رواية خطايا بريئة الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم ميرا كريم
من السهل أن نتفادى مسؤولياتنا، ولكن لن نستطيع أن نتفادى النتائج المترتبة على ذلك.
————–
في خضم كل ما تمر به حاولت أن تهاتفه كثيرًا كي تطمئن على أحواله خاصًة أنه في تلك المرات التي كان يسأل بها عن “يامن” وعلم باختفائه انقطعت اخباره عنها تأكلها قلبها عليه وخاصًة كونه لم يجيبها لذلك ذهبت لمنزله القريب وها هي تطرق الباب لعدة مرات دون جدوى وإن كادت تيأس وتغادر فتح و تفاجئ بها:
-خالتي!
طالعت “ثريا” هيئته الرثة مستغربة ثم عاتبته:
-ايوة خالتك اللي نستها يا واطي ومهنش عليك تطمن عليها في غياب ابنها
نكس رأسه قائلًا بخزي:
-حقك عليا
-مش هتقولي اتفضلي ولا ايه؟
افسح المجال لها مرحبًا:
-اتفضلي يا خالتي هو أنتِ محتاجة إذن
تقدمت “ثريا” بخطوات وئيدة قائلة:
-انا كنت حالفة مدخل البيت ده تاني بس اعمل ايه قلقت عليك وخوفت لما اختفيت مرة واحدة
اجابها وهو يتحاشى النظر لها من شدة خزيه:
-انا زي ما أنتِ شايفة…
تنهدت “ثريا” وهي تشمل هيئته الغير مُرتبة ابتدائاً من خصلات شعره المبعثرة إلى وجهه الشاحب وذقنه المستطالة دون تهذيب وعينه الغائرة وتلك الهالات الداكنة التي تحاوطها وتدل كونه لم ينم ولم يذق طعم الراحة من زمن لتتنهد وتقول وهي تجلس على أحد المقاعد القريبة مشمئزة من الفوضى التي تعم المكان والغبار الذي يكسو كل شيء حولها:
-هو انت مالك عامل ليه كده وبعدين ده البيت اللي كان بيشف ويرف من النضافة…البيت كأنه مهجور مفهوش واحدة ست
لم يجيبها بل ظل منكس الرأس حين تساءلت:
-هي مراتك هنا؟
نفى برأسه وقال بخزي من نفسه قبل أي شيء أخر:
-لأ أصرت تطلق وطلقتها
لوت “ثريا” شدقيها وقالت متهكمة تذكره بحمئته لها:
-أصرت أُمال فين الحب اللي كانت بتحبهولك وفين مصلحتك اللي كانت هتموت عليها
رد بندم:
-بلاش تزودي همي يا خالتي كفاية عليا اللي حصلي …لتحين منه بسمة متألمة وينعي نواقصه وتلك النعم التي حُرم منها:
-انا غبي وضيعت كل حاجة لا عارف انام ولا أَكُل ولا أشرب ولا ألبس والبيت زي ما انتِ شايفة حتى ولادي اتحرمت منهم
سايرته “ثريا” قائلة:
-اللي حصل حصل واظن ده كان قرارك ولازم تتحمل عواقبه… وبعدين مهما كان ولادك هيفضلوا ولادك و متنساش أن ليهم حق عليك مش معنى أنك طلقت امهم يبقى تنساهم وتاخدهم في الرجلين
-انا بتعذب من غيرهم يا خالتي ونفسي اشوفهم واحضنهم واشم ريحتهم بس خايف “رهف” تطردني وتكسفني قدامهم
-بلاش حجج فارغة روح وشوف ولادك “رهف” اصيلة ومستحيل تعمل كده…
-طب تفتكري في أمل تسامحني؟
رغم انها تعاطفت معه كأي أم ولكن تعلم حق المعرفة انه يستحق هو من اوصل ذاته لهنا لذلك ردت عليه بصراحة عادلة كي ترضي ضميرها:
-تسامحك ازاي يا ابني ده أنت حرقت كل المراكب وراك ومخلتش طريق رجعة وبعدين أنت اللي فرطت فيها وعمرك ما عرفت تحافظ عليها…وكنت مصمم على اختيارك ومفكرتش حتى تتراجع عنه في سبيل ولادك و كنت بتبرر اللي عملته و بتفرض عليها جوازك من التانية بالعافية وعايزها تتقبل وترجعلك الفلوس وتفضل ذليلة ليك…
وحتى في عز ما كانت مكسورة روحتلها بس علشان تساومها ومفكرتش في حاجة غير مصلحتك
مرر يده بخصلاته وقال بقناعات مازالت راسخة بركن ما من عقله رغم كل شيء:
– يا خالتي متصعبهاش عليا انا عارف إني غلطت وضعفت وبعدين انا معملتش حاجة حرام انا اتجوزت … ومنكرش إني ندمت …
-الندم متأخر ومبقاش يفيد يا “حسن”
-أنتِ جاية عليا يا خالتي
-انا نصحتك كتير وكان عندي أمل تغير من نفسك بس أنت عمرك ما اتعظت ومع ذلك هكلمها يا “حسن” ومش علشانك لأ علشان العيال و علشان ابقى عملت اللي عليا وربنا يقدم اللي فيه الخير
وعند أخر قولها تهللت اساريره بشدة وهو يأمل في فرصة ثانية تعيد له الحياة.
—————-
اتى ذلك اليوم المنتظر وها هي تجلس على ذلك المقعد الوثير المقابل لفراشها التي لطالما استيقظت و وجددته يتأملها من عليه أثناء نومها فقد
فرت دمعة حارقة كوت وجنتها بنارها ولهيب تلك الذكريات يهلك قلبها وسؤال لعين واحد يتردد برأسها كيف تمكن من خداعها فإن أحبها حقًا…كيف هان عليه فراقها .
فقد مر على غيابه شهر واربعة عشر يوم وتسع ساعات و دقيقتين وبضع ثوانِ
عجاف، كادت تفقد عقلها من دونه وملت من احتساب الوقت حتى تملك منها اليأس لدرجة انها اصبحت منطفئة لا تتحدث فقط شاردة ودمعاتها تنهمر من عيناها دون حديث تحتضن ذلك الثوب الذي عثرت عليه بشنطة سيارته بيدها وكأنه كافة احلامها تتجسد به…
انتشلها من بؤسها
دلوف “ثريا” قائلة بحنو شديد:
-كل سنة وانتِ طيبة يا بنتي
رفعت سوداويتاها الذابلة لها وقالت وهي تكفكف دمعاتها و تنهض تعلق فستانها بداخل خزانتها:
-وانتِ طيبة يا ماما “ثريا”
ربتت “ثريا “على كتفها بود وقالت ببسمة هادئة تواسيها:
-مش قولنا بلاش عياط حرام عليكِ نفسك يا بنتي
هزت رأسها واخبرتها بثبات واهي تحاول أن تجيده:
-أنا كويسة… و هبقى احسن
-إن شاء الله يا بنتي ربنا هيصلح الحال
أومأت لها “نادين” بحركة بسيطة تنم عن إحباطها لتتسأل “ثريا”:
-طيب ملبستيش ليه…البنات بره مستنينك…
-لبست هو فستاني وحش
قالتها وهي تطالع ثوبها الذي انتقته بنفسها لتلك المناسبة البائسة…لتجيبها “ثريا” بعتاب:
-حلو يا بنتي بس لونه غامق!
-علشان اسود يعني…عادي يا ماما “ثريا” كده كده الأيام زي بعض عندي ولولآ “ميرال” و”نغم” أصروا عليا مكنتش وافقتهم على فكرة العيد ميلاد اصلاً
-وفيها ايه بس البنات كتر خيرهم عايزين يفرحوكي وبعدين محدش هيحضر غيرنا
حانت منها
بسمة باهتة لم تصل لغيوم عيناها وقالت بيأس:
-عارفة… بس مبقاش في حاجة تفرحني يا ماما “ثريا” اليوم اللي كنت بستناه من سنين بقى كابوس بالنسبة ليا و عمري ما اتخيلت انه هيمر عليا من غيره
تنهدت “ثريا” واجابتها بحزن حاولت أن تداريه كي لا تزيدها عليها:
-حقك عليا يا بنتي
-أنتِ اللي حقك عليا يا ماما “ثريا” انا مدينة ليكِ بحاجات كتير أوي سامحيني إني حطيتك في موقف صعب بينك وبين ابنك
احتضنتها “ثريا” بحنو قائلة:
-أنتِ كمان بنتي يا “نادين”
وبعدين ليكِ عليا أول ما ربنا يهديه ويرجع لقرصلك ودانه واخليه يتشحتف عليكِ علشان ترجعيله
حانت منها بسمة تمثل اليأس بها فكم تمنت لو أن يحدث ذلك فعلًا ويعود لها ولكن كيف وهو للأن مازال يصر على عذابها.
-الله…الله مقضينها احضان وسيبنا ولا على بالكم
قالتها “ميرال” بعتاب و انتشتلتها بها من دوامة افكارها، لتجيبها”ثريا” بعدما اخرجت “نادين” من أحضانها:
-جايين أهو يا بنتي…
لتتدخل “نغم”ايضًا قائلة بدهشة:
-انا اول مرة اشوف عيد ميلاد من غير تورتة
ابتسمت “ثريا” واجابتها:
-التورتة جاية في الطريق متقلقيش وتعالى يلا نطلع باقي الحاجة من المطبخ
انصاعت “نغم” لها وساروا سويًا للمطبخ بينما تساءلت “ميرال” بقلق:
-أنتِ كويسة؟
أومأت لها بحركة بسيطة من رأسها، لتخبرها “ميرال” بقلة حيلة:
-طب يلا نطلع علشان لازم أروح قبل الساعة عشرة…
ابتسمت “نادين” وتساءلت:
-دي اوامر “محمد” مش كده!
هزت رأسها بنعم لتستأنف “نادين” بمغزى:
-هو حد جدع اوي يا “ميرال” اسمعي كلامه علشان بيحبك بجد
تنهدت “ميرال” وتحدثت:
-انا عارفة انه جدع وبسمع كلامه في كل حاجة
لتنصحها “نادين” بأسى كي لا تقع بما وقعت هي به قبلها:
-حاولي تتفهمي طباعه وتتعايشي معاها واوعي تستهتري بخوفه وقلقه عليكِ
مطت “ميرال” فمها واجابتها بعفوية:
-بحاول بس هو صعب اوي زي مادة المحاسبة المالية كده اللي كنا بنتهزء فيها
حانت من “نادين” بسمة عابرة وقالت:
-لسة فاكرة
-اه فاكرة وفاكرة أنك كنتِ اشطر مني علشان “يامن” كان بيذاكرلك
وعند ذكره جمدت معالم وجهها لتتلعثم “ميرال”:
-هيرجع…هو صحيح احنا لغاية دلوقتي منعرفش حاجة وكل محاولاتنا اننا نلاقيه مجتش بفايدة بس انا متأكدة أنه مهما بِعد هيرجع علشان بيحبك ومستحيل هيقدر ينساكِ بالسهولة دي
هزت رأسها ببسمة ممزقة فوق شفاهها وبداخلها تشكك بحديثها وكأن الحب اختلف منظوره عند الجميع إلا هي …لتستأنف “ميرال”:
-طب يلا نطلع لماما “ثريا” و”نغم”
أومأت لها “نادين” واتبعتها للخارج إلى أن وصلوا لحديقة المنزل التي أشرفت “ميرال” و”نغم” على تزينها بالورود والكثير من البالونات الملونة…اقتربوا ثلاثتهم منها وعايدوها بود وبمحبة خالصة لها ولكن هي كانت تبادلهم المعايدة ببسمة باهتة لم تصل لعيناها وكأنها فقدت معه سعادتها وكافة سبل الحياة…
ليجلسوا جميعًا ويتبادلون أطراف الحديث حين دلفت تلك الفتاة هادئة الملامح التي تذكرتها من الوهلة الأولى تحمل بيدها عُلبة كبيرة تحمل أسم مطعمه الشهير تعلقت عينها ب “ثريا” التي نهضت تستقبلها بحفاوة كبيرة وتلتقط منها قالب الحلوى ثم دعتها لموقعهم قائلة:
-دي “رقية” يا ولاد شيف بريمو وهي اللي عملت تورتة “نادين”
حيوها الجميع لتدعوها “ثريا” للجلوس بمقعدها جانب “نادين” وتنشغل بأخراج قالب الحلوى من عُلبته و وضعه على الطاولة
لتقول “رقية”:
-كل سنة وحضرتك طيبة
اجابتها “نادين” بإقتضاب:
-مرسي اوي…
لتتسأل “رقية”:
-هو حضرتك مش فكراني؟
لم تجيبها “نادين” لتسترسل هي ببسمة هادئة:
-أحنا اتقابلنا في مطعم مستر “يامن”
تجمدت نظراتها في العدم عندما تذكرت ذلك اليوم التي احتد الحديث بينهم بسببها وتعمدت أن تثير اعصابه كي تفض غليلها منه كونه مدح تلك ال “رقية” أمامها ودب بحديثه نيران مستعرة بقلبها وحقًا لم تجد مبرر للأمر حينها ولكن الأن هي تعلم علم اليقين أنها كانت تغار عليه منها ولذلك أخذت موقع هجوم.
انتشلها من دوامة أفكارها التي قذفتها بعيدًا صوت “رقية”:
– ماما “ثريا” وصتني على التورتة بتاعة عيد ميلادك واصريت اجيبها بنفسي بتمنى تعجبك
ابتسمت “نادين” بمجاملة وشكرتها ثم تساءلت بفضول:
-المطعم اخباره ايه في غياب “يامن”؟
ابتسمت “رقية” بثقة واجابتها دون أي نوايا سيئة:
-ماشي زي الساعة انا بشرف على كل حاجة بنفسي ومستر “يامن” بيديني التعليمات أول بأول
ابتلعت غصة بحلقها وتساءلت وقلبها يتلوى يترقب اجابتها:
-بيكلمك وبتكلميه!
اجابتها بتلقائية دون أن تنتبه لأثر حديثها على تلك البائسة من دونه:
-اه…بيكلمني هو وَكلني بإدارة المطعم في غيابه وبجد انا ممنونة اوي لثقته وببذل أقصى جهدي علشان اكون أدها
تقلصت معالم وجهها وذات النيران اشتعلت بقلبها، وكم شعرت حينها برغبة قوية بالبكاء ولكنها صمدت وتحاملت حتى لا تنهار من جديد أمامهم.
-يلا يا “نادين” نطفي الشمع
قالتها “ثريا” وهي تجذبها من يدها لتنهض قرب قالب الحلوى الذي نقش عليه اسمها مثل الحزن الذي نقش تمامًا على وجهها لبقية اليوم وحمدت ربها أنه انتهى وقد كان ختامه أنها انفردت بذاتها وخاضت في نوبة بكاء هستيرية تنعي به ما توصلت له حياتها.
——————–
هناك دائماً المزيد من الفرص للتصحيح، لصياغة حياتنا بالطرق التي نستحق أن نعيش بها. لا تبددي وقتك تلعنين الفشل. إن الفشل معلم أعظم من النجاح. أنصتي، تعلمي، انطلقي.
————–
اصطحبت أطفالها بيوم العطلة لشراء الكثير من لوازمهم وهاهي عادت بهم بعد يوم مليء بضحكاتهم و حافل بصخبهم المعتاد…
فقد تدلوا من سيارتها التي ابتاعتها في الأونة الأخيرة وحققت تلك الرغبة المكبوتة التي كان يعارضها بها دائمًا ويفرض عليها أن لا تخطوا خطوة واحدة سوى معه.
فقد حملوا مشترياتهم وسارو لمدخل البناية حين تسمر “شريف” في الأرض وعينه شخصت بعيد، لتدفعه “رهف” برفق:
-حبيبي يلا مالك
اجابها الصغير بحيرة:
-هااا أصل…
-مالك يا حبيبي اتكلم
نفى الصغير برأسه وركض للداخل يلحق مربيته وشقيقته استغربت “رهف” من فعلته وجالت بعيناها محيط المكان ولكن لم تجد شيء يثير الريبة لذلك لم تعطي اهمية للأمر ودلفت للداخل وما أن وصلت لشقتها ساعدوها في ضب الأشياء ثم بدلوا ملابسهم وها هي تدثر اطفالها بأحضانها تحاول جاهدة أن تستسلم للنوم دون ان تسمح لذكرياتهم المؤلمة أن تقتحم عقلها ككل يوم وتورق مضجها فبرغم ذلك الصمود الذي نراها عليه بعد نكبتها إلا أن بداخلها هشيم يصعب ترميمه فرفات الذكريات الأليمة مازالت تطاردها وكأن ذلك الجرح الغائر بقلبها يرفض الالتئام، انتشلها من أعاصير افكارها صوت صغيرها هامسًا:
-مامي أنتِ لسة صاحية
-هااا اه يا حبيبي منمتش ليه !
اجابها الصغير وهو يعتدل بنومته ويتنهد بقوة:
-مامي انا بيتهيألي شوفت بابي واقف قدام البيت عند الشجرة
زفرت “رهف” بقوة ونفت برأسها لاتصدق حديث الصغير فمن المستحيل أن يأتي إلى هنا ويتوارى عن انظارهم ف “حسن” التي تعرفه متبجح و أطفاله هم أخر همه ولديه أولويات أخرى غارق بها مع تلك الخبيثة المتلاعبة لذلك هدرت بنبرة ساخرة وهي تربت على خصلات الصغير:
-صح يا حبيبي اكيد بيتهيئلك بابي مسافر
هز الصغير رأسه واخبرها بحيرة:
-ممكن يكون بيتهيألي فعلًا بس…
قطع الصغير حديثه ونكس رأسه خوفًا أن يحزن والدته، لتحسه “رهف” على الاستئناف:
-بس ايه اتكلم يا “شريف”!
تلعثم الصغير قائلًا:
-انا عارف انه هو أخر مرة كان مزعلني ومزعلك بس وحشني ونفسي اشوفه
طعنة سكين بصدرها شعرت بها فور حديث صغيرها جددت ألمها وكأن كان ينقصها فنعم تلك الحقيقة التي لامفر منها فرغم كافة افعاله المشينة لا تغير كونه والد ابنائها، ارتعش فمها وحاولت الثبات قائلة دون أن تسمح لعقلها أن يذكرها بكم الخذلان الذي اغدقها به في كنفه:
-أول ما يرجع اكيد هيجي يشوفكم
هنا قالت “شيري” بنبرة ناعسة للغاية بعدما استيقظت على همسهم:
-هيجي ازاي انتِ قولتيله متجيش هنا تاني يا مامي
اغمضت “رهف” عيناها وذكرى ذلك اليوم تمر أمام عيناها كأنها اليوم وليست من ثلاث شهور منصرمة ثم قالت بصمود تحاول التحلي به كلما تذكرته:
-كنت متعصبة يا ولاد وهو لو عايز يشوفكم انا عمري ما همنعه عنكم ده باباكم واكيد بيحبكم هو بس مسافر وأول ما يرجع اكيد اول حاجة هيعملها أنه هيطلب يشوفكم
هز “شريف” رأسه وقال بِفطنة:
-انا عارف يا مامي أنكم سبتوا بعض وعلشان كده انتِ مبقتيش تعيطي وانا مش عايزك تزعلي تاني ولا عايز نرجع هناك علشان كان بيزعقلك و مش بيرضى يخرجنا وعلطول عنده شغل… بس هو بابي ومعنديش بابي غيره وبحبه
-وانا كمان …
قالتها “شيري” لتشارك شقيقها الرأي
بينما هي قاومت وقاومت ولكن دون قصد ولوهلة من الزمن تنحى صمودها و فرت دمعاتها تفضح هشاشتها…
——————–
-“ميرااااااااال”
قالها “فاضل” بحده مبالغ بها تنم عن غضب عظيم حين دلفت هي من باب القصر…لتهرول إليه قائلة بلهفة وهي تحتضنه:
-بابي أنت رجعت من السفر امتى وحشتني اوي
أخرجها من بين يديه وهدر بجمود غريب :
-رجعت من شوية و ملقتكيش كنتِ فين؟
أجابته هي ببسمة هادئة:
-النهاردة كان عيد ميلاد “نادين” صاحبتي وكنت عندها
هز رأسه وتساءل بحده:
-عايز اعرف…ازاي بتمدي ايدك على “دعاء” بغيابي هو للدرجة دي أنا معرفتش اربيكِ
توسعت عين “ميرال”وتعالت وتيرة انفاسها حين أدركت أن “دعاء” حاكت الأمر لصالحها وأثرت عليه كعادتها لذلك حاولت التبرير:
-بابي هي اللي استفزتني واتكلمت عن أمي…وكمان اتدخلت في حياتي و……
قاطعها “فاضل” وهو يزجرها بنظراته قائلًا بإنحياز لطالما كان بغير محله:
-هي هنا مكاني وعايزة مصلحتك
غامت عيناها من شدة خذلانها ولكنها تعودت منه على ذلك، ومع ذلك دافعت عن ذاتها قائلة:
-بس أنا معملتش حاجة غلط يا بابي هي اللي….
قاطعها من جديد بحده وهو تحت تأثير ذلك السم التي ملئت به تلك الصفراء رأسه:
-ولما تهينيها وتتهميها وتهدديها علشان خاطر واحد كان شغال عندنا ده اسمه ايه؟
-أنا متأكدة أن مراتك هي اللي بعتت بلطجية ضربوه وكسروا العربية علشان يبعد عني.
ضيق” فاضل” عينه وتساءل بريبة:
-يبعد عنك…هو ايه اللي يربط بينك وبينه اصلًا؟
هنا تدخلت “دعاء” ببسمة متخابثة وقالت بتهكم وهي تتدلى الدرج تحت نظراتهم:
-قوليله يا “ميرال” من حق باباكِ يعرف ايه اللي بينك وبينه…
نظر لها ابيها بترقب أجابتها بينما هي زاغت نظراتها بينهم بشيء من الأرتباك تغلبت عليه سريعًا واجابته برأس مرفوعة:
-انا و”محمد” بنحب بعض
صرخ ابيها مستنكرًا:
-افندم بنتي أنا تحب سواق…
دافعت “ميرال”:
-بابي الشغل مش عيب وبعدين هو مؤدب ومحترم وعنده طموح هو اشتغل محاسب في شركة كبيرة وشاطر في شغله وليه مستقبل
-انا مش مصدق أنتِ اكيد اتجننتِ…
أكدت بثقة:
-لأ انا اول مرة اكون واثقة من اختياراتي انا بحبه ومش فارق معايا أي حاجة
ليعترض “فاضل” بنبرة منفعلة للغاية:
-انتِ مش مدركة اكيد عواقب اللي بتقوليه!
لتستمر هي على دفاعها:
-يا بابي افهمني ارجوك الشغل مش عيب والفقر كمان مش عيب أنت راجل عصامي وكنت في يوم من الأيام عندك طموح زيه
تأففت “دعاء” بسخط:
-انتِ ازاي تقارني باباكِ بالجربوع ده…وبعدين أنتِ عايزة تخلي فضيحتنا على كل لسان…
هاجمتها “ميرال” بشراسة:
-اظن انتِ اخر حد ممكن يتكلم يا “دعاء” ومتنسيش أنتِ كنتِ ايه قبل ما بابي يتجوزك
زمجرت “دعاء” بغيظ:
-قصدك ايه أنتِ بتعايريني يا “ميرال”
-افهمي زي ما تفهمي انا مش فارق معايا المهم عندي انك متتدخليش في حياتي وخليكِ متأكدة أن حقه هيرجعله واللي عملتيه مش هيعدي
صرخت “دعاء” تحرضه عليها:
-سامع يا “فاضل” بنتك بتتهمني و بتهددني تاني وانت واقف تتفرج
نظر لها نظرة عميقة مشككة استقبلتها هي بنظراتها الخادعة حين تساءل:
-انتِ عملتي كده فعلًا؟
أصرت على موقفها قائلة ببراءة ليست ابدًا من شيمها:
-لأ…
لتصيح “ميرال” تكذبها:
-كدابه…كدابه متصدقهاش يا بابي
-انا مش كدابه ومفيش دليل واحد ضدي واظن عيب أوي لما تشكي فيا أنا…علشان حتة سواق جربوع طمعان فيكِ و عملك غسيل مخ
-“محمد” مش جربوع ومش طمعان فيا ولو في حد الطمع عامي عينه فهو أنتِ…
-شايف بنتك بتتهمني بأيه…أتكلم يا “فاضل” و وقفها عند حدها… انت وعدتني هترجعلي حقي وتردلي اعتباري اتصرف
هز “فاضل” رأسه متأثرًا بحديثها وقال بانحياز مغيظ:
-هي كلمة واحدة مش هكررها…الولد ده تبعدي عنه نهائي وتقطعي كل صلة ليكِ بيه
واتفضلي اعتذري ل “دعاء”
نفت برأسها وبالسخرية جاء قوله الأخير بمثابة الشرارة التي أشعلت أتون النار بداخلها لتثور ثورتها قائلة بإصرار وبتمرد استشفه ابيها بنبرتها بكل وضوح:
-مش هعتذر لحد والقلم اللي خدته هي تستحقه…
ومش هبعد عن “محمد” أنا بحبه وأنت بتطلب مني المستحيل…
قاطعها بحده:
-اخرسي خالص واياكِ اسمعك تقولي كلام من ده مرة تانية واتفضلي اطلعي على اوضتك ومن بكرة مفيش خروج وكل خطوة هتخطيها هتبقى بحساب
نظرة شامتة لمعت بعين “دعاء” حين دفع “ميرال” أمرًا إياها من جديد:
-اتفضلي ولازم تعرفي أن ده قرار قطعي مفيش فيه مجادلة…
-أنا بنتك ولازم تسمعني وتفهمني
لم يعير ابيها رجاءها أي اهمية بل كان فكرة واحدة هي ما تسيطر عليه وبثتها “دعاء” بعقله بكل براعة أن ابنته ستتركه كما فعلت أمها وتفضل عليه رجل أخر….لذلك ثارت ثائرته حين دفعها دفع لغرفتها وقام بحبسها تحت مضضها واعتراضها ومحاولاتها الشتى بالدفاع عن مالك قلبها وعن حبها له… فكان يظن أنه فعل الصواب كي يحافظ عليها ويؤد ذلك التمرد الذي لطالما كان يخشاه منها وتخوفًا أن تفعل كما فعلت والدتها في الماضي.
—————–
استيقظت في الصباح الباكر على مكالمة هاتفية من المحامي يخبرها بحضوره اليوم لأمر هام…حقًا لم تعير الأمر أهمية ولكن وجدت من الضروري اخبار “ثريا” بالأمر وبالفعل نهضت من فراشها و بدلت ملابسها وسارت في طريق غرفتها وإن كادت تطرق على بابها استمعت لتوسل “ثريا” المختنق بعبراتها وهي تتحدث بالهاتف:
-علشان خاطر ربنا كفاية كده وارجع يا ابني قلبي مبقاش مستحمل
تيبس كامل جسدها وبرقت عيناها عندما ايقنت انها تحدثه وكادت تندفع للداخل لولآ حديث “ثريا” الباكي وتوسلها المستميت:
-عارفة انها غلطت بس ندمت ومن حقها تسمعها وتخليها تدافع عن نفسها هي مظلومة و…
-……………
-يعني ايه ما مبقاش يهمك…دي مراتك
-…………………
-يعني ايه بتتصل تطمن عليا بس انت فاكر كده بتعمل اللي عليك أنت جبت القسوة دي منين أنا مش راضية عنك وقسم ب الله لو ما رجعت وعقلت هنسى أن ليا ابن اسمه “يامن”
-……………
‘-مش هفهم ولا هسمع واللي عندي قولته….
وهنا قررت الأنسحاب ودمعاتها تفر تسبق خطواتها فلم تشعر بذاتها إلا وهي تسحب مفاتيح سيارتها وتغادر المنزل راغبة في أن تنفث عن حزنها بعيدًا عن اجواء ذلك المنزل المحاط بعبق خذلانه لها فحتى هوائه كان مغبر بالذكريات ويطبق على انفاسها .
——————
أما عن” ثريا ” كانت غافلة تمامًا انها استمعت لها وحين اغلقت الخط مع ولدها كانت دمعاتها تفر دون هوادة فقد اصابها اليأس الشديد حين لم يستطيع من بعثته ليبحث عنه أن يستدل عليه ويعيده لها لا والأنكى انه حين يهاتفها “يامن” ذاته لا يريحها ولم يرضى اخبارها بمكانه فقط يطمئن على صحتها وإن تطرقت لسيرة” نادين “يجن جنونه ويرفض التحدث عنها وحقًا الأمر يقتلها فهي عاجزة ولاتستطيع فعل شيء حتى انها لم تخبر” نادين” بأتصالاته المخيبة للآمال خوفًا على مشاعرها ولذلك كان ليس بيدها شيء سوى أن تدعوا الله أن ينزع الغمام عن بصيرته ويرأف بحال تلك المسكينة التي لاحول لها ولاقوة.
كفكفت دمعاتها واستعادت ذاتها وتناولت هاتفها من جديد كي توفي بذلك الوعد لابن شقيقتها وهاهي تطلب رقم “رهف” قائلة ما ان ردت عليها:
-ازيك يا بنتي
-ماما “ثريا” وحشتيني اخبارك ايه؟
-وانتِ كمان يا بنتي ربنا يعلم معلش اعذريني
-لأ يا ماما انا عذراكي وعارفة اللي عندك انا كمان مقصرة معاكِ
حقك عليا والله الشغل والولاد مخليني مش مركزة في حاجة…المهم طمنيني عليكِ وعلى صحتك
-ألف حمد وشكر لله يا بنتي أنتِ اخبارك ايه و”شيري” و”شريف” عاملين ايه
-تمام الحمد لله كلنا كويسين…
صمتت”ثريا” بعدها لهنيهة مترددة لتشجعها “رهف”:
-خير يا ماما…سكتي ليه!
تحمحت “ثريا”بحرج ثم قالت:
-“حسن” عايز يشوف ولاده يا “رهف” ولسة عنده أمل انك تسامحيه وترضي ترجعيله
غاب رد “رهف” حتى ظنت “ثريا” انها اغلقت ولكن صوتها المبطن بالحزن وصلها اخيرًا:
– الولاد اصلًا بيسألوا عليه وانا عمالة اقولهم أعذار واتحجج انه مسافر…
تنهدت “ثريا” واستفاضت قائلة:
-هو ملهوش عين يجيلك أو يكلمك ومكسوف من عمايله وبيقول انه ندم ونفسه ترجعيله وتديله فرصة تانية
حانت منها بسمة متألمة وصل أنينها ل”ثريا ” حين عقبت هي:
-فرصة تانية…أزاي يا ماما بس بعد كل اللي حصل
-علشان خاطر ولادك يا بنتي افتكريله حاجة حلوة تخليكِ تبقي عليه
استفاضت “رهف” بإقتناع تام وبقناعات رسخت داخلها بعد نكبتها:
-هو استنفذ كل الفرص وهدم كل اللي ليه جوايا…اللي بتقوليه صعب…وإذا كان على الولاد صدقيني نفسيتهم افضل بكتير …حياتنا بقت هادية من غير خناقات أو زعيق و مفهاش توتر أو اعباء أنا مش أول أم تربي ولادها لوحدها وبعدين ولادي اخدين على غيابه وطول عمري بسد في نواقصه قدامهم ….ورغم ده مش هقولك إني اتعافيت منه بالكامل لأ بس هقولك أنا هعافر لأخر نفس فيا علشان خاطر ولادي وهعمل علشانهم أي حاجة إلا إني ارجع لواحد عمره ما قدرني ولا احترمني… أنا لو فكرت ارجعله يا ماما هكره نفسي ومش هحترمها
-بس هو طبعه مش خاين يا بنتي دي كانت نزوه وهو نفسه اعترف بكده وقال أنه ندم و طلقها
-المبادئ مبتتجزأش يا ماما ومينفعش نبرر الخيانة بمصطلح تاني علشان نجملها…”حسن” عمره ما هيشوف نفسه غلطان هو كسرني و اتهمني بالنقص و برر أن ده حقه وشرع ربنا…واكبر دليل على ده أنه لما طلقها فاكر اني ممكن اسامح وأرجع وكأن جوازه منها الحاجة الوحيدة اللي كسرتني…و اتغاضى عن كونه حد مؤذي، ناقم، وعِشرته مش مريحة…
-لا حول ولا قوة إلا بالله والله ما عارفة اقولك ايه يا بنتي؟
-متقوليش يا ماما “ثريا” ولو سمحتي بلاش تفتحي معايا الموضوع ده وإذا كان على الولاد انا لا يمكن امنعهم عنه دول ولاده وللأسف دي الحاجة الوحيدة اللي مش هعرف اغيرها ولازم اتعايش معاها
-ماشي يا بنتي هكلمه وهتفق معاه تجيبي الولاد يشوفهم هنا بدل ما يجيلك ويحصل مشاكل تاني او انا اجيلك ويشوفهم في وجودي
-اللي تشوفيه يا ماما انا موافقة عليه…
-خلي بالك من نفسك ومن الولاد
-حاضر
لتغلق معها “رهف” وتتنهد تنهيدة عميقة من صميم حطامها وتدعو أن تظل على صمودها ف والله لو كان يوجد سبيل لتتقبل عِشرته من جديد ما كانت ترددت من أجلهم ولكن كيف وهو استنفذ كافة الفرص واستنفذ طاقتها على الأخير فحتى لم تسلم الذكريات منه فكلما تذكرته تذكرت أفعاله التي سلبتها آدميتها وكرامتها ويكفي انها لم تكن يوم ضعيفة أو منكسرة إلا معه هو من اعدمها الثقة بذاتها ولغى شخصيتها ولكن الأن حقًا تحمد الله كونها استعادت ذاتها من جديد واستعادت تلك الشخصية التي كانت تتوارى من أجله وتتنازل وتتهاون دون حساب في سبيل ارضائه والمحافظة على بيتها مثل كثيرًا من النساء امثالها الذي زرعوا الأهل بعقولهم تلك الأفكار العرفية الشائعة كون مسؤلية المرأة دائمًا المحافظة على بيتها وزوجها تحت أي ظرف كان؛عليها التحمل والخنوع… فتبًا لتلك الأفكار العرفية التي جارت على حق الكثير من النساء واجبرتهم على التضحية خوفًا من بلبلة مجتمع يحكمه القيل والقال و المظاهر الأجتماعية الخادعة التي ينسب فشلها وكافة اعبائها للنساء، بينما لاتوقع على الرجال أي عوار بل بالعكس تمنحهم الحرية المطلقة مما دفعهم يبررون القوامة على اهوائهم غافلين أن القوامة مسؤولية أمام الله عز وجل والمراد بها هو القيام على أمر النساء بالحماية والرعاية وتلبية مطالب الحياة، وليس معناها القهر والاستبداد بالرأي، أو التسلط على المرأة وإذلالها، فالله عز وجلّ خص الرجال بالتكليف لا للتشريف.
—————–
كانت تسوق سيارتها دون وجهة محددة وبعد أكثر من ساعتين استغرقتهم في الطريق وجدت ذاتها دون أن تشعر أمام مطعمها الشهير الذي أحضرها إليه من قبل بمدينة الاسكندرية.حقًا لا تعرف ما الذي اتى بها إلى هنا ولكن لسبب غريب وجدت ذاتها تصف سيارتها وتتدلي منها وتسير لداخله واقفة في منتصفه تطالع رواده وعامليه بنظرات تائهة وكأنها تبحث عنه بين الوجوه، اقترب “حلمي” الذي علم هويتها على الفور قائلًا بترحيب :
-اهلا يا” نادين” هانم المكان نور اتفضلي
رمقته “نادين” بعيون يتجسد التوهة بها جعلته يقترح عليها أن يصعدا لمكتب بالأعلى فإنصاعت إليه بخطى وئيدة وذكرى ذلك اليوم الذي احضرها به إلى هنا تتدفق بعقلها شيء فشيء إلى أن وصلت للطابق الثالث واللذين يطلقون عليه طابق العشاق كما اخبرها هو…تجمدت نظراتها التي يقطر منها الحزن على تلك الطاولة التي كانوا يجلسون عليها سابقًا وتذكرت كيف كان يطعمها بفمها ويضع كل ما تطاله يده بطبقها…لتغيم عيناها ثم بخطى وئيدة سارت لتقف أمام لوحتها التي بعرض الحائط وطنين ذكرى اخرى راودتها حين همست متفاجئة:
-يامن” ده أنا…
-اه أنتِ يا مغلباني كنت لما باجي هنا بتوحشيني وبفضل أَعد الثوانِ علشان أرجعلك، وصورتك كانت بتصبرني وتهون الوقت عليا لغاية ما أرجع واطمن قلبي بقربك
قطعت وصال ذكرياتها المميتة قائلة بهمس حارق وبوتيرة انفاس متعالية:
-كدب ….كدب….كله كان كدب
لتجد ذاتها دون تفكير تندفع تنبشها بأظافرها بقوة غير عابئة بجرح اناملها ولا بنظرات كل من حولها …فقد تمكنت من نزع جزء منها وبالطبع لم يسلم البقية فقد نزعتها على الأخير عن الحائط بجنون وبعصبية مفرطة وكأنها أرادت أن تنتقم منه ومن انجازاته الواهية بعشقها… فقد وهمها أنه لا يطيق فراقها ووضع صورتها ليطمئن قلبه بها فأين هو وكيف لذلك القلب الذي ادعى عشقها أن يتخلى عنها…وحين انتهت شعرت برغبة قوية بالبكاء ولكنها صمدت أمام نظرات وهمهمات كل العاملين من حولها حتى أنها التفتت لهم قائلة بنبرة مرتعشة وهي ترفع منكبيها تدعي عدم اكتراثها:
-صورتي ومكنتش عجباني عادي…
ختمت كلماتها ببسمة ممزقة ظلت على ثغرها لحين غادرت وهي تكبت تلك الرغبة المُلحة بالبكاء ولكن لم تريد أن يشهد على انهيارها أحد فيكفي كونها في نظر الجميع مثيرة للشفقة الآن لذلك توجهت بسيارتها
لذلك المكان الذي شَهِد على تصريحها له بحبها…صفت سيارتها بجانب الطريق ولم تتدلى منها وظلت نظراتها متجمدة من جلستها على ذات المكان الذي جمعهم من قبل أمام البحر تشاهد موجاته المتقلبة التي تشابه حياتها الأن بعيون دامية تقطر بالحزن …فقد جاءت تلك الذكرى لتفتك بأخر ذرة صمود بها وتجعلها تدرك أن لا مفر من ذكرياتها و أنين قلبها حين تترددت جملته بعقلها
(اللي يحب ميعرفش يكره ومبيعرفش غير يسامح)
وهنا ظلت كلمات “ثريا” ايضًا التي استمعت لها وتوقعت ردوده عليها تطعن بقلبها وتعذب روحها فقد كرهها ولم يعد يهتم لأمرها… تركها وهي بأمس الحاجة له وكم خيب ظنونها…فهو أثبت لها أن ثأره لكرامته وكبريائه كرجل أهم بكثير كونها تنتمي له ولا تستطيع العيش من دونه…
شهقة قوية حارقة صدرت من فمها وكأنها كانت تجثم على انفاسها وتبعها انفجارها ببكاء مرير يقطع نياط القلب وقولها بأنهيار تام وبصوت جهوري صارخ وهي تضرب المقود بكفوفها:
-كدب كله كدب…ياريتني ما حبيتك ياريتني كنت لسة بكرهك
انا ليه صدقتك ليه…ليه عملت فيا كده … حررررررام عليك …حرااااام عليك….لتتمسك موقع خافقها الذي يعتصر من شدة الألم وتضرب بقوة صارخة بحرقة وبقهر لا مثيل له وبيأس تملك منها على الأخير:
-متوجعنيش…دقاتك بتقتلني وقف وريحني…ريحني…انا عايز اموت….والله تعبت…تعبت
تفوهت بتلك الكلمات بأنهيار تام وهي تقبض على خصلاتها بجنون وكافة جسدها ينتفض وينتفض تزامنًا مع عبراتها المتألمة التي لم تنضب وصوت شهقاتها المتعالية وصراخها
يصدح بأرجاء المكان وقد وصل صداه بكل وضوح لصاحب القلب المنشطر الثائر لكرامته الذي اتى منذ وقت قليل لذات المكان الذي جمعهم كعادته كل يوم وقت الغروب ولحُسن حظها شَهد على انهيارها بعيون حائرة متألمة واستمع لكل كلمة تفوهت بها بقلب معذب وعقل حائر مشتت بعيد عن ضلالها…وكأن الله ارسلها بذات التوقيت عن عمد حتى يجعل قلبه يرق لها ويؤثر عليه لكي يلملم شتاته و يرأف بها.
——————-
غابت الشمس وحل الليل بقتامته التي أصبحت تضاهي تلك القتامة التي احتلت روحها فقد قررت بقرارة نفسها أن لا تذرف المزيد من اجله وسوف تجاهد وتصمد كي تتخطاه كما تخطاها و ها هي تعود للمنزل بهيئة متعبة للغاية و وجه شاحب وملامح متهدلة بإنكسار وعيون ساهمة يتحجر بهم الدمع تسير بتؤدة لمدخل المنزل حين أتاها صوت تعلم صاحبه تمام المعرفة:
-كنتِ وين ياجلب خالك انا بجالي كتير منتظرك
رفعت رأسها وابتلعت غصتها بعيون زائغة وهمست متفاجئة:
-خالي…ازيك…انا كنت…كنت بتمشى بالعربية شوية…
هز رأسه بتفهم وقال بمحبة يتوارى خلفها الكثير:
-وماله يا بتي ميضرش واصل طيب ايه مش هتسلمي عليا يا جلب خالك
تقدمت منه “نادين” ومدت يدها تصافحه كما تعودت ولكنه جذبها لأحضانه قائلًا:
-اتوحشتك يا بتي طمنيني عنك…حجك عليا انشغلت في السخماطة الإنتخابات ومجدرتش ادلى من وجتها
هزت “نادين” رأسها وخرجت من بين يده متمتمة:
-ولا يهمك ياخالي
-إن شاء الله العمر كلاته ليكِ يا بت “غالية”
قالها وهو يدس يده بجلبابه ويخرج عُلبة من المخمل يقدمها لها قائلًا بتباهي:
-ده حلج دهب جيراط٢٤ مش خسارة فيكِ
-شكرًا يا خالي
ربت على كتفها وكان سيتسأل عن ما يشغله لولا أن صوت “ثريا” صدح مجلجلًا:
-خير ايه اللي جابك يا”عبد الرحيم”؟
قالتها هي بعدما هرولت من الداخل كي تلاحق الموقف وهي تعاتب “نادين” بنظراتها كونها اقلقتها عليها و خرجت دون أن تعلمها، نكست “نادين” نظراتها خوفًا أن يظهر العتاب بها كونها أخفت عليها أنه يحاكيها ويصر على رفضه لها.
ليقول ” عبد الرحيم” بنوايا غير بريئة بالمرة:
-اباي عليكِ يا وَليه مش رايدة أَچي ولاإيه…ده أنا بجالي سنين بستنى اليوم اللي تتم فيه بت “غالية” السن اللي الجانون جال عليه.
تناوبوا النظرات بينهم حين تساءل هو بخبث:
-أمال فين الغريب؟
ابتلعت هي غصة بحلقها وشحب وجهها ولم تجيب ولكن “ثريا” ارسلت لها نظرة مطمئنة وأردفت بحماية وبشراسة أم تحمي ابنائها:
-ابني مسافر في شغل…واخر مرة تقول عليه غريب ابني ليه أسم وانت عارفه كويس…
-واه محموجة إكده ليه هو أني غلطت في البخاري إِياك
استغفرت “ثريا” بصوت جهوري، لتحين منه بسمة متهكمة ويتساءل:
-خلاص ميبجاش خلجك ضيج إكده كل الحكاية إني متعچب كيف يسافر ويهملكم لحالكم في الدار
-شغل وكان لازم يسافر ضروري
ضيق عيناه بشك يحاول أن يسبر أغوارها فهو يشعر أنهم يخفون شيء ما لذلك تساءل بترقب:
-شغل ايه ده مش بالع الجصة
-مفيش قصة ولا حاجة يا “عبد الرحيم” وتعالى اتفضل خد واجب ضيافتك علشان تلحق ترجع البلد
هز رأسه ببسمة مفتعلة يداري بها الغل الذي يتفاقم بداخله لتلك السيدة و ولدها…ليسيروا أمامه وإن كادوا يدلفون للداخل توقفت سيارة أمام بوابة المنزل وتدلى منها المحامي حاملًا حقيبته واقترب منهم بخطوات منتظمة جعلت “ثريا” تنتبه له وتتساءل بريبة:
-خير ايه اللي جاب المحامي هنا؟
اجابتها “نادين”:
-هو كلمني الصبح وقالي انه جاي بليل.
لتتساءل “ثريا” من جديد تحت نظرات “عبد الرحيم” المترقبة:
-طب جاي ليه مقلكيش؟
نفت “نادين” برأسها بجهل، في حين وصل المحامي لوقفتهم قائلًا:
-مساء الخير يا جماعة…اسف لو اتأخرت يا مدام “نادين”
هزت “نادين” رأسها بمعنى لا داعي للأسف بينما رحبت “ثريا” قائلة:
-اتفضل يا متر يارب يكون خير
ليدخلوا جميعًا للداخل ويوضح المحامي سبب الزيارة ان “يامن” اوكله للقيام بكل شيء وقد انهى كافة الأجراءات وحتى أن كل شيء يتوقف فقط على توقيعها قبل أن توثيق كافة العقود والمستندات اللازمة في الشهر العقاري، وها هي بعد شرح عدة أمور معقدة تضع توقيعها دون حديث بملامح بائسة لابعد حد تحت نظرات “عبد الرحيم” التي تلتمع بالجشع ويقطر منها خبث مقيت…
– كده خلصنا توقيع كل المستندات…
قالها المحامي بعملية شديدة وهو يرتب الورق داخل الملف بيده ويضعه بحقيبته ويضيف وهو يناولها ورقة أخيرة قائلًا بأسف:
-ودي… قسيمة طلاقك يا مدام “نادين”…استاذ “يامن” طلب مني اسلمهالك بنفسي
فرت الدماء من وجهها وتعالت وتيرة انفاسها واتسعت عيناها بذهول وهي تتناولها من يده وتجول بعيناها عليها لتتأكد من الأمر وهي تشعر بقلبها يعتصر بين ضلوعها لا تصدق أنه انهى كل شيء بتلك السهولة وخرج من حياتها بتلك الطريقة المهينة
تناوبت النظرات بين القسيمة وبين “ثريا” التي ضربت اعلى صدرها وقالت متحسرة بخزي:
-يالهوي…يا لهوي ليه كده يا ابني…ليه حرام عليك…
ليهب “عبد الرحيم” واقفًا ويسحب القسيمة من يدها يطلع عليها متفاجئاً:
-واه يعني ايه الحديت ده؟
يعني الغريب طلجها صُوح
اجابه المحامي بعملية شديدة وهو يحمل حقيبته ويهم بالمغادرة:
-ايوة يا فندم واللي أعرفه أن أستاذ “يامن” رمى عليها يمين الطلاق من مدة طويلة
هنا احتدت نظرات “عبد الرحيم” وهدر بحدة موجهًا حديثه إليها:
-الحديت ده صُوح يا بت غالية
رفعت نظراتها الضائعة له وهي
مازالت لم تستوعب الصدمة حتى انها لم تجيبه
ليستأذن المحامي بأدب وما أن غادر
كرر” عبد الرحيم” بحدة أكبر وهو يرفعها من ذراعها لمستواه :
-انطجي يا بت غالية حُوصل ولا لع
هنا اجابته “ثريا” بشراسة واحالت بينهم تحميها خلف ظهرها قائلة بدفاع مستميت:
-ايوة طلقها بس هيردها…لما يرجع ابني بيحبها وهي كمان بتحبه وميقدروش يعيشوا من غير بعض
حانت منه بسمة متغطرسة لابعد حد وأجابها بخبث مقيت:
-حب ايه اللي هتجولي عليه!
هي لعبة إياك أنتوا خابرين أن ملهاش أهل وناس ولا إيه هتبيعوا وتشتروا بيها أنتِ و وَلدك من غير ما تعملوا لأهلها أي اعتبار
ردت “ثريا” مدافعة:
-هي اتربت وسطينا ولينا فيها اكتر ما ليكم وبعدين اهدى وكل شيء ليه حل
اغتاظ من حديثها وهدر بحقد دفين:
-عندك حج كل شيء وليه حل والحل والربط بجى في يدي يا ست ومعتعرفيش تجفي جصادي لا أنتِ ولا الغريب وَلدك
لتغمغم “ثريا” بقلب منقبض:
-يعني ايه؟
-بت غالية مكانها وسط اهلها وناسها ومش هعاود البلد إلا وهي جَبل مني
نفت “ثريا” برأسها وصرخت وهي تحمي تلك الساهمة بضياع خلف ظهرها:
-على جثتي يا “عبد الرحيم” مش هتخدها…
هنا جذبها “عبد الرحيم” بغل من خلف ظهر “ثريا” وكأنها دمية بالية لا روح بها وباشر حديثه بعدما اخشوشنت نبرته بأصرار مقيت:
-هي كلمة وجولتها ومعاش ولا كان اللي يرد ليا أمر…ادخلي لمي خلاجاتك يا بت خيتي هنعاود البلد دلوجت
(ميراكريم)
صرخت “ثريا”من جديد وهي تحاول تخليص “نادين” من يده القاسية:
-بلاش تنوي على الشر يا “عبد الرحيم” وسيب البنت جوزها هيرجع ده سوء تفاهم وهينتهي بلاش تخرب حياتهم بطمعك وانانيتك
حانت منه بسمة متغطرسة تقطر بالخبث وأجابها بأنتصار:
-جولي ما بدالك ما خلاص وَلدك وفر عليا كتير انا من مكنتش بالع الچوازة دي من الاول بس هجول ايه الله يسامحه “عادل” هو اللي حكم رأيه وجتها وجه الوجت إني اُصلح غلطه الواعر ده…
كادت تستأنف” ثريا “دفاعها المستميت لولآ أن “نادين” منعتها وخرجت عن صدمتها قائلة أخر شيء توقعت “ثريا” أن يصدر منها:
-أنا هاجي معاك البلد يا خالي وهسمع كل اللي تقولي عليه
لطمت “ثريا” صدرها وصرخت بصدمة عارمة:
-بتقولي ايه يا “نادين”عايزة تروحي هناك برجليكِ…
غمغمت “نادين” بإنكسار اصبح جلي على تقاسيمها:
-هو عنده حق هما اهلي وانا مبقليش غيرهم…وانتِ عملتي علشاني كتير اوي ومش مضطرة تعملي اكتر أنا هفضل مدينة ليكِ العمر كله يا ماما “ثريا”…
حاولت”ثريا”اقناعها في محاولة بائسة منها كي تجعلها تتراجع عن قرارها:
-متيأسيش يا بنتي والله هيرجع واصحابك هيثبتوا برائتك وكل حاجة هتتصلح
نفت هي برأسها وغمغمت بقهر وبقلب يتلوى بين ضلوعها من شدة الألم:
-هو خلاص خرجني من حياته بكامل ارادته وأثبت ليا أنه اتخطاني وعلشان كده لازم انا كمان اتخطاه وابعد ومتقلقيش عليا هبقى وسط أهلي و هبقى كويسة…لتخفت نبرتها بألم ويرتعش فمها تقاوم البكاء وتستأنف بوهن:
-هحاول…صدقيني هحاول ابقى كويسة…
ذلك آخر ما تفوهت به قبل أن تركض لداخل غرفتها كي تلملم اغراضها تاركة “ثريا” ترتمي على قرب مقعد تبكي بحرقة على ما اصاب حياة ابنائها…بينما عنه كان يشاهد بكائها ببسمة خبيثة متشفية وهو يشعر بالامتنان ل ذلك الغريب كما يطلق عليه كونه وفر عليه عناء تخريب حياتهم كي يحصل على مراده…
يتبع…