رواية ميراث الندم الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم أمل نصر
خرج من مرحاض الطابق الأسفل، يجفف بالمنشفة الصغيرة على خصلات شعره التي تخللتها المياه من منذ قليل، حينما احنى رأسه اسفل الصنبور ليهدئ من ثورته، من أجل أن يستفيق لنفسه، كي ينفض عنه هذه الافكار الغبية، ولكن كيف يستطيع ذلك؟
لقد اهتز وتبعثر كل كيانه لرؤيتها فقط بدون حجاب، جمالها الطبيعي عن قرب، عيون الريم حينما ترمقه بالسهام التي قد ترديه قتيل هذه النظرة،
رائحتها التي ما زالت عالقة في انفه، والأهم من كل ذلك، وهو اصطدامها به، حتى وهو قد تظاهر بالقوة امامها ، يدعي الأمر عادي، ولكنه كان غير ذلك على الإطلاق.
وقد عادت اليه كل المشاعر التي اكتنفته قبل ذلك، في هذا اليوم الذي انهارات به مع غياب صغيرها عنها، حينما سقطت فاقدة الوعي بحضنه، واضطر وقتها ان يحملها حتى منزلهم، لن ينسي ابدا نعومتها بين يديه، براءة ملامحها، طراوة جسدها الغض…..
نفض رأسه مرة أخرى ليطرق بقبضته على ذراع المقعد القريب منه، هذا العبث لابد له ان ينتهي، غباء تفكيره وعودته مرة أخرى لهذا الهذيان والاندفاع الأحمق، لن يحدث، لقد عرف رأيها عنه، وعرف انها لن تنظر اليه، وطيف الراحل زوجها تضعه حاجزًا وحائط صد لكل من يبتغي القرب منها .
ثم ماله هو من الأساس بها؟ رجل عرف حظه القليل من مباهج الدنيا والنساء، رجل حكم عليه ان يضلل بجناحه على الجميع، ولا يجد هو من يضلل عليه؟ رجل يهابه الجميع، ومع ذلك لم يجد التقدير من اقرب الناس اليه، مع من كانت زوجته وأم اولاده،
إذن ماذا ينتظر؟ لابد ان يجد حلاً لمأساته، لابد ان يبتعد!
– غازي .
التف منتبهًا لصاحبة النداء والتي عرفها من صوتها، لتزداد دهشته، مع تفاجأه لقدومها من الخارج بعباءة الخروج السوداء،
– انتي جاية منين؟ امتى سيبتي سريرك وطلعتي؟
هتف سائلًا بتبرة خشنة اختلطت بقلقله عليها، والتي لم تجد من الردود او الكلام، وقد عجز لسانها عن النطق في حضرته، فلم تشعر بأقدامها وهي تركض بدون تفكير لتلق بنفسها بحضنه، لتلف ذراعيها حول خصره، وبصوت باكي:
– وحشتني يا غازي، وحشتني يا واد ابوي، هونت عليك، هانت عليك روحك يا غازي؟
زفر يغمض عينيه، ليكبت لوعته، شقيقة روحه تسأله وكأنها لا تعلم، او تريد تفسيرًا لابتعاده عنها، وهي التي شقت بجرحها جدار الطمأنينة المتبقي له من هذا العالم، والوحيد الذي كان يستند عليه حينما تضيق به كل السبل ولا يجد راحته الا عندها..
– على كد المعزة بيكون الجرح يا روح، كان لازم تسألي نفسك انتي السؤال ده الأول، لما خبيتي وسبتيني في حيرتي ووجعي عليكي، اضرب اخماس في اسداس عن سر عزوفك عن الجواز، وانتي عندك الجواب ومدارية عليا.
نزعت نفسها عنه، لتنظر اليه بوجهها الباكي تقول:
– مكانش ينفع يا غازي، عمرك ما كنت ها تتبعني وتسبيني استني، مكنش جلبك هيطاوعك على جناني.
– واديكي نفذتي اللي في مخك ، وشوفتي النتيجة، اجرب ناس ليكي طعنوا في شرفك.
خرجت منه بألم كان يطل من عينيه، رغم اشتعال لهجته الغاضبة، ليستطرد:
– انا بحاوط بكل جهدي، لكن عارف ومتأكد ان عمك مش جافل خشمه، لا هو ولا الملعونة اللي كنت متجوزها، حتى بعد ما خدت التلفونات منهم ومسحت كل الصور، ومبجاش معاهم الحجة، برضوا ما سكتوش، بس طبعا الكلام بيلف يلف، ويجي عند صاحبه ويوجف، واخدة بالك منها المعلومة دي يا روح؟
اجابت عن سؤاله بقوة وثبات تحسد عليه:
– واخدة بالي وعارفة بطبيعة عمك وبته زبن جوي، بس انا بجولك اها، كل الكلام هينتهي، والخشوم هتتجفل، جريب جوي، يعني ترفع راسك يا واد ابوي، عِمتك بيضا وعمر ما يمسها التراب.
ضاقت عينيه ليسألها بريبة:
– جصدك ايه؟ وضحي يا روح.
اهتزت راسها بابتسامة بسيطة، كي تخفي انشطار قلبها ووجعه، لتعود ملقية بنفسها مرة أخرى بحضنه، قائلة؛:
– كل حاجة هتتصلح يا واد ابوي ، انا بس عايزاك متزعلش مني، او ع الأجل تسامحني، على كل الضرر اللي حصلك بسببي، سامحني يا غازي حن عليك.
زفرات متوالية دفع بها من فمه، ثم انصاع بقلبه لها ، ليضم رأسها اليه يقبل أعلى شعرها، مستجيبًا لها بقوله:
– وهو في حد يجدر يزعل من روحه، انا مجدرش استغني عن روحي، وانتي روحي وبتي اللي مخلفتهاش يا روح.
زادت بضمها اليه، تردد بالبكاء:
– يا حبيبي يا غازي، ربنا ما يحرمني منك ولا من وجودك جمبي وفي ضهري دايمًا،
ربت بحنان على ظهرها ، يخفف عنها حتى هدأت فخرج صوتها:
– عمك وواد عمك هيجوا يزرونا بكرة، انا بلغت عارف بمواجفتي على طلبه.
نزعها عنه فجأة ليحدجها بأعين نارية، وقد وصله الاَن سبب خروجها في هذا الوقت من المساء:
– انتي اتجنيتي يا روح؟ روحتي لواد عمك تعرضي عليه نفسك، ليكون اترجتيه كمااان.
– اترجى ليه؟ هو انا ناقصة ولا معيوبة؟
قالتها بقوة ، لتردف بشموخ ورأس مرفوع:
– انا روحت لعارف عشان هو دا الاختيار الصح في الوقت ده، لازم الكل يشهد فرحي اللي هيسمع في الدنيا كلها، عشان بعدها لو حد اتكلم في ضهري بنص كلمة، تعرف تجيبه تحت رجلك من غير ما تضعف ولا يبجى عندك شك في براءتي،
غازي الدهشان، مينفعش ابدًا، يبجى في حياته نقطة ضعف حتى لو كانت اخته، راسك هتفضل دايما مرفوعة يا واد ابوي .
ورغم حنقه من فعلتها، وعدم استشارته قبل ان تتحرك، وتنفذ هذا القرار الموجع لها، الا انه لم يقوى على كبح ابتسامة الفخر،
امام هذه العزة والثقة التي تتحدث بها، لا يملك المرء رفاهية الاعتراض، فما باله وقد تحققت اخيرا امنيته، بأن ترتبط بأقرب الأشخاص اليه ، ابن عمه عارف،
❈-❈-❈
– انت متأكد من قرارك ده يا ولدي؟
سأله والده للمرة الثالثة او الرابعة لا يذكر، ومع ذلك عاد اليه بتفس الإجابة، دون تردد او اهتزاز:
– متأكد يا بوي، والله متأكد، المهم انت تصدج بقى.
لم يخفي عنه والده هذه النظرة المتشككة، ونية الاعتراض، حتى لو لم ينطقها بلسانه، ولكن الاخر كان واعيًا الا يتركه في حيرته:
– ما تجلجش عليا يا حج يامن، ولا تفتكر ان هحل موقف على حساب كرامتي .
التقط يامن الأخيرة، ليردف معبرًا عن ظنونه وهواجسه:
– امال ايه بس يا ولدي؟ انت طول عمرك عايزها ودي مفيش حد في العيلة كلها ميعرفهاش، بس يعني……
طبعا انا مش هتكلم ع الهبل اللي برطمت بيه بت سعيد وابوها كمان، بس…… انت شوفت الصور بعنيك يا عارف، اينعم هي مفيهاش اي شيء مخجل لا سمح الله، لكن كان فيها الاهم، فرحة لقا الاحب……
اكمل متابعًا له:
– لقا الاحبة….. عارف يا بوي، الحاجات دي انت مش محتاج تبينها جدامي، دا شيء يستحيل يغفل عنه حد زيي .
– طب ولزوموا ايه بجى؟ بت عمك لا هتغلب ولا نصيبها هيوجف، دي عرسانها ما بتبطلش، مال وجمال وثقافة عاليه ولباقة، يعني تشرف اي عيلة واي واحد يرغبها، مهياش في حاجة ليك، حتى مع الكلام اللي بيتجال .
زفر واضعًا يديه في جيبي بنطاله، يطالع الفراغ أمامه، بصمت وكأنه شرد لبعض الوقت، ثم ما لبث ان يعود إليه قائلًا:
– على فكرة انا مجدر ظنك ده ومخاوفك اني اتجرح من تاني، او اني مثلا اكون واخدها انتقم منها، ما هي برضك بت اخوك وتعز عليك، بس انا عايزك تطمن من الناحيتين، لأني كبرت وهديت دلوك، معدتش عارف بتاع زمان في العصبية او الغضب.
انا دلوك عرفت الحجيجة ، وعرفت السبب اللي كان واجف حاجز ما بيتي وما بينها عشان متشوفنيش زين، اللوعة في العشج، علمتني الصبر يا ابوي.
– يعني ايه؟ برضوا مش فاهمك يا واد؟
تبسم متجاهلًا الرد عن سؤاله، ليستدير عنه متمتمًا:
– دي حاجة مينفعش فيها الشرح يا بوي، اعمل حسابك بس انت بكرة،
خرج من الغرفة التي يختلي بها والده من أجل العبادة، ليتركه متطلعًا في الفراغ للحظات، حتى غمغم متسائلًا بصوت واضح مع نفسه:
– يا ترى دماغك في ايه يا ولد ابو عارف؟
❈-❈-❈
وفي مكان اخر
على أطراف الأرض الرطبة بجوار المصرف الزراعي ،
حيث الهدوء الشديد، والاختفاء عن اعين الجميع، واالضوضاء الاَتية من الجزء الأعلى بالقرب منهم، حيث تجمعات الورش والصناع وعالم المقهاي وما يخدم عليهم من محالات للبقالة واشياء أخرى
جلسا الاثنان كعادتهما كل مساء، في هذه البقعة الزراعية الخالية من البشر في هذا الوقت،
يدخنان سجائرهما الممنوعة، وأحاديث لا تنتهي من الشابان، نظرا للصداقة القوية التي تجمعها، بالإضافة لقرب الافكار بينهما:
– هيشلني يا حافظ، عامل فيها عم الجمور وبيبلس اللي ع الحبل، وكل دا ليه؟ عشان يرجع المحروسة القديمة من تاني، لا وماشي كدة مع نفسه، وفاكر ان احنا اغبيا ومش فاهمينه
علق الاخر بضحكات متقطعة متحشرجة:
– يعني عايش فيها في دور الناصح عليكم، مش هين ابوك يا مالك، رغم ان لما تشوفه ميبانش عليه خالص.
لم يستجب لمزاحه، بل بادله بنظرة قاتمة يردف
– يا حافظ افهمني، انا مش هاممنني ان كان يبان عليه ولا ميبانش، انا دمي بيغلي عشان مش لاجى نتيجة، وكل يوم يثبتلي انه ندل وممكن يبيعنا في أي وجت .
قال حافظ بخبث لم يخفيه:.
– بصراحة لو ابويا اروح فيه اللمان، ما هو مش بعد التعب والمرار دا كله، تطلع كمان من المولد بلا حمص، وياجي هو وياخد ع الجاهز، دا ايه الحظ دا يا عم؟
زادت ملامحه اظلاما مع الظلام المحيط بهم، ليردد بحريق يسري بداخله:
– ومين جالك اني هسكت؟ ولا استنى لحد ما يعرف يميل راس المرة الوحدانية من تاني؟
– طب يا عم ما تصبر شوية، مش بمكن لو عرف يميل راس مرة ابوك ، يطولكم من الحب جانب يا عم مالك.
زجره بعنف رافضًا عرضه:
– يعني نستني لحد ما يرميلنا الفتافيت ، والله ما يحصل، انا الاحج باليغمة دي، انا الاحج، صدقي ابو سليم في انتظار اشارة بس، الراجل هيموت ويعمل التجمع اللي بيحلم بيه.
– اااه
تأوه ضاغطًا بأسنانه على طرف شفته بغيظ شديد يردد بتحسر:
– اه لو يحصل يا حافظ، انا بجالي سنين متعشم وببني احلامي على بيع البيت ده، وكله بسببهم ، فضلوا يكبروها في مخي، ودلوك عايشين حياتهم ولا اكن حصل شيء ، هي بالشرا اللي ما بيخلصش وهو بتخطيطه عشان يكوش ع المرة وورثها.
نفث حافظ الدخان الاخضر لسيجارته، ثم سأله بريبة، وكأنه يستشف ما برأسه:
– وبعدين؟ ناوي على ايه؟
التمعت عيني مالك، ليطل منها وميض خطر ، رغبة عنيفة على التواصل حتى يصل لمبتغاه، وليحدث ما يحدث:
– مش هسكت يا حافظ عن حجي، ممكن استني اشوية عشان اراجب واشوف الدنيا موديانا على فين؟ بس مش كتير، عشان انا محدد بالظبط هعمل ايه؟
❈-❈-❈
في اليوم التالي
دوت صوت الزغروطة العالية حتى رجت بروعتها قلب المنزل، تعبيرًا عن الفرح بإتمام الاتفاق بين افراد العائلتين،
– لولولوي
– بس يا نادرة، وجفي .
هتفت بها توقف شقيقتها عن المواصلة، لتحتج جدتها من خلفها:.
– بتمنعيها ليه يا بت؟ خلى الفرح يخش البيت.
التفت بحرج تعبر عن رغبتها في ذلك، ولكن وقعت عينيها على سهام خاصتيه المتربصين، وهذا الغموض الذي يعتلي تعابيره رغم صمته.
– انا بجول انتا نخلي الأمر كتيمي دلوك، لحد ما يحصل حاجة رسمي.
عبرت نادرة عن استيائها:
– ونتكم ليه؟، هو احنا كل بيدخل عندينا الفرح؟ ما تجوليلها حاجة يا جدة البت دي
تدخل شقيقها يحزم لا يخلو من اللطف:
– اسمعي الكلام يا نادرة، الرسول بيجول ، واستعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان،
– عليه افضل الصلاة والسلام.
تمتم بها الجميع من خلفه، حتى خرج صوته الاَخر برزانة ولطف:
– اسمعي الكلام يا نادرة، ووفري طاقتك لليلة الكبيرة،
ارجصي واعملي اللي نفسك فيه ساعتها، لكن خلي الأمر دلوك يعدي على خير، وراعي ان واد عمك ما صدج
قالها وصدرت الضحكات من افواه البقية، حتى اغتصبت هي ابتسامة باضطراب لم يغقل عنه، يعلم جيدا بالحرب التي تدور داخلها، لقد اختارت شقيقها ومكانته، وقبلت به مضطرة، رغم اختياره لها من يوم مولدها، نعم هو لم يرى من النساء غيرها ولن يرى، كما انه لن يتراجع وقد خطا الاَن اولى الخطوات فيما يخطط له.
قطع شروده بها صوت جدته التي هتفت تشاكسه:
– يا واد شيل عينك عنها شوية، اتجل كدة و متبقاش خفيف يا جزين.
استجاب ضاحكا يجاريها:.
– وانتي يعني مركزة معايا ليه؟ ما تسبيني في حالي يا فاطنة.
قالها ليتبادل معها ومع البقية المزاح، ليشيع جوا من المرح والدفء الأسري، حتى استعجبت هي لهذه البساطة التي تجدها منه، رغم تشدده بالأمس معها، انها حقًا لا تفهمه.
تسائلت فاطمة باستدراك مندهشة:
– الجعدة حلوة والله يا ولاد، ناجصها سعيد يحضرها معانا، ولا يكون زعلان على موضوع طلاج بته؟ بس انت ايه دخلك يا يامن انت وعارف؟
تحمحم المذكور ، يجيبها باضطراب، فهي الوحيدة بهذا المنزل التي لا تعلم بحقيقة ما حدث:
– بصراحة يا أمي انا اللي مدعتهوش، جولت نخليها ما بينا في الاول، حتى عشان نعرف نتفاهم انا وواد اخوي، ما انت عارفة ولدك وطبعه.
لم تجادله فاطمة وبدا انها صدقته حتى عقبت بانفعال:
– هو فعلا عصبي، والطبع بتاعه زفت، بس برضك اهون من بته، غازي مجالش عن السبب الحجيجي لطلاجه بيها، بس انا متأكدة انها غلطت غلط جامد معاه، حتى من غير ما اعرف .
تدخلت وجدان لتغير دفة الحديث بعتاب لطيف:
– وه يا جدة، ودا برضوا وجته، نجيب سيرة الطلاج والكلام العفش ده ، في لحظة حلوة زي دي، اجولك يا بت يا نادرة، زغرطي ولو سألنا اي حد، نبجى نجول، ان الصوت طالع من السماعات، أو التليفزيون.
سمعت الأخيرة لتنطلق بزغروطة أعلى من السابقة، تعود بهم للإبتهاج بهذا الحدث السعيد والغير متوقع.
مرت اللحظات حتى انتهت الجلسة بذهابهم، وكأنها كانت زيارة عادية، مؤجلين الإشهار والإعلان، حتى يتم الأمر رسميًا وبحضور كبار العائلة.
قام غازي بإيصال الاثنان والخروج معهم.
❈-❈-❈
تركت روح الجلسة مع شقيقاتها والجدة، لتذهب نحو الركن الذي أصبحت تستريح به، وبصحبتها، حتى تخبرها بما تم، وما يدور برأسها من هواجس؛
– ايه اللي مخوفك يا روح؟ طب والله انا فرحت
خرجت منها بصدق استشعرته الأخرى، لتعقب سائلة بحيرة.
، معجول يا نادية؟ انا ليه حساكي فرحانة جوي بالموضوع ده من جلبك، اشحال ان ما كنتي عارفة اللي فيها، وباللي حاصل .
ردت تجيبها بصوت العقل وبدون موارية:
– بصراحة، انا فعلا فرحانة من جلبي اينعم انتي ممكن تكوني مش متجبلة الموضوع، وحاسة انك جابرة على نفسك، بس انا مش شايفة انه الاصلح وبس، لا يا روح، انا جلبي مستريح، وحاسة ان عارف انسان ممتاز وبصراحة يستاهلك وتستاهليه.
– جصدك ان عمر ما يلجليش؟
خرج منها السؤال وكأنه فخ ، استطاعت نادية تجنب الوقوع به بردها:
– لا يا روح، وما تحاوليش تجريني في السكة دي، انا بتكلم بإحساسي، ودي حاجة مينفعش اللوم عليها، ممكن انتي تكوني شايفة عمر ده محصلش، ومع ذلك مسألة الجبول دي من عند ربنا.
ردت بتأثر، وابتسامة تتصنعها، تجاهد للأستمرار على الثبات:
– ياللا بجى، جبلاه ولا مش جبلاه ، اهو كل واحد راح لحاله، والأمل اللي كنت متشعلجة بيه، جطعته انا بيدي
– عشان دا الصح يا روح.
تفوهت بها بقوة، لتضيف عليها :
– انا اكتر واحدة كنت اتمنى انك تاخدي اللي بتحبيه، بس كمان اتمنالك الراحة في الاول وفي الاخر، وانتي لو كنتي اصريتي على عمر، يستحيل كنتي هتلاجي الراحة على حساب غيرك، اللي هو اعز الناس عليكي.
، وانت عارفة طبعا انا اجصد ايه،
أومأت رأسها تكبح بصعوبة هطول دموع محتجزة بمقلتيها، فتابعت نادية مستفسرة:
– بس انتي مجولتليش، اتصرفتي ازاي مع صحبتك ولا معاه؟
تنهدت بضعف تجيبها:
– بصراحة مجدرتش ارد عليه هو، بس كلمت جميلة في التليفون، جولتلها ان أهلي كلهم مش موافجين، وحصلت مشاكل كبيرة، تنمع الجواز نهائي منه، وانا مش هقدر اتحدى اهلي، جميلة بصراحة مشدتش معايا، وكأن جلبها كان حاسس.
قطيت نادية بتفكير متعمق لموقف صديقتها، قبل ان يخرج سؤالها بريبة:
– طب وتفتكري بجى، هو كمان هيصدج وميشدش؟
مطت شفتيها باضطراب وحيرة تجيبها:
– الله اعلم
❈-❈-❈
– يعني ايه يعني مش جادرة تتحدى اهلها ولا تعارضهم؟ هو لعب عيال؟
صرخ بها بوجه شقيقته، والتي استنكرت خلفه مرددة:
– لاه مش لعب عيال يا عمر، انا بجولك ع اللي جالته بالظبط، روح ما كنتش بتهزر ولا بتهرتل، دي كان ناجص تجطع معايا انا نفسي،
– كييف؟
صاح يها بغصب متعاظم، لا يستوعب صدق كلماتها، ليردف بسخط:
– يعني تجعد خمس سنين مستنيا وبعد ما تعشمني، تيجي على اخر لحظة وتخلى بيا، الكلام دا ميخشش عجلي، انا لازم اتأكد بنفسي.
تحرك فجأة يذهب من أمامها، لحقت به تسأله بجذع:.
– رايح فين يا عمر، احنا مش ناجصين مشاكل مع الناس دي يا واد ابوي.
التف يطمنئها رغم حنقه من لهجتها المرتعبة:
– اطمني يا ست جميلة، انا مش رابح اتعرك، مع اني ممكن اعملها بجد على فكرة، بس انا رايح اطلب يدها بالحسنى وما اشوف ايه اخرتها .
❈-❈-❈
بسخرية اختلطت بحقد لا تخفيه، وجهت السؤال نحو والدها، بعدما اخبرها عن علمه بما تم منذ ساعات في منزل العائلة، وزوجها السابق :
– خطبها؟ وقرا الفاتحة كمان؟.ليه؟ كانت العجدة ما بتتحلش غير ع الفضايخ اياك؟
– الله يخرب مطمنك فضايح ايه بس؟ انتي عايزة تجيبلنا الكلام والحديت غصب
تمتمت بها رئيسة بغيظ شديد، ليضيف ناجي متفقًا معها:
– سبيها ياما، ما هي مش هتستريح غير لما تجيب اجلنا كلنا، خربت بيتها ولسة برضوا متعظتش:
– واتعظ ليه؟ هو انا اللي غلطت؟ دا انا جولت الحجيجة يا حبيبي، لكن واد عمك هو اللي طلع ني، اللي يجبل على نفسه حاجة زي دي، بعد ما شاف الصور بعينه، يبجى مش راجل أصلًا.
– اتعدلي يا بت في كلامك، وراعي انك بتتكلمي عن واد عمك.
زجرها سعيد يجفلها بلهجته الصارمة في هذا الجزء:
– عيلة ابوكي مبتخلفش غير رجالة يا بت.
تلجلجت تردف ملطفة تستجدي عطفه بخبث:
– ويعني انا يا بوي كنت جاصدة يعني، انا بس برد ع الكلام اللي يحرج الدم، اخوك مش مكفيه انه وجف مع واد اخوك ضدك، لا كمان، دا بيطرمخ على غلط المحروسة ، وراح يخطبها لولده من غير كمان ما يشورك، وجاي في الاخر يعلمك كيف الغريب، دا مصدج بجى.
– يا بت ما تعجلي كلامك ، هو انتي شيطان؟
صرخت بها رئيسة امام زهول ابنها، وصدمة زوجها، الذي ارتسم على ملامحه اقتناعًا ترفضه المرأة، حتى توجهت اليه تخاطبه:
– ما تبعش كلام النصيبة دي يا سعيد، اخوك الشيخ يامن مفيش احسن منه، وحتى غازي…..
على الفور تدخلت فتنة تقاطعها:
– ماله هو كمان؟ اشكري واتغزلي فيه، ما هو انا مش بتك، دا هو اللي ولدك
زمجر ناجي بحنق منها ومن أفعالها:
– يا جزينة ما تهمدي، اتهدي يا بت شوية، مش عارفين نلاحج ولا نلم وراكي ، اتعدلي يا فتنة عشان واصلة معانا للاَخر.
استخفت تردد خلفه باستهزاء:
– ليه يا حبيبي توصل معاك للآخر بسببي؟ جاعدة فوج راسك مثلا؟ ولا في بيتك؟ لا يا بابا ، انا جاعدة في عز ابويا.
– يوووه
صاح بها ينهض ليغادر مرددًا بسخط:
– انا ماشي وسايبهالك، ارمحي فيها على كيفك يا فتنة.
تطلعت في اثره تغمغم بمزيد من السخرية:
– روح يا خوي وخدها فرصة انت كمان، اجطع دراعي ان ما كان متلم على واحدة من الخواجات اللي بيروح يسهر معاهم، ولا ضارب ورجة عرفي مع واحدة من اياهم،
عادت لوالديها لتجفل منتبهة لهذا التجهم الذي كسى ملامحهما، وقد وضح الضجر جليًا من والدها، والذي خاطبها ببعض اللين:
– وبعدين يا فتنة؟ اعجلي كدة ومشي امورك يا بتي، متخليش الكل يطفش منك، اخوكي دا اللي طلع يصرخ دلوك، ما في ابرد منه معانا في البيت، دا غير خواتك البنتة ، اللي بيروحوا على بيت جوازهم من نص اليوم بسببك،
– عشان هما اللي بيستهبلوا عليا وعلى بنتتي يا بوي .
اندفعت بها ثم سرعان ما استدركت لغضبه منها، فاسنطردت بضعف تدعيه:
– ما هما برضوا لازم يجدروا يا بوي، انا مخنوجة وفيا اللي مكفيني، وان ما كانش اخواتي يفوتولي دلوك؟ مين هيفوتلي.
استطاعت بكلماتها ان تؤثر على هذا الجزء الضعيف من العاطفة، حتى اشفقا عليها ظنًا انها تعاني ابتعادها عن زوجها، وعدم تجاوزها صدمة الانفصال في هذه السن الصغيرة،
كان هذا ظنهم قبل ان تجفلهما بطلبها:
– انا عايزة اطلع واتفسح واشوف الدنيا، ينفع اخلي البنتة معاكي ياما تراعيهم بكرا، على ما ارجع انا من مشواري في المحافظة، عايزة الف ع المحلات واشتري شوية هدوم.
تجمدت رئيسة تطالعها بعدم تصديق لعدة لحظات، قبل ان تستفيق ليخرج ردها بصرخة:
– بوو عليا وعلى سنيني، هو انتي مش حاسة انك في عدة يا جزينة، يعني لا ينفع تطلعي ولا تخشي، حتى دي مش عتجاها يا فتنة؟
❈-❈-❈
لم يكن امر طلب المقابلة معه بالأمر المفاجيء، فهذا الشيء قد توقعه منذ البداية، المفاجيء هو كان رد فعله برؤيته امامه، هذا الشعور الذي يكتنفه الاَن بالغضب، بعدم الارتياح، وكأن الذنب يخصه وحده، او انه كان على غير ارادة شقيقته!
– منور يا عمر، بلدك كلها نورت برجعتك .
قالها كترحيب روتيني، قد يفعله مع الجميع، وجاء رد الاخر بامتنان:
– الله يعزك يا غازي بيه، دا بس من زوجك، البلد منورة بناسها
استجاب بابتسامة ليس لها معني يخاطبه:
– ربنا يبارك فيك يا سيدي….. انا سمعت انك واصل من كام يوم .
– دا حجيجي، انا فعلا مفاتش على رجعتي غير ايام جليلة، يدوب لحجت اخلص من زيارات الناس ومباركتهم برجعتي بالعافية، وعشان كدة طلبتك وكنت عايز……
– بس انت اتأخرت جوي في الغربة يا عمر؟
باغته بالسؤال مقاطعًا، ليُجبر الاخر على السير في نفس وجهته:
– دا صحيح، بس يعني معوجنش جوي، دول كلهم خمس سنين…..
– ولا مرة نزلت أجازة فيهم؟
للمرة الثانية، يواصل بأسئلته، ليتسرب الى الاخر شعور غير طيب وكأنه داخل جلسة تحقيق:
– الظروف مكنتش تسمح ان انزل، كنت ضاغط على نفسي بالجامد عشان اوصل للي انا عاوزه.
التقط الاخيرة ، ليردد سائًلا بهدوء خطر:
– وايه هو اللي انت عايزه بجى؟
انه بالفعل يجفله بردوده، كما أنه يسشف الحدة من خلف أسئلته،
هذا ما شعر به عمر، ولكنه تمالك يجسر نفسه، متذكرًا ما وصل اليه، بالإضافة إلى الاموال التي بإمكانها ان تقوي قلبه، للطلب مباشرة من الاخر:
– بصراحة اللي انا عايزة، هو حاجة غالية، غالية جوي، تستاهل الصبر، وتستاهل الغربة ومرارها، تستاهل كل شيء عشان ابجى مناسبلها……. انا عشمان في كرمك يا غازي بيه، في انك مترودنيش خايب الرجا، انا جاي وطالب ايد الاَنسة روح اختك، اشيلها فوج راسي واحطها جوه عيوني من جوا.
توقف غازي عن الشرود بكلماته المنمقة، وبزغت بزاوية ثغره ابتسامة ضعيفة، ثم قال:
– كلامك جميل يا عمر، بصراحة اهنيك على لسانك الحلو ده، دا انت ناجض تكتب قصيدة شعر يا راجل .
اردف الاخير بحماس ردًا على كلماته:
– والله لو أطول اعمل كدة واكتر كمان، الانسة روح تستاهل ومعزتها عندي لا تقدر.
– امممم
طالع عمر وجه الاخر الذي تبسم.يطرق براسه للأسفل قليلًا، حتى رفعها فجأة:
– ولما انت بتعزها جوي كدة، صبرت ليه خمس سنين في غربتك، على ما رجعت تتجدملها؟
هم ان يردف له بنفس الاعذار السابقة عن الكفاح وما واجهه من مصاعب، ولكن الاَخر قطع عليه:
– انا عرفت انك بنيت بيت ابوك من بعد السنة التانية من سفرك….
افتر فاهه ليرد ولكن غازي تابع :
– دا غير ان بعد السنة التالتة ابوك اشترى خمس فداداين ارض عفية في الحرجة،….. ودلوك وبعد خمس سنين راجع واجواز خواتك جايمين بالارض اللي اشتروها بإسمك برضو، من ضمن الفدادين اللي خصصتها الدولة في البلد اللي ورانا.
اعتلى الذهول ملامح عمر لينعقد لسانه منصتًا لهذه المعلومات التي يردفها الاخر عليه دفعة واحدة، رغم حرصه على سريتها من قبله وقبل من يعرفونه،
كان غازي يقرأ ما يفكر به، حتى اردف يزيد من اندهاشه:
– متستغربش ولا تفتكر ان حد جالي من اجواز اخواتك الغلابة، الحاجات دي انا وصلتلها لوحدي لما سألت عليك ، من وجت ما عرفت بطلبك، مفيش سر في الحكومة يستخبى على العبد الفجير، لكن السؤال اللي مجنني بجد، وبرضك هعيده عليك من تاني، لما بتعزها، استنيت عليها خمس سنين كيف؟
– ما انا كنت بكون نفسي.
قابل رده باستهجان رغم هدوئه:
– تكون نفسك برضوا؟ ولا انت كنت بتعملك رأس مال، تتكل عليه يا عمر ؟
سهم عمر بنظره اليه، فهذه الطريقة من النقاش لم بكن يتوقعها على الإطلاق، فواصل الاَخر:.
– كان ينفع جوي تنزل من سفرك، وتيجي تتجدملها بعد ما تبنى بيتكم……. مكنتش انا ساعتها هتجل عليك ولا احملك فوج طاجتك، كنت هوافج عشان اختي، حتى لو اضطريت اسا…….
-وانا كنت هرفض مساعدتك دي.
خرجت منه بمقاطعة حادة، ليُكمل بوجه مشتد وانفعال حاد:,
– انا كان ممكن اتجدملها من غير ما اسافر من الأساس، واعشم بكرمك في مساعدتي من الأول، لكن لا……. انا رافض المساعدة دي ، عشان انا حر ، فضلت اني اسافر
واتمرمط، عشان اجيب الجرش اللي يكفي جوازي بيها، جبل ما اخد اي خطوة.
– شاطر يا عمر
ذوى ما بين حاجبيه، يستغرب الجملة المبهمة، لما يشعر وكأن بها شيء من سخرية، وليست اطراء.
– هو انت بتشكر فيا ولا بتذم؟
سأله بتوجس زاد بعد استماعه للإجابة :
– لا طبعا مش بسخر، انا بجول اللي شايفه على فكرة، انت فعلا شاطر، والشاطر في أحيان كتير بيبجى عايز كل حاجة، وهو واثق انه يجدر يوصلها بشطارته، بالذات لما يبجى حاسس انه ضامن!
– يعني إيه؟
بمزيد من الحيرة، شاعرًا بالتخبط، وعدم الاستقرار على ارض صلبه امامه، يريد تفسيرا واضحًا لمقصده، والذي لم يبخل به غازي هذه المرة ليميل برأسها نحوه، يردف بكلمات محددة، لا تخلو من مكر:
– يعني مفيش حاجة في الزمن ده مضمونة، شوف انت بجى سافرت وجمعت ثروة ، ورجعت واختي لسة سينجل زي ما بيجولوا، لكن للأسف برضوا ملحجتش…..
صمت فجأة يستقيم بجذعه، قبل ان يخبره باعتزاز – روح جبلت بواد عمها وفرحهم جرب.
هذه المرة لم يخفي استنكاره، ليردد خلفه بعدم تصديق:
– واااد عمها مين؟ انا لو وصلني انها اتخطبت زي ما بتجول، مكنتش اخطي برجلي واجي هنا واصل، ما تجيبها بصراحة كدة، وتجول انك رافضني.
صمت غازي يرمقه بصفحة مغلفة زادت من حنقه، ثم ما لبث أن يتناول هاتفه، يتصل بأحد الارقام ، ليُفعل مكبر الصوت مع اجابة الطرف الاخر:
– ايوة يا غازي، عاوز حاجة؟
– ايوة يا حبيبة اخوكي، بجولك يا روح، واد عمك بيتصل بيا وبيسأل يعدي عليكي امتى، عشان ياخدك للصايغ تنجوا الشبكة؟
قال الاخيرة بتمهل يلتقط رد فعل الأخر، والذي انصت بقوة ، يستمع لاجابتها:
– يعدي في أي وجت يا غازي، يعني هو مش عارف اللي يناسبه؟ ولا اجولك…. خليه ياجي على واحدة الضهر ، دا ميعاد كويس للكل، على ما يجوا اخواتي البنات من بيوت أجوازهم، اشوف مين اللي هتجعد مع ستي ومين اللي هتيجي معايا….
– تمام يا بت ابوي، ربنا يتمملك بخير يارب.
– الله يبارك فيك يا حبيبي، إجفل بجى عشان بنتت عمامك عرفوا وجم يباركوا هما كمان.
انهى المكالمة ليعود اليه، وقد تجمد كالتمثال امامه، بتأثير المفاجأة الذي بدا جليًا على ملامحه، قبل ان ينهض فجأة، ينمتم معتذرًا، فلم تعد هناك فائدة للجدال:
– تمام انا اسف مكنتش اعرف…… وع العموم الف مبروك.
– الله يبارك فيك يا سيدي وعجبالك انت كمان.
تمتم بها غازي، يتركه يذهب ولكن وقبل ان يبتعد بخطوتين هتف يوقفه:
– عمر
انتظر حتى يلتف اليه ليأمره بحزم، وبشكل مباشر دون دون خجل أو حرج، متحاملًا على غضب يشتعل بداخله:
– ما تنساش تمسح كل الرسايل اللي عندك في التلفون، واعتبر اللي عدى مهما كان بريء ولا زين، صفحة واتجفلت على كدة.
لم يُصدم بطلبه، فقد تأكد له الاَن انه على دراية بكل شيء، كما أنه السبب الأساسي في الرفض، بادله نظرة كارهة، يومئ له برأسهِ، ثم غادر نهائيًا، وبعقله يتسائل، كيف استطاع هذا الملعون التأثير عليها، حتى تلفظه عنها بكل سهولة ، وتوافق على المذكور ابن عمها ؟
ترى! إلى ماذا توصل ايضًا؟
يتبع
الثالث والعشرون من هنا