رواية ميراث الندم الفصل الثامن 8 بقلم أمل نصر
في المكان المعتاد للقهوة الشعبية التي يرتاداها يوميًا، والمنزوي عن باقي الطاولات والبشر، لخص له سريعًا
عما حدث، ليخرج صوت الآخر بتهكم ظاهر، معبرًا عن غضبه:
– يا حلاوتك وحلاوة أخبارك، وجاي تجولها في وشي يا عزب؟
زفر الاَخير دفعة كثيفة من دخان الاَرجيلة التي يكركر تدخينًا بها، ليرد على قوله مقارعًا له:
– مش انت اللي سألتني عليها وعلى أخبارها، كنت عايزني اكدب يعني واجول انها رايجة في بيت جوزها الله يرحمه مع الناس اللي عايشة معاهم؟ خلاص اعتبرني مجولتش حاجة .
على صوت ناجي، يردد خلفه بعدم تقبل:
– مجولتش حاجة كيف؟ بعد ما ولعت النار في جتتي، جاي تجولي مجولتش حاجة؟ الناس دي لازم تتربى على عمايلهم، وانت كمان لازم يطولك الحساب عشان جعدت وأهملت، افترض اختك كانت ضعفت وواجفت على حد منيهم، عليا النعمة يا عزب ما كان هايكفيني عيالك حتى.
– وه.
تفوه بها عزب بمفاجأة، ليترك ذراع الاَرجيلة من يده، ويرد عليه باستنكار:
– خبر ايه يا ناجي؟ وايه دخل عيالي بالكلام البارد ده؟
ما هي سبتهالهم خضرا مخضرة اهي، ثم لو حصل يعني، كان هيبجى ايه ذنبي انا بجى لو وافجفت على واحد منيهم؟
زجره ناجي بوجه مكفهر، ليظهر اصرار واضح في قوله كي يمنعه حتى من التفوه بالأحتمالات:
– متجولش الكلام ده يا عزب وتحرج دمي، انت عارف زين ومتأكد اني عايزها، وان كنت فرطت فيها جبل كدة، دلوك مش هسمح، حتة العيلين ولا جوز الحريم امهاتهم، محدش فيهم هيمشي علينا، دا انا جاعد مصبر نفسي على ما تهدي الدنيا وتخلص عدتها، ولا دي غلطتي اني مجدر الظرف وصابر مستني.
– صابر مستني!
تمتم بها عزب، وقد ارتسم الذهول على صفحة وجهه، بشدة، ليردف ببعض التعقل:
– إهدى يا واد عمي؟ إنت بتتكلم كدة وكأن اللي راح كان حد غريب عنها، مش جوزها ابو ولدها، طب الجماعة دوكهم ليهم ظروفهم، عايزين يلحجوا يتصرفوا مع المحامي زي ما سمعت عشان ينزعوا الوصية عن فايز السكري، احنا بجى هنعمل زيهم……
قطع جملته متفاجئًا باهتزاز الطاولة الصغيرة على اثر ضربة قوية بكف ناجي لسصحها تسببت في سقوط الأكواب وما تحتويه من شاي ومياه اغرقت الصنية الصغيرة، ليهدر له محذرًا:
– مستعد اصبر نفسي يا عزب، بس ابجى ضامن، مش استنى ع الفاضي وبعدها اتفاجأ انها وافجت على عيل من العيال دي او أي حد غيرهم حتى، تجدر توعدني يا عزب؟
– لا حول ولا قوة الا بالله.
غمغم بها ليحاول جاهدًا لإقناعه:
– إعجل كلامك شوية يا واد عمي، عايزني أديك وعد ولا كلمة حتى على اساس إيه؟ إذا كان هي نفسها بتجول ابدًا ما هتجوز بعد اللي راح……. سيب الأيام تعمل مفعولها، حتى عشان لما تتكلم بعد كدة، يبجالي عين جوية اضغط عليها لو زمزجت، لكن دلوك مينفعش، دا لسة الجرح مطابش يا عم.
كلماته كان بها من المنطق الذي الجم الاَخر بعض الشيء، ليكف عن المجادلة مجبرًا يكز على نواجزه بغيظ متعاظم، ثم تسائل ساخرًا:
– والجرح اللي عايزه يطيب ده ان شاءالله، هياخد وجت كد ايه؟
بأعين متهربة رد يجيبه عزب بمكر:
– افتكر يعني ان كل حاجة مفسراها الظروف يا واد عمي، والأصول اللي تخلي الأرملة تفضل لابسة الاسود على جوزها بالتلت سنين في بلدنا، أكيد يعني جوازها على أجل من سنة مينفعش…….
قالها لينتفض على صيحة ناجي المستهجنة:
– نعم! عايزاني اصبر سنة وانا معلج كمان؟
هم ان يخبره بعدم جدوى الصبر من أساسه، وذلك لعمله الأكيد برأي شقيقته به، ولكنه فضل الرد بسياسة معه كالعادة:
– انا بتكلم ع الأصول يا واد عمي، وبرضك محدش عارف بكرة هيحصل ايه؟ شوية شوية الدنيا هتصفى، بس احنا نصبر شوية.
❈-❈-❈
– نعم يا ماما، بتجولي بجى كانوا بيضغطوا عليكي ليه؟ سمعيني تاني
قالها وسبابته يحركها امامها بشكل دائري كي تتابع، وقد توقفت الكلمات بحلقها، تطالعه بتعجب، بعد أن فاجأها برد فعله، وهذا التهكم في نبرته، حتى فاض به، ليهدر بنفاذ صبر:
– وجفتي ليه ما تكملي؟
انتفضت وللمرة الثانية اتجهت عينيها نحو باب الغرفة، لتزيد من غضبه المكتوم،، وهو يجاهد لضبط النفس ، بعد ما القته بوجهه دون أكتراث، لتتابع على عذابه قائلة:
– طب انا مش عارفة اكمل صراحة، اروح انده على امي…
– أجعدي….
هدر بها يوقفها قبل ان تتحرك، وقد نهضت عن مقعدها كالملسوعة تبغي الهروب من هيئته المتوحشة أمامها، ولكن ماذا بيده؟ الاَن فقط اصبح يخشى على نفسه من ذبحة صدرية بسببها.
سحب شهيق كبير ينظم أنفاسه المضطربة، قبل أن يتابع امرًا لها بحزم؛
– بلاش خوف مني انا واد عمك ومش هاكلك يعني.
اضطرت مذعنة لطلبه ان تعاود الجلوس، ليستطرد كاظمًا غضبه المتصاعد داخله، سائلًا لها، حتى يعيدها للحوار:
– الناس دي كانت بتضغط عليكي ازاي؟ وكملي على طول عشان مضطرش ازعج فيكي تاني وانتي ما بتتحمليش.
بدت كالطفلة المذنبة امامه، لتبلتع رعبها منه قليلًا، وتجسر نفسها بالحديث حتى تنتهي من هذا التحقيق:
– كانوا بيزنوا عليا عشان اوافج بسرعة ونجهز الاجرءات جبل العدة ما تخلص، وكل ما كنت ارفض، كانو دايمًا بيخوفوني بعم فايز انه ممكن يتخلص من ولدي عشان هو الوحيد المستفيد.
– يا ولاد ال…….
زمجر بها بصوت واضح أمامها، ومخالب قاسية نشبت بقلبه، تحفر جروحًا غائرة، هذا أكبر من تحمله، لقد رأى الطمع في عيون الجميع، وتوقع اي شيء الا ان يتم قهرها بأكبر مخاوفها وهو حياة طفلها، وبهذه السرعة، وهو بعيدًا عن حمايتها، عاجز عن الزود عنها، ليس أمامه الاَن سوى التصرف كمسؤل:
– ولما كل دا بيحصل معاكي، ما تكلمتيش ليه؟ اخوكي ليه مجاش يشتكيلي ع الاجل، عشان كنت وجفت كل واحد عند حده.
– ما هي مش مستاهلة.
– هي إيه اللي مش مستاهلة؟
اخفت ارتياعها تجاهد ألا تتأثر بهذه النبرة المتحفزة منه نحوها، وملامح وجهه التي تزداد اظلامًا كل دقيقة، لتوضح شارحة:
– يعني انا كنت فاكراهم هيسكتوا لما يلاجوني رافضة، بس اللي حصل هو العكس، كان كل يوم بيزيدوا، مع ان جولتلهم والله الاتنين خواتي، سند ولا عيسى، في واحدة تتجوز اخوها؟
هذه المرة توقف يطالعها بانشداه، لا يصدق كم هذه البراءة، والرقة الشديدة، وكأنها فتاة في بداية نضجها، وليس امرأة من المفترض انها تزوجت وانجبت وترملت، تبًا، أين كانت مختفية عنه؟
طال صمته وهذا التحديق الذي يربكها، حتى اعتلى ملامحها عدم الارتياح، فكانت تتهرب بعينيها عنه، حتى استشعر من نفسه حرجها، ليخرج حمحمة خشنة يتبعها قوله:
– شوفي يا نادية، عشان نجفلوا الموضوع ده من الأساس، انتي ملكيش روحة تانية البيت هناك، تجعدي هنا وسط اهلك، انا ممكن اجدر اروح ابهدل الدنيا عندهم، بس هروح بحجة ايه؟ وهما ناس معندهمش دم من أصله، انهم يفتحوا في مواضيع زي دي، ولسة الميت ما ارتاحش زين.
أومأت له بهز رأسها وقد بدا انها تأثرت بذكر زوجها الراحل، لكن سرعان ما استفاقت على صوت صغيرها الذي دلف الغرفة، بندائه:
– ماما.
اشرق وجهها برؤيته، تبصره يلج بصحبة والدتها التي كانت تخطو خلفه برعاية له، تحمل الصنية التي وضع عليه كأسين من العصير، همت أن تنهض لتحمله، لكنه سبقها بأن خطف انتباه الطفل يشير بيده اليه قائلًا:
– تعالى، تعالي يا حلو انت.
ضحكت جليلة لتسحبه معها نحوه، حتى رفعه اليه، ليحمله على ذراعه القوي، ومشاعر صاخبة تتماوج داخله، لا يعرف لها اسم، ان كانت فرح او ابتهاج شديد،
، هذا الصغير الذي يحمل معظم صفاتها الشكلية، يشعر برابطة نحوه غير مرئية.
داعب وجنته الناعمة بسبابته ليسألها بمشاكسة:
– اسمك ايه ولا مبتعرفش تتكلم؟
تدخلت جليلة بالنيابة عنه:
– لا كيف؟ هو معظم كلامه مش مفهوم، بس بيعرف اسمه وكام كلمة تانية،، زي ما جال ماما من شوية، جوله اسمك يا واد؟
توجهت بالاخيرة تخاطب الصغير الذي اذعن لطلبها يجيبه:
– محتز.
– محتز.
ردد بها من خلفه ليطلق ضحكة رجولية صاخبة، خرج صداها لخارج الغرفة، حتى وصلت لعزيزة زوجة شقيقها الأكبر عزب، والتي كانت تتابع عن قرب، تنتظر خروجه، وقد ازدادت تعجبًا لهذه الزيارة المفاجأة بدون انذار، بالإضافة لطول الجلسة، والتي استمرت لفترة من الوقت بعد ذلك، بحديثه الودي مع جليلة ومداعبة الطفل الذي اعتاد عليه سريعًا، حتى فعل ما كان يفعله مع والده قبل ذلك، ليضع كفه الصغيرة داخل فتحت الجلباب في الأعلى، وكأنه يبحث عن شيء ما، انتبهت عليه والدته، لتهتف به محذرة:
– واد يا معتز .
التف لها الصغير، ولكن غازي منعها عن التكملة مشجعًا له:
– ملكش دعوة بيها يا واد،……. كمل زي ما انت عايز.
ذهلت جليلة وهذا الوجه الذي تقابله لأول مرة من كبيرهم، لتتنقل بنظرها منه والى ابنتها التي تخضب وجهها بحمرة الانفعال الشديد تطلب منها العون بهمس كان يصل إليه كدغدغات محببة لأذنيه:
– يا مراري يا الكسوف، خديه ياما الواد ده.
اصبح يقهقه بالضحك دون مواربة، مستمتعًا بخجلها الشديد لفعل الطفل المشاكس، والذي اخرج سلسلة المفاتيح وريموت السيارة، يتلاعب بهما وكأنه وجد كنز، ليزيد من سعادته بينهم، لقد أتى منذ قليل بحال وسوف يخرج بعد ذلك بحال أخرى، وقد أشبع عينيه من رؤيتها وهذه اللمحات القريبة عن شخصيتها.
❈-❈-❈،
وفي الخارج، وحينما يأست من خروجه العاجل كعادته في الزيارات الودية، استلت هاتفها لتتصل بزوجها:
– بجولك بجالوا أكتر من ساعة جاعد جوه معاهم……….. ما انا كنت هتصل بيك يا عزب، بس امك جالتلي مفيش داعي، هو اساسًا جاي يطمن على البت وماشي، لكن اها، بجالوا كتير ومطلعش………. ويعني انا اش عارفني بيتكلموا على ايه؟، لما تاجي انت اسأل امك واعرف منها، سبب مجية غازي الدهشان بحاله عندكم…….
طب وبتزعج فيا ليه طب؟….. ماشي يا عزب اجفل من عندك.
نهت المكالمة بعصبية وضيق، نظرًا لانفعال زوجها الدائم عليها، بسبب وبدون سبب، لكن سرعان ما تبدل مزاجها مع الضغط على الأسم الاخر قي قائمة السجل عندها في الهاتف
جاءها الرد بعد فترة طويلة من الإلحاح، باستجابة على مضض من الجهة الأخرى:
– الوو…. ايوة يا فتنة، عاملة ايه يا غالية؟
❈-❈-❈،
بعد قليل وبداخل منزل الدهشان
هبطت فتنة بعد انتهاء المكالمة من طابقها الثاني بخطوات مسرعة نحو الجلسة المعتادة لجدتها الكبيرة فاطمة، وحفيدتها امام التلفاز في مشاهدة لإحدى حلقات المسلسل الشهير، لتجفلهما على صيحتها الغاضبة:
– من امتى غازي بيزور الناس في بيوتهم من غير اذن يا روح؟ ها، من امتى يا جدة؟
التفتا اليها الاثنتان يطالعنها بدهشة وعدم فهم لفعلها، لتزيد عليهم موضحة:
– اخوكي راح لبت هريدي في بيت ابوها اول ما وصلت عندهم، طب عليهم حتى من غير ما يستأذن اخوها اللي كان في مشوار برا البيت، ماله هو ومال مشاكل الست نادية؟ واحدة جاية زمجانة من عند ناس جوزها، ايه دخله هو؟
هدرت فيها فاطمة توقفها بحزمها:
– اسكتي يا بت وبطلي هلفيط بكلامك، خبر ايه؟ انتي بنفسك جاية تجولي عليها زمجانة، ان ما كنش الكبير هو اللي يعس على واحدة أرملة وغلبانة زي دي؟ ويشوف حجها هي وولدها اليتيم من هيعس؟
همت لتفتح فاهاها للجدال ولكن روح اوقفت الكلام بحلقها معقبة:
– المهم في دا كله بجى، انتي سمعتي كل الحكاوي دي منين؟ أكيد من صاحبتك مرة اخوها، احسنلك تكفي ع الخبر مجور، للكلام يوصل لغازي، وساعتها صاحبتك هي اللي بيتها هينخرب، عزب شديد، يعني لا يمكن هيرضى لمرته نجل الكلام.
استبد الغيظ بها، حتى أصبحت تهتز لفرط انفعالها، لتهتف بالاَخيرة بعدم اكتراث:
– في ستين داهية، هو انا اللي جولتلها تتصل وتبلعني، لازم اتكلم مع غازي، لازم يلم نفسه من أولها وميدخلهاش في حاجة للبت دي.
خرج صوت فاطمة هذه المرة بحسم تفحمها:
– طب اعمليها يا فتنة، بس بعدها ما تجيش تشتكي لما يروحك على بيت ابوكي، جوزك ملوش في الاخد والرد يا بت، دا بيجطع على طول، وانتي حرة بعد كدة.
– يعني اموت بجهرتي.
صرخت بها واقدامها تتحرك مغادرة من أمامهما، تقطع الطريق بخطوات مسرعة نحو طابقها تسحب شياطينها معها.
ظلت انظار روح متابعة لها، تمصمص شفتيها باستياء معقبة:
– الله يهديكي يا فتنة، انا مش فاهمة هي بتكره البنية ليه بس؟ يعني كل ده عشان رفضت اخوها؟
وكان رد فاطمة زفرة ساخنة وصمت مهيب.
❈-❈-❈،
في منتصف الليل
عاد اخيرًا بمزاج رائق، ليسقط بجسده الضخم على الاَريكة التي اتكأ عليها بعد أن خلع عن قدميه حذائه، يمسح بكفه على شعر رأسه المستريح للخلف، وكأنه أصبح يرى العالم برؤية جديدة كانت غائبة عنه، دنيا الجمال التي يستحق المرء ان يحيا بها، دنيا ناعمة؛ كانت غائبة عن خشونة اعتاد عليها.
كلما اعاد برأسه ردود أفعالها وتعمد الهروب بأنظارها عنه، اثناء حديثه مع والدتها والذي استمر لفترة من الوقت، وكأنها فتاة في عمر المراهقة تخجل منه،
، يجزم بداخله بالتأكيد ان احتلالها لأحلامه طوال السنوات الماضية لم يكن هباءًا.
يعلم بالرهبة التي تتملكها في حضوره،،ومع ذلك يراوده الأمل كثيرًا أن يقل هذا الشعور مع اعتيادها عليه، حتى وهذه المعضلات الكثيرة تقف عقبات امام ما يتمناه لكنه لن يمل المحاولة، ولن يهدأ حتى تصبح في ظل جناحه وتحت رعايته .
انتبه فجأة مجفلًا لهذه العيون التي تحدق به في قلب الظلام الذي يغطي الغرفة، ليعتدل على الفور بجذعه، يشعل ضوء المصباح المجاور له، متمتمًا:
– بسم الله الرحمن الرحيم، مش تتحمحمي ولا تعملي اي حركة يا جزينة تخليني احس انك صاحية، بدل من شغل العفاريت دا اللي يقطع الخلف.
تحفزت بوقفتها لترد على قوله باستنكار:
– عفاريت! ليه ان شاء الله؟ دا انا بياض لون بشرتي ينور في الضلمة، انت بس اللي كنت سرحان.
اومأ برأسهِ يوافق قولها:
– انا فعلا كنت سرحان، عايزة ايه يا اللي بتنوري في الضلمة؟
تحركت لتجلس على الكرسي المقابل له لتجلس مرددة بلهجة يعلمها جيدًا بحكم عشرته معها:
– وانا هعوز ايه يعني في الدنيا الليالي؟ انا بس انشغلت عليك لما اتأخرت، الساعة داخلة على اتنين، كل ده كنت فين يا غازي؟
مال برأسه أمامها يرمقها بتفحص لكشف اغوارها بقوله:
– وانتي من امتى بتسألي حتى ولا تحسي برجعتي في الليالي؟ ثم ايه اللي مسهرك لحد دلوك، مش كل يوم بتبقى مخمودة في الوجت ده؟
اجفلها بفظاظته وهذا التهكم القوي منه، لتعترض معبرة عن استيائها:
– خبر ايه ما تخلي بالك من كلامك، افرض يعني بتلاجيني نايمة، ما انا تعبانة ومهدودة من مراعية العيال والخدمة في البيت، انا مش عارفة والله، كل دا عشان بسألك اتأخرت ليه، عشان جلجلت عليك يا غازي.
لا يصدق قولها ولا يصدق هذا الاهتمام المفاجئ منها، ولكن لا بأس، رد يجاريها حتى يأتي منها بالمزيد:
– كنت مع شباب العيلة يا فتنة، أكيد يعني عارفة المندرة اللي بنجعد فيها، اطمنتي يا ستي.
هزت برأسها امامها تظهر اقتناعًا لم يصدقه، حتى وضح مقصدها خلف تحقيقها، بقولها بعد ذلك:
– كويس خالص، اصل انا كنت سمعت من اخويا عيد انه شافك دخلت عند بيت عمي هريدي على اول الليل، مش بعادة يعني؟
لاحت على زاويتي فمه ابتسامة ساخرة يردد خلفها بتشكيك:
– عيد برضوا هو اللي جالك؟…… يا ستي ع العموم هو مكدبش انا فعلا روحت لبيت عمي هريدي عشان نادية….
قالها وتوقف برهة، لتبرق عينيها بتلفظه للإسم مجردًا وكأنه يقصد، قبل أن يتابع موضحًا:
– صاحبتك اللي جوزها مات جريب، عندها مشاكل مع اهله، وهي جات على بيت ابوها زمجانة.
– واحنا مالنا؟
صدرت منها بحدة تتابع بانفعال تغذى مع مرور الساعات الماضية لتنفجر به غير قادرة على كبحه:
– واحدة اتجوزت من برا عيلتها، تبجى تتحمل هي نتيجة اختيارها، اهم مطلعوش ولاد اصول وحسب ما باين كدة، يبجى مشوها من بيتها جبل حتى ما تكمل عدتها، يبجى شيلتها وتشيلها، ما هي اللي جابته لنفسها.
ضاقت عينيه، يطالع رد فعلها بتمعن شديد، وقد اثار انتباهه هذا اللهجة العدائية منها، حتى خرج صوته اخيرًا بتساؤل افحمها:
– فتنة انت متأكدة انها كانت صاحبتك؟
ابتلعت تراجع نفسها، حتى لا تثير ارتيابه، وجاء ردها بتبرير:
– ايوة امال ايه؟ هي فعلا كانت صاحبتي، جبل ما تكسر جلب اخويا وتبدي عليه ولد فايز السكري، طب اهم بهدولها بعد موته، بذمتك دي لو كانت في العيلة، كان حصل دا كله معاها؟
لم تعجبه الإجابة كما أنه لم يقتنع، ليعقب بحدة امرًا لها:
– يعني انت كل اللي فيه ده بسبب اخوكي، طب،اسمعي بجى ومن الاخر، ادخل في موضوعها ولا مدخلش، في كل الأحوال يا فتنة حجة اخوكي دي تبطليها خالص، لانها شيء ما يخصناش، وخليكي في حالك عشان مجلبش عليكي.
ابتلعت الباقي من كلماتها مجبرة، وقد اغلق عليها حتى طريق المحايلة، ليضيف بصيحته:
– وجومي نامي.
على الفور نهضت لترمي نفسها على الفراش مزعنة لأمره، منهية نقاش بلا فائدة معه، وتوقف هو يراقبها بملامح مشتدة، بعد أن عكرت مزاجه ببث سمومها، ثم تذكيره بالمتربص الأقرب الاَن، ناجي وما يحمله من تعلق بفاتنته، كان ينقصه مشكلة أخرى.
زفر بسخط يتمتم داعيًا عليها، بعد ان اخرجته من عالمه الوردي الناعم، لواقعه البائس معها:
– إلهي تحلمي بكابوس يكتم على نفسك يا بعيدة، زي جليتي راحتي وعكرتي مزاجي.
❈-❈-❈،
في اليوم التالي .
وقد تأخرت عن النزول إلى الطابق الأرضي، واختلاطها والحديث معهم كالعادة، مما جعل هويدا تصعد إليها لتستطلع ما بها وتسألها بفضول:
– خبر ايه يا سليمة؟ لا انتي ولا مرة ولدك ظاهرين من امبارح؟ ايه الحكاية؟ ليكون الواد تعبان؟
اجابتها الأخيرة ببساطة وهي ترتشف من فنجان قهوتها التي اعدته منذ قليل:
– مشت
– مشت؟
جلست لتتابع سائلة لها باندهاش:
– وامتى لحجت تطلع؟ دا احنا صاحين من طلعة الشمس،، وما لمحنا حتى اترها يعدي علينا.
ردت سليمة بكل هدوء:
– دا كان امبارح، ع الساعة تمانية كدة في ادان العشا، لمت خلجاتها هي وولدها، وحطتهم في شنطة صغيرة ومشت.
تسرب الشك لقلب هويدا، لتردف سؤالها بتوجس؛
– انا ليه كلامك مش مريحني يا سليمة؟ ما توضحي جصدك ايه؟ مرة ولدك حطت هدومها في الشنطة لاجل ما تريح اعصابها في بيت ابوها يعني ؟
على نفس الوتيرة تابعت :
– لاه يا هويدا، هي خلاص اعتبريها راحت مكانها على كدة في بيت ابوها، يعني اخرها تاجي عندنا زيارة وخلاص، أنا نبهت عليها بكدة.
اعتلى الغضب معالم الاَخيرة، لتردد خلفها باستهجان:
– انتي اللي نبهتي عليها بكدة يا سليمة، انا مش قولتلك من الاول ان كلامك مش مريحيني، ما تجيبي اللي في بطنك واتكلمي على طول، انتي اساسًا مبتعرفيش تخبي.
تلقت سليمة الدعوة لتفصح عن استيائها هذه المرة دون مواربة:
– وماله يا ست هويدا، اطلع اللي في بطني واجول ع اللي فيها، ولا فاكراني هسكت لما اعرف انكم مضيجين ع البيت وبتضغطوا عليها عشان تتجوز واحد من عيالكم ، وانا جتت ولدي لسة مبردتش، وكل اللي عليكم انكم عايزين تحافظوا ع حج المرحوم وتنزعوا الوصية عن ابوه، طب تجدروا تجولولي هتعمولها كيف دي؟ وانتو ولا واحد فيكم ينفع للوصاية، ولا عشان هي صغيرة ومش فاهمة؟
على صوت هويدا في الرد بدفاعية، بانفعال يقارب الهجوم:
– لا يا سليمة هي مش عيلة صغيرة، دا انتي اللي عجلك اصغر منها، بوظتي كل اللي بنعمله في دجيجة ، مع ان كله عشان خاطرك، المسألة معجدة واحنا عارفين ان محدش هينفع يتولى مسؤلية الوصاية غيرك، بعد ما نخلي فايز يمضي ع التنازل،
ود ولدك هيبجى في حضنك، ومرته لما تتجوز واحد من عيالنا هتضمني ان عمره ما هيبعد عنك، دا غير ان هيبجى في حماية، يعني محدش هيجدر يجرب منيكم، لا فايز ولا غيره، فهمتي بجى يا ناصحة.
ذوت سليمة ما بين حاجبيها وارتسمت شبه ابتسامة ساخرة، لتسألها بتريث، وافكار عاصفة تموج برأسها:
– ودي كنتوا هتعملوها ازاي يا هويدا، هو فايز عيل صغير عشان يمضي على حاجة زي دي، لأ ويتنازل كدة بسهولة؟ ولا انتوا دماغكم فيها ايه بالظبط؟
خرجت الأخيرة بحدة لم تؤثر في الأخيرة لتُجيبها بتصميم:
– ملكيش دعوة باللي كنا هنعمله، دا راجل سكري ورجله بتروح ع الخمارات والغرز اكتر ما بتروح على بيته، ولا عايزانا نستنى لما يجي هو وبت التنح وعيالهم، يبرطعوا في بيت ابونا ويطردونا احنا أصحاب البيت.
ومض عقل سليمة واتسعت حدقتيها بإدراك متأخر لتهتف معارضة:
– انتي عارفة زين ان اخوكي دماغه شديدة، ولا الف كاس خمرا يأثر فيه عشان يمضي وهو مغيب، ودا ملوش تفسير غير في حاجة واحدة بس، هي ان حاطين في راسكم تجبروه، وطبعا دي مش صعبة عليكم، عشان ولدك وواد اختك الاتنين يد واحدة، لكن لاه يا هويدا، انا لا يمكن ارضي بكدة، ولا هجبل الوصاية على واد ولدي بحاجة عفشة زي دي.
صاحت بها هويدا وقد غلبها الانفعال لتخرج عن طورها الطبيعي الهادئ:
– عنك ما جبلتي، واستني بجى يا اختي لما ياجي هو والغندورة عشان تطلع البلا الازرج على جتتك، تكيدك وتذل فيكي، مش عاجبك ان احنا بنفكر في مصلحتك، يبجى تتحملي يا بت الناس،
زمت شفتيها تكظم غضبها عن رد غير لائق، وضغطت بصعوبة حتى خرج ردها بتحكم شديد:
– هتحمل يا هويدا، زي ما اتحملت كتير جبل سابج، ولا عمري شكيت ولا هشتكي، عشان انا سيبت عوضي على ربنا، وحتى لو مجاش العوض، كفاية عليا اضمن سلامة واد الغالي، وبعده عن نار الكره اللي والعة جوا البيت ده، بورث الندامة.
نهضت هويدا لتطلق صوت ساخر من فمها مرددة:
– ودي ضمنتيها منين ان شاء الله؟ طول ما في ورث البيت، مفيش ضمان لسلام ولا أمان.
قالتها وانسحبت مغادرة، تاركة سليمة تغمض عينيها بتعب، وهذا الحبل الذي التف حول عنقها، يزيدها احهادًا وبؤس، رغم أنه صمم في ألاصل من اجل النجاة وحفظ الحقوق
لتتضرع للخالق بوجل:
– يارب احفظ الباجي من ريحة ولدي، احفظ واد ولدي وامه.
❈-❈-❈
في منزل الدهشان
وقد استيقظ باكرًا كعادته، هبط من الطابق الثاني وعينيه تبحث عنها، حتى وجدها خارجة من مطبخ المنزل الكبير، وكأنها تعد طعام الإفطار مع العاملين، هتف بإسمها لتنتبه له:
– روح، صباح الخير يا ست البنات
التفت له بوجهها المشرق تتلقى تحيته بابتسامة عذبة تبادله:
– يا صباح الهنا والسرور على كبير البلد كلها، ثواني وتلاقي الأكل ع السفرة.
قالتها وهمت تتحرك عائدة للمطبخ ولكنه اوقفها بقوله:
– لا استني انا عايزك في كلمتين الأول.
طالعته بعلامة استفهام تعلو وجهها سائلة:
– كلمتين ايه ع الصبح كدة؟ خير يا غازي.
اقترب ليسحبها من كفها مرددًا خلفها:
– خير ان شاء الله، ما تجلجيش دي حاجة كدة بسيطة.
بعد قليل
كانت معه اسفل المظلة الكبيرة في قلب الحديقة، وقد ابتعدا عن صخب المنزل والجميع، وكان الحديث الدائر بينهما، بعد أن اخبرها عن مطلبه:
– أيوة يعني انت عايزني اروحلها النهاردة واشوف طلباتها، ليه هو عزب لحج يجصر معاها؟
– وه
تفوه بها ليردف لها موضحًا:
– ما تفهمي يا روح وجهة نظري، يا بت ابوي انا عايزك تجربي منها، مش موضوع تشوفي طلباتها وبس، لأ انا غرضي تعرفي كل حاجة عنيها، انتي جولتي عليها كتومة وهادية، ودا اتأكدت منيه بنفسي بعد ما شوفتها امبارح وحكت ع الضغط اللي كانت بتتعرضله من ناس جوزها، دا لولا حماتها الله يباركلها، هي اللي نصحتها تمشي، الله أعلم كان حصلها ايه؟
بتركيز شديد وقد وصلها الاَن فحوى كلماته:
– فهمتك يا خوي، انت فعلا عندك حج، احنا شكلنا صح مجصرين فيها دي، دا انا حتى لما كنت بزورها، مكنتش بنفرد معاها لوحدي، دايما كان يبجى في ما بينا ناس، الله يباركلك يا واد ابوي انك خدت بالك منيه الموضوع ده..
اكتنفه الراحه بقولها وتفهمها الدائم له، مما شجعه ليطلب المزيد:
– طب حيس كدة بجى، انا عايزك متجربيش وبس، لا دا انا عايزك تصاحبيها، تعرف عنها كل شيء، كل شيء يا روح، بت عمك دي انا فهمتها زين، على كد ما هي باينة زي النسمة كدة، لكن شكلها راسها ناشفة، وما بتمشيش غير بمخها، والنوع دا بيحتاج اللي يساسه.
تطلعت له بانشداه، وكأنها ترى وجه اخر لشقيقها، مما جعله ينتبه على شرودها، فصدح صوته متذمرًا:
– خبر ايه يا روح؟ ما تركزي معايا، متخلنيش اعيد وازيد في الكلام، دا انتي حتى نبيها وبتعرفيها من غير شرح.
ضحكت بمرح، لا تستوعب انفاعله، لتعقب مستغربة:
– طب انت ليه متعصب؟ انا فهمت والله وجهة نظرك، بس مكدبش عليك متفاجئة من اهتمامك، دا غير ملاحظاتك الدقيقة عن نادية وكأنك فهمت شخصيتها، كل دا من جعدة واحدة؟
انتابه في البداية شعور بالحرج، لكن سرعان ما استطاع السيطرة عليه، ليرد موضحًا:
– انتي جولتيتيها بنفسك جعدة واحدة، لكن اخوكي كبير عيلة يا ست روح، يعني فريز في اصناف البشر، اظن يعني واحدة زي بت عمك مش هتبجى شخصيتها اصعب من ان افهمها.
ازداد العبث على ملامحها لتردف مقارعة له:
– بس انت مبتفهمش في صنف الحريم، ولا بتجيك مرارة للحكاوي معاهم، مش دا برضوا كلامك يا كبير عيلة الدهشان، ولا انا بخترغ من مخي؟
– يا بت ال…..
دمدم بها يطالعها بتوعد، وقد وصله جيدًا ما ترمي إليه، بأنها كشفته.
يتبع…
التاسع من هنا