رواية لا يليق بك الا العشق الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم سماح نجيب
– " مشاعر و أواصِرُ مهترئة "
ظن أن إبتسامته الساخرة والمتهكمة ، ربما تؤثر بوالده ، والذى لم يكن له والداً يوماً ، سوى أن إسمه وكنيته يترافقان مع إسمه ، ولكن عمرو وجدها فرصة سانحة للمجئ لأخذ بعض النقود من أبيه ، مثلما كان يفعل دائماً دون علم والدته ، التى تظن أن ولدها لايرغب برؤية أبيه ، الذى تخلى عنه منذ زمن طويل ، ولكن كان عمرو أشد ذكاءًا وفطنة من والدته ، إذا حافظ على التواصل مع أبيه ، من خلال بعض الزيارات القصيرة ، التى كانت تقتصر على مجيئه من أجل أخذ المال
وضع فواز يديه بجيبى رداءه المنزلى وهو يقول بإبتسامة متهكمة مثلما فعل ولده منذ دقيقة :
– وحشتك ! جايز المهم عايز كام يا عمرو المرة دى ، أصل كل مرة المبلغ بيختلف على حسب مدة إقامتك فى إسكندرية ، بس الغريب أن أمك مش حاسة ده كله أنك بتجيلى
ضحك عمرو بصوت صاخب فلبث أن قال بعد أن ندت عنه نهدة قلة حيلة مصطنعة :
– أعمل إيه بس يا بابا كل ما أقول مجيش أسكندرية ، ألاقيك وحشنى كده من غير مناسبة ، فبضطر أقول لماما أن مسافر مع أصحابى ، وأجيلك شوفت أنا إبن بار إزاى
غمز بعينيه بوقاحة ، فلم يتعجب فواز من أفعال ولده ، فمن شابه أباه فما ظلم ، فعمرو بإمكانه إدعاء البراءة واللطف وقتما يشاء ، وحتماً يثير أعجاب من حوله ، ويفعل ذلك مع الجميع ...عدا أبيه
تبسم فواز على قوله ، فأقترب منه وحاوط كتفيه بذراعه ، ليجعله يسير بجانبه ، فمن يراهما يظنهما أب وإبن ، عاركا الحياة سوياً بحلوها ومرها ، وليس والد يرى ولده صدفة
رفع فواز يده الأخرى ، وربت على صدر عمرو قائلاً :
–بقولك إيه يا عمرو الشويتين دول تعملهم على أمك مش عليا أنا فهات من الآخر وقول عايز كام ، وأه هو أنت راجع أمريكا أمتى ؟
بأحد راحتيه أزاح ذراع أبيه من حول كتفيه وهو يردد بجفاء :
– لاء شكلى لسه قاعد هنا شوية والصراحة الفلوس اللى كانت معايا خلصت ، وسيبت الفندق اللى كنت قاعد فيه ، فقولت مفيش غير بيت بابا حبيبى اللى أقعد فيه ، أقعد فى الشارع يعنى دا حتى ميصحش يا بابا ، قولتلى هنام فى أى أوضة بقى ، فوق صح ، تصبح على خير
خطى عمرو تجاه حقيبته المنزوية بجوار أحد المقاعد ، فسحبها من مقبضها وجرها خلفه ، ينادى بصوت جهورى على أحد من الخدم ، ليضع له حقيبته بالغرفة التى سيقطنها بمنزل أبيه :
– أى حد ييجى يطلعلى الشنطة منكم
لم يستمع لأمره أحد ، فهم يتلقون الأوامر من سيدهم وصاحب المنزل ، الذى لم يحاول صرف ولده ، بل وجدها فرصة جيدة من وجود أحد معه بالمنزل عدا الخدم
فنادى فواز على إحدى الخادمات ، التى جاءت تهرول من المطبخ ، فأمرها بإيداع حقيبة ولده بإحدى الغرف ، التى تتواجد بكثرة فى هذا المنزل الكبير ، بل أنه آمرها بتحضير الطعام ، وأن تأخذه له ، لكى يتناول طعامه قبل نومه ، فنظر له عمرو من خلف كتفه نظرة ساخرة ، من أنه يحاول أن يكون الأب اللطيف ، الذى يعنيه أمر وشأن ولده الوحيد
– يا سلام عليك وعلى حنيتك يا بابا
قالها عمرو بسخرية وهو يصعد الدرج ، حتى وصل للغرفة التى سيسكنها ، فصرف الخادمة وأغلق الباب ، وأرتمى على الفراش ، فهو لم يأتى لهنا إلا من أجل تعكير صفو مزاج أبيه
سمع رنين هاتفه بإسم زوج والدته ، على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي ، فملأه النفور والإشمئزاز من مجرد رؤية إسمه ، فأغلق الهاتف حتى لا يستمع لرنينه ثانية
– حقير
تمتم بها عمرو وهو يترك الفراش ، لعل إغتساله بالماء البارد ، سيطفئ ذلك اللهيب المشتعل بأوردته ، أخذ ثيابه وولج للمرحاض ، وبعد إنتهاءه خرج وهو يجفف رأسه بالمنشفة ، فخرج للشرفة يتأمل السماء ، الذى لم يرى بها نجمة ولا قمر ، فالسماء معتمة تثير بالنفس الخوف من ذلك الظلام ، الذى لا ينيره سوى مصابيح الإنارة بحديقة المنزل ، فكم تشبه تلك العتمة حياته ، منذ أن نشأ بكنف زوج والدته ، الذى يدعى المثالية والكمال أمام والدته وأمام الجميع ، فمعه هو فالأمر غير ذلك ، فكل تلك الخصال الخبيثة التى يتصف بها ، لم يكتسبها إلا منه
خرج من الشرفة بعد سماعه عدة طرقات على باب الغرفة ، ففتح الباب وجد الخادمة تبتسم له وتحمل بين يديها الطعام ، فأمرها بوضعه بأى مكان وتنصرف ، فبعد خروجها ، أوصد الباب بالمفتاح ، وأقترب من حقيبته ، ومن أحد الجيوب السرية للحقيبة ، أخرج تلك اللفافة الصغيرة ، فتبسم وهو ينظر للمسحوق الأبيض الناعم الذى يطلق عليه " مخدر الهيروين "
– هو ده وقتك دلوقتى
غمغم بعبارته باسماً فوضعه أمامه وأنحنى بجزعه ، وأغلق إحدى طاقتى أنفه ، على أن تعمل الأخرى على إلتهام المسحوق عبر إستنشاقه ، أتسعت إبتسامته التى كانت أشبه بالبلادة ، بعدما شعر بمفعول المخدر يسرى بجسده ، فزفر بقوة وأغمض عينيه بإنتشاء ، فأعاد ما تبقى من المخدر بمكانه ، وأستلقى على الفراش ، يتهيأ للنعاس ، الذى داهم عينيه بسرعة لم يكن يتخيلها ، فهو يظن أن ذلك السم ، الذى يسير بدماءه الآن ، سيوفر له الراحة والهدوء ونسيان ما يزعجه
______________
لم يخفى عاصم إندهاشه من رؤية ذلك الطارق على باب غرفة مكتبه ، فبعد سماعه صوت الطرقات العالية ، كأن القادم يشعر بالضيق من إنتظاره أن يصدر أمراً بالسماح له بالدخول ، وجد عمران ماثلاً أمامه بتعبير وجه مبهم ، لا يعلم هل أتى بخير أم بشر ، خاصة أنه ظل بضع ثوان واقفاً مكانه ، كأنه يخشى الإقتراب ، أو أنه يبحث عن أى كلمات يقولها ، ليبرر بها مجيئه
تبادلا الإثنان النظرات بينهما ، حتى قرر عاصم كسر جمود الصمت ، فرفع يده يشير له بالجلوس قائلاً بهدوء :
– أتفضل يا عمران أقعد ولا هتفضل واقف كده كتير ، خير
خطى عمران خطواته بثبات تجاه ذلك المقعد أمام المكتب الأنيق ، فجلس واضعاً ساق على الأخرى ، بعد أن عمل على حل أزرار سترته
فحدق بعاصم مطولاً ، وراحت الكلمات تنساب من بين شفتيه بكل سهولة ويسر :
– أنا جايلك النهاردة بخصوص موضوع مهم ، وكنت حابب إن إحنا نتكلم فيه بشكل متحضر
أقترب عاصم من حافة المكتب ، وأرتكز بمرفقيه ، وتلاحما كفيه قائلاً بإهتمام لا يخلو من الفضول :
– خير موضوع إيه ده اللى عايزنى فيه
قبل أن يفه عمران بكلمة ، كان عقل عاصم يضع عدة سيناريوهات محتملة لمجيئه ، ولكنه لم يجد أى منهم أكثر واقعية ، سوى أنه ربما جاء من أجل أن يطالبه بحل ميثاق الزواج بينه وبين عمته غزل ، فإن كان هذا مطلبه
فهو يطلب المستحيل !
ولكنه لم يشأ أن يسبقه بالقول ، بل تركه يبدأ بقول ما لديه ، فحمحم عمران قبل أن يقول بهدوء وثقة :
– أنا جايلك النهاردة علشان حابب أن الخلاف اللى بين العيلتين ينتهى وأن نبدأ مع بعض صفحة جديدة ، وبما أنك أكبر منى فأنا جيت لحد عندك ورافع راية السلام زى ما بيقولوا ، وكمان كنت حابب أن النسب بين العيلتين ميتقطعش فزى ما غزل مراتك ولسه على ذمتك ، فأنا حابب أتجوز ميس بنت أختك وحفيدة رياض باشا النعمانى
أصابه حديث ومطلب عمران بصدمةٍ ودهشةٍ عظيمة ، لم يكن يتخيلها ، فما الذى حدث جعله يأتيه مسالماً هكذا ؟ فتلك المرة التى رآه بها ، كان ينتوى قتله ، لولا أن غزل حالت بين وقوع الأمر ، الذى كان حتمياً لولا تدخلها السريع
فرفع عاصم حاجبه الأيسر قائلاً بغرابة:
– تتجوز ميس ! أنت عايز تقنعنى أن مرة واحدة خلاص بقيت حابب أن العيلتين يرجعوا زى زمان لاء وكمان تمد فى النسب
تبسم عمران إبتسامة جانبية ، أعطت ثغره الرجولى طابع السخرية :
– أنت ناسى إن كنت بحب ميس من ساعة ما أتولدت ، دا المفروض أنت أكتر واحد هتحس بيها ، بما أنك أنت كمان حبيت غزل من أول ما أتولدت والظاهر عليك لسه مغرم بيها وعايزها ترجعلك ، فإيه رأيك ميس قصاد غزل
أنتفض عاصم من على مقعده ، بعد سماع الشق الأخير من حديثه ، فتلك ليست مقايضة من أجل العمل ، فإبنة شقيقته ليست متاع يمكن أن يقايضه ، من أجل أهواءه الشخصية
فعقد حاجبيه قائلاً بحدة :
– أنت أتجننت يا عمران جاى تقايضنى على بنت أختى ، ثم أنا لو عايز أخد غزل هاخدها غصب عنك وعن عين أى حد ، أنا بس محترم مشاعرها ومش عايز أضايقها
تطلع إليه عمران بهدوء ، فهو حتماً وضع إحتمال رفضه القاطع لمطلبه ضمن مخططه ، إلا أنه رفع يده ، وأشار له بالجلوس ، ريثما ينتهى من إكمال بقية حديثه
فما لبث أن أخرج عمران ، مظروفاً من جيب سترته الداخلى ، وألقاه أمامه قائلاً بحدة خفيفة:
– قبل ما تزعق وترفض ، بص للصور اللى فى الظرف ده كويس وأنت هتعرف أن عرضى مناسب أوى ليك
جلس عاصم ثانية ، وأخرج الصور وتطلع إليها صورة تلو الأخرى ، فهى عبارة عن صور تم إلتقاطها لميس وهى برفقة نادر ، بعدة أماكن مختلفة ، وصور أخرى لنادر مع شقيقه نصر ، فعاصم يعلم من يكون هو وتلك الشبهات التى تحوم حوله من عمله الغير مشروع ، ولكن لم تدينه الشرطة ، لعدم حصولها على أدلة تثبت تورطه بتلك الأعمال الغير مشروعة
فهتف عاصم بعمران متسائلاً:
– إيه علاقة الدكتور نادر ده بنصر السلمانى
مال عمران للأمام ، وقال بصوت خافت ، كأنه يخشى أن يسمعه أحد أخر ، ولا يفعل ذلك إلا من إجل إغاظة عاصم ، فتبسم قائلاً بدهاء:
–تفتكر يبقى ليه إيه يا عاصم بيه
زفر عاصم من أنفه بضيق ، فهو لا يملك الوقت الكافى ولا الصبر اللازم من أجل مزاحه الثقيل ، فصاح بوجهه :
– إحنا هنلعب مع بعض يا عمران خلص وهات اللى عندك مليش صبر ليك
عاد عمران يجلس بأريحية ، وهو يعبث بثقالة الأوراق بين أصابعه قائلاً كأن الأمر لا يعنيه :
– يبقى أخوه ، وأكيد عارف الشبهات والكلام حوالين نصر السلمانى عاملة إزاى
أنفغر فاه عاصم بعد قول عمران ، فإنشغاله الأيام الماضية بالعمل وبزوجته العنيدة ، جعله متراخياً بالبحث عن حقيقة وأصل ونسب نادر، لعلمه بأن عمه أثناء حديثهما بإحدى المرات ، قد أعلن رفضه القاطع لزواج حفيدته من نادر ، إلا أنه فضل إرجاء إعلان رفضه ، بعد الحصول على الدلائل الكافية التى ستدعم موقفه أمام حفيدته صعبة المراس ، فعمه أصدر قراره بأن يعتنى بالأمر شخصياً ، وأخبر هو رجاله بالبحث ، وكان ينتظر إتيانهم بما طلبه منهم ، ولكن سبقه عمران بتقديم كل ما كان يلزمه من دلائل لفض تلك الزيجة نهائياً
تبسم عمران على رؤية ما أصاب عاصم من دهشة ، فعاد وأكمل حديثه :
– أنا هسيبك تفكر فى العرض اللى قولتهولك وصدقنى دى هتبقى فرصة كويسة أن عيلة النعمانى وعيلة الزناتى يرجعوا زى زمان ، يعنى بنت أختك تتجوزنى ولا تتجوز نادر ومش بس كده دى ممكن كمان تعملها من وراكم ، وأنت شايف الصور أهى ، بس تصدق ميس شاطرة أوى فى تغفيل الحرس بتوعها ، اللى أنصحك تغيرهم ، أصل ملهمش لازمة سلام يا عاصم بيه
نهض عمران من مقعده ، وخرج من غرفة المكتب ، وهو على ثقة تامة ، بأن ما قاله وما فعله بالداخل ، سيجعل عاصم يعيد التفكير بالأمر ثانية ، خاصة بعد أن ترك له تلك الصورة ، التى ستشهد على صحة أقواله ، فهو لم ينسى غضبه ، بعد رؤية صورها وهى جالسة مع ذلك المدعو نادر بتلك الأماكن ،التى كانت شاهدة على مقابلتهما سوياً ، فليتمهل ويصبر قليلاً ، فإذا جاء وقت الحساب ، سيحاسبها على الصغيرة قبل الكبيرة
______________
لن ينتظر دقيقة أخرى ، فليذهب بها لطبيبة نسائية ، ويعلم سبب تقيئها ، الذى لم تكف عنه أحياناً كثيرة ، فعندما أبدى أقتراحه بذهابهما للطبيبة ، أعلنت رفضها بشدة وبإصرار بأنها لن تذهب لأى مكان ، فربما هى أصيبت بإحدى نزلات البرد ، هكذا كانت تخبره ، فهى تخشى الخروج من الشقة والذهاب للطبيبة ،وتعود تحمل من الأنباء ماهى أشد قسوة ، فهى لم ولن تتجاوز تلك الواقعة ، التى مرت بحياتها ، كرياح أقتلعت كل جذور الأمان والاستقرار بنفسها
أمام الخزانة الخشبية ، وقف كرم ينتقى لها ثوباً محتشماً لترتديه ، فهو أصر عليها تلك المرة ، بأن تنهض من فراشها وتنهى إرتداء ثيابها ، ولا يريد منها أعتراضاً أو مناقشة
سحب كرم أحد الأثواب ، وألقاه على طرف الفراش قائلاً بأمر :
– قومى ألبسى هدومك وأنا هستناكى برا ومش عايز أسمع منك رفض تانى يا هند ماشى
خرج من الغرفة ، فدمعت عيناها وهى تضع قدميها أرضاً ، فهى وإن كان هناك أمل نبت بداخلها ، من أن مع مرور مزيد من الوقت ، ربما يغفر لها زلتها ، فالآن ستنطفئ جذوة ذلك الأمل ، الذى كانت تعلم أنه أحد المستحيلات ، بأن كرم سيعطيها الصفح والغفران بكل سهولة
سكن الخواء بداخل عينيها ، وحلت البرودة على أطرافها ، فكانت ترتدى ثيابها بآلية ، كأنها فاقدة للشعور ، فلتنتهى من هذا الأمر أفضل
خرجت من الغرفة وهى تعلن بهدوء ، أنها على أتم الاستعداد لمرافقته :
– خلاص خلصت يا كرم
لو كانت تظن أنها وحدها من تشعر بالخوف فهى مخطئة ، فهو الآخر ، قدميه تسعفه بالوقوف والسير قدر الإمكان ، فرغم إلحاحه على الذهاب للطبيبة ، إلا أنه يخشى الخروج من الشقة ، وتعتصر القسوة قلبه ثانية ، فما ستكون حالته عندما تعلن الطبيبة ، أن هند تحمل طفلاً بأحشاءها ، فسيكون ذلك النبأ كالقشة التى قصمت ظهر البعير
– يلا بينا
قالها كرم وهو يزدرد لعابه ، فإن صح ظنهما الذى تأكل عقلهما سوياً ، فهو لن يعود بها إلا هنا ثانية ، بل سيعيدها لمنزل أبيها ويمنحها الطلاق ، ولينهى تلك القصة التى لن تكون السعادة ضمن سطورها
أدار كرم مقبض الباب ، وما كاد يفتحه حتى يعبر منه للخارج ، حتى وجد سهى تقف على الباب ، مقلتيها ممتلئة بالعبرات ، التى تنذر بالإنسياب على وجنتيها ، تحاول أن تبتسم بمرح ، لم تفلح فى إتقانه ، فدمدم كرم بغرابة :
– سهى ! أنتى...
قبل أن يكمل حديثه ، سمع صيحات الفتيات الأخريات ، اللواتى جئن برفقتها ، وهن يقلن بمرح وإبتسامات :
– مبروك يا مستر كرم على الجواز
يبدو عليهن أنهن جئن من أجل تهنئته بزواجه ، ولكن من أين علمن بالأمر ؟ فتذكر إن إثنتان من الطالبات يقطن بالبناية المجاورة له ، وعلمتا بشأن زواجه
دعاهن للدخول ، فكانت سهى أخرهن ، فوقفت قريباً منه تقول بغصة :
– ألف مبروك يا مستر كرم ، إحنا حبينا نيجى نباركلك أنت والعروسة ، بالرغم أن حضرتك معزمتناش
أرتجفت شفتيه وهو يقول بإبتسامة متوترة :
– أصل معملناش فرح ، أتفضلى يا سهى
لم يكن يعنيها شئ ، سوى رؤية تلك الزوجة ، التى جلبها لمنزله ، وهى من كانت تمنى النفس بوقت ليس بالبعيد بأن تكون هى تلك الزوجة ، فرآت هند جالسة برفقة الفتيات ، بعد أن تناوبن على مصافحتها وتهنئتها
فزوجته أنثى بمعنى الكلمة ، جميلة ورشيقة ومغرية وأنيقة ، وبها كل الصفات التى يحلم بها أى رجل ، فالمقارنة بينهما تكاد تكون مستحيلة ، فهى مازالت طفلة ، بينما زوجته أنثى ناضجة ، تحمل كافة المغريات ، التى بإمكانها سلب عقله
– أهلا بيكم منورين وميرسى على ذوقكم والهدايا اللى جبتوها ، مكنش ليه لزوم تتعبوا نفسكم
أمتنت هند لقدوم هؤلاء الفتيات ، فهى لم تكن تريد الخروج ، فلا تعلم سر رغبتها بأن تقوم بدور الزوجة المضيافة ، فذهبت للمطبخ ، وجلبت حلوى و أكواب عصائر ومشروبات غازية من أجلهن
جلس كرم صامتاً ، ولكن عيناه ترمق سهى من بين الجالسات ، التى تحاول إفتعال المرح والسعادة ، وكأنها ستأتى بين ثانية وأخرى تصرخ بوجهه على ما فعله ، فعلى الرغم من أنه لم يكن الأمر بينهما سوى علاقة معلم بتلميذته ، فهو عندما حاول إعطاء نفسه فرصة بأن يتخلى عن عشقه لإبنة خالته ، والبحث عن حب أخر ، حالت الظروف بين حدوث ذلك
– لما فعلت ذلك ؟
ذلك هو السؤال ، الذى تتحرق سهى لسؤاله إياه ، فلما كان متعجلاً هكذا للزواج من أخرى ؟ فأعينهما أشتد صراع النظرات بينهما ، حتى أثار الأمر إنتباه هند ، فتغضن جبينها وهى ترى تلك الفتاة التى تجلس على طرف الأريكة المجاورة لمقعد كرم الجالس عليه ، لا تحيد بنظرها عنه
فلما هما ينظران هكذا لبعضهما البعض ، فهما ربما يظنان أن لا أحد بإمكانه الانتباه عليهما ، خاصة وسط تلك الضحكات والأسئلة ، التى كانت تطرحها الفتيات على هند ، رغبة منهن فى معرفة من أين تبتاع ثيابها الأنيقة
– كرم
نادته هند بإلحاح ، بلكنة صوتها الناعمة والرقيقة ، فأنتبه عليها ونظر إليها وهو يحاول الابتسام قائلاً بعفوية :
– أيوة يا حبيبتى
بعد سماع سهى كلمته لها ، هبت واقفة وهى تقول بإبتسامة صفراء :
– مبروك مرة تانية ويلا بينا بقى يا بنات مش عايزين نضايق مستر كرم أكتر من كده هو والمدام عن إذنكم
خرجن جميعهن من الشقة ، فوضعت هند يديها بجيبى ثوبها ، تحاول إخفاء إرتجافهما وهى تقول بتساؤل :
– إيه حكاية البنت اللى إسمها سهى دى يا كرم ؟
أدعى كرم الجهل وعدم الفهم وهو يقول:
– تقصدى إيه بكلامك ده يا هند ، سهى طالبة عندى غير كده مفيش
قالت وهى تتبسم بسخرية :
– وهى الطالبة بتغير على أستاذها يا كرم ، دى باين عليها بتحبك اوى
هل هى شديدة الفطنة والذكاء ، لتتمكن من كشف غيرة سهى بتلك السهولة ؟
– وأنا كمان بحبها يا هند ، بس جوازى منك هو اللى بوظ الدنيا ، محبتش أخيب أمل خالتى وجوزها فيا
فالشق الأول من جملته لم يكن إلا كذباً ، فهو لم يستطيع نزع حبها هى من قلبه بعد ، والشق الثانى حمل بعض الواقعية ، من أن حياته صارت رأساً على عقب منذ زواجه منها ، والشق الأخير كان الأصدق والاكثر حقيقة بجملته
شعرت بالسوء من تصريحه المباشر من أنه مغرم بسهى ، فما كان منها ، سوى أن ولجت لغرفتها وأغلقت الباب خلفها ، فأرتمت على الفراش تكتم صوت بكاءها بالوسادة ، فهى كانت تظن أنه لن يعنيها شأنه بيوم من الأيام ، وأنها لن تتخلى عن غرورها وتقع بغرامه ، ولكن لما تشعر الآن بأنها سيئة الحظ ، بل كأنه طعن قلبها بقوله ، فمن يراها سيظن أنها كانت مدله بغرامه منذ الأزل ، فهى لم تصبح له زوجة إلا من أيام قلائل
فهل قلبها كان لديه الوقت الكافى للشعور بالحب ؟ أم أن ما تشعر به لم يكن سوى أنها بالأخير إبنة حواء ، التى لا تريد أى أنثى أخرى تشاركها إبن أدم خاصتها
______________
ساقتها قدميها لذلك المكان القريب من البحر ، الذى أعتادت أن تأتى إليه بصباها ، فتلك الصخرة التى تنظر إليها بإشتياق، كانت الشاهدة على أوقات قضتها جالسة برفقة عاصم ، يمزحان سوياً ويخبرها بعشقه الذى لا حد له ، وليس هذا فقط ، بل نقش إسمهما سوياً عليها ، وكأنها كانت صخرة المحبين ، فتبسمت عندما رآت إثنان يجلسان على تلك الصخرة ، ويضحكان بصوت عالى وهما يعملان على إصطياد بعض الأسماك ، فربما هما زوجان حديثى العهد بالزواج ، فرأتهما يغادران المكان ، ولم يتبقى أحد سواها
تيار الهواء القادم من البحر ، ضرب ثوبها بقوة ، وتناثرت خصيلاتها وغطت عينيها ، فكلما حاولت وضعها خلف أذنيها ، يعود الهواء ويعيث بها ثانية ، فبعد إكتفاءها من الوقوف أمام البحر ورؤية الصخرة قررت العودة ، فأثناء إستدارتها لم تنتبه لذلك الواقف خلفها ربما منذ دقائق ، ولكنه لم يشأ إفساد لحظتها بتأمل البحر
أصطدم رأسها بصدر صلب ، فقبل أن تعى على وضعها ، كان عاصم حاكماً غلق ذراعيه حولها ، رفعت رأسها وهى تحاول فك ذلك الحصار حولها
فقالت بنزق واضح :
– عاصم !
لا يمل من إغضابها ، ولا يمل من رؤية عينيها الملتمعتان كالهرة الغاضبة ، فتبسم بكسل وهو يقول بهمس :
– عيونه
دفعته عنها ، قبل أن يتسرب دفء صوته لحواسها ، وتشعر كالعادة بالضعف والخزى ، من موقفها المتخاذل معه دائماً
فبعد أن أبتعد عنها ، حاولت إلهاء نفسها عن النظر بوجهه ، وهى تعمل على ترتيب شعرها ، فعندما أنفرجت شفتيها تمهيداً لقولها ، عادت وأغلقتها ثانية ، ورأت أنه من الحكمة أن لا تحاول جذب الحديث معه ، فلتتركه وتذهب وسيكون هذا هو الحل الأفضل والأنسب على الإطلاق
ولكن قبل أن تتجاوزه لترحل ، قبض على رسغها بين كفه :
– أنتى راحة فين يا غزل كويس أن لقيتك علشان عايز أتكلم معاكى ، بس كنت فاكر أنك نسيتى المكان ده ، أنا دايما أجى هنا علشان أفتكر اللى فات ، ومتوقعتش أن ألاقيكى هنا
نفضت يده عن رسغها وهى تقول بعناد :
– سيب إيدى وأنا لا عايزة أتكلم معاك ولا حتى أشوف وشك وعلى فكرة أنا هرفع عليك قضية طلاق ولا تحب تطلقى بهدوء أحسن
كادت عظام معصمها تتهشم بين قبضة يده المحكمة الإغلاق عليه ، مانعاً بذلك فرارها ، فحذائها لم يسعفها بالسير على تلك الرمال الناعمة ، تكاد تسقط على وجهها ، من جره لها خلفه وغضبه يعميه عن رؤية عثراتها
فمدت يدها الحرة تحاول فك حصار كفه عن معصمها وهى تصرخ عالياً:
– عاصم سيب إيدى أنا هقع على وشى أنت ساحبنى وراك كده ليه أبعد بقى
لم يؤثر به صوتها ذو البحة الناعمة والخلابة ، حتى وإن سكن الغضب والاستياء كلماتها ، التى تلقيها بوجهه من فرط حنقها لما يفعله
وصل لسيارته ، فأمر سائقه بالترجل منها ، فهو من سيقود السيارة ، ظنت أن أصاب عقله الخلل ، ليفعل معها ما يفعله ، فهى تنظر حولها ، لعلها تجد من يخلصها من يده ، ولكنها للأسف لم تجد سوى رجاله ، الذين أبتعدوا بعد إشارة منه وتصريح بأن يعودوا للقصر ، ولا يريد أحد منهم أن يتبعه ، فكم كرهت عنادها ، الذى جعلها توهم عمران بأنها مازالت بالفندق ، فى حين أنها جاءت لهنا ، وكل هذا حتى لا يتبعها أحد من رجال عمران المراقبين لكل غدوة وروحة منها
جعلها عاصم تستقل مقعد السيارة الأمامى بالقوة ، فأغلق الباب بإحكام ، حتى لا تستطيع الفرار ، فعندما حاولت الوصول للباب الآخر ، كان هو الأسرع بجلوسه خلف المقود ، وبذلك أحبط كل محاولاتها للتخلص منه
عادت لصراخها ثانية ، الذى كاد يصيبه بالصمم :
– نزلننننننى بقولك نزلننننى
– إاااهدى يا غزل وبطلى صراخ علشان أنا جبت أخرى منك ومن عمايلك أنتى وإبن أخوكى ويا أنا يا أنتى النهاردة يا بنت الزناتى
أنهى عاصم حديثه ، وعاد ينظر للطريق أمامه ، فى حين أنها ظلت تفكر فيما فعله عمران جعله مستاء منهما هكذا ، لم يدم قيادته للسيارة طويلاً ، حتى وجدته يصف السيارة أمام إحدى البنايات السكنية ، ولا تعلم لما أتى بها لهنا ؟
– أنزلى يلا
قالها عاصم بعد أن فتح الباب المجاور لها ، آمراً إياها بالخروج من السيارة ، ولكنها أمتنعت عن تنفيذ آمره ، فعاد لقساوته ثانية وعمل على إخراجها بالقوة ، فلما تشعر أن العالم تم إخلاءه من جميع البشر اليوم ، فهى لا تجد أحد يمكن أن يساعدها
– إحنا رايحين فين
حدقت به بغيظ ،فدفعها بلطف داخل المصعد الكهربائي ، فلم صار شرساً هكذا ؟ كأن تم سحب الهواء من حولها وهى تجده يقترب منها ، وهى ترتد للخلف حتى إلتصق ظهرها بالمرآة الموضوعة داخل المصعد ، فظل الصمت حليف الموقف ، حتى أنفتح الباب ، فعاد وقبض على يدها ثانية ، حتى وصل أمام إحدى الشقق ، فأخرج من جببه المفتاح ووضعه بالباب ، الذى سرعان ما أنفتح على مصراعيه ، فولج يصطحبها معه وأغلق الباب ثانية
فنظرت حولها تستطلع الشقة ، التى أحتوت من الأثاث أفخمه وأرقاه ، فتبسمت بسخرية وقالت وهى تدلك معصمها بيدها :
– وإيه الشقة دى كمان عش الغرام اللى كنت بتجيب فيه العصافير بتوعك يا أبو عين زايغة
قهقه عاصم على نعتها له ، الذى خرج من فمها بكل ما تحمله من غيظ وغضب وغيرة :
– لاء وغلاوتك عندى أنتى أول عصفورة تدخل عش الغرام ده
أبتلعت لعابها بصعوبة ، بعد رؤية عيناه تتفحصها ، فقالت بشئ من الرهبة :
– فى إيه وبتبصلى كده ليه يا عاصم وجبتنى هنا ليه أنت مش صغير لعمايلك دى
أدنى برأسه منها وشفاهه تتبسم بإستمتاع من حالتها فقال بتؤدة :
– أنتى مفكرانى خلاص كبرت يا غزالى
لم تكن بحاجة الأن لشئ ، إلا لمعجزة تمكنها من الخروج من تلك الشقة ، فهو يسد الطريق عليها ، بحصاره لها بأحد أركان الصالة ، فهل تبكى هى الآن ؟ أم ماذا تفعل ؟ أتبعت رغبتها فى الفرار من حصار عمران ، لتقع فى الأسر بين يديى عاصم ، الذى يبدو عليه أنه لن يتركها تخرج من الشقة أو تتخلص منه بتلك السهولة التى تظنها ، ففكرت أن إستخدامها حيل حواء بأن تجعله يستمع إليها ، خاصة وهى تستجديه بعينيها الوديعتين ووجهها الجميل وثغرها الفاتن ، ستأتى تلك الحيلة بالنتيجة المطلوبة ، ولكنها لم تكن تعلم بأن حيلتها تلك ، ستكون نتائجها عكسية ، بل وخارج حدود تفكيرها
______________
رفعت سترته بين يديها ، فأقحم ذراعيه بداخل أكمامها ، فأتت من خلفه ووقفت أمامه ، تعمل على عقد رابطة عنقه الأنيقة ، ترفع وجهها تبتسم له ، لتعود وتعمل يداها على إنهاء ما تفعله ، فبعد إنتهاءها من رابطة عنقه ، أخذت قنينة عطره المفضل ونثرت منها على ثيابه ، فأمتزجت رائحة العطر برائحة الياسمين القادمة من الحديقة ، عبر نافذة الغرفة المفتوحة على مصراعيها ، فاليوم هما بصدد الذهاب لمنزل ولاء ، فالزوج المستقبلى لها سيأتى اليوم مصطحباً عائلته من أجل خطبتها ، تبسم لها بعد وضعها لمساتها الأخيرة كزوجة شديدة العناية بزوجها خاصة بملبسه ، الذى تحرص على أن يكون شديد الأناقة ، ليتحالف مع وسامته وينتج بالأخير ، رجل وسيم وأنيق ، باعثاً الرضا بنفسها ، على أنها أتمت مهمتها كما ينبغى
فغمغم وهو يقبل باطن يدها :
– تسلم ايدك يا قلب راسل
تلقائياً كانت تغلق كف يدها، على أثر قبلته ، كمن حصلت على وسام ، وتخشى ضياعه ، فعملت أناملها على إحتواء ذلك الأثر ، فهو منذ تلك الليلة ، وهو صار أكثر تعلقاً بها ، فعلى الرغم من أنها كانت تشعر بحبه سابقاً ، ولكن الآن أصبحت أكثر يقيناً به ، كأنه معها هى يتعرى من جموده وبروده وصلابته ، ولا يكن لها سوى عاشق ، أحتل العشق فؤاده ، فجعله كمن سبقوه بدرب الغرام
دقات الصغيرة على باب الغرفة ، هى من جعلتها تفيق من تلك الحالة ، التى تصيبها عندما تكون قريبة منه ، ففتحت سجود الباب وأطلت برأسها ، فسرعان ما فتحت الباب وركضت إليهما
فصاحت بصوتها الطفولى :
– بابى يلا علشان نروح عند ولاء ، آنا وفاء قالتلى كده
حمل راسل إبنته وهو يقول باسماً:
– يلا يا روح بابى
خرج من الغرفة يحمل صغيرته وتتبعه حياء ، التى تبتسم وتداعب الصغيرة وهى محموله على ذراع أبيها ، فهتفت سجود بإبتسامة :
– مامى هاتى بوسة أنا عايزة أكل بطيخ
قبلتها حياء وهى تضحك ، فسجود مطالبها تكون أشد غرابة ، خاصة آثناء خروجهم من المنزل ، فأماءت حياء برأسها وهى تقول بطاعة :
– حاضر يا قلبى بس لما نرجع من عند ولاء هجيب بطيخة كبيرة ونأكلها سوا ومش هنخلى بابا يأكل معانا
نظر لها من خلف كتفه قائلاً وهو رافعاً إحدى حاجبيه ممازحاً:
– مليش فى البطيخ بحب المانجا أكتر يا مانجا
– يلا بقى هنتأخر كده
صدح صوت وفاء بتلك العبارة من أسفل الدرج ، فأنتبها على ما يفعلانه
فحمحم راسل قائلاً بصوت رصين :
– حاضر نازلين أهو يا ماما ميبقاش خلقك ضيق كده يا وفاء
ضحكت وفاء على قوله ، فما أجمل أن تراه سعيداً ويمازحها ويمازح زوجته وإبنته ، لعل الله أرسل له زوجته ، لتأخذ بيده من متاهة الحزن والألم
إستقلوا جميعهم سيارة راسل ، فقادها بمهارة حتى وصل أمام تلك البناية التى تقطن بها ولاء وإسعاد ، صعدوا للشقة وظلت سجود تطرق على باب الشقة بمرح وتقفز ، كأنها لا تطيق صبراً لفتح الباب
ففتحت ولاء الباب وتبسمت لرؤيتهم، ودعتهم للدخول ، فأرتمت الصغيرة بين ذراعيها ، فحملتها ولاء عن الأرض تقبلها بنهم ، فنظرت سجود لولاء قائلة وهى تهمس بأذنها :
– ولاء أنتى هتبقى عروسة ، بابى بيقول ولاء هتبقى عروسة
فردت ولاء هامسة هى الأخرى :
– أيوة يا سيجو إن شاء الله وهعرفك على عمو معتصم لما ييجى
فعادت سجود لهمسها :
– وهو هيجبلى شيكولاتة من غير ما بابى يعرف
ضمت ولاء شفتيها ، لتمنع خروج صوت ضحكتها عالياً ، ولكن إستطاعت القول بتفكه :
– ما بلاش تفركشيلى الجوازة يا سيجو أنتى عندك حساسية من الشيكولاتة وباباكى بيخاف عليكى أوى ، يعنى يرضيكى تتفشكل الجوازة علشان حتة شيكولاتة
لم تفهم الصغيرة حديثها جيداً ، ولكنها تبتسم على قولها كما تراها هى الاخرى باسمة ، أخذت ولاء الصغيرة وذهبت لغرفة المعيشة ، حيث مكان جلوسهم
فنظر إليهما راسل متسائلاً :
– كنتوا بتقولوا ايه كده برا
أحكمت ولاء ذراعيها حول الصغيرة الجالسة على ساقيها ، فقبلتها على رأسها وهى تبتسم :
– مفيش يا أبيه سيجو وفضولها كالعادة
سمعوا صوت جرس الباب ، فخرج راسل لفتحه ، فهو الآن المخول له القيام بدور ولى أمر ولاء ، فهو يجب تأدية دوره على أكمل وجه
ففتح الباب وهو يبتسم ببشاشة :
– أهلاً وسهلاً أتفضلوا
حالة من السكون حلت على الطرفين ، فعندما دقق راسل النظر بوجوههم ، عقد حاجبيه بشعور طفيف من الغرابة ، ليس على شئ ، سوى أن تلك المرأة التى يراها تقف خلف شابين ، يعلم أن ذلك الوجه لا تملكه سوى إمرأة واحدة ، كان يعلم من تكون ، فإن كانت هى ، فلابد أن هذان الشابان هما ...
لم يشأ أن يفكر كثيراً ، فلم يكن حال غزل يفرق عن حاله، فهى مازالت متذكرة إياه هو وزوجته ، أثناء إقامتهما بالفندق وعلمها بأنه إبن رياض النعمانى
فأسرع معتصم القول متسائلاً:
– مش هى دى شقة الست إسعاد
هز راسل رأسه ، دلالة على صحة قوله ، فرفع يده يشير لهما بالدخول وهو يقول بصوت خفيض :
– أيوة أتفضلوا نورتوا البيت
ولجوا تباعاً فإستقبلت إسعاد معتصم وغزل، فكان عمران آخرهما ، الذى راح يدقق النظر بوجه راسل وهو يقول بحيرة :
– هو أنا شوفتك قبل كده
طالعه راسل بهدوء ، فرد قائلاً وهو يحك لحيته بلطف :
– لو أنت عمران الزناتى يبقى شوفنا بعض قبل كده ومش بس دا إحنا نعرف بعض كمان
قال عمران وهو يدلك مؤخرة عنقه بحيرة :
– أيوة أنا عمران وأنت مين بقى
– أنا راسل النعمانى يا عمران
قالها راسل بهدوء ، فلم يصدق عمران ما ألتقطته أذناه ، فردد عمران الإسم بذهول :
– راسل النعمانى
صوت إسعاد هو من بدد تلك الحالة من البلادة ، التى تلبستهما سوياً ، فقررا أخيراً بأن ينضما للجالسين ، شعرت ولاء بغرابة الجلسة ، التى حل عليها الصمت المريع ، فلا أحد يفه بكلمة ، بل الكل ينظروا لبعضهم البعض ، فغزل تدقق النظر بوجه وفاء نظراً للشبه الشديد بينها وبين من كانت زوجة رياض النعمانى الثانية ، فهى كانت تعلم بشأن أن لها شقيقة تؤام ، لتعود وتنظر لحياء ، يتأكلها الفضول فى معرفة تلك الصلة التى تربط بينهم ، ولكنها تركت كل هذا وظلت تدقق النظر بتلك الشامة على ظهر يد حياء اليمنى
فقررت حياء أن تقول شيئاً ، لعل جدران الصمت التى تعلو بين الجالسين تتهدم ، فقالت وهى تبتسم لغزل :
– فرصة سعيدة يا مدام غزل ، متوقعتش أشوف حضرتك تانى
حدقت إسعاد بحياء متسائلة :
– هو أنتى تعرفيها يا حياء
حركت حياء رأسها بالايجاب فقالت :
– أيوة قابلتها قبل كده وهى ذوق جداً
تبسمت إسعاد لقول لحياء ، فهى أحبت حياء نظراً لذلك الشبه بينها وبين إبنتها الراحلة ، فصدق ذلك المثل القائل " يخلق من الشبه أربعين " فكأن الله منحها ذلك الشبه ، لتسكن محبتها سريعاً بقلوبهم ، فعلى الرغم من أنها لا تربطها معهم صلة الدم غير إنها زوجة راسل وشبيهة إبنتها ، إلا أنها أحبتها بصدق
وكز معتصم ذراع عمران وهو يقول هامساً :
– عمران ما تتكلم ساكت ليه أنت جاى هنا وتسكت ما أنت طول النهار مالى علينا البيت والشغل زعيق وأوامر وصوت عالى ما تنطق ياعم
أولاً وأخيراً فهو شقيقه الصغير ، ويعلم مدى حبه لتلك الفتاة ، التى جاء من أجلها ، فظل لبرهة يحدق بوجه راسل ، كأن الكلمات مستعصية الخروج من فمه ، ولكنه تذكر أنه بادر برغبته فى الزواج من ميس النعمانى ، فما المانع من زواج شقيقه من فتاة يكون راسل ولى آمرها
نظف حلقه بحمحمته فقال آخيراً برسمية :
– إحنا جايين النهاردة نطلب إيد الأنسة ولاء لأخويا معتصم وكل طلباتكم مجابة واللى تؤمروا بيه
خجلت ولاء بعد سماع إسمها ، فنكست رأسها وهى تفرك يديها بثوبها ، فحدق راسل بوجهها ، فهو لم يرى ولاء تشعر بالخجل هكذا من قبل ، بل أنه لم يرى منها ميلاً أو قبولاً للزواج ، مثلما يراها الآن تواقة للقبول ، فهو لن يكون بإمكانه تعطيل تلك الزيجة ، فهو لا يريد أن يتحطم قلبها ، فهى ليس لها شأن بما حدث بماضيه ، ولا يرغب بأن تحصد ثمار العداء بين عائلته وعائلة زوجها المستقبلى، فهو يعلم كيف يكون شعور المغرمين ، وهذا ما رآه واضحاً على وجه معتصم
فزفر راسل قائلاً بهدوء :
– على بركة الله وإحنا موافقين
تهللت وجوه الجالسين عدا راسل وعمران ، فكل منهما يحدق بوجه الأخر بخواء ، فتشابكت خيوط اللعبة ، وستصبح أكثر تعقيداً ، إذا ظلت الظروف تتحالف ضدهماوتجمعهما سوياً
جلبت ولاء المشروبات المرطبة ، فعاد عمران وراسل لإكمال حديثهما المختص بكل الأمور الخاصة بالزفاف من إختيار الوقت الملائم لعقد القران وليوم الزفاف ، الذى يحاول عمران جاهداً أن لا يكون هذا اليوم مختص بزفاف شقيقه فقط ، بل زفافه هو أيضاً
فإلحاح معتصم على إتمام إقامة حفل الزفاف بوقت قريب ،جعل راسل يرضخ بالأخير ، فلم يكون أمامهم سوى شهر إضافى من أجل عقد القران والزفاف ، فولاء ظنت أنه سينتظر اكثر من ذلك ، مثلما أخبرها من قبل ،ولكن يبدو عليه أن صبره ينفذ سريعاً ، فعلى الرغم من ذلك ، لم يسعها سوى أن تشعر بالسعادة
عودة غزل للتحديق بيد حياء ، آثار بها الفضول لمعرفة سبب فعلتها تلك ، فكانت الأقرب لها مجلساً فمالت إليها هامسة :
– مدام غزل هو حضرتك بتبصى على إيدى ليه كده
رفعت غزل عينيها عن يد حياء ونظرت بوجهها وهى تقول بتوتر تداريه خلف إبتسامتها :
– لا أبدا مفيش حاجة أصل الشامة اللى على إيدك جذبت إنتباهى مش أكتر وسورى لو ضايقتك
تبسمت لها حياء وهى تقول بهزة رأس خفيفة :
– لا أبدا مضايقتش بس أفتكرت فى حاجة علشان كده عمالة تبصى على إيدى
قطع حديثهما إقتراح معتصم ، بأن يذهبوا غدا لإحدى المتاجر الخاصة ببيع الذهب والألماس ، من أجل أن تنتقى ولاء خاتم الزواج ، فوافقوا جميعهم ، فبعد إنتهاء الجلسة وإنصرافهم ، أرخى راسل رابطة عنقه ، كأنه شعر بالإختناق فجأة ، فأثار إنتباههن ، فعلل أنه يشعر بالإرهاق نتيجة يومه الشاق بالمشفى ،فبعد ساعة إضافية ، رحل مع أسرته وعاد للمنزل ، فغفت الصغيرة وأخذتها حياء لغرفتها ، وأوت وفاء لفراشها هى الأخرى
بينما هو مازال واقفاً بشرفة الغرفة ، بعدما تخلص من ثيابه ، فلم يكسوه سوى سروال بيتى ، فهو يقف حافى القدمين ، تاركاً النسمات تلطف من تلك الحرارة التى يشعر بها والناتجة عن كم تلك المشاعر المغايرة ، التى يشعر بها الآن ، فهو سعيد من أجل ولاء ، ويشعر بالضيق فى الوقت نفسه ، نظراً لعلمه بأن مقتل شقيقه وجدى ، ربما تم على يد مراد الزناتى والد معتصم وعمران ، مثلما سمع بصغره
ولجت حياء للغرفة ومنها لغرفة الثياب ، خفضت نظرها أرضاً ، فوجدت ثيابه ملقاه على الأرض ، فأنحنت ولملمتها وهى تشعر بغرابة من فعلته ، فهو ليس ذلك الشخص الفوضوى ، الذى بإمكانه إلقاء أغراضه بأى مكان ، فهى تشعر بوجود خطب ما به ، وإستشعرت ذلك منذ مجئ العريس وعائلته
خرجت من غرفة الثياب بعد إنتهاءها من إرتداء منامتها الحريرية ، فأقتربت بخطاها من الشرفة ، فترددت بالبدء فى الدخول ، فأستندت بكتفها على إطار الباب الفاصل بين الشرفة وغرفة النوم
ولكنها سمعته يقول بدون أن يلتفت إليها :
– تعالى يا حياء
لم تدعه يكرر مطلبه ثانية ، فسارت إليه حتى وقفت بجانبه وأستندت على سور الشرفة ، فنظرت إليه قائلة بتساؤل :
– مالك يا حبيبى فى إيه أنا حسيت أنك مش طبيعى من ساعة ما شوفت العريس واخوه وعمته ، أنت محبتهمش ؟
شهقت حياء بخوف وهى ترى رد فعله على ما قالته ، بأنه أبتعد عن سور الشرفة وإستند بجبهته على الجدار ، فقال بغضب يكاد يحطم رأسه بالجدار:
– اللى أعرفه أن أبو العريس هو اللى قتل وجدى أخويا ، بس سكت علشان خاطر ولاء هى ملهاش ذنب أكسر قلبها
ظل يطرق الجدار بيده ، حتى أصاب كفه بجرح نزف منه الدماء ، فنهرته حياء عن فعلته وهى تصرخ به :
– كفاية أنت جرحت نفسك
جذبت ذراعه بحزم لتجعله يتبعها ، فدلفا سويا للغرفة ، فجلس على طرف الفراش ، بينما هى ذهبت للمرحاض تبحث عن الاسعافات الأولية ، فعادت إليه وجلست بجواره
قبضت على ذراعه بيدها ليستدير لها ، فهو يجلس بجمود كأنه لم يتسبب بالأذى لنفسه منذ لحظات ، مسحت دماءه أولاً وبعد تعقيم جرحه وضعت له لاصقة طبية
فنظرت له بعين الغضب والضيق من تصرفه المؤذى :
– على فكرة مش كويس اللى بتعمله فى نفسك ده ، أنت أمتى هتبطل ردود أفعالك وعصبيتك دى
– لما أموت
قالها راسل فجأة وأطبق جفنيه ، شعرت حياء بالخوف أكثر ، فطوقت عنقه بذراعيها وهى تقول بحب :
– بعد الشر عليك يا حبيبى ليه مصر تخوفى منك وعليك يا راسل
رفع ذراعيه وضمها إليه أكثر ، فغمغم متأثراً بحديثها :
– متخافيش منى أنا مستحيل أسببلك أذى يا حبيبتى
فإن كان صادق الوعد والعهد ، فهى صارت على يقين وثقة ، بأن إذا بلغ منه الغضب مبلغه ، فسيكون مؤذياً ليس لها هى فقط ، بل لنفسه هو أيضاً ، فأفلتها من بين ساعديه ، فأستلقى على الفراش جاعلاً إياها تدعه يتوسد ساقيها ، كأنه صار مغرماً بأن يكون وديعاً بين يديها الحانية وهى تمسد على شعره بحنان تارة وبين همسها له بتلك الكلمات ، التى تحاول بها صرف غضبه تارة أخرى ، يستمع لصوتها كأنه نغمة شجية ، تبعث مشاعره حية ، كأنها أصبحت له الدواء الناجع لألامه وندوبه ، التى تتلمسها هى بأطراف أناملها ، كمن ترغب بأن تملك عصا سحرية وتعيد الزمن للماضى ، ولا تجعل أى مكروه وسوء يصيبه
_______________
أطاح عاصم بعقل شقيقته سوزانا ، بإخبارها بأن هناك من يريد الزواج من ميس ، وأن هذا الشاب هو بنفسه عمران الزناتى ، فتلك المزهريات التى تحطمت شر تحطيم لم تكن كافية لإفراغ شحنة غضبها ونقمها كاملة ، فظلت تبحث بعيناها عن شئ أخر بإمكانها تحطيمه ، قبل أن تعاود النظر لشقيقها ، الذى ألقى عليها وعلى عمه النبأ ، كأنه يخبرهما بأخبار الطقس اليوم
سأم رياض من سماع صوت تحطيم المزهريات فصاح بسوزانا بأمر :
– سوزانا كفياكى بقى كسر فازات وأسكتى
ردت سوزانا بإنفعال قوى:
– عايزنى أسكت يا عمى على الكلام ده بقى أنا أسلم بنتى بايديا لإبن اللى قتل أبوها أنتوا بتهزروا أنتوا...
رفع رياض يده بتحذير من أن تزيد كلمة أخرى ، فأمرها أن تجلس وتكف عما تفعله ، وإلا سيجعلها تترك المكان ، فأنصاعت لأمره مكرهة
فنظر رياض لعاصم قائلاً برصانة :
– وقالك ايه تانى يا عاصم
مد له عاصم يده بالصور ، وأخبره بشأن ما قاله عمران ، فختم حديثه :
– دا كل اللى حصل فى مقابلتى معاه واللى قالى عليه واللى أنا برضه أتأكدت منه يا عمى يعنى هو طلع مبيكدبش وطلع نادر فعلاً أخو نصر السلمانى
طالع رياض الصور بغضب ، من أفعال حفيدته ، فناول الصور لسوزانا ليجعلها ترى بعينيها ما فعلته إبنتها
فعاد ونظر لعاصم قائلاً بآمر :
– عاصم أنا عايزك تخلى عمران يجيلى هنا وكمان عايزك تكلم المحامى يجيلى دلوقتى ضرورى
أماء عاصم برأسه ، وأسرع بتنفيذ ما آمره به عمه ، فصوت نقرات عصاه على الأرض ، كأنها إنذار على قدوم إعصار قوى
فى المساء أرتدت ميس تلك الثياب التى لم تكن ثيابها ، فبعد شجارها بالصباح مع عائلتها ، لعلمهم بما كانت تفعله ، أصر جدها أن لا تبرح غرفتها ، بل ستظل سجينتها حتى ينظر بأمرها ، ولكنها إستطاعت بحيلة صغيرة من أن تقنع إحدى الخادمات من أن تأتى لها بثياب من ثيابها ، حتى تتمكن من الخروج من القصر ، فتلك الخادمة كانت ترتدى النقاب منذ وقت طويل ، فهى أيضاً إبنة إحدى الخادمات القدامى بالقصر
– تمام كده محدش هيعرف أنا مين واللى فى القصر عارفين أن فى واحدة هنا منقبة
قالت ميس عبارتها بإطمئنان ، فما ساعدها أن طول ونحافة الخادمة ، كطولها ونحافتها ، فخرجت من الغرفة وهبطت الدرج بحرص ، فالآن جدها وخالها ووالدتها بغرفة المعيشة ، ولكنها إسترقت السمع وتنصت على حديثهم مع المحامى قبل خروجها
فمن الباب الخاص بخروج الخدم ، خرجت ميس وأشارت لعربة أجرة ، فأخذت مكانها بالخلف ، وأخبرت السائق بالمكان الذى تريد الذهاب إليه ، فطوال طريقها تفكر فيما سمعته قبل خروجها
وصلت للمكان الذى ينتظرها به نادر ، فرفعت غطاء وجهها ، فهى كانت قد طالبته بإرجاء أمر الزواج بضعة أيام ، ولكن أنتهت المهلة المحددة اليوم ، ولذلك جاءت إليه ، وصراعات عدة تشتد بداخل عقلها ، حتى كادت تشعر بإنفجاره الوشيك
تبسم نادر بعد رؤيتها قائلاً بحماس :
– يلا يا حبيبتى علشان نروح للمأذون أنا جهزت كل حاجة
ولكنه لم يرى أى بوادر من السعادة على وجهها ، فقطب حاجبيه قائلاً بغرابة:
– مالك يا ميس أنتى مش مبسوطة علشان هنتجوز حصل إيه قوليلى
رمشت أجفانها عدة مرات كأنها على وشك أن تنسكب الدموع من عينيها ، فقالت بصوت متحشرج :
– قبل ما أجى سمعت جدو بيكلم المحامى بتاعه أنه يسجل الأوراق اللى نقل بيها كل الأملاك بإسم راسل ، يعنى راسل بقى هو المالك الوحيد لأملاك جدى كلها ، وأنا مبقاش ليا أى حاجة من الأملاك ولا من ثروة جدو
____________
يتبع...!!!!
التاسع والعشرون من هنا