رواية ميثاق غليظ كامله وحصريه بقلم شامة الشعراوي
" نقض العهد"
رحل الصيف عن مدينة أسوان، وجاء الخريف وبدأ الطقس يتغير شيئاً فشيئاً، حتى أصبح يميل إلى البرودة، وترى أوراق الأشجار الصفراء تغطى أراضياتها، وفي أحد البيوت الريفية البسيطة التي اشتهرت نساؤه بصنع الخوص الملون والذي هو مصدر رزقهن، وفي وسط البيت كانت النيران مشتعلة على وعاء كبير مليء بالماء المغلي، دنت السيدة "حليمة" من الوعاء ووضعت بداخله كمية من صبغة اللون الأحمر التى تستعيرها في عملها، ثم أمرت إحدى بناتها بنشر أوراق سعف النخيل تحت أشعة الشمس، هذة السيدة منذ وفاة زوجها من عشر سنوات أصبحت المسؤولة عن كل شئ، فقد تولت تربية أبنائها بمفردها والسعى على تعليمهن وخدمتهن وكل هذا بجانب العمل حتى توفر لهن احتياجتهن من مآكل وملبس، تقدمت منها ابنتها الكبرى والتى تساعدها فى العمل حتى تخفف عنها الحمل الثقيل، وهي فتاة في الثانية والعشرين من عمرها، جميلة الوجه، وذات خلق رفيعة، أفترّ ثغرها عن ابتسامة عذبة وهي تقول:
-عملت كل اللى أمرتيني بيه، ودلوقتى فى شغل تانى أعمله يا أمي؟.
أسقطت السيدة "حليمة" الخوص في القدر المغلي، ثم أجابتها قائلة:
-طبعاً عندنا شغل كتير عايزين نخلصه قبل الظهر.
جاءت إليهن "بتول" وهي الفتاة الصغرى لهذة العائلة فى العمر التاسع عشر، وضعت ابريق الشاي على الطاولة وقالت:
-اصب ليكى الشاي ياماما؟.
-ياريت يابتول.
مدت يدها إليها بالكوب الساخن، ثم وجهت بصرها نحو شقيقتها، وقالت بتسأل:
- هتروحى عند الخياطة النهاردة؟.
التفتت إليها "يقين" وهى تجدل الخوص جديلة عريضة طويلة، فقالت بنبرة رقيقة:
-هروح بأذن الله بعد الظهر، أصل عندي هدوم جديدة محتاجه أخيطها واجهزها قبل الفرح عشان تكون كل حاجه جاهزة.
-وأنا كمان عايزة أخيط فستان جديد البسه فى فرحك.
بينما الأم أخرجت الخوص المصتبغ من الوعاء، ثم قالت باسمة:
-لا تنسوا تعملولي زيكم ما أنا أم العروسة ولازم أكون فى أبهى صورة.
تبسمت "يقين" بخفة وقالت:
-هخلى الخياطة تعملك أفضل وأحسن فستان يا أمي.
نظرت إليها السيدة "حليمة" نظرة تحملُ قدر كبير من السعادة، فابنتها الكبري اخيراً ستتزوج بعد بضع أيام، فقالت مبتهجة:
-أدعو ربي أن يديم عليكِ تلك الفرحة يابُنيتي، وأن يجعل زوجكِ زوجاً صالحاً يتقى الله فيكى.
تركت "يقين" مابيدها فقامت بالاقترب من والدتها وعانقتها بقوة وهى تقول بنبرة ودودة:
- بجد أنا هفتقدك أوى لما اتجوز.
مسدت على شعرها بلطف وعناية ثم قالت باسمة:
- وأنا كمان ياحبيبتي، ودلوقتى خلينا نكمل شغلنا عشان ماتتأخريش على الخياطة.
نهضت "بتول" من مكانها و جذبت خمارها مع على المقعد الجانبي، ثم قالت:
-وأنا هقوم اروح دلوقتى للسوق لعرض بضاعتنا.
أردفت الأم قائلة:
-تمام وبعد ماتخلصى هاتلنا من عند العطار التوابل.
وفى هذا الأثناء تفوهت "يقين" مسرعة:
-واشترى معاكى الوانات جديدة عشان اصبغ الجدائل، وإياكى تنسى تشترى حبيبات الورد المجفف.
بعدما وضعت الأخرى الخمار على رأسها حملت حقيبة واسعة مليئة بأطباق الخوص المزخرف بأفضل الألوان والجواهر الزجاجية، وعند خروجها من الباب قالت:
-حاضر عايزين حاجه تانية.
أردفت "يقين" بنبرة لطيفة:
-خلى بالك على نفسك ياصغيرتي.
ودعت شقيقتها وأغلقت الباب خلفها، فسمعت السيدة "حليمة" تخبرها بأنها ستصعد إلي سطح البيت لتضع الطعام للطيور، مرت بضع دقائق من الوقت وقد انغلشت كلاً منهما بأعمالها، لم تلبث "يقين" قليلاً إلا أنها وجدت أحد يطرق باب بيتهم، شدّت وشاحها من على الحامل الموضوع خلف الباب لتغطى شعرها، ولما فتحت الباب رأت خطيبها المدعو "أحمد" متكاً على الجدار فأتاها صوته قائلاً:
-أخبارك ايه يافتاة؟.
أجابت متعجبة من تواجده في هذا الوقت الباكر، فقالت:
-بخير، ولكن ايه الحاجه المهمة اللى خلتك تيجي لينا فى الوقت ده؟.
-موضوع مهم محتاج أتناقش معاكى فيه، وعلى آمل أنك تتقبلى ما أقوله.
بينما هى كانت ممسكة بوشحها بشدة حتى لا يسقط من على رأسها، فتفوهت بطريقة مهذبة:
-أحمد اتكلم على طول من غير مقدمات.
أردف "أحمد" بلهجة متضطربة:
-مش هتدخليني الأول ولا هنفضل نتكلم من على الباب وكل اللى رايح وجاي يتفرج.
ابتعدت عن الباب فولج للداخل وهو يتفحص كل ركن بالبيت، بينما هى اصطحبته إلى مجلس المعيشة، فهى عبارة عن غرفة بسيطة تتوسط مقدمة البيت، وعندما جلس على البساط تسأل قائلاً:
-فين السيدة حليمة؟.
-فوق سطح البيت.
-حلو ودلوقتى اقدر اتكلم براحتي.
-اتفضل.
فرك أرنبة أنفه بتوتر ثم قال:
-أنتى طبعآ عارفة أن فرحنا قرب، عشان كدا كنت عايز وقت كتب الكتاب نلغي قصة قايمة المنقولات الزوجية.
حدقت به لوهلةً محاولة تفسير ما قاله، ولكنها قالت:
- ليه؟.
-شايف أنها ملهاش قيمة عشان امضي عليها.
اندهشت من جملته تلك، فقالت بحذرٍ:
-ولكن من البداية قبل الخطوبة واحنا متفقين على كل حاجه ومن ضمنهم القايمة، ودلوقتي جاى تتراجع عن وعدك اللى قطعته ليا.
بينما هو تسارع فى حديثه فقال:
-عشان أكون مطمن أكتر فى جوازنا.
-ليه هو أنت مكنتش مطمن من الأول!.
-مش عارف بقى، ولكن أنا مش حابب يكون فى عقود تربطني بيكى.
تنفست بهدوءٍ حتى تتحكم فى أعصابها التى بدأت أن تتفلت ثم نظرت له بقوة وهى تقول برزانة:
-من البداية وأنا وأهلي لم نحملك فوق طاقتك، بالعكس كنا معاك رحماء وميسرين، حتى عند شراء الذهب ماطلبتش منك أكتر من دبلة الجواز اللى لبساها فى أيدي، وقولتلك قبل كدا أنا راضية بالجهاز اللى هتجيبه فى شقتنا حتى لو كان العفش بسيط ومكلفتكش بشراء عفش غالي، أنا رضيت معاك بالقليل لأني اعتبرتك رجلاً سيصونني ويرعاني ويشعرني معه بالأمان، أنا مش عايزة اكتر من أني أعيش فى راحة وسكينة.
هتف بنبرة مرتبكة:
-أنا مقدر ده، لكن من حقي أنا كمان أشعر معاكى بالأمان ودلوقتى هنتخلى عن الاتفاق ده، عشان نقدر نكمل حياتنا مع بعض من غير قيود وارتباطات.
- أنت واعي للى بتقوله؟.
-طبعآ واعي.
رددت عليه بعدم تصديق و أمارت الحزن تملأ وجهها، فقالت:
-أنا بشتغل ليل ونهار عشان اسدد تكاليف الجواز، تقوم أنت بكل بساطة عاوزني اتنازل عن حقي، دا أنا ماطلبتش منك تكتب أكتر من اللى اشتريته ولا حتى أنك تضيف جرام زيادة فى القايمة، ودلوقتى أنت بتخلف بوعدك.
أرد التحدث ولكنها أوقفته قائلة:
-كانت نوايانا باتجاهك تحملُ خيراً ولم نحمل مثقال ذرةٍ من الخبث والشر، ولكنك جيت حاملاً جواك نوايا خبيثة وعايز تنتهك حقوقي التى شرعها الله.
-أنا مكنتش ناوي على كدا، كل اللى أنا عاوزه منك أنك ماتمضنيش على ورقة ملهاش أصل، ولكن الظاهر ليا أن أنتى مش بتثقى فيا.
تفوهت "يقين" بنبرة غاضبة فقالت:
-بالعكس أنت اللى مش واثق فيا، ومن الواضح تيسيري معاك فى عدة أمور خلتك تطمع اكتر، عارف ياأحمد أنا كنت بعمل كل ده معاك عشان أنا بنت اصول ومقدره حالتك وأنك مضغوط فى تجهيزات الفرح، وده مش معناه أني اتنازل عن حقي، ومن الأفضل أنك تتراجع عن أفعالك المستفزة لأنها هتخسرك كتير.
رد عليها بتكبرٍ وتحدى فقال:
-ولو ماعملتش اللى قولتى عليه؟.
جاءهُ الرد فوراً من السيدة "حليمة" التى كانت حاضرة من بداية الحديث ولم يراها أحد:
- هنهي الخطوبة لأن اللى ميصونش ودنا فلا ود له عندنا.
تصنم مكانه للحظة وهو يشعر بالحرج الشديد فقال مبرراً:
-سيدة حليمة أنا مش قصدي حاجه من اللى سمعتيه.
أردفت "حليمة" بنبرة حازمة:
-أنا عارفه كويس قصدك الخبيث، ولو كنت فاكر نفسك هتلوى دراعي عشان جوزي ميت ومفيش حد هيقف لينا تبقى غلطان، صحيح أنا واحدة ست لكني بعشرة من أمثالك واقدر أخد حقي وحق بناتي كويس ولو كان فى بطن العفريت، ودلوقتى ياريت تخرج من بيتنا بكل احترام لأن احنا مش بحاجه لمن لا يقدرنا.
نهض من مكانه وهو يستشيط غضباً وشراً، ثم قال:
-يعنى ده أخر كلام عندكم؟.
أجابته "يقين" بثباتٍ وقوة عكس مابداخلها:
-ايوة.
أشار باصبعه وقال محذراً:
-هتندمى اوى يايقين على تفريط بيا بهذة السهولة، والله اللى خلق الخلق لتشوفوا مني حاجه مش هتعجبكم أبدآ وهترجعوا وقتها تبوسوا أيدي ورأسي عشان اتخلى عن اللى هعمله.
ردت "يقين" مستهزأه:
- عمري ما هندم عليك صدقني أنت اللى هتندم أوى على عدم تقديرك ليا.
وقبل خروجه من البيت أمرته السيدة "حليمة" أن يبعث أحد من أفراد عائلته حتى يأخذون أشيائه، فلما ذهب انزاح قناع القوة عن وجه "يقين" التى ترقرقت عيناها بالدمع، تقدمت منها أمها وعانقتها برفق وهى تمسح على رأسها مسحة حنان، ثم قالت بعطف:
-ماتزعليش عليه هو مايستحقش حتى دمعه من عينيكى.
تفوهت بصوت ضعيف شبه منكسر فقالت:
-كان باقي على فرحنا أسبوعين ياأمي، ولكن هو كان قصده يعمل كدا استهواناً بيا، ودلوقتى كل حاجه أنتهت ببساطة وكأني مكنتش مهمه فى حياته.
أردفت السيدة "حليمة" كى تخفف عنها ثقل ما تشعر به من حزن، فقالت مواسية:
-انسى اللى حصل وماتفكريش فيه، وإن ذهب قرداً سيأتي غزالاً يعوضك ويعرف مقدار قيمتكِ ولا يستهون فى حق من حقوقك.
تبسمت "يقين" بخفة رغم ألم قلبها، ثم قالت برقة:
-بل أريدهُ أسداً ياأمي وليس غزالاً.
لمست خدها برفق ولين وقالت:
-من الأول مكنتش متقبله وجوده وبعد اللى قاله عرفت أني كنت على حق، وأياً كان هدعيلك معايا فى الصلاة بأن يمن الله عليكِ بالزوج الحنون العطوف الكريم.
بعد الظهيرة جاء والده وهو رجلاً شهماً حتى يصلح ما بينهما، ولكن "يقين" رفضت ذلك وأخبرته بأنها كانت تظن ابنه رجلاً ناضجاً حاملاً للمسؤولية ومقدراً لها وذو عقل واسع مدرك للحياة، ولكنه خالف توقعتها بنواياه السيئة فهو يريد سلب ابسط حقوقها والتغافل عنها، وهذا الوضع لايرضيها شخصياً، فتأسف منها عن أفعال ابنه الحمقاء، بينما السيدة "حليمة" جمعت له ما جلبه ابنه وأخبرته أن هناك مبلغاً من المال قدره ثلاثة الف جنيهاً حق الهدايا التى اشتراها فى المناسبات، ستعطيها له عندما تجمعه فى الأيام المقبلة، أرد هذا السيد التخلى عن هذا المال، ولكنها أبت ذلك فهى لن تقبل من أحد معروفاً يقلل من شأنها، لذا استأذنت أن يعطيها فرصة فأذن لها ثم انصرف.
جاء الليل و كانت السماء السوداء منقطة بالنجوم، لاحت السيدة "حليمة" "بتول" تخرج من غرفة شقيقتها فقالت:
-ليه سبتي أختك لوحدها يابنتي دى هتلاقيها دلوقتى زعلانة ولازم تفضلى جمبها تواسيها.
-هى اللى طلبت مني اسبها مع نفسها شوية.
فنهضت من مكانها ومشيت في خفة عائدة لغرفة ابنتها، فوجدتها جالسةً فى الظلام مستغرقة في التفكير، وقد يبدو أنها متعبة بعض الشئ وحزينة، فقامت بتشغيل الأضاءة وجلست بجانبها وهى تقول بحنيه بالغة:
-مالك ياعمري.
تنفست "يقين" نفساً عميقاً وهى ترد عليها بجهد:
-أنا اتنازلت عن حاجات كتيرة وكنت هتنازل أكتر في سبيل سعادته، ولكن لما بصيت فى عينيه لاقيتها مليانة مكر و خبث وقسوة عشان كدا اتمسكت بحقي وأقسمت بأني مش هفرط فيه مهما كانت مكانة الشخص اللى قدامي، كنت فاكرة أنه هيتمسك بيا وهيتنازل عن موضوع القايمة ويقولي أنتى أهم حاجه فى حياتي وفى داهية الفلوس ولكنه اختار الفراق.
-أنتى يابنتي تستاهلى شخصاً يحبك بطريقةً يتعجب منها كل أهالي قريتنا، رجلاً يراكِ جوهرة ثمينة يصعب التفريط بها، ويراكِ امراة عظيمة ليس لها مثيل، شخص يحمد ربنا ويشكره على نعمة وجودك فى حياته،،
أننى تستاهلى رجلاً هين لين سهل معكِ وقت الرخاء و الخصام، يجعلكِ تمطئنِ أنه لن يخذلك أبدآ مهما حدث ومهما تعظامت الأمور.
ابتسمت على نحو كئيب وحزين بعض الشئ، وقالت:
-تفتكرى هلاقي الراجل اللى مش هيتخلى عني لمجرد سبب بسيط؟.
قالت السيدة لها:
-طبعآ هتلاقى ولكن أحسني اختيارك المرة دى.
وضعت "يقين" يديها على عينيها وقالت بنبرة حزينة:
-أنا ياأمي مش قادرة اتحمل وجع قلبي.
ربتت على ظهرها ثم قالت بعطف:
- صدقيني هى مسألة وقت وهينتهى أئ ألم أنتى حاسه بيه، ودلوقتى متزعجيش نفسكِ أكتر من اللازم، وكل حاجه هتبقى كويسة.
بينما هى رفعت رأسها إلى الأعلى وقالت بهمس لم يسمعه سواها:
-جئتك ربي أشكو إليك جفافاً قد اصابني فامطر عليّ برحمتك حتى أرتوي.
وفى تلك اللحظة أعلن هاتفها عن وصول رسالة، فلما فتحتها اصفر وجهها ورجفة يدها التى اظهرت أنها خائفة أو مذعورة من شئ، قالت والدتها عندما رأتها مضطربة:
-ايه اللى حصل؟.
تنفست "يقين" بصعوبة وهى تقول بنبرة قلقة بعض الشئ:
-شوفى بنفسك الزبالة باعتلي ايه.
فلما شاهدت ما به تصلب وجهها اللطيف ثم قالت عابسة:
-خليه يعملها بس وهيبقى هو الجاني على نفسه.
الثاني من هنا