رواية سليمة وابن الغولة الفصل الاخير
إستاء الجيران كثيرا في المرّة الأولى من وجود الغولة قرب بيوتهم وأطفالهم لكن ما لبثوا أن إعتادوا عليها ولم يسمعوا أبدا صوتها ،وكانوا يرونها دائما تحمل دائما القفاف الثقيلة على رأسها ،وتنشر الغسيل فوق السطح ،في حين ترتاح الفتاة وتعتني بلباسها ومظهرها ،ومع مرور الأيام بدأت الغولة تتغيّر وصارت ملامحها أكثر رقّة ،وأعجبها لباس نساء القرية ،فطلبت من الخيّاطة أن تفصل لها ثوبا من الحرير على مقاسها ثمّ ذهبت إلى الإسكافي ليصنع لها نعلا يتناسب مع قدميها الكبيرتين ،وقبل ذلك كنت تلبس جلود الحيوانات وتمشي حافية ،ولما لبست الغولة ثيابها الجديدة ،ومشطت شعرها الأشعث ،ضحكت سليمة ،وقالت لها لم يبق إلا أن يأتي رجل ويتزوجّك !!!
ذات مساء قالت الغولة: لقد إشتقت للصّيد والجري في الغابة ،فحياتكم مملة ليس للنساء هنا إلا الأكل والنوم ،فذهت لقصرها في الغابة وأخذت عدة الصيد لكنها لم تصطد شيئا فلقد صارت أقل براعة في الرمي وأثقل حركة لطول المدة التي أمضتها في الدعة والترف وسط القرية ،ومشت طويل وهي تطارد الفرائي فابتعدت كثيرا وهي مصرّة أن لا تعود إلا بعد إصطياد شيئ تشويه وتأكله مثلما كانت تفعل ،وفجأة سمعت أصواتا كثيرة تتحدث في الظلام ،فاقتربت بحذر ،وعلى ضوء النار رأت عددا كبيرا من الرجال مجتمعين وفي أيديهم السيوف والنبال ،ووراءهم الخيل ،لكنها لم تهتمّ بهم فربما كانوا من الصّيادين أو قطاع الطرق ،وكادت تذهب لولا أن سمعت أحدهم يتحدث عن قافلة الحجّاج التي فيها السّلطان وزوجته وابنه ،وفقط قلة من الناس تعرف أنهم خرجوا متنكّرين ،وقالت الغولة في نفسها :أبو سليمة أيضا من ضمن هذه القافلة وهو في خطر ،يجب أن أعود بسرعة لأخبر أهل القرية ومن حولهم ،وإلا فستكون مقتلة عظيمة في الحجّاج ،أمّا الصّيد فلا يبدو أني محظوظة كثيرا فيه هذه الليلة .
جرت الغولة طويلا حتى وصلت القرية ،لكنها وجدت سليمة نائمة فأيقظتها ،وقالت لا وقت لدينا يجب أن يعلم أهل القرية وغيرهم بما سيحصل للقافلة ،ويجب أن نخرج في أقرب وقت ،غطت الفتاة رأسها ودقت على جيرانها في ذلك الوقت المتأخّر ،وما هي إلا ساعة حتى علم الجميع بالخبر ،لكن لمياء كالعادة أحسّت بالغيرة والحسد من سليمة، فكلّ القرية صارت تتحدث عنها ،وقالت لأبيها ،وهو من كبار الأعيان: لا تصدقوها ،فهذا ليس موعد رجوع القافلة ،ثم عن أيّ سلطان تتحدّث فلو خرج للحج لسمعنا به ،والله ما أخالها إلا تكذب ليزيد إهتمام الناس بها، وربما خطبوها لأبنائهم !!! ردّ أبوها :أنت على صواب، سنرجع للنوم ،وبدوني لن يصير شيئ ،وكان عنده حق ،فبعد الهرج والمرج رجع الناس لبيوتهم ،ولم يبق إلا القلة .
وفي الصباح وصل الخبر لكثير من القرى والأحياء ،لكن لم يتحرّك منهم سوى أفراد متفرقون ،ولما إجتمعوا كلهم في ساحة القرية كان عددهم صغيرا ،واتسمت لمياء لما رأتهم من النافذة ،وقالت في نفسها سنرى من يحكم أنا أم أنت يا إبنة الغولة !!! لكن لم ينقص ذلك شيئا من حماس سليمة ،وقالت لكي يلمس قطاع الطرق شعرة من رأس الحجّاج يجب أن يقتلونا كلنا ،وهتف لها النّاس، ودعوا لها بالخير . أمّا الغولة ،فأخذت عمود خيمة ،وضعته على كتفها ،وسار القوم لساعات طويلة بين الأشجار والروابي، ،ولمّا وصلوا سمعوا الصّياح ،ورأوا القافلة، وقد بدأت تتفرّق ،حينها هجمت الغولة ومن معها على قطاع الطرق ،وأخذوهم على حين غرّة ...
...
لمّا رأى الحجّاج بسالة تلك الجماعة الصغيرة ،قويت قلوبهم ،وخلع الأمير جمال الدين الرّداء الذي كان ملتفّا فيه ، وصاح في رجاله أن يحمي إثنين منهم أباه السلطان وأمه ،والباقي يأتي معه، وتبعهم الحجّاج الذي استلّوا خناجرهم، وأمسكوا بعصيّهم .وفي وسط المعركة رأى الأمير امرأة ضخمة تضرب في الخيل يمينا وشمالا، وبقربها فتاة لم ير في حياته أجمل منها تحارب بسيفها ،فدهش منهما ،ولم يعرف من يكونان ،ولم يمض وقت طويل حتى لاذ اللّصوص بالفرار ،وهم يتعوّذون بالله من الغولة والفتاة الشّابة التي معها .ثمّ إقترب منهما الأمير جمال الدين، وشكرهما ،وقال في نفسه :سبحان الله ،تلك غولة صارت مثل الإنس ،والأخرى إنسيّة أصبحت مثل الأغوال !!! وبحثت سليمة عن أبيها وسط الحجّاج فرأته جالسا ،وهو يبتهل إلى الله ليرفع عنهم هذه المصيبة ،وحين رأته رمت سيفها ،وعانقته، والشّيخ مندهش من وجودها هناك ،وهو الذي كان يبتهل قبل قليل للرجوع إليها سالما معافى .
ولما لاحظت دهشته الشديدة، قصّت عليه كلّ ما حدث لها مع أهل القرية والغولة التي حنّت عليها كإبنتها ،ورغم أنّ أبوها رجل تقيّ ،ويعتبر أنّ الأغوال من جنس الشّياطين إلا أنه طلب رؤيتها ليشكرها على رعاية إبنته في غيابه، وحرصها على إنقاذ القافلة ،ولمّا لمحها لم يصدّق عينيه فلم تكن مثلما تصورّها في خياله ،وهي أكثر لطفا من بعض نساء القرية .بعد ذلك تفرّق الحجاج ،و،ذهبت كل جماعة منهم في ناحية، أما حجاج قرية سليمة ،وما حولها ،فقد رجعوا لبيوتهم وهم يكبّرون ،وتجمّع الأهالي حولهم ،وشكروا إبنة التاجر على معروفها، وعظم أمرها ،وسمع الناس بشجاعتها ،وكيف خرجت في ليلة مظلمة وباردة لإنقاذ أبيها ،أمّا لمياء فكانت في تلك الأثناء تدور في دارها، وتتمتم كالمجنونة : تبّا لها ،كلّ مرة تنجو تلك الفتاة اللئيمة، وتصير أقوي ممّا كانت !!! والله لم يعد لي بقاء هنا ،وكلمت أباها ،وكالعادة وافقها ،وقال : نعم يا إبنتي ،سنرحل من هنا قبل أن تصبح إبنة التاجر سيّدة علينا !!!
لكن الفتاة كانت طماعة ،وبينما إنهمك أبوها وأمها بجمع حاجياتهما في عربة يجرها بغل ،ذهبت هي لقصر الغولة وقالت في نفسها أعرف مخبأ المجوهرات ،وسآخذها معي، لكنّها حين فتحت الصّندوق ،خرج لها فجأة عشرات الفئران، وأكلوا أذنيها، فهربت، وقد صار منظرها قبيحا ،وحين رآها أبوها غضب منها ،وقال :،ألم يكفيك ما صنعته بنا ؟ .بعنا كل ما نملك بأبخس الأثمان ،والناس تكرهني لأني تركت قافلة الحجيج ، والآن راح جمالك،هيا بنا نرحل !!! لكن قبل أن تتحرّك العربة رأوا موكب السلطان داخلا للقرية تتقدمه الفرسان والأعلام ،فوقف الرّجل هو ينظر باستغراب فماذا يوجد في هذه القرية الصّغيرة ليهتم بها السلطان ولما توقّف الموكب أمام دار جاره الحاج صالح، فهم أنّه جاء لسليمة ،فزاد حقده على إبنته ،وندم على عدم خروجه لنجدة القافلة ،أمّا لمياء ،فقد إصفرّ وجهها فهذا آخر شيئ كانت تتوقّعه :الأمير جمال الدّين يخطب غريمتها ،بينما هي تهرب بلا أذنين .
وما لا تعلمه أنّ الأمير منذ رجوعه للقصر لم تغب صورة تلك الفتاة الطويلة الورديّة الخدّين عن ذهنه، والتي تضرب بالسّيف كالرّجال ،وبقي يسأل حتى عرف مكانها وقصّتها ،فكلّم أباه عنها ،فردّ عليه :لقد سمعت عن شجاعتها من الحرس الذين قاتلوا معك ،وأنا لا مانع عندي أن تتزّوجها ،فرح الحاج صالح بضيوفه وجاءتهم الغولة ووسليمة بالحلوى وشراب اللوز البارد ،وأخذ السّلطان يسترق لهما النظر ،وعرف سرّ قوة وجمال الفتاة فلقد ربتها الغولة وعلّمتها الصّيد والرّمي بالنّبال ،ثم طلب يد سليمة لإبنه ،ومال على صالح ،وسأله ،وهو يضحك: أيهما أحلى نساء القرية أم غولتك ؟ أجابه :كلهن مثل بعض ولكن الغولة لما تشبع تذهب لترتاح تحت شجرة أمّا الإنسية ،فتتلصّص على جاراتها ،ولا أخفى عليك أنّها منذ أن جاءت إلى هناإنتظمت أمور البيت وراجت تجارتي وكل الناس صارت تأتيني في الدكان لتشتري، وتسمع حكايتي العجيبة معها .
وبعد شهرين تزوّجت سليمة من الأمير جمال الدين وانتقلت للعيش في القصر ،أما الغولة فأمسكت في أحد الليالي بالشيخ صالح وقالت له :إمّا تتزوجن أو أرحل في سبيلي ،فماذا يقول الناس عنّي ؟ ضحك الرّجل حتى إستلقى على ظهره ،وقال : لقد تعلمت كثيرا من نساء القرية ،وقريبا تصيرين مثلهم ،ولا يبقى لك من جنسك سوى ضخامة الجسم ،ردّت عليه: إسمع، أريد أيضا مهرا كبيرا ،ولا تحاول خداعي يا صالح !!!
...
إنتهت وشكرا