رواية ميراث الندم الفصل الثاني 2 بقلم أمل نصر
دلف لداخل غرفة نومه، سقط بجسده المثقل جالسًا على طرف التخت، زافرًا دفعة كثيفة من الهواء المحمل بهمومه التي لا تنتهي، شبك كفيه في الأمام، ناظرًا في الفراغ أمامه بتفكير متواصل، ألا يكفيه المسؤليات العديدة المعلقة بكاهله بصفته كبير للعائلة بعد أن نصبه جده الراحل قبل موته لهذه المهمة؛ واضعًا ثقته الكبيرة به، والتي جعلت الجميع يرضخون لطلبه، حتى وعلى غير اردتهم، وقد خلق ذلك له العديد من العداوت من داخل العائلة ومن خلفها، حتى لو ادعى اصحابها غير ذلك، لكنه يعلمهم ويعرف الطريقة الجيدة للتعامل معهم.
أما بداخل منزله، كيف يتصرف مع الطرف الأعوج، زوجته المغرورة بجمالها وحسبها ونسبها، ثم زواجها به، اكبر رأس في العائلة، مما خلق بداخلها التعالي حتى على أقرب القلوب إليه، شقيقة روحه” روح” هذه النسمة الرقيقة سبب تعبه ومشقته أيضًا.
لا يعلم السر بها، وبرفضها التام لكل طالب يتقدم لخطبتها، ابناء عُمد ورجال اصحاب مناصب، وعائلات لها وزنها في المحافظة بأكملها، ولكن لا فائدة، كم من المحاولات الشاقة التي أجراها معها في كل مرة منهم كي تقتنع؟ حتى الضغط بالخصام وهذه المشاعر الأخوية القوية بينهما، لا تأتي بهمها، وهي دائمًا ما تغلبه ببكاءها.
تبكي حتى تمزق نياط قلبه وجعًا على حالتها، وقد تزوجت كل فتيات العائلة وانجبن اعداد من الأطفال، وهي الوحيدة التي ما زالت على حالها، يقتله الشوق لزواجها، ورؤية من تنجبهم بالتأكيد سيأخذون قطعة من قلبه كوالدتهم، لكن ما السبيل والحمقاء زوجته، تضعها فوق رأسها وكأنها المتسبب الرئيسي لهذا الشقاق الدائم بينها وبينه؟
ما السبيل وقد نال خصومة أقرب الرجال من ابناء عمومته عارف؟ والذي قبلت به على مضض منذ عدة سنوات، وبعد إلحاح شديد منه، حتى صدمته بعد ذلك بطلبها لفسخ الخطبة، لقد كاد أن يجن وجاء رده حينئذٍ برفض تام، بعدما تأكد انه لا يوجد أسباب ظاهرة، سوى الحُجة الملازمة بها دائمًا، بأنها مختنقة وروحها غير مرتاحة.
اسباب واهية كان في استطاعته التغاضي عنها ولكن مع إصرارها، والبكاء المتواصل حتى وصل بها أن تمرض، مما أجبره على الرضوخ لرغبتها، متخليًا عن صداقة العمر لابن عمه، والحرج الشديد من والده، ثم نظرات اللوم التي تتبعه أينما ذهب حتى الآن.
لكن مهما حدث ومهما لاقى من اوجاع تترك صداها مرار في حلقه، لن يأبى سوى بمصلحتها، سيكرر المحاولات لكن ابدًا لن يجبرها على الزواج بأحدهم على غير رضاها، ابدًا
❈-❈-❈
مضجع على فراش تخته بجسد منهك، وانفاس متقطعة، يدلك بكف يده على صدره، وزوجته جالسة بجواره تتطلع إليه بألم، وتربت على كفه بحنو، حتى خرج سؤالها بشفقة:
– وبعدين يا عبده؟ إيه اللي هيعود عليه من كتر التفكير وشيل الهموم؟ سوى المرض ولا أي حاجة عفشة لا جدر الله، سيب امورك لله يا راجل.
تنهد بخشونه يدمدم ردًا على كلماتها بألم:
– وانا من امتى مسيبتش أمري لله؟ لكن اعمل ايه في الخوف اللي بينشف الدم في عروجي، كل ما افتكر المخلوج اللي ما يعرف حج ربنا، كيف يجيني النوم وولدك سارج مني الأمان؟ بجهله وجلة عجله، حمل تجيل جوي فوج ضهري.
قالت سكينة في محاولة لتهدئته:
– كفاياك يا عبده، وبلاش تزيد على نفسك، كل واحد بياخد نصيبه واللي متجدرله
ارتفعت زاوية فمه بابتسامة شاحبة يقول ساخرًا بمرارة:
– دايمًا هتندهيني بإسمي حاف يا سكينة، لسانك نفسه وجف عن نطجها زي بقية الخلق اللي بطلوا هما كمان يندهولي با ابو فايز، تكتمي في جلبك وفاكراني مش واخد بالي.
صمتت باستسلام، فهذا اللقب الذي حرمت لفظه بلسانها منذ سنوات طوال لا تذكر عددها، حرمته أيضًا على نفسها، فلا أحد يجرؤ أن يناديها بأم فايز ، بعد أن فقدت الأمل منه، وضاقت خزيًا من أفعاله.
قال زوجها بشرود وكأنه يحدث نفسه:
– ياما كان نفسي يكون راجل صالح زي ولده، كنت عايزه يبجى سندي في شيبتي، مش يبجى شوكة في ضهري، يستغلها عدويني في ضربي.
بتسالي النوم مجافي عيني ليه؟ طب كيف هياجي، وانا في كل مرة احط راسي ع المخدة، اخاف ليجي ملك الموت يجبض روحي، وما ارفعهاش تاني. ساعتها ولدك أول حاجة هيعملها هيببع البيت، جلبي بيجطعني ع الظلم اللي هيوجع ع المسكين حجازي، لما يطرده شر طرده هو ومرته وامه من البيت، دي حاجة انا متأكد منها، يعني مش كفاية الظلم اللي ناب بت اخوي لما فنت شبابها وهي زي البيت الوجف، ، لا هي مطلجة ولا هي متجوزة،
تغضن وجهها بأسى، لتومئ برأسها عن اقتناع تام بما سيحدث، فهي ايضًا لا تغفل عن ذلك، وقالت تضيف على قوله:
– ما تفكرنيش يا ولد عمي، دا انا ياما جلبي اتحسر عليها في كل مرة تاجي فيها الحرباية اللي اسمها شربات، عشان تفكرها انها مهجورة زي الأرض البور، والتاني دايما معاها، كل ده في حياتنا ، فما بالك بعد موتنا، الله يهديك يا ولدي، الله يسامحك
رددتها عدت مرات، قبل أن يقاطعها عبد المعطي بقوله:
– خلاص يا سكينة معادتش في العمر فرصة ننتظر استجابة الدعوة، مش هينفع أصبر أكتر من كدة.
سألته باستفسار،
– تجصد إيه؟
اجابها بلهجة مشتدة وكأنه حسم القرار :
هعمل اللي يمليه عليا ضميري، مش هسيبها كدة معلجة لحد ما يتكرر الظلم تاني بعد وفاتي
صمت برهة يطالع وجه زوجته التي زوت ما بين حاجبيها في انتظار الاَتي منه، ليردف:
– أنا كلمت بنتك هويدا من شوية، هتاجي بعد كام يوم مع ولدها الكبير، ونعيمة مش هتجدر تنزل بنفسها، هتبعت ولدها هو كمان وكيل عنيها……. انا خلاص خدت شورتهم وحسمت أمري .
دارت رأس سكينة بالهواجس والتخمينات، فحسمت سأئلة بفضول يقتلها:
– وايه دخل بنتتك في الحديت عشان تجيبهم من البلاد اللي متجوزين فيها، انت ناوي على ايه؟
–
أجاب عبد المعطي وبريق التحدي يلمتع بعيناه:
– هحفظ حج المسكين، جبل ما يجور عليه الظالم.
❈-❈-❈
بعد عدة أيام
خرجت شربات من غرفتها تتغنج بخطواتها بالعباءة المنزلية الضيقة امام أنظار زوجها المتابعة لها وهو يشاهد التلفاز في وسط الصالة وحوله أولاده، مالك أكبرهم والذي سيدخل عامه السابع عشر بعد عدة ايام، اسراء في العاشرة، ورغد في السادسة.
– فايز، كنت عايزاك بس تيجي تبص على الشاشة اللي جوا، حاساها باظت باين ولا ايه!
هتفت بها نحوه بنظرة مغوية وابتسامة لعوب من ثغرها الذي تلون بالأحمر القاني، رمقها بأعين ضيقة متفحصة وهو يكركر في شيشته وكأنه يقرأها، فتابعت تردد وهي تميل بجسدها أمامه بصوت زادت من نعومته :
– يا راجل بجولك تعالى شوف العطل اللي في الشاشة، ما سامعنيش؟
صمت قليلًا ثم زفر بضيق وهو يدفع بذراع الشيشة، لينهض عن مقعده على مضض، ليأمر أولاده وهو يخطو متحركًا من جوارهم:
– محدش فيكم يجلب من ع المسلسل، انا راجع حالا.
.
صدر صوت مالك خلفه باعتراض:
– هو درس وهنحفظه يا أبوي؟ المسلسل ده شوفناه يجي مية مرة .
التف برأسهِ إليه يحدجه بنظرة محذرة هاتفًا:
– اياك تلمس الريموت يا مالك، ولا تجلب على قناة الأفلام الاجنبي، اخواتك البنتة بيتفرجوا معاك يا بارد.
دفع مالك بالمتحكم أمامه يزفر بسخط، غير متقبل لتحكمات والده، والذي يفعل ضد ما يتكلم عنه على الدوام، والدليل هو القنوات الأجنبية المنفتحة ذات الاشتراك الشهري الذي لا يحرم نفسه منها أبدًا، خصوصا في المساء، يعتقده أبله ولا يعرف هذه الأشياء الممتعة له.
جذبت شربات زوجها من ذراعه لتسحبه معها لداخل الغرفة متمتمه له:
– يا راجل ما تسيب الواد لحاله بجى وتعالى معايا، عايزة أوريك حاجة حلوة جوي.
تحرك معها يرد بضيق:
– بتجريني كيف البهيمة بيدك، خبر ايه يا مرة انتي؟
– كل خير يا راجل!
قالتها بابتسامة متسعة، واستسلم فايز لإلحاحها مضطرًا وهو يدعو ألا يكلفه طلبها هذه المرة الكثير، فهو الأعلم جيدًا بأسلوبها حينما تبتغي منه شيء.
أدخلته الغرفة تدفعه دفعًا لتغلق بابها على الفور، ثم همست بمرح:
– مش تفهمها لوحدك، بجولك عايزاك في كلمة، لازم نفضح الدنيا جدام العيال؟
افتر ثغره بابتسامة صفراء، قبل أن يقترب من تخته ويجلس على طرفه يقول بسأم:
– نعم يا شربات، جولي يا للا عايزني في إيه
مصمصت بشفتيها تدعي العتب لهذا الفتور منه، ثم ذهبت من أمامه تزيد من الميل بخطواتها حتى خزانة الملابس لتُخرج منها منامة بلون فيروزي قصيرة جدًا لفتت انتباه زوجها، الذي استغرب بداخله بكيفية ارتدائها على جسدها البدين، فانتقلت عيناه إليها ليرى الحماس الذى اعتلى وجهها فقال مدعي اللهفة رغم استغرابه:
– ايه ده؟ ده حلو جوي يا شربات.
زاد المرح على وجهها وهي تُعيد تفحص منامتها بفرحة غامرة، وتشرح له عن ثمنها ونوعية قماشها الحريري؛ الذي تزداد لمعته مع الإضاءة المبهجة للغرفة، وهو يستمع ويصبر نفسه على مضض، ثم سألها على عجالة ليأتي بنهاية الحديث، وقد حفظ وأصابه الملل من المقدمات:
– عايزة ايه من الاَخر يا شربات؟
تركت المنامة من يدها لتطبق ثغرها وهي تقترب لتجلس بجواره قائلة بعتاب:
– هو ده ظنك فيا يا فايز؟ بجى انا اتعب نفسي واجيبلك الحاجة اللي تفرح جلبك، وتيجي انت تجولي عايزة ايه؟
مط شفتيه ببلاهة وعدم فهم، قبل أن ينهض مقبلًا رأسها ليعتذر :
– أسف يا حبيبتي، مبروك عليكي الجديد.
هم ليتحرك ولكنها جذبته من مرفقه توقفه:
– طب ومستعجل على ايه؟ وراك الديوان؟
هتف بها بنفاذ صبر:
– وايه لزوم جعدتي جمبك؟ المسلسل شغال وجرب يخلص.
شددت عليه أكثر مرددة بتصميم وإلحاح:
– دجيجة بس ومش هأخرك، هو طلب صغير..
زفر بضيق وسأم لهذه المماطلة المتعمدة وقد تأكد صدق ظنه منها، ثم وضع يده في جيب جلبابه يخرج الحافظة ليسألها مباشرةً:
– عايزة كام؟
ترددت قليلًا قبل أن تفاجئه بطلبها:
– عايزة غسالة أطباج؟
توقفت يداه ونظر إليها مضيقًا عيناه يسألها باستفسار:
– أطباج ايه؟ مش انتي عندك غسالتين للهدوم ، واحد عادي، والتانية توامتيك؟
دفعته فجأة ليجلس بجوارها تخاطبه بلهجة مقنعة:
– يا حبيبي افهمني، فيه فرج بين غسالة الهدوم، والتانية بتاعة الحلل والمواعين، مرتك ضهرها انكسر في غسيلهم طول اليوم، وانت مش عايز تجيبلي خدامة.
قالت الأخيرة بلهجة منكسرة لم توثر به، بل زادت من حنقه، ليظل متطلعًا لها بغيظ مكبوت قبل أن يرد من كازا على أسنانه:
– خبر ايه؟ هو انت فاكرة جوزك شغال دكتور ولا مستشار، عايزة خدامة وجوزك ملاحظ في مصنع يا بنت منشاوي التنح؟ دا انا مش جادر على مصاريفك ولا مصاريف عيالك ، هكفيكي كمان خدامة ادفعلها مرتب شهري؟
عبس وجهها لتردف بلهجة منكسرة يملؤها اللوم:
– دي مجرد أمنية يا فايز، لكن انا مش طالبة منك غير غسالة الأطباق عشان تغنيني عنها، عايزة مساعدة، يدي معدتش متحملة شغل البيت زي الأول، انا تعبت، حرام الاجي مساعدة؟
رد فايز وهو يتفتت غيظًا، وقد فهم لعبتها:
– وعشان كدة بتخيرني بين اني اجيب خدامة او اشتري الغسالة اللي بتجولي عليها، صح ولا لا يا شربات؟
أطرقت برأسها صامتة تنتظر رده وهي توقن داخلها بموافقته، حتى لو اضطر للإستدانة كالمرات السابقة من
صدقي أبو سليم؛ الذي دائمًا ما يعطيه بغير حساب أملًا في شراء المنزل، ولكن؛ وقبل أن يخرج رده تفاجأ الإثنان بصوت ابنهم وهو يطرق بيده على باب الغرفة، قبل ان يقتحمها مرددًا:
– أبوي، جدي عبد المعطي باعتلك، وعايزك تروحلوا حالا دلوكت.
استقام بجسده واقفًا يتمتم لزوجته بتساؤل:
– ودا ايه اللي فكره بيا؟ عايزني في ايه؟
❈-❈-❈
وبداخل المنزل الكبير
في شقته في الطابق الثاني خرج حجازي من غرفته بالجلباب الصوفي بعد أن استدعاه جده للمندرة لحضور اجتماع هام بها يحضره جمع كبير من كبار العائلة، خاطبته والدته تسأله:
– متعرفش جدك عايزك في ايه؟ ولا الإجتماع اللي عامله بالمندرة دا إيه سببه؟
نفى لها برأسه قائلًا:
– علمي علمك والله ياما، دي حتى جدتي لما سألتها جالتلي معرفاش.
ضحكت سليمة حتى ظهرت غمازتي وجنتيها، وعقبت على قوله بمرح:
– بجى سكينة متعرفش؟! دا جدك ما يعرف يخبي عنها سر واصل، بس معلش برضوا احنا منلومش عليها، يا خبر النهاردة بفلوس، بكرة يبجى ببلاش.
اومأ لها بابتسامة وهو يعدل من الشال الذي يلف به على كتفيه، فتابعت قاطبة بتفكير:
– بس انا برضك مستغربة مجية عمتك هويدا النهاردة مخصوص، معجول يكون صدفة؟ جلبي حاسس ان الاتنين مخططين لحاجة!
تحركت قدميه ليردف على عجالة:
– واحنا هنتعب نفسنا في التفكير والتخمين ليه؟ ما كل حاجة هتظهر بعد شوية ان شاء الله، بس ادعي الموضوع ده يخلص بدري، عايز اللحج اروح اجيب نادية من بيت اخوها.
عقبت سليمة في اثره بعد مغادرته ضاحكة:
– اصل هي هتستناك؟ دي زمانها على كدة جاية في السكة.
❈-❈-❈
وفي الأسفل
ولج فايز إلى منزل العائلة على عجالة، ليرى سبب استدعاء أبيه إليه، سأل والدته عن السبب وأنكرت معرفتها كالعادة، ثم دلف لداخل المندرة ليتفاجأ بهذا التجمع لكبار العائلة، وشقيقته بجوار أبيها بمجلس الرجال!
– السلام عليكم.
ألقى بالتحية فررددها خلفه الجميع، وخطا ليتقدم نحو شقيقته المتزوجة ببلدة بعيدة عن هنا، فلا تأتي سوى في المناسبات أو الضرورة القصوى بعدد مراتٍ قليلة في السنة.
اقترب منها مرحبًا بكلمات مقتضبة قبل أن يسألها مندهشًا
– هويدا! ازيك يا بت ابوي؟ وايه مجعدك هنا وسط الرجالة؟
أجابته بابتسامة واثقة:
– وايه الضرر يا فايز، كل اللي في المندرة أعمامي واولاد عمامي، دا غير ان ولدي مجاهد جاعد وسطيهم، مشتفتوش وانت داخل؟
نظر نحو الجهة التي تُشير إليها شقيقته، ليرى ابنها
وسط جمع الرجال، مندمج في الحديث معهم، بالإضافة لابن شقيقته الأخرى نعيمة والتي تسكن في مدينة ساحلية بعيدة عن هنا بمسافات طويلة، قطب يطالعهما، ويطالع عدد الرجال الكبار من عائلته، وشيء ما بداخله يخبره ان خلف هذا الإجتماع شيء خطير، ليس هام وفقط
تدخل عبد المعطي يجفله بالحديث ليزيد من ارتيابه:
– أنا اللي بعتلها وشرطت عليها تجعد جمبي، لاجل الموضوع اللي جامع الكل عليه .
حرك رأسه فايز بعدم استيعاب سائلًا باستفسار وهو يجلس على أقرب المقاعد؟
– وإيه اهمية الموضوع ده اللي تخليك تجعد الحريم في مجالس الرجال؟
قبل أن يجيبه إرتفعت فجأة أصوات الرجالة المرحبة بصخب بابنه حجازي، والذي ولج لداخل المندرة، ليُقابل بترحيب لم يحظى هو بنصفه، بل كانت الرد أقرب للفتور، عكس هذا الذي بدخوله احدث ضجة.
أظلم وجهه وهو يرى معانقة الشباب لولده بالصياح والمرح، ومصافحة الرجال الكبار الممتلأة بالود والإكبار،
وكأنه نجم، والكل يبتغي القرب منه، أما هو، فلم يلقى منهم سوى التجاهل أو معاملة عادية لا تخلو من الجفاء، صك على فكيه عائدًا للحديث مع أبيه، ليسأله عن سر وجود هويدًا بينهم
– مجولتش يا بوي، الجعدة المجندلة دي سببها ايه؟
أجاب عبد المعطي وعيناه تركزت على حفيده:
– اصبر يا فايز، ودلوك هتعرف بكل شيء.
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كانت تقطع الطريق الذي يتوسط الأراضي الممتدة في نجع الدهشان، وفي المقعد الأمامي بجوار شقيقها ناجي، الذي كان يقود بوجه عابس، يستمع مضطرًا لثرثرتها التي لم تنتهي من وقت ان استقلت جواره، بعد قضاء يومها في منزل العائلة، هي وبناتها الثلاث، والذين احتلوا الكنبة الخلفية.
– عشان بس لما اجولكم بيفتري عليا عشان المحروسة تصدجوني، تمن تيام من ساعة ما وصل من سفرية مصر وهو مهاجرني وبيبات في الأوضة التانية، يعني مش كفاية جبر عليا أحمي وارص العيش في الفرن لوحدي،
كل ده وما استكفاش؟ أروح احب على رجل المحروسة عشان يرضى عني؟
دمدم ناجي يعقب بصعوبة وهو يدعي الاندماج معها ناصحًا:
– يا فتنة افهميها وحدك بجى، جوزك مبيتحملش على اخته، يبجى خلي بالك منها دي، عشان تتجنبي المشاكل معاه، طال الزمن ولا جصر، مسيرها تتجوز……
– مش باين فيها جواز يا اخوي.
هتفت بها تقاطعه لتتابع بصياحها اللذي كاد أن يثقب أذنه:
– المحروسة بتتجلع على كيفها، بترفض في العرسان ومش هامها انها خطت التلاتين، وكأنها جاصدة تجعد كاتمة على نفسي، واخوها مشجعها.
انتبه ناجي من المراَة الاَمامية إلى الصغيرات الاتي توقفن عن اللعب، يركزن مع الحديث المحتد من والدتهن، فعاد إليها يضغط بأسنانه على شفته السفلى، يرمقها بنظرة محذرة كي تنتبه، ولكنها أبت السكوت فتابعت متوجهة نحوهن بتهديد:
– انتي يا بت انتي وهي، ما اسمع بس ان واحدة فيكم طلعت كلمة من اللي اتجال دلوك، لكون حالجة شعرها زلابطة.
انتفضن الثلاثة يضعن أيديهن على ضفائرهن بجزع فواصلت تختم بنصح وشراسة :
– البت المرباية ما ترخيش ودنها مع الكبار اساسًا، حد فيكم عارف انا وخالكم كنا بنتكلم على ايه؟
خرجت إجابة النفي من الثلاثة بنفس الوقت:
– لا والله ياما ما اعرف كنتي بتتكلمي عن ايه
– ولا انا كمان.
– وانا برضو مسمعتش ولا حاجة .
تبسمت فُتنة بثقة تنقل بأنظارها نحو شقيقها الذي لم يعجبه فعلها، بل زاد من حنقه وضيقه، ف ابتلع ليلتف نحو الطريق كي يتجنب الشجار معها، لكن سرعان ما تبدل كل ذلك، فور أن أبصرها بعينيه، هذه الجميلة التي كانت تسير على حدود الأرض الزراعية تجنبًا للسيارات، بصحبة ابن شقيقها،
على الفور اتخذ قراره بإيقاف السيارة بعنف أجفل شقيقته وبناتها ولكنه لم يكترث باعتراضهن، وترجل سريعًا يوقف الفتى وعمته:
– واد يا محمود.
– أيوة يا عم ناجي .
هتف يجيبه المذكور وهو يعدو سريعًا حتى يصافحه برجولية وحماس:
– عامل ايه ياد؟ وازي ابوك؟ جاعد في البيت ولا لأه؟
تفوه محمود بالرد على الأسئلة بحسن نية، غافلًا عن نية الاَخر، والذي تركزت أنظاره عليها، وقد تباطئت خطواتها بقصد فهمه هو، ورغم ذلك استغل الفرصة كعادته ليباغتها بجرأته:
– ازيك يا نادية؟
مخاطبتها له هكذا ومباشرةً، أمام ابن شقيقها أجبرتها على تحريك اقدامها على غير ارادتها لتجيب تحيته:
– ألحمد لله زينة، تشكر يا واد عمي على السؤال.
تحرك سريعًا يقرب المسافة ليقف مقابلها قائلًا:
– وانا لسة سألتك حتي؟ عاملة ايه يا بت عمي؟
أومأت بهز رأسها، وعينيها تتجنب النظر إليه، ولكنه باغتها للمرة الثانية بحمله لصغيرها الذي كان ممسكًا بيدها، ليردد له بترحاب:
– يا ما شاء الله، ايه العيال الحلوة دي؟ دا ولا عيال البندر، اسمه ايه ده؟
صمتت بدهشة اصابته لفعله، وجاءت الإجابة من ابن شقيقها الذي أغاظها ببلاهته، حتى حدجته بنظرة غاضبة:
– اسمه معتز يا عم ناجي، وامه بتدلعه تجولوا يا زيزو.
اعتلى وجهه ابتسامة ليردد نحو الصغير الذي كان يطالعه باستغراب:
– وكمان زيزو لا دا انت تستاهل بوسة كبيرة على كدة .
طبع قبلة بصوت عالي على الوجنة المكتنزة، ليمرر كفه على شعر رأسه الناعم الكثيف، قبل أن يخرج بورقة نقدية من فئة المئتين يضمها بالكف الصغير قائلًا:
– والله انت تستاهل الدنيا وما فيها.
انتفضت تختطف صغيرها منه لترفض عطيته:
– متشكرين بس الولد مش ناجصه حاجة…..
هتفت يقاطعها بتشديد وعدم تهاون وقد قرب رأسه منها بشكل اثار استيائها:
– خبر ايه يا نادية؟ وانا حد غريب عشان يتجال له الكلام ده؟ انا واد عمك يا بت، يعني حتى لو ولدك من عيلة تانية، برضوا اسمه واد بتنا.
همت تجادله ولكن أوقفها الصوت النسائي الذي صدر من جهة السيارة، حيث ترجلت منها فتنة تخاطبها بمودة مزيفة تتدخل في الحديث:
– أيوة امال ايه؟ واد بتنا طبعًا، عاملة ايه يا نادية؟
بادلتها الرد من محلها، بنفس فعلها، لترد بهامة مرتفعة:
– أهلًا يا فتنة، بت عمك زينة والحمد لله.
بلهجة متأنية خبيثة تمتمت لها:
– صح؟…. أمال غايبة يعني ومحدش بيشوفك! دا حتى المناسبات اللي بتلم كل حريم وبنات العيلة مبتحضريهاش، باين واد الدهشوري مانعك عنينا، طب يجدر خدمتك ليه، ولا خدمة امه، دا حتى جدوده شايلاهم في بيت العيلة الكبير ده.
كانت تبتغي من خلف كلماتها أن تذكرها بالحال الذي وصلت إليه، بعد أن رفضت نعيم أهلها برفض شقيقها والذي راقه القول، قبل أن يصدم برد الأخرى، وابتسامة اشرقت بوجهها:
– طب وماله لما يمنعني على كيفه، مش جوزي ودا حجه عليا، وان كان على الخدمة الكتيرة في البيت الكبير، دي على جلبي زي العسل، ربنا يديهم الصحة وافضل طول العمر تحت رجليهم.
صعق الاثنان حتى تلجمت أسلنتهم عن المجادلة، ف استغلت هي لتحمل صغيرها مردفة باستئذان حتى تبتعد عن محيطهما:
– عن اذنكم بجى، عايزة اللحج اروح جبل المغربية، ليزعل مني حجازي، ده منبه عليا اروح جبل خمسة .
تخطت تسحب ابن شقيقها المكلف بتوصيلها كي تذهب، ولكن ناجي فجأها بعرضه غير مكترثًا باشتعال شقيقته:
– استني عندك يا نادية، خلينا ناخدك في سكتنا.
التفت إليه بإباء رافضة:
– لا متشكرين يا واد عمي، انا أصلا عايزة افرط رجليا، محبوسة بجى وما بصدج الاجي الفرصة عشان اتمشى.
قالتها وتحركت على الفور، مسرعة بخطواتها، غير اَبهة بالأنظار التي تعلقت تتابعها بذهول وغيظ.
❈-❈-❈
– شوفت اديك جبت الكسفة لنفسك، دي ملهاش التعبير اساسًا.
قالتها فُتنة بحنق متعاظم، تبتغي صب غليلها به، فور أن عادت لتنضم معه داخل السيارة التي عاد يقودها مرة أخرى، فجأها ناجي برده الذي خرج بابتسامة متسعة:
– لساكي برضوا بتكرهيها وتغيري منها يا فُتنة؟ حتى بعد السنين دي كلها؟
رمقته بأعين مشتعلة تصيح به بعدم تقبل:
– ايه اللي انت بتجولوا ده، بجى انا بجلالة جدري، اغير من بت هريدي؟ تاجي ايه فيا دي عشان اغير منها؟
رد ناجي يزيدها انفعالًا:
– ما هي دي المشكلة يا بت ابوي، انتي شايفاها بت هريدي ابو كام فدان يتعدوا ع الصوابع، ومع ذلك دايمًا محطوطة في منافسة معاكي، من أيام المدرسة وبنات العيلة وحريمها بيقارنوا بينك وبينها، مين أحلى فيكم؟
– أنا طبعًا.
هتفت بها لتتابع بتحدي وإصرار:
– انا اللي أحلى وانت عارف كدة زين، شعر اصفر وعيون عسلي، وبياض كيف الأجانب، مين في البلد كلها زيي؟
اتجوزت كبير العيلة والبلد كلها، لكن هي بجى، واخدة ايه؟ حتة سواج ولا يسوى في شركة المطاحن، ولا انت عشان عجباك ورفضتك زمان، يبجى خلاص هتعملها جيمة؟
تجاوزت هذه المرة، هذا ما عرفته من نظرته إليها وقد ازدادت قتامة، وملامحه التي تبدلت لأخرى مظلمة رغم صمته، وكأنه يمنع نفسه بصعوبة عن الشجار معها او سبها، كان يجب أن تحجم لسانها ولو قليلًا ، فهو الأقرب لها من بين أشقاءها، نظرا لطبيعته الهادئة والمتلونة ايضُا
ولكنه هو من أجبرها على التطاول، بعد أن ذكرها بعقدتها الأكبر، هذه النادية والتي كانت زميلتها في مدرسة الثانوي الصناعي، بوسط البلدة حيث المرور يوميًا على أكبر المنازل هناك وأشهرها، منزل الدهشوري، وابن حفيده حجازي والذي كان محط أنظار الفتيات لوسامته الغير عادية.
حين كان يطل من الشرفة المقابلة لمنافذ الفصول، كانت تحدث مظاهرات من الطالبات للفت انتباهه، لم يكن غنيا، ولكنه كان حلمًا يرواد المعظم، وهي كانت من ضمن المعظم،
لقد ظنت في وقت ما أنه معجب بها، ولابد أنه سوف يتقدم لخطبتها، نظرًا لتميزها عن الجميع بجمالها،
ولكنه فاجأها حينما اختار هذه اللئيمة، لتحترق هي بصدمة الرفض، أو بمعنى الصح التفضيل، أن يفضل هذه الملعونة عنها، أن تعيش معه كل هذه السنوات في عشق واغداق بكلمات الغزل ليل نهار، كما تسمع دائمًا، من أحاديث زوجة شقيقها التي تطلعها دائمًا بأخبارها، في كل مرة تسألها عنها.
زوج وسيم، رقيق محب، يدللها في كل الأوقات، عكسها هي، متزوجة من احمق لا يقدر النعمة التي بين يديه، خشن ويتعمد دائمًا اذلالها في كل مرة تتجرأ في القول معه، ليته ما تزوجها، ليتها نالت هي الحظ بزواجها من حبيب مراهقتها، حجازي.
❈-❈-❈
بالقرب من المندرة كانت تقف مستندة على الجدار
تراقب بقلق وهي تفرك بيداها تتمتم بالدعاء المكثف لمرور القادم على خير، فهي الأعلم بما يحمله ابنها من شر مع أنانيه مفرطة، وكرهه الغير مبرر لحجازي، ابن قلبها قبل أن يكون حفيدها، وعلى الرغم من موافقتها
لحق زوجها في التصرف كما يريد طالما يتصرف فيما يملكه، دون أن يظلم أحد، ولكن قلبها من الداخل يرجف كعصفور بللته مياه الأمطار في أقصى ليالي أمشير برودة
خوفًا من ابنها فهو كالأعصار المدمر عند غضبه، وحفيدها كالنسمة اللطيفة في ساعة صيف حارة، ولكنه أيضًا قوي ويستطيع الدفاع عن حقه.
قاطع شرودها استماعها للنداء بإسمها لتجد نادية امرأة حجازي بالقرب وقد عادت من الخارج بعد زيارة عائلتها، لتسألها بدهشة:
– واجفة هنا ليه يا جدة؟ مش خايفة لحد من الرجالة اللي مالية المندرة جوا يشوفك؟ ولا عاملة حساب لجوزك اللي بيغير عليكي يا مرة انتي؟
قالتها بمزاح، جعل ابتسامة جميلة اعتلت ثغر سكينة، التي كانت تتأملها بإعجاب لرقتها وجمال حسنها وأدبها، في توجيه السؤال.
نادية بنت العائلة الكريمة التي فضلت حفيدها حجازي على كل أولاد أعمامها الذين رغبوا بالزواج منها، حتى أنها تحدت باختيارها جميع من راهنوا على فشلها، كفتاة كانت مدللة في بيت أهلها، فمنذ زواجها به لم يحدث في مرة ان تشاجرا أو اختلفا كبقية الأزواج، تخدمه بإخلاص هو ووالدته دون التفكير في أصلها ولا ثراء عائلتها.
– غالية واتجوزت الغالي وكأنهم مخلوجين لبعض
تمتمت بها بداخلها قبل أن يخرج صوتها للرد:
– لما ما غارش على بته، وجعدها دلوك وسط الرجال، هيغير على مرته العجوزة؟
سألتها نادية بدهشة عاقدة حاجبيها بشدة:
– مين فيهم؟ عمتي هويدا! ودي إيه اللي مجعدها في المندرة وفي جلسة الرجالة؟ في حاجة يا جدة؟
خرج سؤالها الاَخير بريبة، ولكن وقبل أن تجيبها صدحت الأصوات العالية من الداخل وكانه شجار قوي، وضعت سكينة كف يدها على صدرها تتمتم:
– استر يارب، استر يارب.
التفت نادية على الأصوات العالية تسألها بجزع:
– ايه اللي بيحصل جوا يا جدة؟ ليه صوت العراك ده؟
لم تجيبها سكينة واكتفت تطالعها بنظرة قلقلة لترهف السمع قليلًا مع نادية التي هتفت فجأة بهلع:
– يا مراري دا صوت عمي فايز، كانه بيتعرك مع جوزي
قالتها وهمت لتتحرك ولكن سكينة أوقفتها تعترض طريقها بذراعها:
– اجفي مكانك ما تتحركيش، عايزة تدخلي وسط الرجالة دي كلها، دا كان جوزك يغضب عليكي
بقلق متعاظم، ينهش بقلبها دون رحمة، صاحت برجاء:
– عايزاني اجعد كيف وجوزي معرفاش بيحصل معاه ايه جوا؟ والراجل ابوه العفش ده صوته عالي، وكانه بيتهجم عليه.
واجهتها سكينة بقوة لتمنعها من الدخول:
– حتى لو كان، برضك جوزك راجل، ويجدر يدافع عن نفسه وعنك، وعننا كلنا، اسمعي الحديث ومتدخليش، اذا كنت انا المرة الكبيرة جاعدة مكاني:
تطلعت إليها بقهر وهي تراقب من محلها ما يحدث فقالت بأنفاس لاهثة، من فرط جزعها:
– انا ليه حاسة ان في نصيبه جوا؟ بدليل جعدة عمتي هويدا وسطيهم، ما هي أكيد مش جاية من بلدهم عشان تتسلى مع الرجالة.
أومأت لها سكينة برأسها ترد وهي تدعي قوة زائفة:
– وجود عمتك جوا في صالح جوزك، ما هي ضلع أساسي في الموضوع اللي داير جوا
❈-❈-❈
وفي الداخل
كان صياح فايز الهادر نحو أبيه وولده يصل للمارة في الشارع، بعد أن فاجئه أبيه بهذا الخبر الذي نزل فوق رأسه كالصاعقة:
– اضربني فوج رأسي، خليني افوج ولا استوعب اللي سمعته، ولا اجول احسن انك كبرت وخرفت.
هدر عبد المعطي غير اَبه بوقاحته التي صدمت الجميع، وأولهم كان حجازي الذي سهم بحالة من الذهول عقب سماعه ما تفوه به جده والمحامي، الذي انتفض مغادرًا للتو بخوف مما يحدث، لقد صدمه الجد بما فعله، وبدون أن يخطره، أو يعطيه فكرة حتى يُثنيه عن فعلته:
– مش انا اللي خرفان يا واد، ان كنت مش مصدج ودانك، روح نضفها زين ، ولا فوج نفسك من اتر الخمرة اللي لحست عجلك
سمع منه فايز ليفتر فاهه بضحكات عالية غريبة يشير بيده وهو يخاطب الرجال:
– سامعين يا رجالة، الكبير اللي بتسمعوا منه وبتحترموه، لأ وبتخلوه يحكم في أي موضوع يخصكم، خلاص معدتش ينفع، مدام هو نفسه اللي بيظلم ولده
انتفض الرجال في المجلس يتفوه كل منهم بكلمته، لتهدئة الأجواء بين الإثنان، ولكن فايز لم يتأثر أو يعنيه قول أي فرد منهم وهو يهدر نحو ابنه الذي ظل على صمته، تقديرًا لجده كي يمتص غضب أبيه:
– مين حجازي ده اللي تكتبله البيت وانا حي؟ مين ده عشان تفضله على ابوه وتديه حجي؟
هنا تدخلت هويدا شقيقته بصوتٍ رزين، رغم هدوئه يحمل بداخله القوة والثبات:
– حجازي ولده جبل ما يكون ولدك يا فايز، هو اللي رباه، وهو اللي ليه حج يتصرف في ماله كيف ما يريد، عايز يديله البيت عطية أو هدية فيها ايه دي؟
صاح عليها بصوته العالي:
– نعم يا حبيبة ابوكي؟ وليه متجوليش ان العطية شملتك انتي بالمرة، يدفي حسابك في البنك بفلوس جديدة، جولي يا بت ابوي يا اللي مجعدك في مجلس الرجالة عشان تشهدي معاه وتأزريه.
تمتمت هويدا بالاستغفار حتى لا ترد على حماقته، وتدخل ابن شقيقته الأخرى في دعم لها:
– مش خالتي بس اللي مواجفة، امي كمان بعتاني مخصوص عشان ابلغكم بموافجتها، اعمل اللي يلد عليك يا جد، حجازي يستاهل .
– الله، دا انتوا عاملين رباطية على كدة.
اه يا حرامية يا غجر، كلكم موانسي مع الراجل الخرفان ده
بصق كلماته وازداد الهرج بصياحه، حتى تعدى هجومه الكلام، وترك محله، ليتقدم نحو ابنه يبتغي التهجم عليه لولا ان منعه الرجال بحصاره والتضيق عليه، وخرج صوت حجازي اَخيرًا بعرضه:
– مفيش داعي للخناج والعرايك، انا اساسًا مش موافج على الموضوع ده، رغم تجديري واحترامي لجدي، من الصبح ان شاءالله هروح ع المحامي……
– اخرس يا واد
صاح بها عبد المعطي بمقاطعة حادة ليكمل بحزم أمام الرجال:
– البيت كتبت عقده بإسمك امانة، وجبت الرجالة يشهدوا ع الكلام ده، انت ملكش حج تتصرف ضد رغبتي، عشان مغضبش عليك جبل ما اموت.
انصعق وتلجم لسانه مندهشًا من رد جده المتطرف، عكس فايز الذي هتف يتهم الإثنان بالتمثيل والخداع، وهو يزيد بتهكمه وهجومه، امام الرجال كبار العائلة الذين شددوا من حصاره حتى لا يتمكن من الإفلات منهم والتعدي على ابنه، وهو يطلق بالسباب عليه دون رادع أو خجل حتى لسنه، مما اثار غضب وانفعال أغلبهم، ليتطوع بعضهم في دفعه للخروج من المندرة ، وهو يهدر ويتوعد لحجازي بالقتل حتى ضج عبد المعطي منه ومن سفاهته وبجاحة لسانه فهتف في الرجال هادرًا نحو الرجال:
– خليكم كلكم شاهدين ع اللي حاصل واللي بيعمله السفيه ده، واعرفوا ان باعتلكم مخصوص عشان كدة، الواد ده يمشي حالا، والبيت محرم عليه طول ما هو مابيحترمش صحابة، طلعوه من جدامي، خلوه يغور.
❈-❈-❈
اصطف ناجي السيارة بجوار السور الخارجي، ليترجل منها بعد ذلك مع شقيقته وفتياتها الصغيرات، الاَتي ركضن على الفور نحو الداخل، يعرفن الطريق الى والدهن الذي كان جالسًا أسفل المظلة الخشبية يتحدث مع أحد الأشخاص، كالعادة استقبلهن بالقبلات، متحاشيًا النظر نحو والدتهن والتي اتخذت طريقها للداخل، أما ناجي فلحق بالصغيرات ليشارك الجلسة مه ابن عمه، وهذا الغريب.
وفي الداخل حيث كانت روح جالسة بملوكية على أحد المقاعد واضعة قدمًا فوق الأخرى ، ترتدي عباءة منزلية لامعة تبهر النظر، والهاتف بيدها تتصفح عليه ، غير منتبهة لما يدور على شاشة التلفاز العملاقة والمعلقة في الحائط، بمشهد استفز فتنة وانتي تباطئت خطواتها فور أن وقعت عينيها عليها، وهذه الهيئة الراقية، لا تحمل للدنيا همًا، بل وتبتسم باسترخاء لما تشاهده على هاتفها، وكأنها لم تفتن بينها وبين زوجها!
لم تتمالك حتى دبت بكعب حذائها على الأرض لتلفت نظرها إليها، فواصلت بخطواتها وكأنها تحفر بكعبها حتى التقت عينيها بها، فرمقتها من طرف أجفانها بتعالي حتى تخطتها وصعدت الدرج نحو الطابق الثاني.
تابعتها روح حتى اختفت من أمامها لتغمغم خلفها باستغراب:
– ربنا يشفي!
عادت بعد ذلك لما كانت منشغلة به، حتى أجفلتها الصغيرة أية أكبر ابناء شقيقها، والتي ركضت نحوها بلهقة مرددة:
– عمتي روح عمتي روح، عندي خبر حلو جوي.
ناظرتها بابتسامة عذبة تهز رأسها باستفهام:
– خبر ايه اللي حلو دا يا بت؟
اقتربت الصغيرة، ذات الست سنوات، وصعدت على المقعد المجاور لها، لتهمس لها وكأنها تخبرها عن سر حربي، حتى ارتفعت رأس روح لها بتعجب ضاحكة تتمتم بعدم تصديق:
– معجول! انتي بتتكلمي جد يا بت؟
– تفتكروا قالت لها ايه؟
– ولا تفتكروا موضوع حجازي والبيت هيرسى على ايه؟
تابعوا بقى عشان تعرفوا.
يتبع…..
الثالث من هنا