصحتكيش ولا حاجة”
ردت عليها “ضحى” بيأسٍ:
“والله لو نايمة هي برضه كانت هتصحيني، بس أمري لله أمي بقى”
تنهدت “غالية” ثم جلست على الأريكة وقد اقتربت منها “قمر” ابنتها وهي تقول مستفسرةً:
“خالو مشي ؟؟”
حركت “أسماء” رأسها موافقةً ثم أضافت بتشفٍ:
“واحدة منكم تروح حارة العطار تودي الفلوس للحج عبدالقادر، علشان فضل كلمه وقاله الفلوس هتوصله النهاردة”
تحدثت “ضحى” ابنتها بلهفةٍ:
“مش هينفع خطيبي جاي النهاردة ومش هلحق اروح وأرجع تاني اظبط نفسي، معلش خليها مرة تانية”
تحدثت “قمر” بضجرٍ من ذكره:
“يا ستار يا رب من دي سيرة، افتكريلنا حاجة عدلة الله يرضى عنك”
نظرت لها “ضحى” بحزنٍ بينما “اسماء” قالت بسخريةٍ:
“لو الشتيمة في علاء دا بفلوس كان زماننا أغنيا، بس نقول إيه سيرة فقر برضه”
تحدثت “ضحى” بضجرٍ:
“يا جماعة بس بقى علشان بزعل، الراجل معملش ليكم حاجة وحشة”
تحدثت “اسماء” بضجرٍ من ذكره الغير مرحب به:
“بس بقى قفلي على السيرة دي داهية تقطع الحب و سنينه، مين فيكم هتروح يعني ؟؟؟”
هتفت “ضحى” بلهفةٍ:
“قمر تروح وخلاص كدا كدا هتجيب حاجات من هناك، أنا بصراحة مش هقدر أنزل وأرجع تاني”
تنهدت “قمر” بقلة حيلة ثم حركت رأسها موافقةً.
_”قمر”
فتاة تبلغ من العمر ثلاثة وعشرون عامًا، تخرجت من الجامعة العام الماضي، تسكن برفقة والدتها بعدما سُلبَ منهم بيتهم القديم، فقد تحمل “فضل” مسئوليتهم من بعد فراغ الحياة عليهما هي وابنتها الوحيدة، ملامح “قمر” رقيقة إلى حدٍ كبير حيث انفها الصغيرة و عيونها الواسعة البنية، واهدابها الكثيفة و حاجبين سوداويين مُنمقين، بشرتها بيضاء، جسدها متناسق كما جسد والدتها، طولها متوسط، تشبه غيرها من الفتيات.
“ضحى ابنة فضل”
الابنة الثانية له من بعد شقيقها الكبير، تبلغ من العمر أربعة وعشرون عامًا، بشرتها أقرب للاسمرار قليلًا، مرحة بشوشة الوجه، تحب عائلتها بدرجةٍ كبرى وكذلك تحب خطيبها “علاء” الذي شارف زفافها معه خلال فترةٍ قصيرة.
_________________________
في حارة العطار.
بداخل الحارةِ نفسها تحديدًا ذلك البيت الضخم الذي بُنيت وجهته الخارجية من الرخام، و مزود بإضاءة عالية، قمة البيت هرمية الشكل، وأساس البناء نفسه من الطوب البني الفاتح (طوب فرعوني) والأرض رخامية أيضًا و ردهته واسعة، يلحقها من الجانب مكانٍ يطلق عليه
“مندرة العطار، كان من أفخم البيوت في المنطقة بأكملها.
الطابق الارضي بردهة البيت و الطابق الاول لعبدالقادر، وبقية الطوابق مقسمة لأبناءه حيث الطابق الثاني لـ “أيهم” و الثالث لـ “أيوب” و الطابق الرابع خصصه لـ “إياد” و الخامس لحفيده الثاني ابن “أيوب” إن شاء المولىٰ.
وقفت “آيات” في الطابق الأول تقوم بتجهيزه لعائلة خطيبها، و بجوارها “مهرائيل” تقول بتذمرٍ:
“هو خطيبك أنتِ مال أمي أنا بقى يا آيات ؟؟”
ردت عليها الأخرى بمعاتبةٍ زائفة:
“اخس عليكِ يا مهرائيل، دا بدل ما تقوليلي ريحي أنتِ وأنا هعمل مكانك ؟؟ دي معاملة يعني؟؟”
حركت رأسها موافقةً وهي تؤكد حديثها، بينما اقتربت إمرأةٌ جسدها ممتلئ إلى حدٍ، مسئولة عن إدارة البيت بجميع أحواله تقول بسعادةٍ:
“كل حاجة جاهزة ياست البنات، و الآنسة مهرائيل كتر خيرها من الصبح طلع عينها، هبقى آكلها قبل الكل واتوصى بيها”
اقتربت منها “مهرائيل” تمسك ذراعيها وهي تقول بحماسٍ:
“طنط وداد أنا بحبك أوي، بقولك إيه، خدي بوسة، أنتِ باشا البشوات”
ربتت “وداد” على ظهرها وهي تقول بتمني:
“ربنا يسعدك يا حبيبة قلبي”
نظرت لهما “آيات” بوجهٍ مبتسمٍ، خاصةً في ملامح وجه رفيقتها “مهرائيل”.
_”مهرائيل جابر عطية”
فتاة في العام الخامس والعشرون من عمرها، رفيقة “آيات” الوحيدة وجارتها، فتاة مرحة ودودة مع الجميع، تملك الشيء ونقيضه معه.
عينيها باللون الأخضر تشع حيوية و طاقة كما الطاقة الإيجابية المنقولة من الأشجار، متوسطة الطول يصل طولها ١٦٠ سم وأكثر ، جسدها طبيعيًا، خصلاتها باللون الأشقر مزيج بين اللونين الذهبي والبني، تفضل شكله كمل يُقال عنه “كيرلي” على الرغم من طبيعته الناعمة.
صاحت “مهرائيل” بصوتٍ عالٍ تُحيي صديقتها، بينما “آيات” ضحكت بفرحةٍ ثم ركضت خلف صديقتها.
_________________________
في محل العطار لتجارة المواد الرخامية و الطينية وديكورات البناء وقف “بيشوي” بهيبته و طلته التي تجبر الجميع على احترامه يتحدث في الهاتف بقوله:
“تمام يا حج جلال، الرخام هيوصل بكرة إن شاء الله، هروح آكد على أيهم، كدا كدا الحاجة جاهزة من قبل الميعاد”
اغلق الهاتف مع الرجل ثم تحدث مع مساعده قائلًا:
“حسني !! أنا هروح عند أيهم مش هتأخر، الحاجة عندك أهيه هييجي يستلمها كمان شوية”
تحرك من محله نحو المحل الأخر على بعض أمتار قليلة من محله ثم دلفه فوجد “أيوب” يجلس أمام “أيهم” فرحب به بينما الأخر كان يتحدث في الهاتف بحنقٍ يقول:
“حاضر يا حج، مش هيحصل كدا تاني، و أنا بنفسي هربيهولك، إن شاء الله الموضوع دا هيخلص، متزعلش نفسك يا بابا”
رد عليه “عبدالقادر” من الجهة الأخرى:
“الراجل متضايق يابني علشان خاطر ابنه الزفت دا وبنته خايفة بسبب الزفت سعد، اتصرف الراجل متعشم فيا وفيكم”
تنهد “أيهم” ثم قال يُطمئنه:
“حاضر يا حج، إن شاء الله خير”
اغلق الهاتف مع والده، فسأله “بيشوي” بتعجبٍ:
“خير ؟؟ حصل إيه على الصبح؟؟”
تحدث “أيهم” مفسرًا:
“زفت الطين سعد، خد تليفون أخت الواد شادي منه بسعر بخس، ورجع من عليه الصور وبيهدد البت بيها والواد عبيط مش عارف يتصرف”
وقف “أيوب” يقول بنبرةٍ جامدة:
“كدا كتير، قدامي يلا، هتيجي يا بيشوي؟؟”
حرك رأسه موافقًا ثم تحرك معهما، بينما في المقدمة كان “أيوب” يسير بملامح وجهٍ جامدة.
دلف ثلاثتهم للمكان وكلٍ منهم يضرب الأرض بقدميه و كأنه يصارعها، في حين ذلك قد تفاجأ القابع بداخل “المحل” و هو يُلقي كامل بصره على هاتفه الذكي القابع بين كفه و هو يشاهد ما اعتاد دومًا على مشاهدته هروبًا من المخلوقين دون أن يخشى الخالق، و بتفاجئه بوجودهم قد رفع بصره نحوهم مُسرعًا، فتحدث “أيوب” بصوتٍ هاديءٍ محاولًا التحلي بالصبر أمام ذلك المستفز:
“السلام عليكم يا أخ سعد !! ممكن كلمتين بهدوء ؟!”
زفر “سعد” بقوةٍ و نفاذ صبرٍ ثم تبع رد فعله الحانق بقوله المُضجر:
“و عليكم السلام….نعم يا عم الشيخ ؟! أؤمرني”
و بنفس الصبر الذي يتحلى به قال بنبرةٍ صوتٍ هادئة و بين ثناياها تجمع الشدة و الحزم:
“دلوقتي أنا لما ألاقيك بتعمل حاجة غلط و بتضر بيها الناس و بنات الناس، يبقى تصرفي معاك إيه؟! مش هتبطل تستغل رزقك في الحرام و تتاجر بصور بنات الناس ؟!”
رمى هاتفه على الطاولة الزجاجية أمامه و هو يقول بصوتٍ عالٍ لعله بذلك يحيد الطاولة لجهته و هو يقول:
“جرى إيه يا عم أيوب !! هو أنتَ مفيش وراك غيري ؟! طلعني من دماغك، و بعدين إيه دليلك على كلامك”
تخلى عن صبره و احتدت نبرته و هو يقول مُعقبًا على حديثه:
“مش محتاج دليل، أنتَ مش أول مرة تأذي حد بالطريقة دي يا سعد، و أنا قدمت النصيحة بالحسنى، و لسه هتتعاقب من ربك على اللي أنتَ بتعمله دا و افتكر إن الخائض في أعراض الناس مُفلس يوم القيامة، و كل ساقٍ سيسقى بما سقى”
احتدت نبرة الأخر و هو يرد عليه الحديث بنفس الطريقة:
“جــرى إيــه يا عم !! بالراحة علينا أنتَ هتعيش الدور !! مبقاش غير اللي محدش يعرف ليهم أصل و لا فصل كمان يتكلموا، يلا يا حبيبي خد أخواتك و امشوا من هنا، متوجعوش دماغنا بقى”
تقدم “أيهم” خطوة حتى جاور أخيه و هو يقول بصوتٍ رتيبٍ:
“خلصت حصة الدين بتاعتك يا “أيوب” ؟! و لا لسه؟!”
حرك رأسه موافقًا فأمسك مرفقه و هو يقول بنبرة صوتٍ جامدة و عينيه لا تفارق ذلك الذي رفع أحد حاجبيه و كأنه ينتظر ما بـجبعتهم، و في ذلك الحين رفع “أيوب” رأسه يسأل أخيه بترقبٍ:
“أنتَ هتعمل إيه يا أيهم ؟! استنى بس”
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنفس الهدوء الذي بث الرعب بنفس الأخر و هو على أعتاب المحل:
“هشرحله حصة الألعاب يا “أيوب” و لا إيه رأيك يا “بيشوي”؟!”
سأل الواقف بجواره يحدق بنظره في وجه “سعد” الذي ازدرد لُعابه بخوفٍ، فتحدث “بيشوي” بمرحٍ خبيث مُكملًا حديث صديقه:
“معاك يا أيهومي، تحديدًا بقى هنشرحله درس كمال الأجسام”
دفع “أيهم” أخيه بخارج المحل ثم أغلق الباب، و من بعدها التفت لذلك الماثل خلفه و هو يقول مُتحديًا له:
“أنا بقى هوريك الأصل و الفصل نقطة….نقطة و كلمة….كلمة”
قال حديثه ثم هجم عليه يدفعه على رف الهواتف الذكية خلفه بينما “بيشوي” أمسك الحاسوب الخاص به ثم دفعه على الأرض و هو يقوم بتدميره كليًا داخليًا و خارجيًا.
كل ذلك كانت تتابعه المنطقة بأكملها من خلال زجاج المحل، و “أيوب” يقف في مقدمتهم يستمع لتأوهات “سعد” الذي انهال عليه “أيهم” باللكمات و قد انضم إليه صديقه، و على الرغم من الطريقة العنيفة التي يتعاملان بها، إلا أن لذة الانتصار كانت تُخيم على أوجه الجميع بتشفٍ في ذلك الذي يخوض في أعراضهم و يستغل حاجتهم في ارضاء أهوائه و نفسه المريضة.
_________________________
وصل “يوسف” لمنطقة الزمالك حيث بيت العائلة، وياليته ما أتى، فهو يكره تواجده هنا وحياته و عائلته، بل يكره نفسه أيضًا، الموت أهون له من أن يأتي لهنا.
وقف على أعتاب البيت الذي يبغضه بشدة و يكره تواجده به و لكن للضرورةِ أحكام، و حُكِم عليه بالمجيء لذلك البيت بعد إلحاحٍ دام كثيرًا، سحب الهواء إلى رئتيه ثم زفره على مهلٍ محاولًا التحكم في ثباته، حتى اقترب منه حارس العقار يحمل حقيبة سفره و هو يقول مرحبًا به:
“حمدًا لله على السلامة يا بشمهندس يوسف، نورت الزمالك كلها و نورت البيت”
التفت برأسه ينظر للرجل حتى ابتسم له و هو يقول بثباتٍ:
“دا نورك يا عم فيصل، ربنا يكرمك، متعرفش هما عاوزني ليه؟!”
سأله بنبرةٍ ثابتة ينتظر الإجابة لحيرته وراء الحاحهم لعودته، حتى رد عليه الرجل بلهفةٍ:
“أكيد علشان الست حكمت يا بشمهندس، دي حالتها بقت صعب أوي و كل شوية دكتور خارج و دكتور داخل”
ابتسم له بسخريةٍ و قال بتهكمٍ مريرٍ:
“الموت علينا حق يا عم فيصل، و حكمت حقها جاي متأخر أوي، يلا عقبال ما تاخد حق عيالها هما كمان معاها”
طالعه “فيصل” بشفقةٍ و لمحة حزن غلفت عيناهُ، فيما حمحم “يوسف” بخشونةٍ و عَدل ثيابه المُنمقة من الأساس؛ فقام الرجل بفتح بوابة البيت له حتى سبقه بالحقيبة و وقف هو يصارع رغبته في الدخول لذلك البيت، حتى نجح في ذلك و دلف حتى منتصف ردهة البيت.
وقف يطالع البيت حوله، حيث احتوى على أثاث منزلي فخمٍ و ديكورات ثمينة و رغم ذلك يفتقد الروح، وقف بثباتٍ حتى وصله صوتها من الخلف و هي تقول بصوتٍ مختلط المشاعر و لكن طغى عليه الشوق له:
“يوسف ؟! ازيك يا حبيب عمتو عامل إيه ؟؟ وحشتني أوي”
أغمض عيناهُ عند استماعه لصوتها يجاهد حتى لا يتأثر و قد برع في رسم الثبات و اللامبالاة حينما التفت لها يقول بثباتٍ:
“كويس الحمد لله، ازيك أنتِ ؟!”
حركت رأسها موافقةً و قبل أن تخطو خطوة واحدة نحوه وصلهما صوته يقول بلهجةٍ حادة من أعلى الدرج:
“أنتَ بتعمل إيه هنا ؟! إيه اللي جابك يالا أنتَ ؟!”
التفت عمته نحو ابنها و هي تنهره بقولها:
“نادر !! عيب كدا، دا أخوك و مينفعش تكلمه كدا أبدًا”
نزل الدرج بخطواتٍ واسعة حتى وقف مقابلًا لوالدته و هو يقول بصوتٍ عالٍ:
“مش اخويا….أنا معنديش أخوات، رد عليا يالا بتعمل إيه هنا ؟!”
وجه حديثه لـ “يوسف” الذي وقف بمنتهى الثبات و اللامبالاة حتى اقترب منه يقف مقابلًا له و هو يقول بطريقته المعتادة:
“عاوز تعرف أنا هنا بعمل إيه ؟! أســأل أمـك”
اتكأ على حروف كلماته الوقحة و هو يشير برأسه نحو عمته التي طالعته بعتابٍ، فيما اقترب “نادر” يمسكه من تلابيبه و هو يصيح بهتافٍ حاد:
“آه يا سافل يا حيوان، أنا هربيك يا عديم الرباية أنتَ، مش هسيبك النهاردة”
أمسك “يوسف” في تلابيبه هو الأخر و بغضبٍ جامٍ دفعه على الأريكة و هو يقول بصوتٍ متهدجٍ عالٍ:
“و ماله وريني أخرك يا بن سامي، كدا كدا أنا متربيتش”
قال جملته ثم لكم “نادر” في وجهه و عمته في الخلف تصرخ محاولةً إيجاد العون لفكهما من بعضهما و “يوسف” استمر في تلقين الآخر درسًا عنيفًا، حتى وصله صوتها الذي أودىٰ بثباته و هي تقول ببكاءٍ:
“يــوسف !!”
تعرف على صوتها في الحال لذلك حكم حصار مقلتيه أسفل جفونه لذلك دفعه من يده ثم وقف و هو يلهث بقوةٍ و التفت لها فوجدها تطالعه ببكاءٍ حينها اقترب منها يقول بصوتٍ متقطعٍ:
“آسف يا مدام، بس جوزك كان فاكرني مش متربي ؛ قولت آكدله المعلومة، Sorry”
قالها ببرودٍ و هو يرمقها بلامبالاةٍ و قبل أن يتحرك قيد أنملة وصله أخر صوت يبغضه في تلك الحياة و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
“الكلام دا في الشارع مش هنا !! قلة تربيتك و أخلاقك دي على نفسك، إنما طول ما أنتَ هنا تفضل باحترامك”
نزل الدرج بثباتٍ و شموخٍ كعادته حتى وقف مقابلًا لـ “يوسف” يسأله بنبرةٍ جامدة:
“بتعمل إيه هنا يا يوسف ؟؟ إيه اللي جابك هنا ؟!”
استعاد ثباته من جديد و ظهر التحدي في نظراته و هو يقول بنفس الثبات و الثقة:
“عاوز تعرف أنا هنا بعمل إيه ؟؟ تحب أجاوبك زي ما جاوبته كدا”
لم يرد عليه الأخر بل استمر في رميه بغضبٍ و كرهٍ من نظراته حتى ابتسم “يوسف” بمراوغةٍ و هو يقول:
“أســـأل أمـــك”
طالعته عمته بدهشةٍ و كذلك الفتاة التي وقفت تطالع الموقف بندمٍ و حزنٍ، فتحرك “يوسف” من أمامهم نحو الأعلى بعدما اقترب من حقيبته يمسكها و يجرها نحو الأعلى و كأن ما حدث لم يقم من الأساس، فيما وقف “نادر” و قبل أن يقترب منه أشار له خاله بالوقوف، ثم التفت ينظر في أثر “يوسف” الذي صعد بلامبالاةٍ و الأخر يتوعد له بنظراته و كأنها حربٌ نُشبت بين قبيلتين تقع جذورهما لأرضٍ واحدة من الأساس.
يتبع….