رواية عن العشق والهوي الفصل الثامن 8 بقلم نونا مصري
~ الفصل الثامن ~
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾
قراءة ممتعة للجميع ♡
وبعد تلك الجملة عاد خالد من صدمته وابتلع ريقه قائلاً بصعوبة : ا.. اتفضلي وانا هسمعك.
اخذت نفساً عميقاً واردفت : انا ما ينفعش اتجوزك يا خالد لأني متجوزه اساساً...ايوا انا اتجوزت و... والراجل اللي اتجوزته من تلات شهور تقريباً يبقى اب ابني اللي في بطني وانا سبت مصر من غير ما يطلقني... تقدر تقول اني هربت منه بس حتى لو رحت اخر الدنيا ما ينفعش اتجوز حد تاني لاني لسه على ذمته فاهمني .
في تلك اللحظة فقط رتاح قلب خالد لانها اخبرته انها حامل من زوجها وابعد عن ذهنه تلك الافكار السلبية التي تخيلها بها وقال : طيب ..طيب ممكن اعرف ليه اتجوزتيه لو مكنتيش تحبيه وهربتي منه ؟
نزلت دمعة ملتهبة من عيون مريم احرقت وجنتيها وقالت بنبرة حزينة : ومين قالك اني مش بحبه ؛ اساساً انا عمري ما حبيت راجل غيره ومش هينفع احب حد تاني بعده بس الظروف هي اللي جبرتني اهرب بعيد واسيبه بعد ما اتجوزني ليوم واحد بس.
خالد بدهشة : اتجوزك ليوم واحد بس !
فمسحت مريم دمعتها ونظرت اليه ثم اومت له برأسها وغمغمت : ايوا... انا هحكيلك على كل حاجة .
- وبالفعل بدأت تحكي لخالد قصتها مع ادهم وكيف تزوجته مقابل ان يعطيها المال لتنقذ اختها وكيف انتهى بها المطاف بالهرب من مصر... ولكنها لم تذكر اسم ادهم ابداً بل اخبرته انها تزوجت رجل اعمل ولم تخبره ما هو اسمه فنظر اليها ثم امسك بيدها وقال : انا اسف يا مريم...لو كنت اعرف انك متجوزة وبتحبي جوزك للدرجة دي مكنتش سمحت لنفسي اني احبك ابداً ولا كنت فكرتك بالحزن اللي هربتي منه ...ارجوكي سامحيني.
فهزت مريم رأسها والدموع في عينيها واردفت : انت ملكش ذنب... انا الحق عليا كان لازم اقولك الحكاية دي من البداية.
سحب خالد يده وغمغم بنبرة صوت مخنوقة : انسي كل حاجة قلتها لك النهاردة ومن اللحظة دي انا... انا هبقى اخوكي الكبير وهفضل واقف جنبك وهساعدك وبالنسبة لمشاعري تجاهك هدفنها جوا قلبي ومش هبصلك غير انك اختي الصغيرة ودا وعد مني.
ابتسمت مريم ابتسامة مريرة واستطردت : انت انسان رائع يا خالد...واكيد ربنا هيبعتلك وحدة احسن مني وهتحبك وتسعدك .
فابتسم خالد بألم وقال : احسن منك...مظنش ان في انسانه احسن منك ضحت بنفسها علشان اختها بس عندي سؤال واحد... هو الراجل اللي اتجوزك ليه ما طلقكيش بعد... يعني هو قال انو هيتجوزك ليوم واحد علشان مش عايز يلمسك بالحرام يبقى ليه ما طلقكيش الصبح ؟
بعد قوله ذاك شردت مريم بتفكيرها واخذت تفكر بكلام خالد ثم نظرت اليه وقالت : لما الصبح جيه هو قالي انه عايز يخش الحمام ومش عايز يلاقيني في بيته بعد ما يخرج وبعدها انا خدت الفلوس ورحت المستشفى على طول واكتشفت ان اختي ماتت ومعرفش ازاي الايام عدت عليا وبعدها مشفتوش لغاية دلوقتي.
خالد : طيب هو ما حولش يدور عليكي او يزورك في البيت ؟
مريم : بعد ما مرام ماتت انا مخرجتش من البيت ابداً ولا رحت شفته وكمان هو ما سألش عني خالص وبعدها قررت اسيب مصر وطلبت من الهام انها ترجعله الفلوس قبل ما نسافر بيوم ومن ساعتها معرفش عنه حاجة .
خالد : طيب وهتعملي ايه دلوقتي ؛ يعني عايزة تفضلي كدا لا معلقة ولا مطلقة ومش عايزة جوزك يعرف انك حامل ؟
فقالت بشيء من العتب : لو كان امري بيهمه كان دور عليا.. انا اعرف انو يقدر يلاقيني لو عايز بس معملش كدا اما بالنسبه لأبني فانا هقدر اربيه لوحدي ومن غيره كمان.
خالد : بس كدا ما ينفعش... انا اسف على اللي هقوله بس انتي هتظلمي ابنك لما تحرميه من بباه وكمان القانون بيقول انك لازم تقولي لجوزك انك حامل لان من حقه يعرف ان هيبقى عنده ابن .
مريم : ارجوك يا خالد بلاش تضغط عليا في الموضوع دا... انا اتخذت قراري وهقدر اربي ابني لوحدي وزي ما قولتلك ان... جوزي لو كان مهتم بيا ولو حتى شوية كان دور عليا.
خالد : بس انتي سافرتي من غير ما تقولي لاي حد عن المكان اللي انتي رايحه عليه.
فابتسمت مريم ابتسامة مريره وقالت : هو لو كان معني انه يلاقيني كان يقدر يروح المطار علشان يعرف انا رحت فين بما اني مراته ومن حقه يعرف مكاني بس مع الاسف اهي عدت تلات شهور وهو مكلفش نفسه انه يدور عليا .
فتنهد خالد وقال : بصراحة مش عارف اقولك ايه...بس ولا يهمك انا هفضل جنبك على طول وزي ما قولتلك انك بقيتي اختي الصغيرة وهحميكي انتي وابنك متخافش .
فابتسم مريم وغمغمت : متشكره اوي.
- وعادت إلى الشقة بعد ان تناولت العشاء مع خالد واخبرته بكل شيء عنها فدخلت ووجدت ان الظلام يخيم على المكان لأن الهام قررت المبيت في منزل عمها عمر ؛ اشعلت الانوار ثم خلعت معطفها وجلست على الاريكة وكانت تشعر بفراغ كبير ولا تعلم ان كانت سعيدة لانها اعترفت لخالد ام حزينة لانها رفضت حبه الصادق لها... ولكن كيف تقبل به وهي تحب ادهم زوجها ؟
فهي وبغض النظر عن كل ما فعله بها لا تستطيع ان تحب احداً غيره لانه كان حبها الاول والاخير وكانت على يقين تام بأنه من المستحيل إن تحب بعده اي رجل حيث اصبح جميع الرجال في نظرها سواء الا هو حبيبها الواحد والوحيد رجل بكل ما تعنيه الكلمة ، وبينما كانت تفكر شعرت برغبة في اخذ حمام دافئ لذا توجهت نحو الحمام وملأت حوض الاستحمام بالماء الدافئ ووضعت بداخله غسول الجلد الذي برائحة الخوخ ثم خلعت ثيابها ودخلت في الماء وسرعان ما شعرت بالأسترخاء .
بقيت مستلقية داخل حوض الاستحمام لمدة نصف ساعة وهي تفكر وتفكر بأمور كثيرة اشغلت بالها... امور لا بد وان تضع لها حداً لكي تستطيع المضي قدماً في حياتها وان تركتها معلقة لن تستطيع ان تشعر بالراحة ابداً ...واهم هذه الامور كانت علاقتها بـ ادهم عزام السيوفي لذا حسمت امرها ثم نهضت من حوض الاستحمام وامسكت المنشفة المعلقة بجانبها ثم لفت جسدها بها وخرجت متوجها إلى حقيبتها التي تركتها على الاريكة في غرفة المعيشة ؛ اخرجت هاتفها ونظرت إلى الساعة حيث كانت تشير إلى العاشرة وتسعة وثلاثون دقيقة ليلاً وبعدها قالت : الوقت بيختلف بين مصر وهنا ودا معناه ان هو صاحي دلوقتي وفي الشغل... يبقى لازم اتصل بيه حالاً.
اما في مصر.....
فكان جالساً في اجتماع مهم للغاية برفقة شريكة وابن خاله كمال وبعض الموظفين يناقشون صفقة كبيرة ، وبينما كان يتحدث ويبدو عليه الجدية والانضباط رن هاتفه بصوت عالٍ حيث انه نسي ان يضعه على الوضع الصامت.... عم الصمت في غرفة الاجتماعات الا من صوت رنين الهاتف الذي ازعج ادهم لانها كانت المرة الأولى التي ينسى فيها وضع هاتفه على الوضع الصامت فامسك به وهو يعقد ما بين حاجبيه دليلاً على انزعاجه وقال بصوت مسموع : Sorry ؛ ثواني وهنكمل الاجتماع.
وعندما اراد ان يغلق الهاتف تفاجأ بظهور رقم دولي يتصل به فشرد للحظة واحدة ثم هب واقفاً كما لو انه تعرض للسعة افعى وبدون تفكير اجاب بلهفة قائلاً : آلو....
- صمت تام خرق اذنه ولا يعلم لما رغب في نطق اسمها فقال بنبرة صوت تحمل الكثير والكثير من المشاعر المجروحة : مريم !
اما هي فلم تستطيع ان تمنع شهقتها الصغيرة الناتجة عن حبس دموعها فقالت بصوت مخنوق : ا..ايوا.
في تلك اللحظة شعر وكأن وَتَد ملتهب اخترق قلبه المجروح و اشعل النيران فيه فاغمض عينا بألم شديد وضغط على الهاتف بيده وسألها بصوت كاد ان يختفي : انتي فين !
أتاه صوتها الخافت وهي تشهق قائلة : نيويورك .... انا... انا عايزه اقبلك ضروري... تقدر تيجي هنا ؟
فحمل ادهم سترته دون ان يحسب حساب لاي احد من الموجودين في غرفة الاجتماعات وقال : انا هاجي على اول طيارة...بس اديني عنوانك.
في تلك اللحظة نهض الجميع فوراً وعلامات الاستفهام تعلو وجوههم وخصوصاً كمال اما هي فقالت : لما توصل انا هتصل بيك وهقولك هنتقابل فين.
ادهم : تمام.
مريم : سلام دلوقتي.
فتوقف ادهم عن السير وقال بتردد : استني.... انتي... كويسه مش كدا ؟
شعرت مريم بغصة في قلبها ولكنها استرجعت رباطة جأشها وقالت بنبرة صوت واثقة : عمري مكنتش كويسه زي النهاردة... انا هستناك.
قالت ذلك ثم انهت المكالمة وما هي الا ثانية حتى انفجرت بالبكاء المرير واخرجت كل ما في قلبها ؛ اما هو فالتفت الى الاخرين وقال بلهجة امر : كمال انا لازم اسافر نيويورك ...خلي بالك من الشركة .
فاستغرب كمال وقال بدهشة : نيويورك !
ثم سأله بفضول قآتل : وهتروح هناك ليه يا ادهم ، وبعدين ازاي هتسيب الاجتماع دا ؟؟
رد عليه ادهم بنبرة جدية : السفريه دي اهم من الشركة كلها بالنسبة لي وانا لازم اروح هناك...وبالنسبة للصفقة انا واثق انك هتقدر تكسبها... سلام دلوقتي .
كمال : بس يا ادهم.....
- ولم يستطيع اكمال جملته لأن ادهم المتهور قد خرج من قاعة الاجتماعات وهو يركض نحو المصاعد كما لو كان مجنون يتحدث في الهاتف مع سكرتيرة سلمى قائلاً : سلمى عايزك تسيبي كل حاجة في ايدك دلوقتي وتحجزيلي تذكرة في اول رحلة رايحه نيويورك انتي سامعه ، ولو ما قدرتيش تلاقي تذكرة جيبيلي طيارة خاصة .
فقالت سلمى بأرتباك : ح... حاضر يا فندم.
ثم اغلق هاتفه وركض الى موقف السيارات اما سلمى فقالت بتعجب : نيويورك ؛ وهيروح يعمل ايه هناك !
بعد مرور نصف ساعة...
وصل ادهم الى المنزل وقبل ان ينزل من السيارة ورده اتصال من سكرتيرته سلمى فاجابها : ايوا يا سلمى.
فقالت : انا حجزتلك تذكرة للشخصيات المهمة يا فندم وهتكون رحلتك بعد ساعتين من دلوقتي .
ادهم : طيب يا سلمى متشكر.
قال ذلك ثم اغلق هاتفه ونزل من السيارة فنظر اليه العم محمود وهو يركض نحو الداخل حتى دون ان يلقي التحية فهز رأسه وتابع عمله ؛ اما في داخل المنزل لم يكن هناك احد سوى السيدة كوثر والشغالة امينة حيث كان البقية في اشغالهم.... معاذ ويوسف في المستشفى... رغد في الجامعة حيث كانت ماتزال طالبة حقوق آن ذاك وكذلك اولاد العم محمود اي ان المنزل كان شبه خالي من سكانه ما عدى السيدة كوثر التي كانت تشرب القهوة في غرفة المعيشة مع إمينه ويتحدثن بأمور كثيرة.
- فدخل ادهم من الباب مثل الاعصار الهائج ولم ينتبه إلى امه وامينه اللتان كانتا تحدقان به بغرابة... بل صعد إلى غرفته امام نظرهن دون ان يتفوه بكلمة واحدة مما جعل والدته تشعر بالقلق فنهضت ونهضت امينه خلفها وصعدن الى الطابق العلوي من المنزل وتوجهن الى غرفة ادهم وعندما دخلن كان هو يبحث في درج الخزانة الصغيرة التي بجابن السرير عن جواز سفره فسألته امه : ادهم في ايه يا ابني ؟
اجابه بدون ان ينظر اليها : بعدين يا ماما... انا لازم الاقي الـ Passport بتاعي دلوقتي .
السيدة كوثر : انت هتسافر يا ادهم !
فنظر إليها وقال : ايوا... عندي شغل مهم برا مصر وطيارتي بعد ساعتين من دلوقتي... علشان كدا ارجوكي يا ماما سيبيني اجهز نفسي .
فتنهدت السيدة كوثر وقالت : طيب يا حبيبي...طريق السلامة وخلي بالك من نفسك .
ادهم : ان شاء الله.
ثم نظرت السيدة كوثر الى امينه وقالت : يلا يا امينه.. خلينا ننزل.
امينه : حاضر يا ست هانم..
وما هي الا دقيقة قد مرت حتى وجد ادهم جواز سفره فوضعه في جيب سترته ثم توجه نحو خزانته واخرج منها حقيبة سفر صغيرة ؛ بدأ يضع فيها بعض الملابس ومن ثم خرج من غرفته وهو يجرها متوجهاً إلى الاسفل.... فنزل وخرج من المنزل مجدداً وصادف سمير في طريقه فاستوقفه قائلاً : سمير اجري وجهز العربيه علشان توصلني المطار.
قال ذلك ثم القى عليه مفاتيح السيارة فالتقطها سمير وقال : حاضر يا بيه.
- قال ذلك وصعد في سيارة ادهم وشغل المحرك ؛ اما هذا الاخير فوضع حقيبته في صندوق السيارة وصعد بجانبه قائلاً : يلا بينا.
بعد ساعة ونصف ...
كان ادهم جالساً في المطار ينتظر موعد رحلته بفارغ الصبر وهو يهز قدمه بأستمرار دليلاً على نفاذ صبره ويحدق كل خمس دقائق في ساعة يده والتوتر كان واضحاً على وجهه... لقد سمع صوتها... اخيراً وبعد ثلاثة اشهر استطاع ان يسمع صوتها العذب وها هي الان قد اتصلت به بملئ إرادتها وطلبت ان تقابله مما جعله يشعر بالخوف قليلاً من السبب الذي جعلها تتصل به فجأة ، فاخذت التساؤلات والافكار تدور في رأسه مسببه له صداع نصفي ولكن بغض النّظر عن ذلك لقد كان سعيد... سعيد لانه سيراها اخيراً بعد كل ذلك العذاب الذي تحمله في بعدها فاخذ يفكر كيف سيتصرف عندما يقابلها ؛ هل يأخذها في حضنه ويخبرها انه يحبها ام يركع على ركبته ويطلب منها ان تسامحه لانه جرحها كثيراً ؟
وبعد تلك الحرب النفسية نهض عندما سمع نداء رحلته فتوجه نحو البوابة وهو يحمل حقيبته... وبعد الإجراءات القانونية صعد على متن الطائرة وجلس في درجة الـ VIP حيث كان مقعده ؛ بعد عدة ساعات وصل إلى نيويورك في الصباح فخرج من المطار وهو لا يعلم اين سيقابل مريم... اما هي فكانت تحاول الاتصال به مراراً لكن هاتفه كان مقفلاً لذا عرفت انه على متن الطائرة فقررت ان تتصل به في الصباح حين يصل ...وبالفعل فعلت ذلك فأجابها فوراً وهو يحاول ايقاف سيارة أجرة وسألته : انت وصلت مش كدا ؟
اجابها : ايوا... اديني عنوانك علشان اقدر اوصلك.
قالت : لأ احنا هنتقابل في محطّة غراند سنتر كمان ساعة.
ادهم : طيب...هقابلك هناك.
مريم : تمام.
قالت ذلك ثم اغلقت الهاتف ونظرت إلى نفسها بالمرآة التي في غرفة نومها حيث كانت تجهز نفسها للخروج من المنزل بعد ان اخذت إجازة من العمل لكي تقابل ادهم... اخذت نفساً عميقاً ووضعت يدها على بطنها وقالت : متقلقش يا ابني... انا عارفه ان دا احسن حل لينا كلنا وبكدا انت هترتاح وانا كمان.
ثم حملت حقيبتها وارتدت معطفها وخرجت من الغرفة فصادفت الهام التي عادت من زيارة بيت عمها وسألتها : انتي رجعتي امتى يا لولو ؟
الهام : من شويه... انتي رايحه الشغل ؟
مريم : لا انا خذت إجازه النهاردة... لان عندي معاد عند الدكتورة.
الهام : تحبي اروح معاكي ؟
مريم : ملوش لازمة...يلا سلام دلوقتي.
الهام : سلام.
- ثم خرجت مريم من الشقة اما الهام فتنهدت وقالت : وانا هروح اجهز نفسي عشان انزل الشغل بقى .
قالت ذلك ثم دخلت إلى غرفتها وفي الوقت ذاته اوقفت مريم سيارة أجرة وطلبت من السائق ان يوصلها إلى محطّة غراند سنتر حيث ستقابل ادهم ؛ وبعد مرور اربعين دقيقة تقريباً اخرجت هاتفها واتصلت به فأجابها بسرعة : انتي فين ؟
قالت : انا وصلت من شوية وهتلاقيني في قاعة الانتظار اللي جنب المترو....هتعرف توصلها ؟
ادهم : ايوا.. انا جنبها دلوقتي .
مريم : انا لابسه مانطو ابيض وقاعدة في الكوفي شوب اللي هناك.
ادهم : تمام... ثواني وهكون عندك.
قال ذلك ثم اغلق هاتفه وركض نحو المقهى حيث كانت هي جالسة ، وعندما وصل توقف عن الركض حين رآها من بعيد تتلفت حولها فبدأت نبضات قلبه تتسارع وكأن احدهم حقنه بـِ الأدرينالين ؛ اخذ يمشي ببطء شديد وهو يضغط بيده على مقبض حقيبته التي كان يحملها وسرعان ما وقف خلفها وقال بصوت حنون : مريم ...
اما هي فشعرت بقلبها يهوي بعد سماعه ينطق باسمها بصوته الذي حرك بركان من المشاعر بداخلها فاغمضت عيناها بشدة وابتلعت ريقها ثم نهضت والتفتت اليه ببطء شديد حتى اصبحت تنظر إليه مباشرةً ... وقفا يحدقان ببعضهما البعض بصمت رهيب لمدة من الزمن وسرعان ما رمى ادهم حقيبته ارضاً واراد ان يعانقها ولكنها عادت بخطواتها الى الوراء مما جعله يتجمد في مكانه ... فوقف يحدق بها بصمت وهي تحني رأسها كما ان شيئاً في داخله قد تحطم بعد تصرفها ذاك إذ انها اظهرت له عدم رغبتها في ان يلمسها ابداً ، لذا عاد خطوتين للوراء وهو يضغط على قبضته وسألها بنبرة آلم : ازيك ؟
رفعت رأسها بعد ان سيطرت على نفسها حتى لا تضعف امامه ومنعت دموعها من النزول ونظرت اليه بنظرة واثقة ثم قالت بصوت يخلو من العواطف : الحمد لله... وحضرتك ؟
اجابها بصوته المخنوق : انا... بقيت كويس دلوقتي .
فابتلعت ريقها واشاحت بنظرها عنه لثانية ثم عادت ونظرت اليه وقالت بنفس الجفاء : اتفضل خلينا نقعد .
ثم جلست اولاً اما هو ازداد آلمه لانها تعامله بجفاء وبطريقة رسمية ، فمرر اصابعه بين خصلات شعره وسار قليلاً حتى جلس على الكرسي الذي امامها بصمت فنظرت اليه وقالت : انا اسفه لاني طلبت من حضرتك انك تيجي هنا بس كان غصب عني لاني مقدرش اسيب البلد دي دلوقتي.
نظر اليها وفي داخله بركان يشتعل ولكنه سيطر على نفسه وقال بهدوء : اكيد عايزه تقولي حاجة مهمة والا مكنتيش طلبتي مني اقطع المسافة دي كلها .
فاخذت مريم تضغط بيدها على سلسلة حقيبتها التي في حضنها من شدة التوتر دون ان يراها ادهم ولكنها قالت بصوت عادي : ايوا.
ادهم : اتفضلي... انا بسمعك .
فنظرت الى عيناه اللتان لطالما عشقتهما وسرحت في سوادهما الحالك لثواني معدودة كما فعل هو المثل ثم قالت دون مقدمات : طلقني .
في تلك اللحظة اغمض ادهم عيناه بألم ظهر على ملامح وجهه وكأنه كان يتوقع ان تطلب منه ذلك... كيف لن يتوقع وقد عبرت عن نفورها منه بطريقة مباشرة حين عادت للخلف عندما اراد ان يعانقها ؟
ذلك التصرف اكد له انها لا ترغب به ابداً وانها لا تريد ان يقترب منها مجدداً فنظر اليها بعيونه التي تحولت إلى جمرات ولكنه لم يقل اي شيء بل اشاح بنظره عنها مما جعلها تشعر بالرعب من ردة فعله فقالت باصرار : انا طلبت منك تيجي هنا علشان نحل المسألة العالقة بينا ... اظن ان كفايه لحد كدا والمفروض انك تتطلقني من زمان زي ما قولت بس...
فقاطعها بصوته البارد والذي يدب الرعب في النفوس عندما سألها : ليه عايزاني اطلقك يا مريم ؟
ارتبكت وقالت بتلعثم : علشان... علشان...
ادهم : علشان ايه ، اتكلمي.
فاخذت نفساً عميقاً ونظرت اليه بنظرة قوية ثم قالت بثقة ودون تفكير : علشان انا بحب واحد تاني وعايزه اتجوزه بس مش هينفع اعمل كدا لو فضلت على ذمتك ... وطلبت منك تيجي هنا علشان تطلقني.
- بعد قولها ذاك شعر ادهم بقلبه قد تحطم تماماً فهي اصابته في الصميم بقولها لتلك الكلمات ولو انها قتلته او خسر كل ثروته لكان اهون عليه من سماعها تطلب منه الطلاق لكي تتزوج من غيره.. كيف سيتركها لغيره وهي التي اسرته بهواها وجعلته شبه الميت في جسد بارد طوال الفترة التي ابتعدت عنه فيها فسألها بصوت مرتجف وبعدم تصديق : عايزه تتجوزي واحد تاني ؟!
فقالت بنفس النبرة القوية : ايوا.. عايزه اتجوز الراجل اللي بحبه ...علشان كدا طلقني.
ضرب ادهم الطاولة بكل قوة مما جعلها تفزع وقد استيقظ الوحش الذي في داخله فقال بنبرة اشبه بفحيح الثعابين : وحبيبك دا اللي عايزة تتجوزيه يعرف انك بعتي نفسك علشان الفلوس وسبتيني اعمل فيكي كل اللي انا عايزه ؟
- لقد شعر بالإهانة والخيانة فأراد ان ينتقم منها لذا قال لها ذلك الكلام الجارح وهو يعلم بأنها سلمته نفسها من اجل انقاذ اختها ولكن كبريائه لم يتحمل ما سمعه منها وانها تحب غيره ؛ استفزها بما قاله فادمعت عينيها بعد ان جرحها مرة اخرى بكلامه الذي نزل عليها كالسم فلم تستطيع منع نفسها عن البكاء لذا ذرفت الدموع وقالت بصوت مقهور مليئ بالإصرار : ايوا ...هو يعرف عني كل حاجة زي ما انا اعرف عنه كل حاجة ، ولأننا بنحب بعض عايزين نتجوز بس في مشكلة وحده واقفه في طريق سعادتنا واللي هي حضرتك يا استاذ يا محترم.
وبعد ان ردت له الصاع صاعين بقولها لتلك الكلمات الجارحة اكثر من حد السيف والتي جعلت الغضب يأكل قلبه اظافت بعصبية : وبعدين احنا اتفقنا انك تتجوزني ليوم واحد وبعدها هتطلقني بس محصلش كدا وكمان انا رجعتلك فلوسك يعني مفضلش في حاجة ممكن تمنعك انك تطلقني وتسيبني اشوف حياتي بقى لاني زهقت من الحكاية دي وعايزه استقر هنا .
فنظر اليها بنظرة واحدة ولكنها تحوي على معاني كثيرة... منها الشعور بالألم والخيانة العظمى والحزن الشديد والغضب المدمر الذي اعمى بصيرته ، بعدها اغمض عيناه وتنفس بعمق وبعد ان استعاد رباطة جأشه نظر اليها مجدداً بعيونه الحادة بصمت طويل مما جعلها تحني رأسها بارتباك ثم قال اخيراً بنبرة هادئة : انتي طالق.
قال ذلك وانتصب واقفاً ثم حمل حقيبته عن الارض وسار بها بعيداً دون ان ينظر اليها مجدداً ًوقد سمح لدموعه التي حبسها كثيراً ان تنزل... فنزلت واحرقت وجنتيه ، اما هي فكانت ما تزال جالسة في مكانها وقد شعرت بأن روحها فارقتها بعد تلك الكلمة الصغيرة التي القاها على مسمعها " طالق " كلمة صغيرة مكونة من اربع حروف ولكن تأثيرها كان اقوى مما تتصور.... لقد شعرت بالفراغ فوراً بعد ان طلقها وغادر بتلك البساطة وكأنه لم يأتي اساساً... وسرعان ما نزلت دموعها مثل زخات المطر ولا تعلم لما اتاها احساس الندم الشديد لانها طلبت منه ان يطلقها بعد ان رأت في عيناه مشاعراً صادقة تجاهها وكان على استعداد بأن يغير مجرى الأمور لو سمحت له بمعانقتها... ولكن كيف تفعل ذلك وقد عزمت امرها لكي تنساه وتخرجه من حياتها الى الابد ؟
حتى بعدما كذبت عليه بقولها انها ستتزوج من غيره كانت على يقين انه لن يصدقها ابداً ولكنه خيب املها وصدق تلك الكذبة التي دمرت كل شيء... تلك الكذية التي ندمت عليها اشد الندم وتمنت لو ان لسانها شل عن الحركة قبل ان تنطق بها ؛ اما هو فكان يسير في شوارع نيويورك بخطوات ثقيلة وهو يحمل حقيبة ملابسه والدموع لا تفارق عيناه...فبعد ان وجد شعاع الأمل وقطع مسافات طويلة لكي يلتقي بها انتهى به المطاف بأن يتركها مجدداً ولكنه طلقها هذه المرة وقتل برعم الحب الذي كان من الممكن ان يمنحها ايه حتى دون ان يعرف انها حامل بأبنه وكما يقول المثل تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وهو سفينته قد غرقت في بحر حبها وقد جرحته اكثر من ميرا نفسها عندما قالت انها تحب غيره وتريد الزواج ولكنه يقف عقبة في طريق سعادتها هي وحبيبها الوهمي .
احتقر نفسه كثيراً لدرجة جعلته يشعر بالاشمئزاز لأنه سمح لفتاة تصغره بعشر سنوات ان تفقده عقله وتأسره بمثل هذه الطريقة المخزية حيث انه نسي من يكون وكم هو شخصية مهمة وكثيرون من يرتعبون لمجرد سماع اسمه.. فنظر الى المحيط وقال بنبرة صوت يملؤها الغضب الممزوج بالألم : خلاص يا ادهم ؛ هي عايزه كدا يبقى سيبها تغور في ستين داهية ومش انت اللي تجري ورا وحده ست اختارت انها تبعد عنك علشان واحد تاني.. اساساً كان لازم تتعلم من غلطتك الأولى وتقفل قلبك ومتسبش اي حد يهزك.
ثم سالت دمعة ملتهبة على خده الأيمن عندما قال بنبرة حاسمه : هنساكي يا مريم... هنساكي وهقفل قلبي علشان مايحبش حد تاني... هنساكي يا اجمل غلطة حصلتلي.
قال ذلك ثم مسح دمعته الخائنة وقرر العودة إلى موطنه بأسرع مايمكن حتى لا يغدر به قلبه ويحرضه على العودة اليها عندها سيخسر كل ما تبقى له من كرامة... فتوجه نحو المطار دون ان يستريح او يبدل ملابسه وحجز تذكرة عودة إلى مصر...اما هي فنهضت من مكانها بعد نوبة بكاء عاصفة وقررت العودة إلى شقتها لكي تنام قليلاً وتريح جسدها الذي انهكه الحزن وبعدها ستخبر صديقتها الهام بكل ما حدث معها لعلها تخفف عنها .
- وهكذا مرت اربع سنوات وخمسة أشهر حدث خلالها كثير من الامور والتغيرات التي طرأت على ابطال هذه الحكاية .. فأصبحت مريم في سن الخامسة والعشرين كما انها اصبحت ام لطفل صغير يبلغ من العمر اربعة اعوام وكان شديد الجمال ولطيف للغاية واسمته " ادهم " فكان بالنسبة لها الحياة التي تعيش من اجلها والامل الذي ضاع منها وقد عاد مجدداً حيث انها كانت ترى فيه صورة ابيه " ادهم عزام السيوفي " الذي لم تراه منذ اخر لقاء لهما عندما طلقها وغادر بصمت فقررت ان تسمي ابنهما ادهم لكي يذكرها بحبيبها الوحيد .
وخلال هذه السنوات القليلة الماضية اصبحت ماهرة في عملها في شركة خالد نجم الذي عينها لتصبح مديرة قسم المحاسبة ووقف الى جانبها وقفة الاخ الاكبر الذي لم تلده امها حيث ساعدها هو وصديقتها الهام بالاعتناء بطفلها الذي بعث البهجة والسرور في حياتها البائسة واستطاع ببسمته العذبة ان يمحو جزء كبير من الحزن الذي استوطن في قلبها ؛ اما الهام فقد مرت عليها هذه السنوات الاربع بالتنقل ما بين نيويورك والقاهرة فهي كانت تزور عائلتها شهراً كاملاً كل سنة لكي تشبع من رؤيتهم كما ان حبها لخالد كان يكبر كل يوم في قلبها بالرغم من حزنها عندما اخبرتها مريم انه اعترف لها ولكنها استطاعت ان تتقبل الأمر بعدما علمت انه قرر ان يدفن مشاعر الحب التي يكنها لصديقتها في قلبه وذلك ما اعطاها أملاً في ان ينظر اليها ذات يوم ويعتبرها حبيبة اكثر من كونها صديقة وفيه وصادقه.
اما هو { خالد } فبلغ من العمر اثنان وثلاثون عاماً وخلال تلك السنوات استطاع وبكل جدارة ان يكبر في الوسط الاقتصادي واصبح من اكبر التجار وافتتح فرع من شركته في موطنه الأصلي " مصر الحبيبة " بعد ان كان كل عمله في الخارج ، كان يعتبر مريم وابنها ادهم وصديقتها الهام جزء من عائلته حيث كان يهتم بهم ويحميهم كما لو كان هو المسؤول عنهم بالإضافة إلى ان عمته سحر كانت تحبهم ايضاً وقد اخبرها قلبها ان الهام تكن لأبن اخيها مشاعراً من نوع خاص وذلك كان واضحاً وضوح الشمس في نظرها .
وفي مصر .....
- فاصبحت رغد في سن الـ 26 كما واصبحت محامية بارعة تدافع عن المظلومين ولا تصمت عن قول الحق ابداً... وخلال تلك الاربع سنوات عاشت قصة حب لطيفة مع ابن خالها كمال البالغ من العمر 33 عاماً والذي كان ينتظر حتى تتخرج لكي يتقدم لخطبتها وبالفعل طلب يدها وتزوجا بعد شهر من تخرجها .. وبالنسبة لشقيقها الثاني معاذ ذو الـ 31 ربيعاً فكانت شهرته تزداد يوماً بعد يوم حيث انه اصبح من اشهر الأطباء في البلاد كلها كما اصبحت زوجته سلوى في سن الثلاثين وكانت شهرتها لا تقل عن شهرة زوجها لانها طبيبة بارعة ايضاً ، ولكن بالرغم من شهرتهما وغنى عائلتهما الا انهما كانا غير سعيدين لانهما تزوجا منذ 6 سنوات ولم يرزقا بطفل واحد على الاقل....وذلك أوجع قلب سلوى التي كانت تلح على زوجها معاذ بأن يتزوج عليها ان شاء من اجل الحصول على طفل ولكنه كان رافضاً تماماً لتلك الفكرة لانه يحبها كثيراً وقد اوكل امرهما الى الله تعالى على امل ان يرزقهما بطفل ذات يوم .
ولهذا السبب كانت السيدة كوثر تقلق على مستقبل العائلة فهي لا تمتلك وريثاً يحافظ على اسم آل السيوفي وقد قطعت الامل من ان تزوج ابنها معاذ مجدداً لانها وجدت انه من الظلم فعل ذلك واجباره على جرح مشاعر زوجته التي كانت كالجوهرة في قصرهم ومحبه للجميع وتستحق كل خير ؛ لذا قررت ان تعكر صفو حياة شخصاً آخر بفكرة الزواج هذه من اجل الحصول على وريث وهذا الشخص هو ابنها الاكبر " ادهم " الذي اصبح في سن الخامسة والثلاثين ووصلت شهرته لدرجة ان اكبر التجار ورجال الأعمال كانوا يخشون اغضابه .
لقد اصبح خلال الاربع سنوات الماضية امبراطور الاقتصاد والتجارة الألكترونية بعد ان كان لقبه ملكاً في ذلك المجال وازدادت ثروته بشكل مرعب وكان الناس يحسبون له مليون حساب والجميع يتمنون ارضائه ولا احد يجرؤ على ازعاجه بسبب مزاجه المتقلب ، كان بارد لدرجة ان من ينظر اليه يشعر بالنقص والعجز وإذا صمت جللّه الوقار , وإن تكلَّم سماه و علاه البهاءُ ، وبالرغم من ذلك كان دائماً عصبي المزاج كما لو انه قنبلة نووية من الممكن ان تنفجر في اي لحظة وتدمر كل من حولها وقد اصبح هكذا بعد اخر لقاء له مع معشوقته " مريم " التي سببت له جرحاً عميقاً في قلبه عندما طلقها وغادر بصمت وقرر ان ينساها... ولكن كيف ينسى من كانت السبب في جنونه ؟
كيف ينسى من كانت السبب في ان يستيقظ الشاعر النائم في داخله ليخط لها اجمل القصائد ؛ كيف ينسى من أسرته بمحراب عينيها وجعلته يذوق طعم الهزيمة لأول مرة .. كيف ينسى من اصبح حبها متأصلاً في قلبه كما لو كان جزء منه والتي ضحت بنفسها من اجل انقاذ اختها ، كيف ينساها وهو يراها كل يوم في احلامه ويتألم كل يوم لانه تركها تذهب لغيره كما ادعت ؛ كيف ينساها وقد اصبح مهووس بها ورائحة عطرها الساحرة لا تفارق انفه ومخيلته لدرجة انه يأخذ حبوباً منومة كل لليلة لكي ينام ؟؟!
وبالرغم من عذاب الأشتياق والحب الذي كان يشعر به الا ان كبريائه منعه من العودة اليها مجدداً... فهي قد اختارت حياتها لذا قرر ان يعيش على ذكراها واقسم ان لا يحب بعدها وان لا يتزوج غيرها فهي حبيبته الأبدية حتى بالرغم من بعدها الا انها تسكن قلبه وبين ضلوعه ، وقلادتها الفضية كانت تحاوط عنقه طوال اربع سنوات ولم ينزعها ولو ليوم واحد لكي يذكر نفسه بأخر لقاء وكيف اصبحت غريبة عنه بعد ان نطق كلمة صغيرة كانت السبب في عذابه كل هذه السنوات.
وذات يوم....
كان يجهز نفسه في غرفة نومه لكي يذهب إلى الشركة كالعادة وكان في غاية الوسامة خصوصاً بعد ان نمى له شاربين وخسر بعض من وزنه فاصبحت هيبته الرجولية واضحة وضوح الشمس ، وبينما كان يعقد ربطة عنقه سمع قرع على باب غرفته فقال بصوته الوقور : اتفضل.
فدخلت امه الى الغرفة وهي تبتسم ابتسامة ذات مغزى وتحمل في يدها مغلفاً ...وعندما رآها في المرآة تنهد وكأنه يعرف لما اتت واردف بتوسل : ارجوكي يا ماما ما تحاوليش لاني زهقت من الموضوع دا.
اقتربت السيدة كوثر منه وقالت بغنج وهي تعقد له ربطة عنقه : انت بص على الصور الاول وأكيد العروسة المرة دي هتعجبك... انا متأكدة وخصوصاً لانها من عيلة محترمة جداً.
ابعد يديها عنه بلطف وامسك سترته واخذ يرتديها قائلاً : قولت لك مليون مرة مش عايز اتجوز يا ماما ... ارجوكي بلاش تلحي عليا لاني مش هغير رأيي ابداً .
قال ذلك ثم امسك هاتفه وحقيبة عمله التي تحتوي على حاسوبه المحمول ثم خرج وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة وكان من الواضح انه منزعج... اما امه فوقفت تحدق بظهره وهو ينزل السلالم وقالت محدثة نفسها : والله ما هسيبك يا ادهم غير اما اجوزك وبكرا هتشوف.
- نزل ادهم وخرج من المنزل دون ان يتناول الفطور لانه فقد شهيته بسبب ازعاج امه المستمر بشأن تزويجه فهي كانت تحضر له كل يوم صور لفتاة مختلفة ولا تعلم انه قطع على نفسه وعداً واقسم بأن لا يلمس أمرأة اخرى بعد مريم ، فخرج الى الحديقة حيث كان سائقه الخاص سمير ابن العم محمود ينتظره فقال له بنبرة جافة خاليه من التعابير : جهز العربيه يا سمير.
سمير : حاضر يا فندم.
قال ذلك ثم ركض نحو السيارة وصعد بها اما ادهم فوضع نظارته الشمسية الداكنة لتحجب نور الشمس عن عيناه وبعدها سار حتى وصل الى موقف السيارات فقام سمير بفتح باب السيارة الخلفي له ؛ صعد بالفعل ثم اخرج حاسوبه المحمول من الحقيبة وبدأ يراجع بعض الاعمال بينما كان الشاب يقود بهدوء ويستمع للأغاني الهادئة ... وبينما كان يعمل على الحاسوب تسللت الى مسامعه كلمات اغنية اثرت به مما جعله يطبق الشاشة وينظر من خلال نافذة السيارة بصمت من تحت نظارته الداكنه.
وكانت الاغنية كالتالي :
نصيبي اعيش عشانك يروووح قلبي لمكانك و اشوفك من بعيد
في ناس كتير معايا كل مناهم رضااااايا و برضوا.. بعيش وحيد
حبيبي ارجع تعالا أنا دبّت من الغياب
بعدك فرحي استحااااالة ارحمني من العذااااااب
*****
قوللي بعد حبك اااااايه يا غاااالي
غير جراااااح .... و ااااآه فوق احتمالي
غبت عني ليه ؟ رحت مني ليه؟
السنين علّيا تفوت و لسّه حبي ليك بيزيد !
وعمري ما انسى معقول أنسى إااااايه ؟ ؟ ؟
*****
اللي روحي فيه حبيبي يحرم علّيا بعدك تفرح عنّيا
مهما يطووووول الزمان.. لو كان نصيبي بعدك
برضوا حتفضل لوحدك حبيبي الجاي و كان
حبيبي ارجع تعااالا أنا دبّت من الغياب
بعدك فرحي استحااالة ارحمني من العذاااب
*****
- وبعد ان سمع تلك الاغنية شعر وكأن كلماتها كُتبت من اجله هو... لكي تعبر عن اشتياقه ومعاناته بسبب بعد حبيبته عنه فنزلت دمعة متمردة من عيناه و تدحرجت على خده الايمن من تحت النظارة السوداء وهو ينظر من خلال النافذة بصمت رهيب وكأنه عبر المحيطات بتفكيره وذهب إلى مكان آخر ولكن ليس لوقت طويل فقد ايقظه صوت سمير عندما قال : احنا وصلنا الشركة يا فندم.
رفع ادهم يده ومسح اثار دمعته التي تسللت من سجنها ثم وضع حاسوبه في حقيبته ونزل من السيارة بعد ان قام سمير بفتح الباب له ؛ سار بكل شموخ حتى دخل الى ردهة الشركة حيث قام الموظفين بتحيته وبعدها توجه إلى مكتبه في الطابق الاخير فنهضت سلمى عندما رأته وقالت : صباح الخير يا فندم.
أجابها بجمود : صباح النور.
ثم دخل إلى مكتبه واغلق الباب ، اما هي فتنهدت وقالت : نفسي اشوفك بتضحك مرة وحده ، دايماً عابس ومكشر بس مز اوي يا بختها اللي هتتجوزك .
قالت اخر كلمة وهي تبتسم ببلاهة فسمعت صوت يقول لها : اوعي يسمعك يا سلمى لحسن هتروحي في ستين داهية.
انتفضت الفتاة من مكانها مثل الحمقاء والتفتت الى صاحب الصوت ويا ليتها لم تفعل فقالت بتوتر شديد : ا.. انا اسفه يا كمال بيه انا بس كنت ....
ضحك كمال واردف : خلاص ولا يهمك ، اعتبري اني مسمعتش حاجة بس خلي بالك علشان هو ميسمعش.
قال ذلك ورسم على محياه ابتسامة لطيفة ثم توجه نحو مكتب ادهم وطرق الباب مرة واحده وبعدها دخل.. اما سلمى تمنت لو ان الارض تنشق وتبتلعها لانها تفوهت بكلام تافه امام كمال الذي يعتبر اهم شخص في الشركة بعد ادهم لذا ضربت فمها وقالت بتذمر : الله يخرب بيت ام لسانك يا سلمى.. ضروري تقولي الكلام دا وانتي عارفه انك مش لوحدك في الشركة دي وان ممكن اي حد يسمعك !
وفي نفس الوقت داخل مكتب ادهم ......
كان هو واقفاً ينظر من خلال نافذة مكتبه العملاقة على الشوارع والسيارات بينما كان يدخن سيجارة بصمت مرعب... فدخل كمال وقال بصوت مرح : ايه يا عم.. انت ابتديت تدخين من الصبح كدا ؟؟
التفت إليه وقال : اهلاً يا كمال... عملت ايه في موضوع شراكتنا احنا وصاحبك الامريكي دا ؟
جلس كمال ووضع قدم فوق الاخرى قائلاً : كل حاجة جاهزه ومفضلش غير اننا نسافر علشان نوقع العقد مع خالد.
فجلس ادهم ايضاً ثم اطفأ سيجارته وسأل : انت متأكد اننا نقدر نثق في الراجل دا ؟
ابتسم كمال وقال : متقلقش ، خالد نجم دا راجل كويس وانا اعرفه من ايام الجامعة... صح هو اصغر مني بسنه وحده وعاش معظم وقته برا مصر بس تقدر تقول انه راجل عنده خبره كبيرة في مجال التجارة وكمان هو بنى شركته بنفسه زيك بالزبط لان بباه كان مهندس معماري ومكانش بيفهم في ادارة الاعمال ابداً .
فاسند ادهم ظهره الى الكرسي وكتف ذراعيه ثم قال : ما دام انت اللي بتقول كدا انا هثق فيه لاني عارف انك دايماً بتختار الصح.
كمال : متشكر وان شاء الله هبقى عند حسن ظنك فيا .
ادهم : وامتى هنسافر ؟
كمال : بعد بكرا... هنروح شركته اللي في نيويورك.
في تلك اللحظة شعر ادهم بغصة في قلبه لانه تذكر اخر تجربة له في نيويورك حين طلق مريم قبل اربعة سنوات وخمسة اشهر فعبس وجهه وقال : نيويورك !
كمال : ايوا...شركته الاساسية هناك وهو بيعقد كل الصفقات المهة في الفرع الرئيسي بتاع الشركة.
فتنهد ادهم وقال : تمام .
- مر الوقت سريعاً وجاء موعد سفرهما ومعهما مدير قسم المالية محمود ياسين البالغ من العمر 29 عاماً والذي كان زميل مريم في السابق ، فهو عمل بجد حتى ترقى من مبرمج ومصمم مواقع اليكترونية واصبح مدير قسم المالية في شركة رويال ، فذهبوا ثلاثتهم الى نيويورك من اجل اتمام الصفقة مع خالد .
وفي الجهة الاخرى لم تكن مريم تعلم من هو العميل الذي سيوقعون معه عقد شراكة الا انها كانت تعرف بأنه رجل اعمال مصري شهير كما أنها لم تكبد نفسها عناء الاستفسار عن هذا العميل المصري حيث كانت واثقة من قرارات صديقها خالد وانه لا يفعل شيئاً دون ان يتأكد من نسبة النجاح الكبيرة التي ستؤثر ايجاباً على شركته.
وعندما وصل كل من ادهم وكمال ومحمود الى نيويورك.... كانت تنتظرهم سيارة ليموزين امام المطار وكان سائقها ديمتري مساعد خالد الخاص فتكلم معهم باللغة الإنجليزية قائلاً : مرحباً بكم في نيويورك... لقد ارسلني السيد خالد لكي اصطحبكم الى الفندق.
فابتسم كمال وقال : شكراً لك.
ثم التفت إلى ادهم واستطرد : شايف... اهو خالد راجل بيفهم وبعت المساعد بتاعه علشان يوصلنا .
ادهم : وانا قلت حاجة ؟
ثم صعدوا في السيارة واخذهم ديميتري الى واحد من اشهر الفنادق الكبرى في نيويورك وكان قريب من شركة خالد ؛ اما في الشركة فكانت مريم جالسة مع الهام في الكافتيريا وقالت الاخيرة : ماما كلمتني من شويه وبعتتلك سلام.
فابتسم مريم وقالت : الله يسلمك ويسلمها...اخبارها ايه ؟
الهام : هتموت وتجوزني.
ضحكت مريم واردفت : واكيد متعرفش انك بتحبي خالد مش كدا ؟
فتنهدت الهام بضيق وغمفمت : لأ متعرفش اصلي مقلتش لحد غيرك عن الموضوع دا.
امسكت مريم بيدها قائلة : اسمعي مني يا لولو وصارحي خالد بمشاعرك... انتي بقالك اربع سنين بتحبيه وعمره ما هيلاقي وحده احسن منك.
الهام : وانا قولتلك مليون مرة اني مستحيل اعمل كدا لو هو محسش بيا الاول.. حتى لو فضلت كل عمري بتعذب كدا مش هقول له اي حاجة .
مريم : انا معاكي ان كرامتك اهم حاجة وان مش لازم انتي اللي تبتدي في اول خطوة بس جايز هو كمان بيحبك وخايف يعترفلك.
فرسمت الهام ابتسامة مريرة على وجهها واردفت بنبرة حزينة : بيحبني ؛ ايوا بيحبني على اني اخته مش اكتر من كدا.
مريم : لا انتي غلطانه يا الهام... خالد عنده اخت وحده واللي هي انا وانما انتي بيعتبرك صديقة كويسه وجدعه وجايز مشاعره اتغيرت ناحيتك وبقي بيحبك مش بس كصديقة .
الهام : وانتي تعرفي منين ؟
ابتسمت مريم واجابت : من نظرته ليكي يا عبيطة.... انا شفت في عينيه نظرة الحب لما بيبصلك وانتي مش واخده بالك ابداً.
شع شعاع الأمل في قلب الهام وابتسمت قائلة : تفتكري ان خالد بيحبني بجد يا ميمي !
مريم : والله انا رأيي انه بيحبك .
في تلك اللحظة سمعن صوت خالد يسألهن : هو مين اللي بيحب مين ؟
أرتبكت الفتيات عندما التفتن ووجدنه واقفاً خلفهن وقالت مريم بتلعثم : ا... دا واحد ساكن في نفس العمارة اللي ساكنين فيها اهل الهام وكان عايز يطلب ايدها من اهلها في مصر وامها اتصلت بيها علشان تقولها ان ابن الجيران اتقدم لها.
فقالت الهام مؤكدة : ايوا..ابن جيرانا.
عقد خالد حاجبيه وسألها بنبرة جدية : وانتي رأيك ياه يا الهام ؟
فنظرت الهام الى مريم التي ابتسمت لها ثم عادت ونظرت إلى خالد وقالت بخجل : انا قولت لماما اني مستحيل اتجوز حد ما بحبوش...وابن جرانا دا انا مابطقهوش خالص.
بعد قولها ذاك تغيرت ملامح وجه خالد ورسم ابتسامة صغيرة على زاوية شفتيه وقال : كويس..
سألته مريم : انت كنت عايز تقول لنا حاجة مش كدا يا خالد ؟
خالد : اه صحيح... انا جيت اقولك ان عندنا اجتماع بكرا مع العميل المصري يا مريم وعايزك تبقي موجودة معانا.
مريم : اوك... متشلش هم.
فابتسم واستطرد قائلاً : اسيبكوا بقى تكملوا حديثكوا عن ابن جيرانك اللي ما بطيقهوش يا الهام ، سلام .
قال ذلك ثم غادر وهو يبتسم فنهضت الهام وعانقت مريم قائلة باندفاع : كان عندك حق يا ميمي.. انا حسيت من طريقة كلامه انه بيحبني كمان.
فابتسمت مريم وقالت : مانا قولتلك.
- ثم مر اليوم بسرعة وجاء اليوم التالي فذهب خالد الى شقة مريم والهام كما يفعل كل صباح لكي يصطحبهن معه الى العمل حيث ان شقتهن كانت على نفس طريق منزله... فصعد الى البناية وطرق الباب وما هي الا دقيقية حتى فتحت له الهام وابتسمت فوراً قائلة : صباح الخير يا خالد.. اتفضل.
فدخل وقال : صباح الفل... هي مريم لسه مجهزتش ؟
تنهدت الهام وقالت : بص بنفسك.
قالت ذلك ثم اشارت الى مريم التي كانت تركض خلف ابنها الصغير في ارجاء الشقة وهي تحمل كأس الحليب وتقول : ادهم ، بقولك تعالى اشرب اللبن فوراً.
فقال الطفل بلكنة مكسرة : مش عايز.. انا ما بحبوش.
قال ذلك ثم ركض نحو خالد واختبأ خلف قدمه قائلاً : خالو.. انا مش عايز اشرب اللبن ارجوك قول لماما تبعده عني .
فضحك خالد ثم حمله قائلاً : لازم تسمع كلام ماما يا ادهم لان اللبن هيخليك تكبر بسرعة.
واقتربت مريم منهم قائلة : والله العظيم الواد دا هيجنني ، كل يوم نفس المشكلة ومش عايز يشرب اللبن ابداً .
فقالت الهام : مش جايز ما بيحبوش فعلاً .
مريم : حتى لو كان مابيحبوش هو لازم يشربه علشان يساعده في النمو زي ما قال الدكتور والا انتي نسيتي انه اتولد قبل أوانه واني بخاف عليه جداً ؟
فقال خالد مخاطب الطفل : اسمع كلام ماما يا ادهم وانا هاخدك علشان افسحك لما ترجع من الروضة يا حبيبي اوك .
فابتسم ادهم الصغير وقال : بجد يا خالو ؛ انا بحبك اوي.
قال ذلك وعانق خالد الذي يعتبره خاله كما اخبرته امه اما هي فتقدمت منهم وانزلته قائلة : مهو بسبب دلعك ودلالك الزايد ليه يا خالد بقى مقرود بالشكل دا.
فضحك خالد وقال : اعمل ايه يا مريم ؛ ابنك حتت سكره ومقدرش ازعله ابداً .
واستطردت الهام : ولو فضلتوا تتكلموا في الموضوع دا احنا هنتأخر على الشغل.
ردت عليها مريم : عندك حق... ادهم يلا تعالى اشرب اللبن بسرعة علشان نمشي.
فاضطر ادهم الصغير بأن يشرب الحليب لان خاله خالد قد وعده بأن ينزهه ان فعل ذلك ومن ثم خرجوا جميعاً من الشقة وصعدوا في السيارة ؛ توجهوا اولاً الى الروضة وبعدها ذهبوا إلى الشركة كما يفعلون كل يوم .
الساعة الثانية بعد الظهر...
حان موعد الاجتماع في شركة خالد فذهب كل من ادهم وكمال ومحمود الى هناك وكانت الهيبة تقطر منهم.. ارشدهم ديمتري الى قاعة الاجتماعات حيث كان رئيسه وبعض الموظفين ينتظرونهم الا مريم التي كانت تجهز بعض الاوراق من اجل اتمام الصفقة ..فقام كمال بتعريف ادهم على خالد وصافحه الاخير قائلاً : شرف كبير اني قابلت حضرتك اخيراً يا ادهم بيه .
فابتسم ادهم ابتسامة رسميه وقال : متشكر يا استاذ خالد.
خالد : اتفضلوا... هنبتدي الاجتماع لما تيجي مساعدتي وهي مش هتتأخر.
لم يكمل جملته حتى اتت مريم بطلتها الأنيقة وقالت : انا اسفة على التأخير يا حضرات.
في تلك اللحظة تفاجئ كل من كمال ومحمود عندما ظهرت امامهم وقال كمال بدون وعي : مريم مراد !
اما ادهم فنهض من مكانه وكان يحدق بها بغير تصديق كما فعلت هي المثل وما هي الا ثواني حتى أوقعت الاوراق من يدها وقالت بصدمة شديدة : ادهم !
يتبع......