اخر الروايات

رواية بين الحقيقة والسراب الفصل السابع عشر17 بقلم فاطيما يوسف

رواية بين الحقيقة والسراب الفصل السابع عشر17 بقلم فاطيما يوسف


بعد المحكمة عانت هند كثيراً ضربا وسبابا وقذفا وطردها زاهر من البيت وكما توقعت صديقتها أن حماتها لن تتحمل بناتها أسبوعاً وقد كان بعثت لها أخيها وأرجعتها منزلها وهي علي مضض ،

اما عن مريم فاليوم سيتحدد مصيرها فقد استطاعوا بفضل المولى سبحانه وتعالى وذكاء نادر ووقوف جميل بجانبها ان يترصدوا لتلك الشبكه التي ستؤذي بمستقبل الفتايات اللائي لاعلم ولا دراية بهؤلاء الخبيثون وبفضل الله تم القبض عليها وبجهود النيابة استطاعت أن تجعلها تعترف عليهم بسهولة ووقع الفئران في مصيدة العدالة ،

وحقاً كم كانت رحلة مؤلمة لمريم حيث انها كانت معركة شنيعة بين الحق والباطل وبفضل ايمانها بربها وعدم خضوعها لمسالك الشيطان استطاعت أن تنقذ ،

ومرت الأيام عليها وظهرت نتيجتها والتي كانت مبهرة لها حيث نجحت بتقدير الامتياز المعتاد لها ولكن هذه السنة كانت الأولى على دفعتها ،

انهالت المباركات عليها من الجميع حتى فريدة التي سعدت من داخلها بأنها حتما ستغادر وتترك لهم المنزل وتبتعد عن ابنها ولكن ما افسد عليها سعادتها قول رحيم بعيون سعيدة:

_مبروك يا دكتورة مريم بقيتي معيدة في الجامعة فهمي رسمي نظمي وما بقاش في حد احسن من التاني وكلنا بقينا في الهوا سوا .

فهمت فريدة مقصده ولكنها لم تعقب عليه وادعت انها لم تاخذ بالها من تلك الكلمات ،

فتحدث جميل قائلا بنصح وهو يشير بيديه إلي رحيم:

_شوفي يا مريم يا بنتي انا هعرض عليكي العرض اللي انا عرضته على الولد ده وهو رفض واختار انه يكمل طريقه كدكتور جامعي ،

انا متعود في البنك عندي اني اخد دايما اوائل كلية التجارة وبدربهم عندي على أعلى مستوى وطبعا شغل البنك غير شغل الجامعات خالص في عمولات وربح احسن ومستوى ارقى ،

واستطرد شارحا:

_انا كأب وبعتبرك زي بنتي انا عايزك معايا في البنك لأني لمحت ذكائك جدا في كذا حاجه ،

ايه رايك فكري كويس جدا واحسبيها ان شاء الله هأمن لك مكان كويس في البنك .

أحس رحيم بالضيق الشديد من عرض والده لتلك الوظيفة لها فهو يحلم باليوم الذي ستكون معه بنفس المكان في العمل وهذا سيسهل عليهما التقرب من بعضهما ،

وما ان عملت في البنك لن يستطيع ان يراها الا في فترات بعيدة ،

فاستشاط غضبا وأردف بنصح مغلف ببعض الحدة لها :

_لا يا مريم اوعي توافقي إنتي قدامك مستقبل تبقي دكتورة جامعية وتاخدي الماجستير والدكتوراه سيبك من شغل البنوك ده خالص مستقبل الجامعة برستيج وهتبقي قيمة وقامة عالية جدا .

شعر جميل بغيرة ولده ورفضه التام للعرض الذي عرضه عليها ولكنه رأى ان مستقبلها المادي والمعنوي سيكون افضل في البنك،

فتحدث ولم يعير لكلام رحيم اعتبار مرددا بتشجيع:

_طبعا يا بنتي الشغل في الجامعه واللقب برستيج زي ما قال رحيم لكن إنتي برده تقدري تعملي البرستيج ده وإنتي في البنك انك تحضري الماجستير والدكتوراه وإنتي شغاله وبتقبضي مرتب كويس جدا وبعمولات ممتازه ،

فأنا رأيي ليكي إنك توازني بين الاحتياج المادي والمعنوي وتوافقي على وظيفتك في البنك وصدقيني مش هتندمي لو مشيتي ورا كلام عمك جميل .

احتدت عين رحيم بالغضب الشديد ولكنه لن يقدر ان يعارض والده وفضل السكوت غصبا وهو يكتم حديثه بصعوبة بالغة إلى أن يجلس معها وحدهم ،

انقضت هذه الجلسة على أنها ستفكر في الأمر جيداً وترد عليه غداً ،

ثم ذهبت إلى ملحقها وقد قررت مغادرة المنزل فهي الآن اصبحت في أمان تام ،

واثناء انشغالها في تجهيز حقيبتها جاءتها رساله على الواتساب محتواها:

_قابليني في المطعم اللي بنتقابل فيه على طول حالا وعلى الله تتأخري يا مريم هتلاقيني بخبط عليكي الباب ومش بعيد أكسره وانتي حره بقى لو ما جيتيش وطنشتي .

زفرت بملل وألقت الهاتف من يدها ولوهله قررت ان لا تذهب لمقابلته ولكن اصبح معها كالمجنون فخافت ان ينفذ تهديده وتنال من بطش فريدة وهي ليس لها ذنب فأجابته باختصار :

_ حاضر نص ساعه وجاية .

وبالفعل اخذت حماماً سريعاً وارتدت ملابسها على عجالة وذهبت الى المطعم وجدته منتظرا لها والنيران تشتعل من وجهه تدل على غضبه الشديد،

وصلت الى مكانه وألقت السلام بحدة ،

اما هو فور ان رآها أمامه تبدلت معالم الغضب الشديد البادية علي وجهه الى معالم الحب والوحشة الشديدة في نفس اللحظة كيف ذلك هو لا يفهم !
مرددا سلامها قائلاً بابتسامة محب عاشق لحبيب يتمنى لقياه :

_ وعليكم السلام ورحمة الله ، هلا وغلا فيكي ياحبيبة الروح والقلب .

اهتزت وتيرتها من حديثه وأردفت وهي تتهرب من عيناه قائلة بلوم:

_ من امتي كنت همجي كدة يارحيم !
مش متعودة منك علي كدة .

تبدلت معالم وجهه وعادت إلى غضبها مرددا باستنكار:

_ ومن امتي وإنتي بتاخدي قرار مصيري في حياتك من غير ما نتناقش فيه وتعرفي رأيي ونتحاور مع بعض ونوصل لحل مناسب لينا احنا الاتنين؟

رفعت حاجبيها باستنكار قائلة:

_هو انا لسه اخدت القرار اصلا علشان خاطر تقول لي لو ما جيتيش هكسر عليكي الباب !
انت مش متخيل اصلا ان انت لو عملت كده والدتك هتشوفني ازاي اكتر ما هي شايفاني!

حرك راسه يمينا ويسارا بغضب وتحدث مقاطعا حديثها:

_لو سمحتي سيبك من الموضوع ده دلوقتي وردي علي حالا انت حقيقي هتوافقي على عرض بابا ومش هتقبلي وظيفة معيدة في الجامعة وانتي طالعة الأولى ؟

نظرت له بعيون تخفي ضعف يستكين بداخلها وقلب يخفق ألماً وعشقاً معاً ورددت بتوضيح:

_هجاوبك بكل اللي انا فكرت فيه انا بعتبر عمي جميل في منزله والدي بالظبط اللي لو كان موجود وعايش كنت طبعا هاخد رايه ،

لما فكرت لقيت ان كلامه صح جدا إني لازم أوازن بين الاحتياج المادي والمعنوي وانا محتاجه ان يبقى ليا مكان اعيش فيه خاص بيا وابني مستقبلي وبرده مش هستسلم وهقدم في الماجستير وباذن الله ووراه الدكتوراه على طول ،

واسترسلت وهي تنظر له بتمني:

_ارجوك فكر زي ما انا وهو بنفكر بالظبط وانت هتلاقي ان انسب حل ليا علشان خاطر طنط فريدة ما تفكرش اني بعارضها او اني بعند معاها مش هتلاقي حل غير اني أبعد فعلا وتعرف ان انا مش طمعانة فيك .

وكمان أحس ان ليا كيان وكينونة بمعني أصح أحس إني ليا وجود يارحيم .

نظر لها بحزن وهتف باحتياج:

_ بس أنا محتاج وجودك جمبي ومش قادر أتصور انك تبقي في مكان بعيد عني ،
باختصار اتعودت علي وجود ريحتك في نفس المكان إللي أنا موجود فيه حتي لو مش شايفك كفاية نفَسك فيه .

زفرت بتعب وأوضحت له وجهة نظرها :

_ متفكرش إني لما أبعد هبقي مرتاحة يارحيم ،
أنا زيك بالظبط ويمكن أكتر وأظن وضحت لك السبب قبل كدة ،

وتابعت بشجن:

_ أنا محتاجة أثبت لنفسي أولا وللمجتمع إللي جني عليا ثانياً إن بنت الملجأ عافرت واجتهدت وكملت لآخر نفس فيها بدون ماتغضب ربها إنها تبقي حاجة ومش هرضي بأي حاجة لازم أكمل للأخر علشان أوصل لأني أبقي أبقي حاجة متخجلش منها أبداً في يوم من الأيام.

ضيق نظرة عينيه ثم رمقها بنبرة هادئة :
بس أنا هتعب أووي يامريم أرجوكي ثقي فيا إني مش هتخلي عنك وسيبي لي أنا المعافرة أنا أطول منك في النفَس .

نظرت بعيد عن عينيه تحاول كبت عبراتها، لكنها إستعادت قواها وأخفت كل مشاعرها التي تملكت منها كلماته بكل قوة وأردفت بتمني:

_ أرجوك يارحيم أنا مش عايزه أخسرك إنت تعافر من مكانك وأنا أثبت نفسي في مكاني وصدقني هنتقابل بإذن الله وظروفنا محدش هيقدر يمنعها ومحدش هيقدر يفرق بينا لأن الأسباب ساعتها هتكون بطلت أو علي الأقل اتحسنت شوية .

بعد حديث طويل ونقاش دام لأكثر من ساعتين وافق رحيم علي رأيها وهو علي مضض ولكن أخذ وعد منها أن تحادثه دوماً وأن ترد على مكالماته وإلا سيجن جنونه ويفعل ما لا يحمد عقباه ،

بعد يومان أبلغت مريم جميل بالموافقة علي طلبه وغادرت منزلهم واستلمت شقتها ذو الإيجار البسيط في منطقة شعبية هادئة قد وفرتها لها شريفة مديرة الدار وساعدتها في ذلك وشكرتها مريم بامتنان ومنذ خروجها ورحيم يشعر بالاختناق الشديد والاكتئاب الذي بدا علي معالمه بغزارة شديدة لاحظها كل من جميل وفريدة وبدأت تشعر بالذنب إلا أنها تقنع حالها بأنها فتره ستمضي وسيتعود علي بعادها كما تعود علي حضورها ولكن هل سيكن اعتقادها صحيحا وأن مايشعر به رحيم هو تعود ؟ فلنري مالذي تخبأه له الأيام من ندبات تؤثر علي روحه ؟

________________________________

انقضت الليالي العجاف بالنسبة لريم والآن تجلس في حديقة منزل أبيها فلقد مر ستة أشهر كاملة علي المحاكمة ،

كانت بيدها مذكرات كانت تدون فيها كل مايجول بخاطرها منذ وفاة عزيزها ،

فكتبت بقلب ينفطر حزناً:

_ الآن مر علي وفاتك عاماً كاملا ذقت فيهم من المرار ألوان ،لقد كنت لي حبيبا عزيزا قرير العين وتركتني وحدي أعاني مر الفراق وأنا أجلد ذاتي في يومي كله حتي في غفوتي أراك غضبان مني ، أشعر بأني في ساحة معركة الفراق بالاختناق ، أُقاتل في ساحة المعركة وحدِي أنا الجيشُ لنفسي وأنا السيف ذاته ، أذاني أقرب الناس إليك وكانوا يوماً من الأيام الأقرباء إلي أيضًا وتعلمت منهم درسا لن أنساه طيلة حياتي وهو
"لا تأخذ جرعة كبيرة من الثقة إترك مكاناً للخيبة ومكاناً لإستيعابها أيضا كن معتدلا "

كانت منغمسة في تدوينها فسمعت صوت أبيها الحنون الذي يقف بجانبها دائما يردد بحنو :

_ الجميل اللي قاعد لوحده وشكله قلقان ومخليني مش مرتاح عشان خاطره بيعمل ايه ؟

أنهي كلماته وهو يمسح على راسها بحنان ثم جلس بجانبها،
تنهدت بثقل والم نفسي واجابته:

_مش مرتاحه يا بابا وحاسه اني مش قادره اتخطى موته هو انا هفضل كده كتير؟

وضع كف يداه علي كف يدها الموضوعه فوق فخذها ثم ربت عليها بحنو وأردف قائلا :

_طول ما إنتي حابسه نفسك بين حيطان البيت وسط دوامه الفكر إللي مبنتهيش هتفضلي كده على طول ، ده إنتي حتي الموبايل مبتفتحيهوش .

نظرت اليه بعينين حائرتين فأكمل هو بارشاد:

_اخرجي يا بنتي واشتغلي واشغلي وقتك بحاجه مفيده إنتي محتاجه لكده مش عشان خاطر الفلوس ولا عشان خاطر الاحتياج للماده ذات نفسها انما إنتي عندك موهبة جميلة وقدرتي تصنعي لنفسك كيان في مكان بسمع عنه انه ممتاز جدا وله اسم .

انتفضت كمان لدغها عقرب من حديث والدها وهتفت برفض قاطع:

_لا يا بابا انا عمري ما هرجع اشتغل في التصميم تاني ده كان السبب اني خلاني خسرت جوزي ابو ولادي ودمرني ودمر حياتي كلها .

اعترض على كلامها بشدة وهدر بها :

_ده كلام تقوليه ! هتعملي زي الجاهلين كون انكم كنتم بتتناقشوا في حاجه هو رافضها وإنتي كنت عايزاها وكون ان هو مات ده قدره والاتنين ما لهمش علاقه ببعض نهائي وسواء كنتوا اتخانقتوا او ما اتخانقتوش كان برده عمره هينتهي في اللحظه دي يا بنتي .

حركت راسها بنفي ودموعها تنهمر بغزاره من عينيها واردفت من بين شهقاتها بنفي:

_انا عارفه كلام حضرتك يا بابا وفاهماه كويس جدا لكن المره دي كان بيبص لي باستغراب وما كانش مصدق ان انا أعارضه ولما خيرني ما بين الشغل واني افضل معاه خذلته ما استحملش الخذلان مني ونفسيته اتأثرت ومات .

ضرب والدها كفا بكف وهو يردد باندهاش:

_لا حول ولا قوه الا بالله العلي العظيم ،
يا بنتي الأعمار بيد الله وكل واحد من قبل ما يتولد بيبقى عمره على الدنيا مكتوب ايا كانت الموتة تعددت الأسباب والموت واحد ،

ثم اخذها بين احضانه يهددها بحنان وتابع :

_فوقي لنفسك وفوقي لولادك هما محتاجينك مش هيبقى غياب ابوهم وضياعك في دوامه الحزن وكده انت يعتبر من القانطين من رحمه الله،

واذا كنتي إنتي مصرة تشيلي نفسك الذنب استغفريه واذكريه الذكر بيطمن القلوب وتصدقي واعملي كل اللي في وسعك وفي كل مره هتعملي كده صدقيني هتلاقي نفسك بتخرجي من الدوامه دي واحده واحده وهتبقي بني ادمه طبيعيه جدا وهتحتسبي عند الله من الصابرين .

احست بطيف من الأمل يلوح على صدرها وكأن كلامي والدها نزل بردا وسلاما على قلبها وسألته بتيهة كي تطمئن:

_يعني انت شايف يا بابا ان فعلا ارجع اشتغل واصمم واحقق حلمي اللي عشت عمري كله اتمناه واحلم بيه وابقى كده ما زعلتش مني باهر في تربته .

ابتسم لها ثم أجابها بتاكيد:

_يا بنتي جوزك بقى بين ايادي الله هو ارحم بيه من عباده وما تزعليش مني الدنيا منفاته وما بتقفش على حد لازم تتعودي تقوي حالك بحالك علشان وقت الجد ما توقعيش من طولك ويكون اللي بيسندوكي كلهم وكنتي معتمده عليهم مبقوش موجودين ،

واسترسل وهو يشير بيده إلي ملابسها باعتراض:

_وبعدين انا عايزك بقى تقلعي الاسود ده مده حدادك على جوزك اربعه اشهر و 10 ايام واكتر من كده يبقى إنتي دخلتي في الحرمانية وعملتي زي الناس الجاهلين انتي ما تعرفيش "حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "(لا يحل لمسلم ان يحد على ميت فوق ثلاث ليالي الا على امراه لزوجها اربعة اشهر وعشرا)

سيدنا النبي عليه الصلاه والسلام حدد المدة كما ذكرت في القران وقال لا يحل يعني إنتي كده دخلتي في منطقة الحرمانية من بقالك اربع شهور ومستنيكي تقلعيه منك لنفسك وترضي بحكم ربنا وقضاء وقدره وانتي مكمله زي ما انتي .

كالعاده استنكرت نصح والدها واردفت بامتناع:

_لا يا بابا انا عمري ما هقلع الاسود على باهر خلاص ده بقى لبسي لحد ما اموت .

اتسع بؤبؤ عينيه مرددا برفض :

_يا بنتي هو إنتي دماغك ناشفه كده ليه إنتي ما سمعتيش حديث الشيخ الشعراوي اللي كان بيتكلم في الموضوع ده بالتحديد وفي كلامه قال سنكر علي باب الحزن بمسمار الرضا اصل الحزن لو انسكر عليك مش هيخلي لك حبيب ،ربنا يبارك في عمرك وعمر ولادك وعايزك من دلوقتي تقومي تفتحي تليفونك وتشوفي شغلك اللي اكيد متعطل وتضمي ولادك وتخلي بالك من نفسك ومن صحتك واعتبري اللي فات من حياتك ذكرى جميله ما تنسيهاش طول العمر وده حال الدنيا يا بنتي .

انه الأب حديثه للروح طبيب وانفاسه للقلب دواء ووجهه بابتسامته للعمر اهداء ،
فالأب مثله كمثل النهر يمرُّ بجانب شجرة، يُحييها، يُطعمها، يسقيها الماء، يستمرّ في الرقص فهو لا يتشبّث بالشجرة، تسمح الشجرة بزهورها على النهر بامتنان عميق، والنهر يمضي قدما. تأتي الرياح، ترقص حول الشجرة وتمضي قدما. والشجرة تعير عطرها للريح .. فإذا كبرت الإنسانيّة ونضجت، فستكون هذه هي الطريقة للحب،

بعد مرور يومان علي تلك الأحداث قررت ريم أن تخرج من صومعة الحزن وتستعين علي الذكر والاستغفار لراحة قلبها ،

ثم فتحت هاتفها التي كانت تستخدمه للعمل والتصميم فريم كانت تمتلك هاتفان أحدهم خاص بعملها وتصميماتها والآخر كان للتصفح فقط ،

وعندما فتحته وجدت كما هائلا من الرسائل الخاصه بالمؤسسة التي تعمل معها وبدأت بتصفحهم والرد علي أغلبهم ،

ومن ضمن الرسائل وجدت واحدة منهم لرقم لم تعرفه وفتحتها وقرأت محتواها :

_ السلام عليكم ورحمه الله ، البقاء لله وحده يامدام ريم ، أنا مالك الجوهري إللي حضرتك بتبعتي تصميماتك لمصنعه ، عرفنا باللي حصل بعد ماحاولنا الإتصال عليكي كتير وكان من الواجب إني أعزيكي .

قرأت الرسالة ثم ضغطت علي صورته الخاصة كي تعرفه ،
ثم قررت أن من الواجب أن تشكره علي تعزيته ،

وأرسلت له:
_ ونعم بالله العلي العظيم ، جزاك الله خيرا ولا أراكم سوءاً في عزيز لديكم .

وصله محتوي الرسالة وعندما فتحها ابتسم تلقائيا ورد عليها في نفس الوقت:

_ جزانا وإياكم وأتمني أتشرف بمعرفة صاحبة التصميمات الرائعة ونشتغل مع بعض وجها لوجه وأنا واثق إننا هنعمل ضجة كبيرة في عالم الفاشون.

قرأت محتوي الرسالة وردت باختصار:

_ بإذن الله هفكر وهرد علي حضرتك .

بعث لها:

_ أتمني يكون التعامل في أسرع وقت.

________________________________

بعد مرور أسبوعين علي تلك الأحداث ذهب جميل إلي منزل راندا هو وزوجته فريدة ،

يجلسان معها وتحدث جميل يعنفها بشدة:

_ جوزك رجع من سفره على ملا وشه بعد ما هددتيه انه لو ما رجعش وطلقك بشروطك اللي إنتي فارضاها عليه هتخلعيه وهتفضحيه ،

واسترسل غاضباً وهو يلوم نفسه غاضباً:

_ إنتي متعرفيش إن الأبناء مراية الأباء!
بقي كدة تطلعي صورة أبوكي إللي طول عمره مثال القناعة وعزة النفس بالشكل ده !

انهارت من حديث والدها وهدرت بصوت عالي:

_انت ليه يا بابا جاي عليا قوي كده للدرجه دي!

مش حاسس بيا ولا حاسس بوجعي كلكم عمالين تجلدوا فيا سواء انت او بنتي او ابني او حتى ريم اختي ليه كلكم بتعملوا فيا كده ليه !

أمسك أبيها يداها ونظر داخل عيناها بترجي مرددا بحرقة قلب :

_ يابنتي لأخر مرة بقولك احسبيها صح علشان وقت الغضب الإنسان أعمي ولو كان بصير .

عثت في جوفها حرباً أشد من أن تتحكم بها ومن أن تقاومها ،ورددت بشموخ ورأس مرفوعة أصغي إليها كل الموجودين في المكان هاتفة بقوة :

_ أنا أستاهل راجل يحطني جوة عينيه ،
أنا أستاهل راجل يندم علي فراقي حتي لو صممت هو يصمم عليا أكتر يتبت فيا ويحسسني اني غالية عنده مهما حصل ،

واسترسلت حديثها بوجع وهي تجلس علي الكرسي الموضوع بتعب وانفجرت دموع عيناها:

_ أنا يا بابا أستاهل راجل يعرف إني قد إيه غالية ،
أستاهل راجل يقدر إللي أنا عملته له ويشكرني عليه،

أستاهل راجل بجد حافظ عليا ويطبطب علي قلبي المجروح ،

أستاهل ضهر ، أستاهل سند ، أستاهل حب .

وانفطرت في البكاء أمام والديها ولم يهمها كرامة الأنثي المجروحة وانكشف وجه الأنثي الضعيفة ،

أحست بها والدتها بشده وادمعت عيناها على كبيرتها التي راتها بقلبها قبل عينيها واخذتها بين احضانها تهددها مرددة بحزن:

_يا بنتي حرام عليكي اللي بتعمليه في نفسك ده وبتعمليه فينا ،
اه يانا يا حزن قلبك يا فريده علي بناتك يا مخلفه البنات يا شايله الهم للممات ،

واسترسلت وهي تهدأها:

_اهدي بقى يا بنتي وطالما إنتي شايفه نفسك هترتاحي في الطلاق وهتقدري تتحملي مسؤوليه وعواقب حاجه شكل دي يبقى ما باليد حيله وباباكي هينفذ لك اللي انتي عايزاه .

واثناء انشغالهما بالحوار استمعوا الى جرس الباب يعلن عن وصول ايهاب،

قام جميل يفتح له الباب وما إن رآه ايهاب حتي ارتمي في أحضانه يصافحه بحرارة قائلا:

_عمي جميل ازيك يا راجل يا طيب ليك وحشه والله ؟

بادله جميل الحضن بنفس الحراره فهو يحبه جدا مهما حدث بينه وبين ابنته فهو رجل خلوق في معاملاته ،

افسح له المجال بالدخول وما إن دلف باتت عينيه تمشط المكان بلهفه فقد كان عشا سعيدا يجمعه بحبيبته وزوجته وابنائه فقد كانوا عائله كريمة يزينها الحب والاهتمام وانقلب الحال واصبح المكان يزينه الكره الشديد ،

ينظر الى كل ركن في المكان ويتذكر ايامه التي عاشها من كل عام في هذه الشقه ،

نعم فقد عاش فيها اياما قليله من كل سنه بالرغم من زواجه منذ اكثر من ثماني عشرة اعوام ،

الا انه سافر في السنة الأولى من زواجه من راندا وكان يأتي كل عامين اياما قليلة ،

واثناء تجواله بعينيه في المكان استقرت على راندا وبدا له من وجهها انها كانت تدمع بشده خفق قلبه حزنا لأجلها رغم كل ما بدر منها الا انه يعطي لها عذرا على ما فعله معها فلقد اجرم في حقها جرما شديدا واستسلم للحظات ضعفه ولكن هل يعود الزمان يوما ويصلح من غلطه وما فعل بها مافعل ،

اخذت جولته عده دقائق ثم جلس ملقيا عليها سلامه بوحشة:

_ازيك ياعشرة العمر أخبارك ايه ؟

حينما وصل سلامه بتلك النبرة إلي مسامعها أعلنت دقات قلبها الطبول ولم ترد عليه إلا بنظرة عيناها كأنها تعاتبه ولكن العتاب مصاحبا للجفاف ،

أحس بدقات قلبها ومن غيره يشعر بها ،ومن غيره يحس بإحتياجها وحدثته عيناها:

_ ألم ترأفي بحال عاشق انكوي من قسوة عقابك الذي لم ينتهي بعد !

أجابته عيناها بشدة:

_ ألم تشعر أنت أنك قتلت الإحساس داخلي وما عدت أنا ولست ألقاني بعد !

قرأ إجابتها من نظرة عينيها وردد بأسف بلسان حاله:

_ أعدك إن عفوتي ورددتي لي قلبك سأبقي علي عهدك ولن أقترف بعد .

اهتز فكها وهي تنظر له نظرات خذلان ترد عليه عينيها بعدم ثقة:

_ أمن الممكن أن يؤتمن الخائن ! لا ورب الكون وقول رسوله ان من علامات المنافق من أؤتمن خان.

رأي الأن معني نظرتها أنها لن تسامح قط مهما فعل ومهما اعتذر ومهما حاول مئات المرات وملايينها وأفاق علي صوتها وهي ترد سلامه بجمود:

_ بعد إذنك يابابا اطلب المأذون فورا علشان كدة الموضوع طول وبوخ أوووي .

أحس بوخزة شديدة في قلبه جراء كلماتها وتحدث إلي جميل وهو يناوله ملفاً به العقود قائلا:

_ اتفضل يا عمي جميل ده عقد بفيلا في الكومباوند إللي هي قالت عليه ومتوثق باسمها في الشهر العقاري ،

وده عقد بملكية العربية نقلته باسمها وبردوا متوثق في الشهر العقاري.

أردفت له بنظرة متعجرفة وتحدثت بكبر :

_ متفتكرش إن ده منة وفضل عليا منك ،

ده حقي في دهبي إللي بعته لك تسافر بيه وتبدأ شغلك وكفاحك بيه ،

حقي في عمري اللي راح هدر وفي الاخر خنتني .

حزن داخله من استكبارها وطريقتها المتعجرفة عليه مرددا باستنكار:

_ هو حق كفاحك معايا وعمرك اللي راح ودهبك إللي بتعايريني بيه دلوقتي فيلا وعربية وفلوس في البنك ياراندا ؟!

واسترسل ساخراً:

_ إنتي أغلي وأحسن من إن الكلام العيب ده يطلع منك وكمان في وجود باباكي اللي الأصل الطيب يضرب له تعظيم سلام ، إنتي حقك عليا ميكفهوش كنوز الدنيا.

أحس جميل بالخذلان الكثير الذي لم تترك ابنته فرصة إلا ووضعته فيه بكل ما أوتيت من قوة وشكره بامتنان:

_ معلش يابني حقك عليا اعذرها ،
إللي فيها حلاوة روح بس من اللي عملته فيها ومش مستوعبة لحد دلوقتي.

زفر بسأم ووجد أنهم في حالة لايسمح للجدال فيها فقال:

_ يشهد الله ياعمي جميل اني عملت كل مافي وسعي علشان تغفر وتسامح وهي إللي راكبة راسها ومصممة علي الطلاق إللي هيسبب خراب النفوس لينا كلنا ،

ويشهد الله إني اعترفت بغلطي وحاولت مراراً وتكرارا إنها تلين مرات بالمحايلة ومرات اني أفكرها بالحب إللي بينا ، ومرات أبين ضعفي قدامها وأتذلل علشان عارف حجم غلطي ، ومرات بالبعاد يمكن تهدى لكن هي مصممة علشان هي إللي بعد كدة هتشيل ذنب كل إللي هيجرى بسبب التشتت اللي هيحصل لنا وإنها هتبقي المذنبة الوحيدة قدامكم ،

وتابع وهو ينظر إليها بقوة:

_ وطالما هي إللي شدت الحبل علي الأخر تستحمله بس يارب تفضل مستحملاه علي الأخر وميخنقهاش في النهاية.

رمقته بغضب مستطير من رماديتيها المشتعلة وهدرت به بحدة:

_ مستني تشمت فيا ياإيهاب مش هنولها لك وهثبت لك إني هفضل راندا المالكي وبردوا هحرق قلبك وهشربك من نفس الكاس والأيام بيننا .

اهتز فكيه بسخرية وردد بلا مبالاه:

_ مبقاش يفرق معايا حاجة ياراندا ومهما تحاولي تعملي إنتي المضرورة لوحدك في الاخر علشان أنا عارف ومتأكد مهما عملتي ولفيتي وجربتي في النهاية مش هتعرفي تبدليني ولا حد في الدنيا دي هيقدر ياخد مكاني .

خشيت أن تضعف فصاحت بقوة مصتنعة:

_ عادي مهما تبين عدم اهتمامك وانك مش فارق معاك بس العيار إللي ميصبش يدوش.

بعد عدة ساعات قضوها في المناقشات والمحاورات تم الطلاق وانفصلا راندا وإيهاب في موقف مهيب ،

خراب البيت ودماره موقف له رهبة مميتة لجميع الأطراف وخاصة لزوجين عاشقين ،

بعد ساعتين من الطلاق غادرا الجميع وما إن أصبحت وحدها حتي انخرطت في بكاء مرتفع تدمي لها القلوب وانهارت انهيارا كليا وكأنها بفعلتها تلك انتقمت من حالها لا منه هو.

__________________________

بعد مرور ستة أشهر أخري تغيرت فيهم حياة الكثيرين تماما فقد دخلت راندا مرحلة اكتئاب شديد بعد الطلاق مما أدى إلي تطور أبنائها في طريق الضياع أكثر وأكثر وهي لم تعد تخرج من تلك الدوامة ،

أما مريم تدربت كثيراً في البنك وأثبتت جدارتها بمهارة فائقة واستلمت مكانها وتتنقل في مجال المحاسبة ببراعة تحت تدريب جميل شخصيا وعلاقتها برحيم أصبحت أكثر عشقا وغراما وأصبح يغار عليها غيرة عمياء فقد تغير مظهرها الخارجي كلياً بمجرد رتوش بسيطة في ملبسها المحتشم لكن أصبح عصريا يليق بصاحبة العيون الفيروزية ،

وأما عن إيهاب انخرط أيضاً في دوامة الحزن وكان يري أبنائه قليلا جدا نظرا لأنه انشغل في تجهيز مكتبه الهندسى الذي أنهاه في أربعة أشهر وكلف عليه حملة إعلانية تليق به ،

أما عن ريم عادت الي تصميماتها من جديد ولكن استطاعت ان تخلق من وسط الحزن إبداعا أبهر الجميع في عالم الفاشون مما أثار خوف مالك أن يحتكرها أحد المنافسين وخاصة أنها بدأت بعرض جميع تصميماتها علي مواقع السوشيال ميديا وحصدت تفاعلا رائعا وكان مالك متابعاً لها بشغف ،

وأصبحت ترسل له التصميمات شخصياً دون مدير أعماله ، ومن وقت للأخر يسألها عن رأيها في العمل المباشر معه تجاوبه بأنها غير مستعدة الأن مما استدعى قلقه ،

يقف مالك في شرفة مكتبه يتابع المارة بشرود وبيده كوب القهوة الخاص به ،

دخل علي صديقه ولاحظ شروده فوقف بجانبه متحدثاً باستفسار:

_ ده الموضوع باينه كبير أووي، فيه ايه ياعم مالك ؟

وتابع بمشاغبة:

_ شكلك حنيت للعرق الايطالي اللي إنت مدوبه ومدوخه معاك وشحتفت قلبه علي الاخر ؟

نظر إليه بنصف أعين وأجابه بحدة خفيفة:

_ جري ايه ياعم الخفيف إحنا هنهزر ولا ايه !
ماتمسك لسانك ده شويه.

ضحك علي حدته وتحدث بمرواغة:

_ الله وأنا مالي ياعم الحيران ماتسأل عينيك إللي سرحانه ودماغك إللي مش فيك .

ذهب إلي مكتبه واستلقي علي كرسيه بإهمال وردد :

_ شوف بردو ! بقولك ايه هو احنا مش مخلصين موضوع جوليا ده من زمان وقلت لك كانت صفحه وطويتها زي إللي قبلها مع الفارق إن بيجمعنا علاقة شغل وكل احترام ،

واسترسل بتنبيه:

_ ياريت منتكلمش في الموضوع ده تاني.

تململ في جلسته وهتف بلا مبالاه:

_ ولا تاني ولا أولاني ياباشا ،
إلا صحيح عملت إيه مع مدام ريم ، لسة مصممة على رأيها ولا ايه ؟

زفر بسأم وأجاب:

_ والله أنا اللي قالقني ومخوفني موضوع ريم ده بالذات ،

واستطرد بخوف:

_ مش عارف مماطلتها دي سببها ايه ؟

تفتكر حد انها شايفه نفسها في مكان أحسن من هنا زي ماكنت بتقول ؟

أجابه بحيرة:

_ والله ما عارف ،بس لو ده حصل كفى الله الشر يعني أكيد هنعرف .

قطب جبينه ونطق بحزن:

_ ده لو حصل فعلاً هنخسر كتير جدااااا ، أكتر الاتيليهات بتاعتنا واللي احنا بنتعامل معاهم برة وجوة بيختاروا تصميماتها بالذات ومش عايزين غيرها .

وأثناء انشغالهما في الحديث دقت السكرتارية علي الباب ودلفت وهي تهتف بعملية :

_ مدام ريم المالكي برة هي وواحد بيقول إنه أخوها وعايزة تقابل حضرتك .

نظر إلي علي وتسائل باستغراب:

_ ريم المالكي! مين انت تعرفها ؟

أجابه وهو يرفع يديه في الهواء:

_ لا والله هعرفها منين ،
وتابع وهو ينظر إليها مشيراً بأمر:

_ خليهم يتفضلوا ، يمكن عروسة وجاية تختار كوليكشن .

هزت راسها بطاعة وفتحت الباب مرددة وهي تنظر إليهم بابتسامة ترحيب :

_ أهلاً وسهلاً اتفضلي يافندم مالك بيه في انتظاركم .

دلفت بخطي ثابته مستقيمة متواضعه تليق علي المكان المتواضع الذى حضرت فيه ويتبعها أخيها مرددا بابتسامة هادئة:

_ السلام عليكم ورحمه الله.

انتصب مالك واقفاً هو وعلي احتراماً للضيوف مرددين :

_ وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته ،
وتابع مالك وهو يشير إلي المقاعد القطنيه المريحة مرددا:

_ أهلاً وسهلاً ياجماعة نورتوا المالك جروب، اتفضلو.

ذهبوا إلي المقاعد بهدوء وجلس الجميع ،

وتحدث علي بذوق:

_ تحبو تشربوا إيه ياجماعه ؟

هتف رحيم برفض لطيف:

_ متشكر جدا يافندم لذوق حضراتكم وحسن مقابلتكم .

تحدث مالك بإصرار:
_ ميصحش طبعا لازم تشربوا حاجة ، أطلب قهوة ؟

وافق رحيم قائلا:

_ تمام إللي تشوفه يامستر مالك ،
واسترسل بدعابة:

_ والله أنا دماغي محتاجها فعلاً بسبب دوشة الطلبة في الجامعة ، واتصالات ريما اللي داوشاني بيها من الصبح .

نظر مالك وعلي إلي بعضهما باندهاش مرددين بصوت واحد :

_ ريما !

تحدثت بابتسامة هادئة:

_ أيوة يامستر مالك ريما ستور .

 

 

الثامن عشر من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close