اخر الروايات

رواية وجهان لامرأة واحدة الفصل التاسع 9 بقلم داليا السيد

رواية وجهان لامرأة واحدة الفصل التاسع 9 بقلم داليا السيد 





الفصل التاسع
نسمة رقيقة
كانت تسمع أصوات كالهمسات من حولها ولكنها لم تفهمها وكأنها تأتي من بعيد، تساءلت ماذا هناك؟ أين هي؟ ماذا حدث لها وماذا يحدث من حولها؟ فتحت عيونها بصعوبة من الدق الفظيع برأسها لترى أضواء خافتة حولها فهتفت بضعف
"أين أنا؟"
انتبهت لها فتاة ممرضة تقف بعيدا تحركت تجاهها وقالت "آنسة عهد كيف حالك؟"
نظرت لها ثم للأجهزة التي تحيط بها وتلك الرائحة التي تعرفها وأدركت أين هي فقالت بتعب "جسدي يؤلمني، ماذا حدث؟"
ابتسمت الفتاة وقالت باهتمام "سقطت من على السلم وبجسدك كسور وكدمات"
أغمضت عيونها وهي تذكر ما حدث، هي تسقط وترتطم بدرجات السلم وجسد معاذ يتهاوى فوقها، معاذ!
إلهي لقد كاد أن ينالها وهي وحدها وهو الأقوى ولكن مشيئة الله دائما فوق كل شيء وهو أنقذها كما كان دائما معها
سمعت صوت دكتور منصور يقول "عهد وأخيرا عدتِ يا ابنتي"
فتحت عيونها لتراه أمامها وتأكدت أنها بنفس المشفى وتمنت أن لا تكون، لا تريد مواجهة أحد ولا حتى مواجهة ذكرياتها هنا حيث قابلته أول مرة، تنفست بألم من جسدها المكدوم وقالت بتساؤل
"عدت؟"
هز رأسه وقال بابتسامته القلقة "منذ أول أمس وأنتِ رافضة الاستيقاظ، غيبوبة بدون سبب عهد"
أبعدت وجهها وهي وحدها تعلم السبب عقلها الباطن يعرف السبب جسدها يعلم كل ما بها يرفض الحياة، عندما لم ترد سمعته يقول "كانت سقطة قاتلة عهد ولولا رحمة الله لقتلت على الفور"
هزت رأسها وأدركت أن لا أحد يدرك أسبابها، هي لها تخصها وحدها، لم ترد فعاد يقول "الشرطة تنتظر إفادتك"
التفتت له بعيون منزعجة فقال "هو حادث عهد كلاكم كان على حافة الموت ولابد أن تثور التساؤلات، ماذا حدث عهد؟ كيف وقع الحادث؟"
أبعدت وجهها من التعب والذكرى السيئة وأغمضت عيونها بألم وربما بعض الخوف ماذا لو نجح معاذ؟ ماذا لو حطمها بأخذ شرفها؟ الآن وقد نجت تشعر بالحزن لأن الموت رفضها فماذا لو؟ اقترب منها وقال "الكلب الجبان لقد شككت بالأمر"
انحنى وقال "الحمد لله أنك بخير"
هزت رأسها ولم ترد فقال "أنتِ بحاجة للراحة"
وتركها فأغمضت عيونها وهي ترى كل ما حدث أمامها فعاد الخوف لقلبها وشعرت بالوحدة، كم كانت بحاجة له فلو كان موجود ربما ..ولكنه ليس موجود هو فقط رحل ولن يعود لن يفكر بها ولن تمر على ذهنه ليس بعد أن..
"عهد"
لا، لا يمكن أن تكون نامت وتحلم بصوته "عهد"
التفتت وهي تفتح عيونها كلها بلهفة ودهشة لتراه واقفا أمامها، بقوامه الفارع صدره القوي والذي عرفته من قبل، شعره المنمق، وجهه الوسيم، عيونه الشبيه لعيونها تتألق بالقلق والتعب تنظر لها، بسرعة اندفعت الدموع لعيونها وهي لا تصدق أنه أمامها هل تحلم؟ لا ليس حلم لأنها لم تنم، نعم هو هنا تراه، تسمع صوته
"هل أنتِ بخير؟"
هزت رأسها بالنفي والدموع تتوالى من عيونها فشعر بألم صدره يزداد والغضب يرتفع لأقصى درجاته فانحنى عليها وقال "ماذا فعل بك؟ أقسم أن أجعله يندم لو مس شعرة منك"
كان وجهه قريب منها جدا ورائحته الهادئة تعيد لها الحياة، الألم يرتفع لصدرها ولكنها طمسته ودفعته بعيدا يكفيها أنه هنا الآن، من أجلها نعم ليس من أجل معاذ فها هو يقسم أن يعاقبه، آه يا قلبي لا تؤلمني الآن فقط افرح ولو قليلا فهو هنا الآن
لم تتوقف الدموع وقالت "كان الموت أهون لي من أن يمسني"
لم يبتعد وتنفس بعمق قبل أن يرفع يده لوجهها ويمسح دموعها، الجنون أصابه وقت أبلغته صفاء بما حدث، لم يكن يتلقى أي محادثات مباشرة مع صفاء مؤخرا ولكن ما أن هاتفته شخصيا حتى أدرك أن الأمر هام فأجاب وبالساعة التالية كانت طائرته الخاصة تستعد للرحيل به إلى مصر، الطاقم كان يفر من أمامه بسبب الغضب الذي انفجر بوجههم، مدير أعماله تراجع باتصاله عندما صرخ به بالهاتف، لم يفكر ولو للحظة قبل أن يصعد على متن الطائرة ليراها، لن تموت، لن تدفعه بعيدا هي الأخرى، لم يرد أن يسمع أحد فقط اعتلى طائرته وأسرع إلى هنا
عيونه كانت تحمل الكثير من القلق بجوار القوة والغضب والثبات قال "كنتِ بالفعل قريبة من الموت عهد"
أغمضت عيونها من لمسته وذهبت أنفاسها منها فوجد نفسه يقول دون أن يشعر "افتقدتك"
فتحت عيونها لتلتقي بعيونه القريبة جدا لثاني مرة وهتف قلبها فرحا بالكلمة التي كانت حقيقية ثقيلة محملة بمعاني خفية شعرت بها صادقة ولم تستطع أن توقف لسانها من أن يقول "وأنا أيضا"
أراد أن يسمعها تقولها أن تشعر كما يشعر، حتى ولو كان خطأ حتى ولو كان ضد كل ما تمسك به طوال ثمانية عشر عاما لن يتوقف، لا يريد أن يتوقف ليس الآن، ليس أبدا، هو بحاجة لذلك من بعد ساعات القلق والرعب من أن تذهب وترحل من الحياة أراد أن يكون معها، يسمعها، يرى عيونها ويحتضن نظراتها البريئة ويسمع نبرة صوتها الخجولة كالموسيقى تعزف داخل ضلوعه، له هو فقط
سألها بحنان لم يمنحه لأحد ولا حتى لنفسه منذ ذلك اليوم وما زالت أصابعه تنساب على وجنتها "أنتِ ماذا؟"
تنفست بصعوبة وهي ما زالت تتمسك بعيونه "افتقدتك جدا"
صوت قريب لممرضة تعبث بأدواتها جعله يعتدل ويبعد يده ليمررها بشعره وهو يقول "أنتِ بحاجة للراحة"
تمنت لو أخبرته أنها بحاجة له هو فقط ولكنها لم ترد وظل هو واقفا لا يريد تركها وعيونه تتجول على ملامحها المتعبة ووجهها الشاحب وعيونه بدا لو أن7ا كانت تترجاه حتى لا يذهب ولكنه بالتأكيد يتخيل، الإرهاق جعله لا يجيد التفكير
كاد يذهب فقالت "لن ترحل؟"
عاد لها وهو يؤكد لها أنه لن يعود إلا عندما تعود هي أيضا فقال "لا، أنا بالخارج"
هزت رأسها فهدأت ملامحها فأكمل "حاولي أن تشفي بسرعة كي تخرجي من هنا"
ظلت تنظر له وكأنها تترجاه أن يبقى وهي كانت بالفعل وليته يدرك ما تشعر به، قالت "سأفعل كي لا تتأخر عن أعمالك"
رن هاتفه فأخرج الهاتف ليجد اسم دولت فأجاب ومنحها الهاتف لتجيب المرأة التي كانت قلقة من أجلها طمأنتها وأنهت حديثها فمد يده ليأخذ الهاتف فسقطت عيونها على دبلته الفضية فانتهت السعادة التي عاشتها بتلك اللحظات وعادت للحقيقة التي توارت لثواني ضئيلة خلف تلك المشاعر التي ظنت بوجودها، تابع نظراتها فتذكر هو الآخر الأمر ولعن نفسه لأنه لم يخلعها قبل أن يدخل وقبل أن يتحدث التقى بنظراتها التي حاولت أن تخفي منها الحزن الذي التف حول عنقها مذهبا أنفاسها ومع ذلك قالت بهدوء حسدت نفسها عليه
"مبروك"
جمدت يده التي تقبض على يدها والهاتف وتحدثت العيون والدموع وضربات القلوب المتألمة والحائرة وسقطت السعادة التي كانت تحلق حولهم، سحبت يدها من يده وأبعدت وجهها عنه فأدرك ما يحدث فلم يمكنه البقاء أكثر من ذلك ولا مواجهتها لأن لا كلمات لديه لو سألت، جذب الهاتف من يدها وقال بصعوبة
"أنا بالخارج"
وتحرك خارجا وهو يتذكر كلمات جون وقت الخطوبة لا تعبث مع قلبك لأنك أنت من سيجني النتائج وها هو يجنيها فليست هي وحدها من رأى الألم بعيونها بل هو الآخر يتألم، نعم الآن يتألم ولكن لا يمكنه أن يستسلم لكل ذلك، حياته كانت تسير على النهج الصائب وهي نعم هي سبب كل ذلك، الخطوبة تحميه وتحميها من كل ما واجهه من قبل لن يعيش ما عاشه مع أي امرأة حتى مي هو يعلم حدوده معها جيدا وقد سار سنواته الأخير على هذا النهج ولابد أن تظل هكذا كما وأن خطوبته أصبحت معقدة بسبب أعماله مع حماه وعليه أن يفكر جيدا قبل أن يصنع عداء معه..
البكاء كان رفيقها والألم مشرط يقطع شرايينها يمزق عروقها يوقف نبضها وتمنت لو استطاع أن يوقف كل خلية بها فتسكن عن تلك الحياة المؤلمة وتنتهي منها للأبد وظلت الدموع عالقة تحت رموشها تؤازرها بوحدتها حتى استسلمت للمسكنات فتوقفت واستسلمت للنوم
نظرت بريهان له وهو يخرج من العناية وقالت بغضب وهجوم طفولي كان يعرفه جيدا، ما زالت أخته الصغيرة التي كان يلعب معها ويؤنس ليلها كي تنام دون خوف، ما زال يتذكر كم لعبوا سويا وكم كانت تهرع له كي تشكو من معاذ وما يفعله معها، ولكنه أيضا تذكر تبدلها معه و..
"تهتم بها ولا تبالي بمعاذ وهي سبب ما أصابه لقد كادت تقتله"
أبعد وجهه مع ذكرياته ولم ينظر لها وهو يخرج هاتفه الذي لا يتوقف عن الرسائل ويقول "بل هو سبب ما حدث له، لو لم يحاول الاعتداء عليها لما دافعت عن نفسها وما حدث ما حدث"
عبث بالهاتف باهتمام بينما قالت بريهان "بل هي من أرادت ذلك، نعم هي من كانت تحاول إغراؤه وهي بالتأكيد من جذبته لغرفتها ألم تفعل معك هنا بالمشفى"
ولكنه التفت لها بحدة وقال "لا بريهان هي لم تفعل معي بل أنا أنقذتها من كلب جبان أراد أن ينالها مثلما أراد أخيك ولو سألت أي أحد هنا اليوم سيخبرك بالحقيقة التي لا تريدين تصديقها، أنتِ تعرفين جيدا سمعة أخيك منذ كان صغيرا وحتى اليوم وتعرفين أيضا كل طرقه الملتوية مع النساء وبالعمل وبكل حياته فلا تدعين أنه البريء وأن تلك الفتاة هي الجاني"
قالت بغضب "أنت تدافع عنها وكأنها من العائلة وهي مجرد كلبة ضالة ليس لها أصل ما الذي بينك وبينها ليث؟ إنها مجرد ممرضة ولا تصلح لبليونير مثلك هي لا تريد إلا أموالك و"
قبض على ذراعها بقوة وغضب واضح بعيونه ليوقفها وقال "كفى بريهان، توقفي قبل أن تندمي ولا تنسي أني أخيك الكبير، لم ولن أكون مجرد مراهق تتلاعب به الفتيات"
ودفعها بعيدا عنه وتحرك دون أن يمنحها حتى فرصة للرد ولكنها هتفت "لقد نسيت ليث"
توقف ولم يلتفت لها فأكملت "نسيت أن لي أخ كبير إنها ثمانية عشر عاما ليث كل سنوات عمري الهامة عشتها بدونك فلا تسألني عنك وأنت لم تكن موجود"
التفت لها وكلماتها تمزقه كانت بالعاشرة من عمرها عندما رحل ولم ينسى يوما له معها، كانت عيونها كلها ألم وملامحها لم تماثل بريهان التي عرفها بعد مضي كل تلك السنوات، دموعها شاركتها لحظتها وهو خلا من المشاعر وقال بنبرة باردة
"لا تحاسبيني على ذلك لأنه ليس ذنبي"
اقتربت منه والدموع تسبح على وجنتها وقالت "ليس هناك سواك ليث فأنت من رحل وأنت الذي دمرت كل شيء"
احمرت عيونه من الغضب واندفع الماضي يغزو كل نقطة دم بعروقه، غضبه من الجبالي، من دولت، من الماضي والحاضر وانحنى ليصل لوجه أخته وقال يضغط على كل حرف من حروف كلماته
"اسألي دولت من كان المسؤول عن تدمير كل شيء قبل أن تنظري لي بتلك النظرة بريهان"
والتفت تاركا إياها ململما كلمات جارحة كاد ينطق بها وهو يدرك أن بريهان ليست الهدف الذي يستحق التصويب تجاهه وتحرك ليبتعد عندما توقف مرة أخرى برؤية الضابط الذي توقف أمامه وقال
"مساء الخير سيد ليث"
تنفس بقوة ليستعيد هدوءه كما درب نفسه، تطويع غضبه وكبت رغبته بالانتقام ورفع رأسه بكبرياء البليونير الناجح دائما وأبدا قال بهدوء "مساء الخير يا فندم"
قال الضابط باحترام متبادل وبدا أنه يعرف جيدا من هو ليث الجبالي "آسف لتعطيلك ولكن تقرير الطب الشرعي ظهر وأثار الدماء بأظافر الآنسة عهد مطابقة للسيد معاذ وكذلك الجروح التي بوجهه وملابسها الممزقة، كل هذا بالتأكيد يؤيد كلامك من أنها هي من كانت تقاومه وليس كما ادعى هو"
هز رأسه، لم يشك بلحظة واحدة بها لأنه يعرفها ويعرف أخيه جيدا، قال "نعم"
هز الضابط رأسه بتفهم وقال "عموما إكمال التحقيق يتوقف على الآنسة عهد وأقوالها وما إذا كانت ستوجه له اتهام بالاعتداء أم لا وأنصحك أن تطالب السيد معاذ بتغيير كلامه عندما نبدأ المحضر الرسمي"
هز ليث رأسه وهو يدرك كلماته وليس بنيته التحدث لمعاذ من عدمه فعلاقتهم انتهت منذ سنوات ولن تعود أبدا مرة أخرى، بكل يوم تسوء عن الذي يسبقه وهو لا يريدها أن تتحسن، تحرك الضابط مبتعدا بينما قالت بريهان وقد مسحت دموعها واقتربت منه
"والآن مستقبل عائلتنا بيدها، عليك أن تخبرها ألا تفعل ليث"
حدق بها ولم يهتم بما تقول ومن داخله تمنى لو أن عهد لا تتراجع فمعاذ يستحق العقاب مرة واحدة على أفعاله ولن يرجف له رمش لرؤيته يعاقب لقد حماه الجبالي بما يكفي طوال سنوات عمره وصنع منه فتي طائش لا يصلح لأي شيء وفقط يكره أخاه الكبير كما لو كان الشيطان بالنسبة له، كم مرة تسبب له بالأذى والضرر وهو لم يرد الضربة بأضعافها فقط من أجل ما قالته نورهان، الأخ الأكبر
صدرت منه آه ساخرة وهو يذكر تلك الكلمات التي رمته بها أخته، الأخ الأكبر، يا لها من كلمات تجعله يريد أن يضحك حتى يبكي
معاذ لا يهمه، لقد فقد أي مشاعر بالأخوة تجاهه، ماتت، قتل معاذ آخر ما تبقى لديه بذلك اليوم عندما رفع السكين ليقتله ونالت عهد الطعنة، عهد، أعاد نفسه لها هل ستتنازل عن الدعوى ضد معاذ؟ لكنه يشك بأنها قد تتنازل ربما من أجل دولت وهو أصلا لم يعد يهتم بسمعة العائلة التي لم ينتمي لها بيوم ودولت عليها تحمل نتيجة تصرفاتها، ابتعد من أمام أخته والغضب يأكله دون رحمة ولا يعرف ماذا يمكنه أن يفعل ليوقف كل ما يحدث فقط هواء، أراد هواء يعيد به بعض السكينة لنفسه ويطرد تلك الذكريات التي يثيرها وجوده بمصر
بالصباح كانت قد انتقلت إلى غرفة وبالطبع زارها معظم العاملين الذين كانوا يعرفونها وبخاصة رحمة التي كانت بأجازة وعادت منها لترافقها بسعادة عندما انتهى الطبيب من رؤيتها وخرج، دق الباب ورأت ليث يدخل فنهضت رحمة من جوارها وقالت
"سأنتهي من بعض العمل عهد ثم أعود"
لم يجرؤ أحد على التلميح لعلاقة ليث بها أو اهتمامه بها فقط ظنوا أن الأمر متعلق بأخيه والممرضة التي تعمل لديهم واكتفى الجميع بحادث واحد كانت عهد ضحيته فلم يجرؤ أحد على التحدث بأي شيء
حيته رحمة برأسها وقد استبدل ملابسه بأخرى أكثر أناقة وكأنها صنعت فقط من أجله لتلائم جسده الرائع وتحسنت ملامحه عن الأمس وتراجع شعره للخلف وكأنه يخشى من سيده لو تهدل على جبينه وتألقت عيونه ببريق الذهب عندما تضربه أشعة شمس الصباح
التقى بنظراتها المتعبة ووجها الشاحب والذي امتلأ بالكدمات فلم يحول وجهه عنها وزاد سخطه من معاذ لأنه سبب كل ما أصاب تلك الفتاة وبالنهاية هو نفسه السبب فهو من جعلها تعمل عنده وتلتقي بذلك النذل، اقترب من الفراش حتى وقف أمامها وقال
"أراكِ أفضل حالا"
رائحته المسكية حلقت حوله وضربتها بقوة، أخذتها وسامته لدنيا من الخيال حيث الأمير الوسيم يركض فوق فرسه كي يخطف فتاته، تذكرت كلمات معاذ، لا هو الأمير ولا هي سندريلا وهو ركب فرسه وحمل أميرة أخرى ببلد آخر، تألم قلبها لتلك الحقيقة وأخفضت عيونها وقالت
"نعم، الحمد لله"
لم ترفع رحمة عنها غطاء الشعر وتسربت خصلات من شعرها الذهبي ولاحظه هو بالطبع مما جذبه وجعله يتخيله ينساب حول وجهها الأبيض ويلمع مع عيونها الذهبية، لم يمكنه أن يوقف نفسه فرفع يده ولمسه وهو يقول
"لونه رائع"
ارتجفت ولمس الخوف عقلها فرفعت يدها السليمة وأبعدت شعرها من يده لتحت الغطاء وقالت "كان على رحمة وضع طرحتي"
أعادت ذراعها بتأوه عندما شعرت بألم بصدرها وأدرك هو ذلك فكبت غضب عارم داخله ورغبة بتكسير كل عظمة بعظام معاذ، قال "ضلع مكسور"
أبعدت وجهها ربما لا يلاحظ ضعفها ولا صدرها المتعالي بموجات من أنفاسها المتلاحقة وقالت "أخبروني أن الشرطة تريد أقوالي"
ابتعد لأقرب مقعد وجلس ربما لو ابتعد يوقف ما يجول بصدره تجاهها وهو يقول "نعم، معاذ قال أنكِ أنتِ من جذبت انتباهه وهو كان يحاول الرفض وأنتِ من دفعه ولكنك فقدتِ اتزانك وسقطتم سويا"
ظلت تنظر له فرفع وجهه لها فقالت "والشرطة تصدق ذلك؟"
قال "لا، خاصة أن دماؤه كانت تحت أظافرك وآثار الجروح على وجهه وملابسك، كلها أدلة للدفاع عن نفسك وبمواجهته بالأمس صمت ولم يرد"
لم تبعد عيونها عنه وهي تسأله ما خطر ببالها بالحال "وأنت؟"
التوى فمه بابتسامة بسيطة وقال "أجلس هنا معك لأنك كنت تغوين أخي، عهد ألا تتعلمين؟"
أبعدت وجهها وقالت "بالنهاية هو أخيك وأنا مجرد ممرضة"
الغضب تملكه مرة أخرى لكم مرة يذكرونه بأخوة زائفة، أبعد وجهه وقال "لا عهد أنا لا أصدق معاذ وكان عليك ألا تسألي عن ثقتي بكِ"
ظلت تحدق به وامتلأ قلبها بالراحة وهزت رأسها بالإيجاب دون أن ترد وهي تخفض رموشها على عيونها، انحنى هو للأمام ليقترب من فراشها وقال "والآن الأمر منوط بك وبتقديمك بلاغ ضده بالتعدي"
رفعت رموشها لتلتقي بعيونه بصمت وهي تعلم كلامه جيدا فقالت "وأنت لا تريدني أن أفعل من أجل سمعة العائلة وصحة والدتك"
ظل صامتا ثم تراجع بالمقعد قبل أن يقول "حسنا ما زال هذا رأيك بي فماذا عن قرارك؟"
ظلت تنظر له وما زالت كلماته عن ثقته بها تتردد بذهنها وهي تقول "هل تريدني أن أصمت؟"
نهض وتحرك مبتعدا وقال "أنا أريدك أن تفعلي الصواب عهد"
ثم التفت لها وهو يضع يده بجيوب بنطلونه فقالت "ووالدتك؟"
قال بهدوء "من زرع حصد"
دق الباب ودخل الضابط وقال "صباح الخير، آنسة عهد أنا الرائد محمد هل تسمحين لنا ببعض الأسئلة؟"
تراجع هو للنافذة واستند عليها مشبكا ساقيه وعقد ذراعيه أمام صدره والتزم الصمت عندما جلس محمد والرجل التابع له والذي أخرج أوراقه عندما بدأ بأخذ بياناتها ثم سألها
"هل تخبريني ماذا حدث بالضبط تلك الليلة؟"
نظرت له وهو واجها بعيونه منتظرا كلماتها وهي لم تتراجع وهي تحكي كل ما حدث مخفية نظراتها عنه وظل هو محدقا بها والغضب يأكله مما فعله معاذ معها
سمع الضابط يقول "هذا يتفق مع تقرير الطبيب وأقوالك بالطبع تجعله متهم بالتحرش والاعتداء وأكيد الأمر بيدك من الاستمرار بالأمر من عدمه"
نظرت له وبادلها النظرة دون أن تفهم ما بهم فعادت للضابط بإصرار وقالت "سأستمر"
اعتدل بوقفته وتنفس بعمق وهو يرفع يده لشعره ويبعد وجهه ويشعر براحة بينما نهض الضابط وقال "شكرا لكِ آنسة عهد وأهنئك على شجاعتك وسعيد بسلامتك"
التفت هو للضابط وهو يقول "شكرا لك سيد ليث"
حياه بإيماءة من رأسه فخرج والرجل الآخر خلفه، أبعدت وجهها بينما تحرك هو تجاهها حتى وقف مرة أخرى بجوار الفراش فقالت "لن أتركه يفلت حتى ولو كان أخيك"
ابتسم وقال "تبدين جميلة وأنت غاضبة"
التفتت له ولابتسامته ولم تفهمه فأسند يده على ظهر الفراش وانحنى حتى وصل وجهه لوجهها وقال "هل تجديني أبكي من أجل أخي ومتألم بسببه وأركل الأرض بأقدامي"
قربه كان له تأثير مدمر، يوهنها ويوقف عقلها ويعزلها عن الواقع ويطمس كل ما حولها ليبقى هو وحده، أنفاسه الحارة، رائحته القوية مختلطة برجولته الطاغية، نظراته الناعسة تحرقها تخز كل جزء بجسدها وكأنه يمرر يده على بشرتها كما فعل من قبل وها هو يفعل عندما رفع يده لوجهها وقال
"وأخيرا رحل الخوف، هل أرى بعض الثقة بعيونك"
عيونه تجولت على ملامحها حتى سقطت على شفاهها المكان الوحيد الذي كان يتمناه ولم يتردد هذه المرة وهو يجذب وجهها له ويأخذ شفتيها بقبلة جعلتها تفقد نفسها وتنسى كل ما حولها ولا تذكر سوى أنفاسه التي تضربها وشفتيه التي تقبلها برقة جعلها تشعر بأن العالم يدور بها وكأن إعصار يضربها ويأخذها لمركز دورانه فيصعد بها لأعلى نقطة به، زادت قوة القبلة وهو يضغط على شفاهها ويده تثبت وجهها وهي لم تجد أي قوة بالابتعاد، هي أيضا أرادت تلك القبلة ربما تصدق بها أنها مهمة له وربما لديه شيء لها
دقات الباب جعلته يفلتها ويتراجع وكلاهم يلهث بأنفاس متقطعة وفتحت عيونها وهي لا تعي ما يحدث وحرارة تكوي جلدها وبريهان تدفع الباب وتدخل وهي تقول "أنت هنا بالتأكيد، الطبيب يسأل عنك حالة معاذ سيئة ويريد إجراء جراحة فورية له ويحتاج موافقتك"
مرر يده بشعره وقد استعاد نفسه بسرعة وقال "أي جراحة!؟"
لم يتحرك من جوار الفراش ولم ينظر لها ولا بريهان التي قالت "الرقبة بها فقرات تحتاج لجراحة هامة، هل تأتي؟ هي ليست بحاجة لك مثله"
التفت لها فأدرك وجهها الذي تلون بالأحمر وعيونها التي اختفت تحت رموشها، قال "ولا هو بحاجة لي فقط رحمة الله التي لن ينالها بأفعاله الدنيئة"
وجه نظراته لأخته التي كادت ترد ولكنه تحرك للخارج دون أي كلمات بينما أسرعت بريهان خلفه وأغلقت هي عيونها ورجعت رأسها للخلف وتنفست بصعوبة لتهدئ قلبها الذي يبتهج بتلك القبلة ولكن سعادتها تراجعت وهي تتساءل، كيف يفعل ذلك وبحياته امرأة أخرى؟ لن يمكنها أن تتحمل تلك التصرفات؟ كيف تقبل بالأساس أن يقبلها؟ لابد أن توقفه لن يمنحها السعادة اليوم ثم يسرقها منها غدا عندما ترى خبر زواجه على الميديا وقتها لا يمكنها أن تعرف كيف ستعيش بعدها
لم تراه باقي اليوم ونامت كثيرا وقد تلقت رعاية خاصة من الجميع بأوامر من عزت نفسه الذي أراد رؤيتها ولكنها كانت نائمة، يد رقيقة أيقظتها لترى رحمة تبتسم وتقول
"نمتِ كثيرا"
تحركت فتألمت من صدرها وذراعها الذي بالجبيرة فقالت رحمة "اهدئي عهد ما زلتِ بحالة غير جيدة"
أغمضت عيونها من الألم وقالت "نعم أدرك ذلك جيدا"
ردت رحمة "ما زلتِ تتألمين بصمت؟ هيا سأساعدك لتناول العشاء والدواء"
تمنت لو تسألها عنه ولكنها لم تشأ أن تثير أي شكوك حولهم وتحدثت رحمة كثيرا عن عاطف الحب الجديد واتفاقهم على الزواج وما أن انتهى الطعام حتى منحتها الدواء وتطرق الموضوع لمعاذ فقالت
"لقد أجرى الجراحة اليوم، دكتور منصور لم يكن يريد إجراءها ولكن كطبيب لم يستطع التراجع وأنت تعلمين أنه الأفضل هنا"
قالت "بالطبع كل جراحاته ناجحة"
نظرت لها رحمة وقالت "تلك الفتاة سيئة جدا يا عهد كيف كنت تقيمين معها؟"
قالت بلا مبالاة "لم أكن أهتم بها هي مجرد فتاة لم يعلمها أحد الخطأ من الصواب"
ابتسمت رحمة وقالت " ثلاثة إخوة على النقيض من بعضهم البعض"
ثم جلست وأكملت "رجل ينبض بالخطيئة والسمعة السيئة، مفلس ولا مستقبل له ويعيش عالة، فتاة مدللة لا أخلاق لها السيد ليث هو فقط من يوقفها، الأخ الأكبر هو رائع حقا عهد، لولا عاطف لكنت سقط تحت أقدامه ليراني، أحيانا أحسدك على اهتمامه بكِ كيف لم يخطف قلبك؟ هل تعلمين أنه لا يتحدث مع أي فتاة هنا إلا بحدود ضيقة جدا، ورغم محاولاتهم جميعا إغوائه إلا أنه حازم وصارم وكلماته لاذعة أوقفتهم جميعا هل رأيت خطيبته؟ إنها فاتنة حقا"
كلمات رحمة كانت كثيرة ولكن فقط ذكر مي جعل الألم يعود لقلبها بقوة خاطفا السعادة التي عاشتها بقبلته وظلت صامتة ورحمة تكمل "هل تعرفين أن والدها من أغنياء أمريكا؟ يقال أن زواجهم من أجل المصالح المشتركة بينهم ولكن نظراتها له تعني الكثير"
كانت تعرف كل ذلك فلم يمكنها أن تنطق بكلمة واحدة وكأنها فقدت النطق وعادت رحمة تقول "يقال أيضا أنهم على علاقة منذ سنوات والزواج سيكون قريبا"
أبعدت وجهها وتمنت لو تصرخ بها لتوقفها ولكنها اكتفت بالتألم في صمت إلى أن قالت رحمة "لابد أذهب، هل تريدين شيء؟"
بللت فمها بشفتيها وقالت أخيرا "مسكن فالألم شديد"
ولكن أي مسكن يمكنه إيقاف ألم القلوب؟ منحتها قرص تناولته وتحركت رحمة للخارج بعد أن ملأت قلبها بالألم أكثر مما كان وبعد وقت ليس ببعيد غلبها التعب والنوم فنامت..
انتهى من المشفى وجراحة معاذ وألقى عليها نظرة أخرى وهي نائمة عندما طلبت دولت رؤيته فرحل للبيت على مضض
دخل غرفة دولت التي كانت على كرسيها المتحرك وما أن رأته حتى ابتسمت له وهو يقترب منها بينما خرجت الفتاة التي كانت تصاحبها والأم تقول
"ماذا أصابهم؟ هل، هل الأمر خطير؟"
هز رأسه بالنفي وقال "اهدئي كلاهم بخير، معاذ يحتاج لبعض الجراحات ولكته سيكون بخير"
تنهدت والدموع تملأ عيونها وقالت "هو من فعل ذلك بنفسه أنا أعرف أن عهد ليست تلك الفتاة"
لم يتحرك وهو يقول "نعم هي حكت كل شيء للضابط، معاذ تهجم عليها وهي دافعت عن نفسها"
رفعت له وجهها وقالت "لقد ضاع مستقبله يا ليث"
تحرك وابتعد من أمامها وقال دون أي اهتمام "وهي كادت تضيع"
نظرت له وقالت "هل ستتركها تفعل به ذلك؟"
التفت لها وقال بصوت جاد به لمسة غضب مكبوت "هذا حقها ولا أملك أن أنزعه منها"
دمعت عيون دولت وقالت "ومعاذ؟"
ابتعد ولم يجيب فقالت "لم تحبه بأي يوم"
التفت لها وامتلأت عيونه بنيران الغضب فأسرعت تكمل وكأنها تشعر أنه سيخرج نيران غضبه من عيونه لتلتهمها وتلتهم كل ما حولها "حسنا ليث، الأمر لا يتعلق بالحب إنه أنا، أنا السبب"
سكن الغضب بأعماقه مرة أخرى وابتعد ولم يرد فأكملت "ولكنه ابني، دعني أذهب إليها أنا أعلم أنها لن ترفض طلبي، من فضلك ليث"
التفت لها ولم تنضح نظراته بأي معاني فتحركت بمقعدها تجاهه وقالت "أنا أعلم أنه يستحق أسوء عقاب وأن الفتاة كادت تضيع بسببه ولكن الحمد لله لم يحدث شيء فأرجوك ليث دعني أذهب لها وأطلب منها التنازل لصالح ابني، أنا أم ليث"
ارتفعت الذكريات داخله دافعة السخط معها لكيانه واختلطت بالألم المتموج بعروقه وهتف بدون أي مراعاة لكونها تلك المرأة "نعم هو ابنك وقلبك يؤلمك من أجله هو فقط"
شحب وجهها وتسربت العيون خارج عيونها وجمدت يداها على عجل كرسيها ولم تقوى على مواجهته فأخفضت وجهها فابتعد من أمامها محاولا السيطرة عل الوحش الكامن داخله فقالت بحزن
"لن تنسى؟"
هتف دون رحمة "وهل فعلتِ أنتِ؟"
هزت رأسها بالنفي والدموع تصاحبها ولكنه أكمل "آسف لقد نسيت أنكِ من أراد كل شيء فبالتأكيد نسيتِ لكن أنا أيضا نسيت، نعم دولت هانم نسيت كل شيء عنكم ولا أريد أن أذكره ووجودي هنا كان من أجل المظاهر الاجتماعية لسمعتي ولن يرمش لي جفن على أي ضرر يصيبه وأنت تعلمين أن لا لوم علي"
ارتجفت المرأة وجف حلقها وهي تحدق به وهمست بصوت ضعيف "وكنت أتساءل لماذا لم تتخلى عني"
التفت بعيدا عن مواجهتها وقال بقوة "ها قد أخبرتك"
لم ترد والألم يرتفع لملامحها وهمست "ألا يمكن؟"
رفع يده محذرا وهو يقاطعها بنفس الغضب "من الأفضل أن تتوقفي لو أردت بقائي أكثر من ذلك"
سقطت الدموع من عيونها أكثر غزارة ولكنه لم يتألم لهم ولم يجد أي عاطفة توقف غضبه بل أبعد وجهه وقال "فقط لننتهي من كل ذلك، لو أردتِ الذهاب لها فافعلي لن أمنعك ولن أمنعها لو أرادت التنازل هي حياتكم"
وتحرك ليذهب ولكنها أمسكت يده لتوقفه وقالت "أنا لم أنساك يوما ليث، لم أنساك لحظة واحدة"
كلماتها لن تغير شيء ليس الآن، ليس بعد سنوات كثيرة وليس أبدا، ظل ينظر لعيونها الباكية ثم قال "وماذا؟ لم يتغير أي شيء ما زلت ذلك اليتيم الذي نشأ بلا أم ولا عائلة أليس هذا ما أردته أنتِ؟"
الدموع أصبحت غزيرة والألم يحوم حولهم وهو يجذب يده من يدها وقال "أخبرتك أن تتوقفي فلا داعي للتقليب بالماضي لأنه لا يجلب إلا الألم ويخرج وحوش كامنة ستتغذى على الألم النابض داخلنا يكفينا تلك الصورة الجميلة التي نحيا داخلها أمام الصحافة التي تهمني"
ثم تحرك للخارج وقد آلمها كما اعتادت أن تفعل به، لم يتألم لها ولن يفعل بينما انهارت المرأة بالبكاء بقوة ولم يتوقف هو وهو ينزل السلم عندما استوقفته صفاء "سيد ليث"
توقف وهي تسرع تجاهه وقالت "كيف حال الآنسة عهد؟"
مرر يده بشعره ليبعده عن جبهته ولانت نبرته وهو يبتلع حالته الثائرة ويهدأ الثورة التي انتفضت بكيانه وقد اعتاد على تطويع نفسه بحسب ما يواجه حتى ولو كان محملا بكل ألم العالم، نظر لها وهو يقول
"بخير لقد خرجت من العناية وهي أفضل حالا"
تنهدت صفاء وقالت "أين ستذهب بعد خروجها من المشفى؟ حضرتك تعلم أن ليس لها أحد ولا أظن أنها ستأتي هنا بعد ما كان"
حدق بها وهو لم يفكر بالأمر فأبعد وجهه عن صفاء وقال "لم أتخذ قرار بالأمر بعد صفاء"
كاد يتحرك ولكنها قالت "حضرتك لن تتركها أليس كذلك؟"
التفت لصفاء ولم يذهب اللون الأحمر من عيونه الغاضبة ولم يرد بينما ارتبكت صفاء قليلا قبل أن تكمل "هي ممرضة ممتازة وربما تحصل على عمل جيد بالخارج ويصبح لها مستقبل أفضل من هنا"
ظل ثابتا وحدق بوجهها الخالي من أي معاني وكأنها لم تكن تقصد معاني خفية من وراء كلماتها ولم يرد أيضا وتحرك ذاهبا وهو أصلا امتلأ عن آخره بالمشاكل والأفكار والألم
ما أن ركب سيارته حتى رن هاتفه باسم مي فنفخ بقوة وقد تركها دون رد لأكثر من عشرين مكالمة لذا أخذ نفس عميق ثم أجاب فقالت بغضب "وأخيرا ليث أجبت"
قاد السيارة وقال "أنت تعلمين سبب وجودي هنا مي فبالتأكيد لن أجد وقت للرد"
قالت بنفس الغضب "ومتى سينتهي كل ذلك؟"
قال بنفاد صبر "لا أعلم"
صرخت بالهاتف "لا تخبرني أن حادث كهذا سوف يأخذ اهتمامك ويمنعك عن حضور أهم معرض دولي لك، لم يكن اخوتك بحياتك بأي يوم ولن تهمك ممرضة حمقاء ليث"
صمت ولم يرد وذهنه يحمل الكثير وهو حاليا لا يجد أي أجوبة، فجأة عقله فارغ وكأنه توقف عن العمل، صراعه مع دولت استنفذه فقط هو يريد رؤية عهد ولكنها ليست بحالة تسمح برؤيته ماذا لو سمع صوتها؟ صرخات مي بالهاتف أعادته
"ليث أين ذهبت؟ هل تجيب على كلماتي!؟"
أوقف السيارة أمام الفندق وقال "سأفعل مي ولكن عندما أجد إجابات تناسبك"
قالت بغضب "هل تسخر مني ليث؟"
نزل ومنح الرجل مفاتيحه ودخل الفندق وهو يقول بجدية ويتحرك بخطوات واثقة دون أي دليل على التعب الذي يهز كيانه "لا، فقط متعب وأريد أن أنام فهل تتركيني الآن؟"
أخذ كارت جناحه من الموظف واتجه للمصعد فقالت "حاضر ليث سأتركك الآن وأنتظر مكالمتك"
لم يرد وهو يغلق الهاتف والمصعد يفتح بابه فدخل وهو يستند على حائطه ويتنفس بعمق مغلقا عيونه والصداع يجتاح رأسه حتى أعلن المصعد عن وصوله فتحرك لجناحه ودخل، خلع جاكته وفك ربطة عنقه ملقيا إياهم على المقعد وتحرك لحاسبه الآلي وفتحه وعبث به دون أن يجلس وتابعه باهتمام حتى انتهى فعاد الهاتف يرن عندما رأى اسم جون فأجاب دون تردد فقال الرجل
"ظننتك لن تجيب"
تحرك لغرفته وهو يخلع قميصه ويلقيه بعيدا ويجلس على المقعد عاري الصدر وقال "أنا بالفندق"
قال جون "كيف حالها؟"
صمت وهو يحاول أن يفهم سؤال جون ثم قال "هي؟"
أجاب جون "الأخبار تقول أنها ممرضة والدتك وكانت تدافع عن نفسها، عائلتك تنال اهتمام الميديا، الميديا وليس أنت ليث"
ضاقت عيونه من تلميحات جون فقال "بالتأكيد تنال اهتمام الميديا جون، اسم الجبالي كان يصنع ضوضاء كبيرة"
أعاده جون مرة أخرى لها بقوله، أجاب جون "واسمك ليث، إذن هي من قلبت حياتك رأسا على عقب؟ هي جميلة حقا، عيونها تشبه عيونك وتنطق بالبراءة تستحق اهتمام ليث الجبالي حقا"
أغلق عيونه ونفخ بقوة ليس لديه أي طاقة للجدال، لقد انتهى لليوم فلم يرد فقال جون "ليست بجمال مي ولكن مختلفة، الجمال المصري يحتل الصدارة"
قال بضيق "كفى جون ماذا تريد؟"
ضحك جون وقال "متى ستعود؟"
قال بجدية "لا أعلم، الجميع ما زال بالمشفى"
أجاب جون "والمعرض، تصميمك الجديد يحتل الصدارة"
نهض وتحرك بلا هدى وقال "لا أعلم، لن يمكنني ترك"
وقطع كلماته فأكمل جون "نعم أعلم لا يمكنك تركها فأنت تركت كل شيء خلفك من أجلها"
قال بغضب لأن جون يخترق دواخله وهو لم يسمح لأحد بكل هذا القدر حتى ولو كان جون "جون توقف لن أتحمل حقا"
أتاه صوت جون هادئ "حسنا ليث اهدأ، لم لا تأتي بها هنا؟ يمكنك أن تحصل لها على عمل بسهولة"
كلماته وافقت اقتراح صفاء ولكنه قال "تعلم أن الأمر لدينا مختلف سيتطلب منها تدريبات وشهادات كثيرة قبل أن تجد عمل مناسب"
صمت جون لحظة ثم قال "فقط أحضرها ووقتها سنجد لها ما يناسبها هذا إذا لم تشأ تركها بمصر"
صمت ولم يجيب وقد اندفعت الفكرة لرأسه واندست داخل عروقه ولم يعد من السهل إخراجها فهو يدرك الآن أنه لابد أن يعود لعمله وهو لا يريد تركها، بل بالأصح لا يقوى على ذلك فقال "سأفكر بالأمر جون"
رد جون "حسنا هل أنت بخير؟"
تحرك للحمام وقال "لا، أحتاج للنوم، لي ثلاثة أيام لم يغمض لي جفن"
ضحك جون وقال "فقط، ثلاثة فقط؟ من الواضح أن العمر تقدم بك أين تلك الأيام عندما كنت تظل مستيقظا بالأسبوع دون تذمر؟"
قال وهو يضع أشياء بالمياه "أنت آخر من يتحدث بالأعمار جون، هيا أحتاج لحمام قبل النوم"
ضحك جون وأغلق فأكمل خلع ملابسه واندس بين المياه، أسند رأسه على المسند المنجد وأغمض عيونه باحثا عن الراحة ولكنه لم يشعر بها كما اعتاد وانطلقت عيونها أمامه فجأة واحمرار وجنتيها وهو يأخذ قبلتها التي أخذته لعالم لم يعرفه من قبل، هو ليس رجل نساء لقد فقد رغبته بهم بمجرد رحيله من هنا وجعل العمل والنجاح كل همه، نعم عرف نساء كثيرة بسبب مجال عمله لكن دون أي علاقة أما مي فلم يكن يراها بالأساس، اعتبرها أخت صغرى ولم يفكر بها إلا وقت حديثه مع عزيز
أما صاحبة العيون الذهبية فهي مختلفة هي تحتل الصدارة بعقله وأفكاره، هو يعلم أنه هنا بسببها، معاذ لم يمر على ذهنه للحظة لكن هي أخذت كل ذهنه، فتح عيونه وجذب الهاتف واتصل بالمشفى وطلب غرفتها، طال رنين الهاتف حتى كاد يغلق عندما جائه صوتها الناعس ليجعله ينتعش بالمياه فقال
"أيقظتك؟"
أبعدت شعرها وهي تعتدل بصعوبة وقالت بسعادة لسماع صوته "كم الساعة؟"
أجاب دون اهتمام بالوقت "الثانية صباحا"
قالت "رحمة تعتني بي جيدا وتجزل لي في العطاء كي أنام"
ضحك وقال "الواسطة حتى في الدواء"
سمعها تقول "لم تأتي؟"
قال "مررت عليكِ قبل أن أذهب وكنتِ نائمة فلم أشأ إيقاظك، كان لدي الكثير وعندما انتهيت أدركت أن الوقت تأخر ولا مجال للعودة للمشفى بمثل ذلك الوقت، ليس من اللائق أن أفعل خاصة والجميع يعرفك ويعرفني"
فهمت كلماته فقالت "ظننتك رحلت لأمريكا"
قال باستنكار "أخبرتك أني لن أفعل"
راجعته "هذا كان بالأمس"
صمت قليلا ثم قال "تعلمين أني سأعود، لا مفر من ذلك عهد"
صمتت وهي تشعر بالألم يعود فقالت "وطنك هناك سيد ليث"
نفخ وقال بضيق "متى سأسمع اسمي بدون ألقاب؟"
تسربت الحرارة لوجهها وهي تقول "لا أملك إجابة"
قال بحدة "بل تملكين عهد، تملكين وتدركين أن هذا هو ما وصلنا له، عهد وليث فقط وليس الممرضة عهد ورب عملها السيد ليث"
ابتلعت ريقها وقالت "هذا يعني أني لم أعد أعمل عندك؟"
أغمض عيونه لحظة ثم عاد وفتحها وقال "ليس الآن عهد سنتحدث بالأمر فيما بعد أنا فقط أردت الاطمئنان عليك"
حمدت أنه لا يراها ولا يسمع دقات قلبها وارتجافة يدها التي تقبض على سماعة الهاتف وقالت برقة "لم أتخيل أن أنال اهتمامك"
أدرك أنها على خط البداية فقال "هل تعودي للنوم؟"
أدركت أنه يفر منها فقالت "سأراك بالصباح؟"
ابتسم وقال "بشرط"
قالت "الذي هو؟"
صمت قليلا ثم قال "تطلبين ذلك من ليث"
صمتت ولم ترد فقال بخبث "من الواضح أنك لا تريدين رؤيتي"
قالت دون تردد "لا ولكن"
قال بجدية زائفة "الشرط"
قالت بعد وهلة "هل تأتي لزيارتي بالصباح.. ليث؟"
ظل صامتا وقد كان يستمتع بكلماتها ورقتها وخجلها الواضح، عندما لم يرد قالت "هل ما زلت معي؟"
قال "نعم"
قالت "هل حدث شيء؟"
قال دون تفكير أو وعي بما ينطق لسانه "لا، فقط تمنيت لو أنك أمامي الآن عهد أرى عيونك تلمع ببريق يأخذني"
لم تفكر وهي تقول "حقا؟"
أغمض عيونه وأدرك أنه ينساق وراء جنونه ولم يعد يعرف ماذا يفعل ولم يعد للواقع إلا عندما اقتلعت قلبه وهي تناديه برقه
"ليث"
فتح عيونه وقال "كالنسمة الرقيقة عهد، اسمي يخرج منك كالنسمة الرقيقة"
تعالى صدرها من أنفاسها المتقطعة وقالت برجاء "لا تفعل بي ذلك"
هز رأسه وقال "لستِ وحدك"
أغمضت عيونها تريد ألا تصدق فقالت "لابد أن توقفه"
تغيرت نبرته وقال "هل تريدين ذلك؟"
زادت دقات قلبها ولم تجيب فاعتدل بالمغطس وقال "هل تريدين ذلك عهد؟ ردي"
فتحت عيونها وقالت "لم أستطع ليث، لم أستطع إيقافه"
أبعد خصلاته المبللة ونهض وجذب المنشفة وقال "إذن لا تتذمري مرة أخرى واذهبي لتنامي كما سأفعل"
استسلمت وقالت "حاضر، لا تتأخر بالصباح"
لف المنشفة حول خصره وخرج وهو يبتسم وقال "وهل هناك عاقل يتأخر على تلك الرقة"
لم ترد فقال وهو يرتدي ملابسه "هل تعلمت الابتسام؟ لأنني أريد رؤيتها غدا وإلا"
قاطعته بنبرة ضاحكة "كان شرط واحد سيد ليث والآن أصبحت كثيرة"
قال ممازحا "اقتباس الفرص هي سبب النجاح بعالمنا عزيزتي"
قالت "حسنا سنتفاوض بشروطك هذه بالصباح الباكر هل تذهب لتنام؟"
ابتسم وقال "تصلحين بدلا من صفاء، طابت ليلتك"
همست برقة "وليلتك"
وأغلق الاثنان وقد تبدلت الحياة من حولهم والسعادة فقط هي من تلفهم، أغمضت عيونها وما زال صوته وكلماته بأذنها وتمدد هو على الفراش وما زال يسمع اسمه وكأنه يسمعه لأول مرة وأحبه ولم يعد يرغب بأن يتراجع عما يفعل ليس بعد الراحة التي سكنته بسماع صوتها حتى ولو كان كل ذلك يحدث منه بلا عقل إلا أنه يستمتع به ويريده ولن يتوقف عنه
يتبع.



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close