رواية دمعات قلب كاملة وحصرية بقلم رباب فؤاد
رواية البطلة اسمها هند وكانت متزوجة واحد بشتغل بالبترول وبعدين بموت وبترجع على بلدهم وحماها بزوجها اخو زوجها وبكون دكتور وبتزوجوا عالورق وبعدين هو بتزوج دكتورة معه وبعدين بطلقوا وبحب هند
اسمها دمعات قلب
الدمعة الأولى
1-
وقفت في منتصف ردهة شقتها تتأمل أركانها في صمت, وذكرياتها تتدفق بسرعة البرق عبر عقلها منذ ارتبطت بزوجها وحتى رحيله.
فالطبيعي أن يحمل كل ركن من أركان المنزل ذكرى لها مع زوجها على مر سني زواجهما العشر, إلا أنها اعتادت أن تكون جميع أحدث حياتها غير طبيعية.
منذ صغرها وهي مختلفة, ليس لسواد عينيها الغامض ولا للشلال الحريري الفاحم الذي يتوج رأسها ولا لجمالها البريء ورقتها ولا حتى لأصلها الطيب.
ولكنها كانت مختلفة..فقط مختلفة.
حتى ارتباطها بزوجها كان مختلفاً..
صحيح أنه كان "زواج صالونات" كما يطلق عليه إلا انه كان مختلفاً عما عهدته في زواج مثيلاتها.
وحياتها مع زوجها كذلك كانت مختلفة..
لقد عاشت معه عشر سنوات في إحدى دول الخليج حيث كان يعمل مهندساً بشركة بترول,
عشر سنوات لم تزر فيها أمها سوى مرات قليلة صادفت مواعيد ولاداتها لأطفالها الثلاثة. وفي هذه المرات كان زوجها يعد شقتهم ويجهزها لانتقالهم إليها.
ونسيت أن أقول أنها, بحكم كونها مختلفة, تزوجت دون أن يكون لديها شقة..
لقد اشترى زوجها الشقة ولم يبدأ في تأثيثها إلا بعد أن تزوج وأنجب ولدين واكتشف حمل زوجته للمرة الثالثة.
وهكذا فعلى عكس أي زوجة تدخل عشها لأول مرة مع زوجها مرتدية ثوب الزفاف الأبيض, دخلت هي شقتها برفقة أطفالها وأمها مرتدية السواد حداداً على زوجها الراحل.
لم لا وقد اعتادت أن تكون مختلفة!!!
ومن أعماقها انطلقت زفرة ملتهبة حملت بعضاً من حزنها وخوفها وتوترها, وأقول بعضاً لأن زفرة واحدة مهما بلغت قوتها لن تستطع حمل أكثر من عُشر ما يعتمل في نفسها.
ولهذا لم تشعر بالراحة إلا عندما قفزت دمعاتها السريعة إلى عينيها الجميلتين وفرت خارجهما لتغرق وجهها الحزين.
كان من الصعب عليها أن تُفاجأ بوفاة زوجها وعودتها إلى مصر في منتصف العام الدراسي وما ترتب على ذلك من مشاكل لا حصر لها واجهتها, كعادتها, وحدها في الغربة بحكم اختلافها عن سائر بنات حواء. اختلافها الذي لم تختره ولم تسعد به يوماً.
فقد ذاقت مرارة اليُتم وهي بعد برعمة صغيرة تتفتح للحياة, وحُكم عليها أن تعيش التجربة مرة ثانية وهي ترى أولادها يجرعون من نفس الكأس التي لم تفارق مرارتها حلق أمهم بعد.
فرغم صغر سنها وجمالها الهاديء,رفضت (أم هالة) أن تُحضر رجلاً غريباً ليحتل مكان ومكانة زوجها الراحل ويتحكم في مصير ابنتها الوحيدة, وقضت أحلى سني عمرها راهبة في محراب ابنتها لا يهمها سوى سعادتها.
وعندما وضحت معالم الأنوثة على وجه(هالة) تقدم الكثيرون لخطب ودها ويدها في ذات الوقت إلا أنها رفضتهم جميعاً لأن هدفها كان أسمى من ذلك بكثير.
كان هدفها هو أن تسعد أمها,التي طالما شقت من أجلها, برؤيتها طالبة في الجامعة ثم معيدة ثم دكتورة جامعية...
هكذا كان حلمها.
وفي سنتها الأخيرة بكلية التربية أعلنتها ساكنة الشقة المواجهة لشقتهم بالخبر الذي تسعد لسماعه أي فتاه.."لدي العريس المناسب لك يا (هالة) ".
وتخضب وجه الفتاه يومها في شدة وفرت مع حيائها إلى غرفتها,
ولكن ذلك لم يمنعها من أن تسمع والدتها تستفسر عن أخلاق العريس وعائلته وغيرها من تلك الأمور, بل وسمعتها تحدد موعداً مع جارتها بعد أن أكدت لها هذه الأخيرة طيب أصله وأنه شاب تتمناه أي فتاه, وختمت قولها بأنها لم تكن لتفرط فيه لو كان لديها ابنة, وأن (هالة) هي ابنتها التي لم تنجبها.
وفي حضور خالها حضر العريس بصحبة والده ' العمدة المهيب' الذي شملها بنظرة فاحصة أعادت إلى ذهنها جميع المشاهد السينمائية التي وصفت حزم وشدة العمدة رغم أن هيئة الرجل لم تكن تدل على مهنته,
فعدا طول قامته الواضح كان أنيقاً في السترة الكاملة..
كان نموذج العمدة المعدل.. 'العمدة العصري', ولا عجب في ذلك إذ كان يعمل محامياً قبل أن يرث المنصب عن والده.
وبلمحة سريعة للعريس أدركت (هالة) أنه نسخة مصغرة من والده..طول القامة الواضح, ملامح الوجه, لون العينين الأسود الذي ينافس سواد شعره, حتى الوقار والحزم, وهو ما جعل (هالة) تقول لنفسها' حقاً لكل أمريء من اسمه نصيب, صدق من أسماه (حازم)'
وبعد أن تبادلا الحديث قليلاً, وبعد أن أعملت (هالة) فكرها طويلاً وترددت كثيراً وافقت أخيراً على الارتباط بـ(حازم) وقلبها يتمزق لأنها ستترك أمها وحيدة, إلا أن أمها أقنعتها بأنها ستقيم مع أخيها ولن تكون وحدها, وأن ما يسعدها حقاً هو رؤية ابنتها الوحيدة تعيش في سعادة.
وفي غضون أسبوعين تمت الخطبة وعاد(حازم) إلى عمله في الخليج على أن يعود فيما بعد ليتزوجا.
ولكنه لم يعد,
لقد رفض رئيسه السماح له بالنزول فما كان منه إلا أن أرسل لوالده توكيلاً عقد به على (هالة)... ألم أقل أنها مختلفة؟
وبدلاً من أن ترتدي ثوب الزفاف وتجلس إلى جوار عريسها وسط الأهل والأحباب في حفل زفافها, ارتدته وجلست على مقعد في الطائرة المتجهة إلى حيث زوجها وسط أناس لم ترهم من قبل.
وهكذا بدأت حياتها الجديدة في بلد لا تعرفه ولا تعرف أهله ولا عاداتهم.
صحيح أن (حازم) كان معها إلا أنه....
"هل ستظلين واقفة هكذا يا(هالة)؟"
انتبهت (هالة) لصوت أمها الهاديء فمسحت دموعها سريعاً وهي تقول بصوت لم تفارقه الدموع ـ"هل نام الأولاد؟"
تنهدت أمها في عمق قائلة ـ"نعم, بعد جهد جهيد...إلا أنهم في انتظار قبلتك المعتادة."
هزت ابنتها رأسها في هدوء واتجهت ببطء إلى حجرة أبنائها لتقبلهم, وعندما عادت جلست إلى جوار أمها على الأريكة وشردت ببصرها بعيداً إلا أن أمها بادرتها قائلة بحنان ـ"لابد وأن تتماسكي جيداً يا حبيبتي, فأولادك بحاجة إليك."
تنهدت(هالة) في عمق وهي تقول ـ"الأمر ليس بهذه السهولة.. لقد حدث كل شيء فجأة."
ربتت أمها على كتفها في حنو قائلة ـ"إنه قدره يا ابنتي, وقدرك أنت الأخرى."
قالت بصوت يحمل نبرة ضيق وحنق ـ"قدره؟! قولي عادته, فهو دوماً يفعل ما يشاء وقتما يشاء."
قالت أمها في سرعة ـ" 'وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت', استغفري لربك ولا ترددي هذا القول ثانية."
عادت دموع(هالة) للانهمار ثانية وهي تستغفر الله قبل أن تقول في حنق ـ"ولكنه كان يعلم أن عمله خطير وأنه من الممكن أن يموت في أي لحظة."
سألتها أمها في حيرة ـ"وماذا أردته أن يفعل؟ أن يترك عمله وأن يجلس إلى جوارك؟ لو أنني وغيري اتبعنا منطقك هذا لكان أباك وآلاف الشهداء على قيد الحياة ولما تحررت سيناء. أهذا ما تريدينه؟"
ازداد انهمار دموعها وهي تقول بصوت مختنق ـ"على الأقل كان يتوخى الحرص, لقد أخبرني قبل وفاته أن حفار النفط الذي يعمل عليه ليس على ما يرام وأنه أخبر المسئولين في الشركة بذلك إلا أن الشركة لم تحرك ساكناً, والنتيجة انفجار الموقع بأكمله ومصرع ثلثي العاملين به. والأدهى أن مدير الشركة يتهم عمال ومهندسي الموقع بالإهمال حتى يتهرب من دفع قيمة التأمين على حياتهم."
ربتت أمها على كتفها ثانية قائلة بحنان ـ"يا حبيبتي أنت لست بحاجة لقيمة التأمين مهما بلغت."
قالت(هالة) بعناد ـ"إنها ليست لي, إنها لأبنائه مهما بلغت حتى لو كانت خمسة قروش, لقد حرمتهم هذه الشركة من أبيهم ويعلم الله كم طفلاً أخر فقد والده بسبب هذه الذمم الخربة. لذا لن أتوقف عن مقاضاتهم, ووالد(حازم) معي في هذا الأمر."
استسلمت والدتها لإصرارها واكتفت بهز رأسها وهي تسأل ابنتها في اهتمام ـ"وهل ستعملين مدرسة كما أخبرت حماك؟"
أومأت (هالة)برأسها إيجابا وهي تجيب أمها في ثقة قائلة ـ"نعم, لقد اتفقت مع مديرة مدرسة الأولاد الجديدة على أن أعمل معها مدرسة علوم لطلبة الإعدادي, وسأعمل حتى نهاية الفصل الدراسي تحت الاختبار إلى أن يتم تعييني مع بداية العام الدراسي الجديد. فأنت تعلمين أنني لم أتسلم تعييني الحكومي وبالتالي فقدته"
مطت أمها شفتيها قائلة بعدم اقتناع ـ"مازلت غير مقتنعة بمسألة عملك تلك..فـ.."
قاطعتها ابنتها في هدوء قائلة ـ"يا أمي يا حبيبتي...لو أنفقت على أولادي من ميراث أبيهم لن يبق منه شيء عند تخرجهم, تكفينا مصروفات المدرسة الخاصة التي قبلت أبنائي بها في منتصف العام الدراسي. وجود راتبي سيخفف الحمل قليلاً ولولا بعد نظر حماي ما حصلت على معاش(حازم). يبدو أنه كان يشعر بما سيحدث يوماً ما عندما أشرك(حازم) في التأمينات الاجتماعية, وهكذا سيمكننا العيش في مستوى قريب من مستوى معيشتنا السابق."
أضافت أمها في حنان ـ"لقد نسيت معاشي أنا الأخرى و...."
قاطعتها(هالة) قائلة في سرعة ـ"أمي...يكفيك ما قاسيته من أجلي منذ وفاة أبي'رحمه الله' وحان الوقت لأرد إليك بعضاً من أفضالك...معاشك خاص بك وبأدويتك و..."
قاطعتها أمها بدورها قائلة باستنكار ـ"هل تدفعين لي ثمن إقامتي معك؟"
اغرورقت عينا(هالة) وقالت وهي تحتضن والدتهاـ"معاذ الله...أنا بحاجة إليك يا أمي, بحاجة شديدة إليك."
مسدت الأم شعر ابنتها قائلة بعد تنهيدة طويلة ـ"أعلم ذلك يا بنيتي...أعلم ذلك."