رواية خطايا بريئة الفصل الخامس والعشرين 25 بقلم ميرا كريم
أفضل إنتقام ممّن تخلى عنك، أن تعيش حياتك جيّداً بدونه.
– جويس كارول أوتس
——————
زفرت انفاسها بسعادة عارمة حين جلست خلف مكتبها بتلك الشركة التي تملكها صديقتها بعدما ألحت عليها بشدة أن تباشر بالعمل معها، وها هي تفرد ظهرها على ذلك المقعد الدوار وتسند ذراعيها على مسانده وهي تشعر بشعور عظيم من الثقة والقوة التي حقًا سلبوا منها بفضله وبفضل فترة السبات التي كانت عليها.
-هاااا المكتب عجبك؟
انتشلها صوت صديقتها “سارة” التي دخلت لتوها، اعتدلت بجلستها واخبرتها ببسمة واسعة:
-أوي أوي يا “سارة” المكتب يجنن
-طب الحمد لله انه عجبك علشان تشتغلي بنفس كده وتطلعي المواهب المدفونة
هزت “رهف” رأسها وقالت بحماس أصبح جلي على وجهها:
-حاسة إني عندي طاقة كبيرة ومتحمسة اوي وعايزة ابدأ دلوقتي
-تمام انا جهزتلك Files لمجموعة من الclient على مكتبك شوفي تحبي وتبدأي بإيه! والباقي يتوزع على الزملا هتلاقي في ال Files كل المطلوب و detailsكلها فيهم عيادات و كذا ڤلا في التجمع والشيخ زايد بمساحات مختلفة و ياريت تشدي حيلك معايا علشان اسم شركتنا مترشح لشركة مقاولات كبيرة ولو وقع اختيارهم علينا هنستلم تجهيز الوحدات السكنية ودي بجد هتبقى نقلة كبيرة للشركة وبصراحة أنا متفائلة بيكِ جدًا
ابتسمت “رهف” وردت بمكاتفة:
-يارب خير يا “سارة”متقلقيش هتلاقيني شعلة نشاط
-أنا متأكده من ده يا “رهف” أصلا أنا كان حلم حياتي من الكلية إني اشتغل معاكِ واتعلم منك بجد انتِ موهوبة جدًا والشغل بيطلع من تحت ايدك تحفة مفيهوش غلطة
أطرقت اهدابها بخجل من إطرائها وقالت بخفة:
-هبتدي أتغر يا “سارة” وصدقيني أنتِ اللي هتدفعي التمن
قهقهت “سارة” وقالت بخفة مماثلة:
-يا ستي اتغري براحتك وانا تحت أمرك ده انا مصدقت
ابتسمت “رهف”من مجاملتها وبررت بإقتناع:
-على فكرة بهزر أنا كنت محتاجة الشغل جدًا علشان يرجعلي ثقتي بنفسي و أسفة إني ماطلت في الرد على طلبك بس كان لازم ارتب شوية حاجات و اجيب مربيه كويسة للاولاد علشان ابقى مطمنة عليهم في غيابي أنتِ عارفة أن “سعاد” اجازتها قربت تخلص ومينفعش اعتمد عليها
لتتنهد وتضيف بعرفان:
-والله ما عارفة من غيركم كنت هعمل ايه… أنتِ و”سعاد” وجوزك اللي اتولى القضية بجد مش عارفة اشكركم ازاي على وقفتكم جنبي
حانت من “سارة” بسمة صادقة بمحبة خالصة ثم همهمت وهي تربت على يدها المسنودة على المكتب:
-أحنا اخوات يا “رهف” ومفيش بينا فرق وبعدين أنا مبسوطة جدًا أن قربنا تاني ورجعنا زي زمان
أبتسمت “رهف” بإمتنان، لتتركها “سارة” تباشر عملها بينما هي كانت تشعر أن بقرارها ذلك استرجعت جزء من ذاتها التي فقدتها وفقدت شغف كل شيء معها بفضل ذلك الساخط الذي كانت دومًا تبديه هو عن كل شيء يخصها.
———————-
كان ينتظر الصباح بفارغ الصبر بعدما يأس من محايلة النوم الذي جافاه فطوال الليل كان يقام بداخله حرب ضارية بين رغبة قلبه وبين تلك القيم الراسخة التي ربى عليها فحقًا هي صعبت عليه الأمر كثيرًا فكيف سيتقبل ذلك وهو يكاد يجن كلما هيأ له عقله أنها كانت مع شخص أخر غيره وتشاركه كل التفاصيل التي جمعته بها حقًا كان حزين يشعر بالشتات لأبعد حد يود أن يمنح عقله هُدنة رادعة كي يستطيع اتخاذ قرار صحيح، فقد تحضر لعمله بملامح بائسة وخرج من غرفته قاصد المغادرة ولكن صوت شقيقته استوقفه حين صاحت بإسمه:
-“حمود” استنى
تنهد ونظر لها دون حديث بينما هي اقتربت منه وربتت على كتفه قائلة:
-لسة بدري على شغلك استنى نفطر سوا انا حضرتلك الفطار المتين والشاي على النار
نفى برأسه وأجابها بعيون حزينة بائسة انهكها التفكير:
-مليش نفس يا “شهد” معلش سبيني
زفرت “شهد” وقالت بإصرار:
-أسمع انا سبتك أمبارح براحتك ومرضتش اضغط عليك لكن عليا النعمة لو ما فطرت معايا انا والبت لكون مقطعاك العمر كله
أغمض عينيه بقوة وترجاها قائلًا:
-“شهد” أنا مخنوق سبيني بالله عليكِ
هزت رأسها وسحبته من ذراعه هادرة بنبرة آمرة و هي تجلسه على طاولة الطعام قسرًا وكأنه صغيرها:
-هتسمع الكلام وهتقعد تفطر أنت من أمبارح محطتش حاجة في بؤك أنا مش هستنى لما تقع من طولك
لتدس بفمه لقمة مغمسة بالجبن قائلة:
-كُل الاكل ملوش دعوة بالزعل وبعدين ايه المشكلة يعني أنت قاهر نفسك ليه؟
تطلع لها وحانت منه بسمة باهتة وهو يلوك ما بفمه لتباغته هي وتدس بفمه بيضة مسلوقة دفعة واحدة قشرتها لتوها ليسعل وهو يجد صعوبة في مضغها وابتلاعها:
-كفاية يا “شهد” أيه اللي بتعمليه ده!
ربتت على ظهره بقوة كعادتها الغاشمة وفرغت له كوب ماء من الدورق الذي يعتلي المائدة وناولته إياه ليرتشف هو منه بضع رشفات ويقول متهربًا:
-يخربيت هزار البوابين بتاعك ده كفاية شبعت…وسبيني بقى علشان متأخرش
-مش هتتأخر ومش هتنزل غير وأنت فاطر الفطار التمام وحابس بالشاي كمان
كاد يعترض ولكنها أصرت بشدة مما جعله ينصاع لها، بينما هي كانت تنتظر فرصة لتفاتحه بالأمر.
دخلت صغيرتها وجلست دون أن تلقي عليه تحية الصباح فقط جلست وربعت ذراعيها ونظرت له نظرات تحمل العتاب، لذلك تسأل متوجسًا:
-مالك يا مفعوصة على الصبح؟
مطت “طمطم” فمها وقالت معاتبة:
-زعلانة منك يا “حمود” ومش بكلمك علشان زعلت طنط “ميرال” وخلتها تعيط وهي طيبة وانا بحبها…
أبتلع غصة بحلقه ونظر نظرة عابرة ل “شهد” كي تجيب بالنيابة عنه وبالفعل فعلت وقالت لصغيرتها:
-دي مواضيع كبار يا “طمطم” وعيب ندخل فيها…ويلا قومي ألبسي لبس المدرسة الأول قبل ما تفطري
دبت الصغيرة بقدمها الأرض و انصاعت لوالدتها بينما هو اسند أحد ذراعيه على الطاولة وأخذ يمسد جبهته وهو يشعر بألم رهيب يداهم رأسه، ودون حديث كانت تعلم “شهد” ما يحتاجه لتحضر له حبة مُسكنة وكوب ماء قائلة وهي تربت على كتفه:
-الصداع من التفكير يا قلب أختك…كفاية وارحم نفسك
زفر انفاسه دفعة واحدة وتناول من يدها كوب الماء يرتشف منه بعدما وضع الحبة داخل فمه
لتستأنف هي:
-أنا عارفة انك عاقل وعقلك كبير…البت بتحبك يا “حمود” وقطعت قلبي لما حكتلي على اللي حصل
-سمعتها…
قالها بنفاذ صبر وهو يتذكر ذلك الشعور القاتل النابع من شدة المقاومة الذي أنتابه بالأمس وهو يستمع لكل كلمة تفوهت بها.
واصلت “شهد” حديثها:
-البت بتحبك وبتقول أنها خبت عليك علشان خافت تخسرك
حانت منه بسمة متألمة وأجابها بعيون تقطر بالحزن:
-حتى لو كانت قالتلي يا “شهد” أزاي كنت هتقبل ده ببساطة كده…ليمسد جبهته من جديد كي يخفف حدة الألم ويستأنف بخيبة أمل:
-أنا عمري ما كان ليا علاقات قبل كده…وكان نفسي البنت اللي أحبها أكون أنا أول راجل في حياتها…
ربتت “شهد” على ظهره و واسته:
-يا قلب أختك هي اعترفت أنها كانت طايشة وأنت اللي شكلتها من جديد
-أنا كان عندي استعداد اتقبل أي حاجة إلا دي يا “شهد” انا كنت عارف أنها مستهترة قبلي ومنكرش انها اتغيرت بس مجاش في بالي أن كان واصل الاستهتار بيها لكده…صدقيني يا “شهد” مش سهل استوعب ده وأتخطاه بسهولة
-بس أنت ملكش حق تعاتبها في اللي فات أنت ليك من وقت ما عرفتها…وبعدين انت راجل و قدرت تغيرها وهي البت من ساعتها تحت طوعك ومشوفتش عليها حاجة بالعكس دي مش بتكسرلك كلمة وطالعة بيك السما يا ولاا دي لما بتبصلك عنيها بطلع قلوب
قالت آخر جملة وهي تنكزه بكتفه كي تشاكسه وتخرجه من الحالة التي هو عليها ولكنه لم يتأثر بل
نفى برأسه التي يسيطر عليها تلك الأفكار العرفية وقال بحمئة شديدة ودمائه الحامية تتدفق بعروقه:
-عارف انها بتحبني… وأنا كمان محبتش غيرها بس لمايوصل الموضوع انه يمس سمعتها والتشكيك في سلوكها يبقى من حقي يا “شهد” أنا راجل شرقي بسيط وعايش في مجتمع ما بيرحمش حد…
صدقيني صعب عليا انا كنت فاكر أن الفوارق الأجتماعية بينا هي العائق الوحيد بيني وبينها بس دلوقتي استوعبت أن في فوارق تانية عقلي مش هيعرف يتخطاها ولو بتحبي أخوكِ بلاش تفتحي الموضوع ده تاني معايا على الاقل دلوقتي
ذلك أخر ما نطق به قبل أن يغادر تاركها تنظر لآثاره بحزن وبتعاطف بَين على تقاسيمها فلأول مرة ترى شقيقها على تلك الحالة فكان يتحدث بنبرة متألمة تفيض بخيبة الأمل مما جعلها تستمع له وتكف عن الجدال وتقرر أنها ستتركه لحين يهدأ على الأخير وحينها ستحاول مرة أخرى ولكن بعدما يتغلب عليه لوعة قلبه دون مالكته فهي تعلم أن شقيقها يعشقها وسوف يتغلب على تلك القناعات بمفرده.
——————
أما عن صاحبة الفيروزتان التي انطفأت لمعتها من دونه فقد تحضرت لمذاكرة موادها ولكن صعب عليها الأمر فكلما ركزت نظراتها على الورق يترأى ذلك المشهد البغيض أمام عيناها ويذكرها كونها خسرته وعند تلك الفكرة تناولت هاتفها وهاتفت “شهد” لعلها تريح قلبها وما أن أتاها ردها قالت متلهفة:
-“شهد” كلمتيه
غاب ردها ثم أجابتها متلعثمة:
-هاااا…اه…
-“شهد” اتكلمي الله يخليكِ أنا حاسة إني بموت بالبطيء
-أنا عيزاكِ تهدي شوية وتصبري كام يوم كده لغاية ما يهدى وبإذن الله خير
سألتها “ميرال” بضعف وبقلب مرتعب يخشى خسارته:
-قوليلي قالك ايه؟
اتاها تنهيدة “شهد”من الجانب الآخر مما جعلها تتساءل من جديد متوجسة وبعيون غامت لتوها:
-يعني كرهني خلاص وصدق اللي اتقاله عني مش كده؟
-لأ بس…أصل هو…
-هو أيه يا “شهد” قولي؟
-يوووه بقى اسمعي أنا مش هيأس وهتكلم معاه تاني بس عايزاكِ تجمدي وتسبيه كام يوم يهدى،وأنتِ كمان استهدي بالله وركزي في امتحاناتك وبإذن الله خير
فرت دمعاتها وهي تجيبها بصوت مختنق بسبب عبراتها:
-حاضر يا “شهد” بس علشان خاطري لو في جديد قوليلي وطمنيني عليه
-حاضر من عيني… هكلمك كل يوم … و ربنا يصلح الحال
أغلقت الخط وارتمت على فراشها تبكي كمدًا بسبب ما استشفته بنفسها، فيبدو أن لعنة التخلي مازالت تلاحقها.
——————-
-مش هتقوليلي ادخل يا خالتي
قالها “حسن” برأس منكس وهو يقف على أعتاب منزلها، بعدما شجعته “منار” على ذلك وملئت رأسه بحديثها المسموم وحرضته فكان تأثيرها تأثير السحر عليه بعدما أوهمته أنها فقط من تحبه وتموت رَعباَ عليه وعلى مصلحته.
تنهدت “ثريا” و دعته للدخول دون حفاوة كما كانت تفعل معه في سابق عهدها، ليدخل هو ويجلس على أقرب مقعد قائلًا:
-أنا عارف أنك زعلانة مني وجاي استسمحك وابوس على راسك
جلست “ثريا” بجواره ناطقة بعتاب:
-تبوس راسي بعد أيه بعد اما معملتش اعتبار لحد ومشيت بدماغك
تأفف هو وقال بخزي من نفسه قبل أي شيء:
-بالله عليكِ يا خالتي متزوديش همي أنا اصلا مخنوق وتعبان وربنا عالم بيا
ضربت”ثريا” كف على آخر وأنبته:
-لازم تتخنق وتتعب بعد ما بعت الغالي واشتريت الرخيص بأغلى تمن يا ابن اختي
زفر بقوة ومرر يده بين خصلاته الفحمية وقال وهو مغيب متأثر بحديث الأخرى:
-وحتى لو غلطت مستهلش اللي حصل ولا أنها تبعني وتسبني بالسهولة دي…انا روحت اتأسفتلها واترجيتها وحاولت ادافع عن نفسي بس هي رفضت وبهدلتني …وكأن مكفهاش انها خربت البيت و وقفت شغلي لأ كمان عايزة تسجني
تعلقت عيون “ثريا” به لثوانِ تستوعب ما تفوه به، ثم قالت بِفطنه:
-وده بقى الكلام اللي الحرباية التانية ملت بيه دماغك
أبتلع رمقه ودافع دون تفكير:
-“منار” مش حرباية دي الوحيدة اللي قلبها عليا واتنازلت و راحتلها وحاولت تقنعها بس هي مصممة
شهقت “ثريا” وضربت صدرها:
-يا لهوي وليها عين البجحة دي تروح لغاية عندها…صحيح يقتلوا القتيل ويمشوا في جنازته
-“منار” خايفة عليا وراحت علشان خايفة اتحبس
التوى فمها يمنًا ويسارًا ونهرته حازمة:
-هتفضل طول عمرك غبي و وِدَني يا ابن اختي كلمة توديك وكلمة تجيبك لغاية ما بقيت خايب الرجا
سقطت كلماتها الجارحة عليه كدلو ماء بارد لينتفض قلبه حين قرع ضميره ويقول بعتاب ليس للشخص الصحيح وكأنه يترأى له صورة “رهف” امامه ويعاتبها:
– انا مش غبي…أنا ضايع ومتلخبط وحاسس أن حاجة كبيرة ومهمة اوي نقصاني لا عارف آكل ولا أشرب ولا أنام كل ما أفكر إني وصلتها أنها تكرهني للدرجة اللي تخليها عايزة تأذيني…أنا كنت مش بهون عليها ده لما كنت بكح بس كانت بتعمل مناحة وتفضل قاعدة فوق راسي معرفش جابت القسوة دي منين وعايزة تحرمني منها بعد كل الحب و العِشرة اللي بينا أنا لغاية دلوقتي مش مصدق ولا عارف هي اتغيرت كده أزاي دي بقت واحدة تانية أنا عمري ما عرفتها.
تنهدت “ثريا” بأسى وقالت في حسرة:
-كتر القسوة يا ابني بتعلم الجفا وأنت اللي وصلتها لكده “رهف” مفيش احن من قلبها بس أنت مرحمتهاش بأي عين عايزها ترحمك ده انت كتير استقويت عليها وياما نصحناك بس أنت ولا كان في بالك وكنت ماشي بدماغك وروحت اتجوزت عليها بفلوسها ومهمكش كسرة نفسها
تناول علبة سجائره يشعل احدهم وينفث دخانها وقال بنبرة نادمة تقطر بالخزي:
-عارف يا خالتي وبعترف إني كنت غبي وحاولت كتير أدافع عن نفسي واعتذرلها بس هي راكبة دماغها ومصممة وطلعت قليلة الأصل وعايزة تسبني وتخرب بيتي
شهقت “ثريا” واستنكرت بدفاع قوي:
-والله ما حد قليل الأصل غيرك وتصدق حلال فيك… وبعدين غريبة قهرك اوي أنها عايزة تسيبك وطلبت الطلاق طب ما ده حقها زي ما كان حقك تتجوز عليها
– أنا مغلطتش وده شرع ربنا لكن هي غلطت لما خدت الفلوس وسابت بيتها من الأول
-اه قول بقى أن كل اللي حرقك انها رجعت فلوسها و ورثها اللي اهلها سبهولها وأنت استوليت عليه بكل قوة واستقدار دي يا واطي عمرها ما حسبتك ولا قالتلك رجعلي فلوسي وكانت مأمناك على روحها ومالها بس أنت طلعت خسيس واتنمردت على النعمة وكسرت قلبها
زمجر غاضبًا ودس السيجارة بداخل المنفضة هادرًا:
-ابوس ايدك كفاية أنا تعبت واعصابي مبقتش متحملة كلامك…أنتِ مفروض تبقي معايا
-أنا مع الحق والحق بيقول أن حقها ورجعلها أما بقى طلاقها منك فهي حرة ومحدش يقدر يجبرها تعيش معاك بالعافية بعد عملتك السوده معاها
استطرد في عتاب وبملامح تملك منها اليأس بسبب عدم تعاطفها معه:
-يظهر إني غلطت لما جتلك وكنت فاكرك هتفهميني وتواسيني يا خالتي
تنهدت “ثريا” بأسى وقالت بنفس العتاب:
-وأنا كان نفسي تفوق يا ابن اختي قبل ما تخسرها وكان نفسي تعرف تصلح غلطك بس يظهر أنك مصمم ولسة ماشي بدماغك…ويظهر برضو أن الكلام مفيش منه فايدة وعلشان كده قول نواياك وقول جيت ليه وعايز مني ايه؟
رغم صعوبة شعور الخزي الذي يكنه لنفسه، ورغم الندم الذي يعتريه ويؤرق مضجعه، ورغم ايضًا عدم استيعابه للأن أنها مقتته وخلفت ذلك الخواء بروحه قبل حياته إلا انه استرسل وهو مازال تحت تأثير سم كلمات “منار” التي بثتها بعقله:
-كلميها تتنازل عن جنحة الضرب وترجعلي جزء من الفلوس وانا مستعد اعملها كل اللي هي عايزاه طالما مصممة على الطلاق أنا كرامتي متسمحليش افرض نفسي عليها اكتر من كده ولا اتذللها… هطلقها وهديها كل حقوقها، فلوسها انا اللي كبرتها وشغلتها وليا حق فيها انا خلاص خدت قراري بلاها محاكم وقضايا وخليها تعمل حساب للعِشرة اللي كانت بينا
هزت “ثريا” رأسها بلافائدة واحتل الحزن تقاسيم وجهها فكانت تظن أنه سيموت قهرًا لفقدانها ويسعى لإصلاح ذاته، ويسعى خلفها من أجل اطفاله ولكنه حتى لم يذكرهم بحديثه وكيف يفعل وهناك افعى رقطاء تبث سمها بعقله وتجعل كل شيء يهون عليه، فحقًا اثبت لها انه مازال ساخط اناني؛ لا يهمه شيء سوى مصلحته فقط لذلك أخبرته متهكمة وهي تضع يد على أخرى وتلوي فمها مستعيرة نفس حديثه:
-قليلة الأصل اللي مبتعملش حساب للعِشرة اتنازلت عن الجنحة اللي كانت ضدك ولسة قافلة معايا من شوية ومبلغاني
انفرجت معالم وجهه وهب من موضعه بإندفاع وبكل تناقض الدنيا تساءل وكأن قلبه هو من يصرخ بالسؤال لا هو:
-بجد يا خالتي واتنازلت عن قضية الطلاق كمان…
حانت من “ثريا” بسمة ماكرة اخفتها سريعًا حين نفت برأسها وتشدقت كي تستفزه وتحرك عقله المغيب:
-لأ…لسة مصممة وبصراحة حقها بعد اللي شافته منك يعني حلوة وزي القمر ولسة صغيرة ومن حقها تعيش يمكن ربنا يعوضها…وأهي الحمد لله رجعت لشغلها ورتبت حياتها…الدور والباقي عليك يا ابن اختى يارب تكون مبسوط
عن أي انبساط تتسأل هي وهو يشعر انه اتعس رجل على وجه الأرض، فقد زادت قتامة عينه وشعر بنصل حاد مشتعل ينغرس بصدره من حديثها فيكاد يصاب بذبحة صدرية من شدة صدمته بعدما أدرك أنها بالفعل تخطته.
كبتت “ثريا” بسمتها المنتصرة حين لاحظت تأثير كلماتها عليه لتستأنف بعدما ضربت قدميها وهبت واقفة تربت على كتفه:
-على العموم هبلغها واعمل اللي عليا…ويارب توافق وبصراحة طالما هي طالبة الطلاق وأنت عايز تريحها يبقى مفيش مشكلة تطلقها رسمي وتوفرو على بعض دوخة المحاكم و وجع الدماغ
هز رأسه ببسمة عابرة مسايرة ودون أضافة شيء آخر كان يغادر وهو يعض أنامله من الندم.
—————
مرت عدة أيام عليها بصعوبة بالغة فقد فقدت آخر ذرة صبر لديها وأقسمت أنها لن تفلته إلا بإفلات روحها من جسدها فلم تستطيع أن تتحلى بالصبر كما نصحتها “شهد” بل هاتفته ربما للمرة الألف بعد المائة دون يأس ولكن هو لم يكترث قط حتى أنه لم يجيب على رسائلها الإلكترونية، يكون متصل ويراها ولكن لم يأتيها جواب منه للآن مما جعلها في حالة يرثى لها وتكاد تفقد أعصابها لذلك لم تشعر بذاتها إلا وهي تقف أمام عمله وها هو يخرج مع عدة من زملاء له وحين رأها استأذن منهم واقترب منها متسائلًا:
-بتعملي ايه هنا؟
أجابته بعيون ذابلة:
-مستنياك…لازم نتكلم يا “حمود”
ابتلع ريقه ومسد جبهته قائلًا:
-ملوش داعي الكلام يا “ميرال”
نفت برأسها وقالت بضعف وبنبرة تقطر بحزنها:
-“حمود” علشان خاطري اسمعني أنا عارفة اني غلطانة إني خبيت عليك بس كنت مستني ايه من واحدة ضايعة زي…انت معرفتنيش وانا ملاك أنا كنت بغلط و مستهترة وباخد حبوب وبشرب وبسهر متلومنيش انا كنت ضايعة لغاية ما لقيتك يا “حمود” علشان خاطري بلاش تسبني أنا متعودة أن الكل يتخلى عني بس لو انت عملت كده قلبي مش هيستحمل يا “حمود” علشان خاطري متعملش فيا كده أنا محتجالك أوي…
كان يستمع لها بعيون دامعة تأثرًا بها وبقلب يحثه أن يرق لها فنعم حتى هو اشتاق لبحر عيناها واشتاق لعفويتها و لمشاكسته اياها ومناغشتهم لبعض اشتاق لكل شيء يخصها ويعلم الله أنه لم يذق طعم الراحة في تلك الأيام العجاف دونها، فكم كان يود أن يتخطى الأمر ولكن كيف وهو تعدى حدود منطقه ونطاق استيعابه ويخالف كل تلك القناعات الراسخة بعقله فحقًا كان يشعر بالخزي من نفسه لإحزانها ولكن يصعب عليه الأمر وبشدة لذلك اعتذر:
-أنا آسف…إني سبب حالتك دي بس صدقيني مش عارف …
-اللي بيحب بيغفر…
-حتى لو غفرت عمري ما هقدر انسى يا “ميرال”
-هتنسى هساعدك وهنبدأ من جديد وهنرمي القديم كله ورا ضهرنا…”حمود” انا اتغيرت والله اتغيرت علشانك ومعنديش استعداد اعيش من غيرك
احتل الحزن عينه البائسة وأجابها بنفاذ صبر وبقسوة لم تكن ابدًا من طباعه كي يؤد تلك الرغبة التي تسيطر عليه وتدفعه بضرب تلك القناعات عرض الحائط والسماح لقلبه أن يرق لها:
-“ميرال” لو سمحتي كفاية أنتِ اتغيرتي لنفسك مش ليا ومتأكد انك هتتخطيني…انا مفرقش حاجة عن اللي عرفتيهم قبلي
قال آخر جملة بمرارة وبملامح متألمة وصدى كلمات ذلك المقيت تتردد بعقله مما جعل عروقه تنفر وتتقلص معالم وجهه بإستياء شديد وقبل أن يحصل منها على رد لتهكمه الجارح لها كان يغادر بخطوات واسعة دون أن يلتفت خلفه،
أما هي فكانت مشدوهة متجمدة بأرضها فقط دمعاتها تفر تغرق وجهها تشعر أن مغادرته تلك ليست تخصه هو بل تخص روحها التي إنسلتت لتوها تلاحق خطواته.
———————
-مامي عايز ألعب بالجنينة…انا زهقان و”شيري” بتلعب لعب بنات بالعرايس بتاعتها ومش بتلعب معايا وطنط “سعاد”خدت ولادها عند جدتهم وانا لوحدي
قالها “شريف” بنزق طفولي وهو يربع يده على صدره بضجر
مما جعلها ترفع عيناها عن حاسوبها وتخبره:
-حبيبي البوابة بتاعة الجنينة مش بتتقفل واخاف عليك ألعب بالكورة هنا بس اوعى تكسر حاجة
نفى “شريف” برأسه واعترض:
-لأ مش بعرف علشان خاطري يا مامي والله الجو حلو اوي بره
وانا مش هخرج برة البوابة…علشان خاطري يا مامي وافقي…وافقي لو بتحبيني
تنهدت “رهف” بيأس من عناد ابنها وإلحاحه الشديد ثم وافقت بمضض:
-ماشي بس خد الداده معاك تاخد بالها منك وانا هقعد في البلكونة اخلص شغلي على اللاب وانا بتفرج عليك
قفز بسعادة و وضع قبلة على وجنتها ثم هرول يحضر طابته ويعلم المربية بالأمر، لتبتسم وهي تنظر لأثره وتتنهد تنهيدة مثقلة بالكثير فا إلى الآن تحاول أن تمهد لأخبار أطفالها بقرار انفصالها وحقًا ذلك الأمر ليس بيسير عليها.
هرول الصغير إلى الأسفل برفقة مربيته وهو في قمة سعادته،
في تلك الأثناء كان هناك من يجلس بشرفة غرفته يتناول مشروبه الساخن المفضل وهو يشعر بالضجر من ذلك الهدوء المعتاد الذي يعم الأجواء إلى أن اتسعت بسمته وهو يرى ذلك الصغير يلعب بالطابة بسعادة عارمة وبخفة ومرونة ادهشته واستحوذت على كامل انتباهه فكان يتابعه بعينه وبسمة هادئة تعتلي وجهه
ولكن لم يستمر الأمر طويلًا فقد علقت طابته على أحد الشجيرات العالية ومربيته يصعب عليها جلبها له، ليترك كوبه على جدار الشرفة ويهرول للأسفل كي يجلبها له
وما أن تدلى الدرج واقترب منه استمع لصوت والدته تصيح بأسمه هاتفة من شرفتها:
-“شريف” اطلع يا حبيبي وهشتريلك غيرها.
مط الصغير فمه وهتف بعناد:
-بس انا بحب الكورة دي يا مامي ومش عايز غيرها
وحينها تدخل هو وطمئنه قائلًا وهو ينحني بجذعه عليه بعدما وجده عابث وعلى حافة البكاء:
– متقلقش هجبهالك
مط الصغير فمه وهز رأسه، لينهض “نضال”ويشب على أطراف حذائه ويمد يده يحضرها له، لتتهلل أسارير الصغير ويصيح بعلو صوته بسعادة عارمة لوالدته وهو يحتضن الطابة، خاطف أنظار الواقف بجانبه يتبع مرمى بصره:
-مامي عمو جابلي الكورة انا فرحان اوي
تنهدت “رهف” بإرتياح لسعادة ابنها، ثم بكل تحفظ هزت رأسها بامتنان له من موضعها، ليهز رأسه ايضًا ويخفض نظراته للصغير الذي شكره قائلًا:
-شكرًا يا عمو
-العفو يا كابتن “شريف”
جعد الصغير حاجبيه وتعجب:
-أنا مش كابتن
قهقه هو بكامل صوته وراوغه بحاجب مرفوع بتسلية:
-ازاي بقى ده انت بتلعب ولا احسن لعيب كورة، تعرف أني لامح فيك موهبة ومهارات هايلة
برقت عين الصغير بسعادة وقال:
-بجد يا عمو يعني ممكن ابقى زي ميسي او محمد صلاح
ربت على وجنته بحنان بالغ وحفزه بإيجابية:
-اكيد تقدر
كانت تتابعهم من موقعها وتستغرب ذلك الحديث الذي يدور بينهم إلى أن هتفت “شيري” بأسمها وطلبت كوب من الماء لتلبي طلبها وتترك الشرفة بعدما ألقت نظرة مطولة على صغيرها فرغم أنها تعلم أن ذلك الطبيب موثوق به إلا انها كأي أم القلق والحرص دائمًا حليفها نحو ابنائها.
بينما عند الصغير فقد استرسل قائلًا:
-بس انا صغير
-هما برضو كانوا صغيرين وعندهم نفس الحلم واشتغلوا على نفسهم لغاية ما وصلوا وحققوا حلمهم
هز الصغير رأسه، واخبره بحزن وهو يمط فمه:
-أنا كمان نفسي ابقى زيهم بس بابي مش بيرضى يوديني النادي ولا بيرضى يخليني أشارك مع أصحابي في التمرين
احتل الحزن عين “نضال” وطبطب عليه بحنان قائلًا:
-باباك اكيد خايف عليك…متزعلش وبعدين يا سيدي احنا ممكن نلعب هنا براحتنا
-احنا مين دي؟
-أنا وانت ياعم “شريف” احنا خلاص بقينا أصحاب
هز “شريف” رأسه بسعادة مرحبًا بينما ابتسم “نضال” ببهوت وشرد بوجهه لبرهة وكم تمنى لو أن يملك طفل مثله يشاركه كافة تفاصيله ويستمتع معه ولكن مشيئة الله كانت فوق كل شيء.
-“شريـــــــــــــــــــــــــف”
بتعمل ايه هنا؟
قالها “حسن” بحده وهو يقف على أعتاب الحديقة الصغيرة التي تحاوط البناية فقد اتى كي يطمئن على اطفاله ويكرر المحاولة التي فشلت بها “ثريا” ولم تأتي له بخبر يسر منها.
اعتدل “نضال” بوقفته حين هرول الصغير نحو ابيه قائلًا:
-بابي وحشتني اوي مامي قالت أنك مسافر رجعت امتى ؟
تناوب “حسن” نظراته بين “نضال” والصغير بريبة وأخبره:
-دلوقتي …انت كنت بتهبب ايه مع الراجل ده وازاي امك منزلاك لوحدك
نفي “شريف” ودافع وهو يؤشر بيده على المربية التي كانت تقف على مقربة شديدة منهم:
-لأ انا معايا الداده وعمو ده طيب اوي وجبلي الكورة اللي كانت على الشجرة
كور “حسن” قبضة يده من مدح صغيره لذلك الطبيب الذي من الوهلة الأولى تعرف عليه وهدر بحده دون أي لين وهو يجذب الطابة بغل من يده ويقذفها على مداد ذراعه بعيد دون أن يعير مشاعر صغيره أو رغباته أي اهمية:
-أخر مرة تنزل تلعب هنا، وانا ليا حساب مع الهانم اللي سمحتلك ونزلتك
اتفضـــــــــــــــل قدامــــــــــــــــــي
انتفض الصغير وهز رأسه بعيون باكية ثم بطاعة هرول أمامه، ليرشق “حسن” موضع “نضال” بغيظ ويلحق بصغيره وهو يتوعد لها
بينما “نضال” تنهد بضيق كون ذلك المتعجرف احزن الصغير وكسر بخاطره دون أي لين.
(ميراكريم)
———————
كانت تجلس داخل سيارتها بذلك المكان النائي التي تفضله ولطالما كانت تنفرد بذاتها به فكانت تفكر فكل ما حدث وكم تمنت أن يكون إنسحابه من حياتها وحديثه معها ما هو إلا كابوس مفزع وستستفيق منه وتجد كل شيء على ما يرام
فقد كوبت وجهها وظلت تنتحب حتى أدمت عيناها وهي تتذكر جملته الأخيرة التي استعارها من حديث ذلك المقيت وحقًا ألمت قلبها،
فقد انهارت أعصابها وظلت تضرب المقود بعزمها وكأنها بحالة هستيرية لاتعرف كيف تسيطر على ذاتها وكم كانت تود شيء يهون عنها ويوقف ضجيج رأسها وفي لحظة ضعف منها تذكرت شيء كانت تناسته تمامًا فقد مدت يدها أسفل مقعد سيارتها القديمة التي اهملتها فترة كبيرة بعد تصليحها جراء تهورها السابق، ومدت اناملها الرفيعة حتى وصلت لذلك الجيب السري الغير مرئي بالمرة وكانت تخبئ به سابقًا تلك الحبوب اللعينة التي
بالفعل حين فتحت سحاب الجيب وجدت بعض منها، التقطته بعيون غائمة يحتلها اليأس وقبل أن تفض أحدهم وتضعها بفمها تذكرت حديثه السابق لها (انتِ اتغيريتي علشان نفسك مش علشاني) وترأى أمام عيناها ما مرت به وما كانت عليه حينها لتثور عزيمتها وتنفي برأسها وتلقيه من نافذتها وهي تلعن تلك اللحظة التي تسلل لها الشيطان من جديد وكاد يبرر أفعالها، فنعم هو محق هي تغيرت من أجل ذاتها ولن تعود متهورة، وضائعة و مثيرة للشفقة من جديد لتتناول نفس عميق كي يحفزها وتكفكف دماعتها و تحاول جاهدة أن تلملم شتاتها فلن تيأس بتلك السهولة وتعود لنقطة الصفر، دقائق عدة مرت عليها إلى أن انتشلها صوت رسالة نصية تأتي لهاتفها، لتتناوله تتفقد محتواها لتجدها من رقم غريب غير مُسجل، لم تعير الأمر أهمية ولكن عندما قامت بفتحها وسقطت عيناها على ما بُعث لها جحظت عيناها و تأهبت كافة حواسها وهي لا تصدق أن بين يديها دليل دامغ يُدين خيانة “نادين الراوي” … ويصحبه جملة واحدة لم يذكر غيرها( أذيقها من نفس الكأس) فكانت مشدوهة لا تعرف كيف تتصرف أو تأخذ قرار في حينها وظلت تساؤلات عدة تدور برأسها إلى أن توصلت لأجابة واحدة استقر عليها عقلها.
فماذا يا ترى سيكون خيارها هل ستغفر ولن ترد الأذى بلأذى أم سترد اعتبارها وترد الصاع صاعين لمن تتسببوا في بؤسها.