رواية الاربعيني الاعزب الفصل العاشر10 بقلم اية محمد رفعت
بالمشفى..
شعر بسعادة الكون بأكمله حينما حمل الصغير بين يديه، فطبع قبلة صغيرة على جبينه ثم قال بحنانٍ:
_حفظك الله بني..
وأخرج من جيب جاكيته ظرف أبيض وضع فيه مبلغ من المال، فوضعه بين الغطاء الثقيل الذي يحيط بجسده الهاش، ليعيده لاحضان امه مجدداً، فهمست بانزعاجٍ:
_ما الداعي لذلك “عاصي”… هذا مبالغ به كثيراً..
أجابها ونظراته مازالت تحيط الصغير:
_لا شيئاً ثميناً جواره..
ثم تطلع اليها ليمرر يديه على كتفيها وهز بقول بحنانٍ:
_أعلم بأنك خسرتي أخاكِ منذ اللحظة التي خسر به نفسه، لذا أردت أن أخبرك بأنني لن أسمح لكِ بالمعاناة للمرة الثانية..
وطبع قبلة عميقه على جبينها وهو يهمس لها بحنانٍ:
_ولكن كفى لن أدعى هذا يحدث مجدداً..
ابتسمت إيمان والدمع يتلألأ بعينيها لعدم تصديق ما يحدث امامها، نهض”عاصي” ثم أغلق زرار جاكيته ليودعها قائلاً:
_سأغادر الآن ولكني أعدك بأنني سأخبرك بما سيسعد قلبك قريباً..
قالت بصوتٍ متقطع من أثر بكائها:
_سأنتظر حتى ذلك الوقت بفارغ الصبر..
منحها ابتسامة مشرقة قبل أن يغادر لوجهته، ليترك الأمل ينير وجهها المتعب، ليعود لدمويته من جديدٍ.
**********
تركها وصعد لسيارته التي صمم على قيادتها بنفسه تلك المرة، فلم يعلم الى أي وجهة يسلكها، وربما شعر في ذلك الوقت بحاجته للحديث، فلم يجد أفضل من رفيق دربه، اتجه اليه متناسياً الموعد المنسق بينهما، كل ما همه بتلك اللحظة أن يتحدث إليه فيما يقلقه، وبالفعل صعد اليه وفضل الانتظار بالخارج لحين أن ينتهي من كشوفاته، حتى انه شدد على الممرضة بالا تخبره بأنه بالخارج، وبعد ما يقرب الساعتين من الانتظار أخيراً أتاه وقت رآه مناسب للبوح عما يضيق صدره، فطرق عدة مرات على بابه قبل أن يدلف، فوجد “عمر” منشغل بحاسوبه، حتى انه لم يتمكن من معرفة المريض الذي اتاه دوره، فقال دون النظر إليه ويديه تشير على الفراش الطبي الصغير:
_استرخي قليلاً… سأنضم إليك بعد قليل..
لم يشاكسه بحديثه الصارم تلك المرة، بل فضل التمدد على الشزلونج، وكأنه يجلس على مقعد يحتمه على قول الحقيقة ولا شيء سواها، كأنه يواجه نفسه بمرآة تشع بالصدق فقط، ترك عمر مكتبه ثم نهض ليجلس على المقعد القريب منه، فاندهش حينما وجده، فقال بذهولٍ:
_ماذا تفعل هنا “عاصي” هيا فلنجلس بالمكتب..
تجاهل حديثه عن اختياره لمكان جلوسه، ثم قال وعينيه شاردة بتأمل الضوء الهادئ الذي منحه نوعاً من السكينة:
_لا أعلم بالتحديد ما الذي أصابني! ولكنه بالطبع أمراً غريب ليس له أي تفسير…
والتقط نفساً مطولاً قبل أن يضيف:
_أشعر بالحيرة أحياناً وأحياناً أتساءل ما الذي تغير في هذا الوقت؟ مازلت أنا ومازال قلبي عاشقاً لها إذاً لماذا يسمح بالتفكير بأخرى… نعم”عمر” ثمة رغبة بداخلي تطالبني بالقرب منها، رغبة تدفعني على التطلع لها طوال الوقت، مشاعر أخشاها دائما… تحارب في صراع قوي بين حنين الماضي المرتبط بهند وبين تلك المجنونة التي قيدتني وجعلتني كالأبله الذي لا يعلم اتخاذ القرار المناسب..
تألم لأجله “عمر” فلأول مرة يقع الجبل الذي صمد لسنواتٍ شامخاً، محتفظاً بوجعه وبما يضرب قلبه بمفرده، وها هو الآن يبوح أخيراً بما يشعر به، فسأله بحذرٍ:
_هل تحبها يا “عاصي”؟
أجابه بعد فترة طويلة عن اجابته وكأنه يحسم أجابته، فقال:
_لا أعلم إذا كانت تلك الفترة كافية بحبها أم لا، ولكن بقائها لجواري يسعدني وأراه كافياً..
ابتسم”عمر” ثم قال باستغرابٍ:
_حسناً وماذا تنتظر؟… وجدت إجابة لسؤالك دون عناء… هيا فلتجعلها زوجة لك..
انكمشت تعابير وجهه وهو يرد عليه بحزنٍ:
_الأمر ليس بتلك البساطة “عمر”، قرار الزواج أمراً سهل ولكن القادم فيما بعد هو الأصعب على الاطلاق..
احتار في فهم ما يعنيه فقال باستياءٍ:
_لم يعد لدي القدرة على فهمك عاصي، ماذا تقصد؟
نفث عما بداخله من هواء يزحم رئتيه ثم قال بوضوحٍ:
_أخشى أن لا أتمكن من نسيان هند بعد الزواج عمر، أخشى أن لا أستطيع منحها الحب أو أن أكون زوجاً لها،أخشى أن أكون ظالماً وغير منصفاً بحقها..
تطلع له”عمر” بهدوءٍ ثم قال بابتسامةٍ هادئة:
_لا أعتقد ذلك…. أنا صديقك وأفهمك جيداً، وأعلم بأن ذاك اليوم الذي سينبض قلبك بحبها أتي لا محالة… كن على يقين بأنها ستكون الخلاص لك مما تعيشه “عاصي”، تمسك بها ودعها تشدد على يديك لتخطفك من ظلمة الليل لضياء ليس بعده شقاء ولا وجع..
حديثه اينع في نفسه الراحة والأمان، حمسه لخوض تلك الخطوة الهامة في حياته، فتركه وعاد للقصر وهو على يقين بأنه على صواب…
*********
مضى النهار سريعاً ومازالت تنتظر عودته، سيطر عليها الحزن فكسر فرحتها وباتت على يقينٍ بأنه رفضها ورفض عرضها، شعرت”لوجين” بالإهانة، وكأنها فرضت نفسها عليه لذا قررت الحفاظ على ماء وجهها وغادرت القصر قبل عودته ودموعها استحوذت عليها، شعرت وكأنها تفرض ذاتها على شخصٍ يحب غيرها، طمعت بكرمه بعد أن قدم لها المساعدة والعون من “قاسم” المحتال، فما ذنبه أن يظل يضحى حتى بالزواج منها، فقررت انهاء القيود التي تأسر حركاته، فخرجت من القصر لتقف من أمامه تودعه بنظراتها الباكية، ومن ثم صعدت لسيارة أجرة فتحركت بها فور أن صعدت بها في نفس ذات اللحظة التي عاد بها “عاصي” للقصر، فاستغرب كثيراً حينما وجدها تصعد بأحد السيارات، فهمس بذهولٍ:
_إلى أين تذهب في ذلك الوقت؟
لم يضع احتمالات لاجابته ولحق بها على الفور، فكلما انعطفت السيارة في الطرق المودية لمنزل “قاسم” كان يردد بصدمةٍ:
_مجنونة حقاً تلك الفتاة..
***********
توقفت السيارة أمام منزل العائلة، فترددت كثيراً بالهبوط من السيارة، ولكنها هبطت بالنهاية، مسحت دمعاتها بتأثرٍ شديد فكانت تقدم قدماً وتؤخر الاخرى، حتى ساقتها للداخل، فصارت حالة من الجلبة حينما وجدوها تقف أمامهما، فأسرع تجاهها “قاسم” وجسده يملأه الضمادات الطبية، فقال ساخراً:
_ماذا حدث، تخلى عنكِ السيد “عاصي”؟
حدجته بنظرةٍ محتقنة، فاسترسل حديثه باستهزاءٍ:
_ربما حسبها جيداً فوجد أنكِ لا تستحقي خسارة صفقة ستكلفه الملايين..
تلألأت الدموع في حدقتيها، وهي تستمع لحديثه اللازع، ليست ضعيفة للانصات له بصمتٍ، فتمتلك لسانٍ تراه سليط للغاية، ولكنها بتلك اللحظة مهزومة ولا تقوى على المحاربةٍ، لذا اختارت الصمت وسيلتها للهروب، حتى حينما اقترب منها أبيها فرمقته بنظرةٍ تمنى بعدها الموت، فهمس لها بصوتٍ منخفض:
_لماذا عدتي يا ابنتي؟ الا تعلمين ما يضمره لكِ” قاسم”!
منحته ابتسامة شبه ساخرة على خوفه الغير لائق به، قطع “قاسم” حديثه المنخفض حينما رفع يديه ليطوفه وهو يردد بنظرة ذات مغزى:
_جيد أنك تخبر ابنتك بمن الصالح لها، لا تنسى عمي أملاكك مازالت تحت سيطرة أبي، لذا من مصلحتك أن يتم هذا الزواج..
ازداد بداخله شعور النفور منه ومن ذاته، فانهمرت دمعة تحمل مكنونات العجز على وجهه، فكرهت “لوجين” رؤية ابيها بتلك الحالة المعتادة، فصاحت بضيقٍ شديد:
_كف عن مضايقة أبي أيها الأرعن، تحدث إلي فأنا من يقف بوجههك وليس هو!
جز على أسنانه غيظاً من حدتها التي لم تخسرها بعد، فترك عمه وذهب ليقف أمامها، فجذبها من خصلات شعرها وهو يردد من بين اصطكاك اسنانه:
_كيف تجرئين على الحديث معي بتلك الطريقة!… تعلمي كيف تحترمي زوجك المستقبلي “لوجين” والا سأقطع لسانك ذات مرة…
ازدادت المشاحنات بقاعة المنزل الكبير، ليقطعها صوتاً مألوف اليها حينما تردد بالارجاء:
_هل انتهيتي عزيزتي!
التفوا جميعاً تجاه مصدر الصوت، فوجدوا “عاصي سويلم” يقف من أمامهما بثباتٍ مخيف، ففور أن رآه قاسم حتى أخفض يديه عنها بخوفٍ، وبات يبتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ بالغة، أما لوجين فتطلعت له بفرحةٍ وكأن أمنيتها الثمينة تحققت بوجوده، نعم كانت مرتبكة، حائرة، ولكنها بالتأكيد سعيدة لوجوده، اقترب عاصي منهما ومازالت يديه موضوعة في جيب بنطاله فمنح طالة أكثر ثقة وصرامة، ليقف جوارها ثم قال ونظراته تتوزع بينهما جميعاً:
_أخبرتك بأن تنتظري عودتي حتى أخبرهما بنفسي..
ضيقت عينيها بعدم فهم مما يقصده بحديثه، فتساءل أبيها باستغرابٍ:
_عن أي شيء تتحدث سيد “عاصي”..
أجابه بكل ثقة وعينيه تتركز بنظراتها على الأرعن المصون:
_سنتزوج أنا وابنتك الأسبوع القادم لذا شرفنا أنت وعائلتك بالحضور..
ثم لف يديه حولها وهو يغمز بها بابتسامةٍ مهلكة:
_فلنرحل الآن… سيأتوا للحفل بالتأكيد..
انطلق صوته الغاضب كالشرارة القاتلة حينما قال:
_عن أي زفاف تتحدث!… لوجين لن تتزوج الا بي أنا..
تركها”عاصي” ثم ذهب ليقف من أمامه، ليجيبه بابتسامةٍ هادئة تخفي من خلفها شر وانذار عظيم:
_ستتزوج من “عاصي سويلم” وأنت تعرف هذا الرجل جيداً، من يقف أمامه يدعس جثمانه كالجرذان…
ثم انحنى على أذنيه ليهمس بصوتٍ منخفض:
_أظنك تخشى الجرذ أليس كذلك؟
انقلبت تعابير وجهه لخوف شديد، فتابع بقوله:
_لا تختبر قوة تحملي كثيراً، فربما تلك الكسور والكدمات التي تملأ وجهك تلقنك درساً بعدم التعرض لها مجدداً والا حينها لن يكون هناك مجال لتذكارٍ أخر، فمن الذي سيحمل تذكار ثمين على قلبه القبو!
ورفع يديه ليشير بحركاتٍ دائرية:
_أعد حساباتك مجدداً قبل أن يدعسك قطار الموت..
وتركه وخطى للخارج بكل غرور، ليدنو منها فلف يديه حول معصمها وارغمها على الخروج خلفه، فما أن ابتعدوا سوياً عن المنزل حتى جذبت يدها منه وهي تتساءل ببكاءٍ:
_لماذا فعلت ذلك؟ أنت لست مجبراً!
ابتسم عاصي ثم ضرب كف بكف وهو يردد بحيرةٍ:
_لا أصدق، أنقذتك من ذلك الأرعن منذ قليل ولم يعجبك ذلك!
أطبقت على شفتيها بقوةٍ وهي تتحكم في دموعها، ثم قالت بصوتٍ مختنق:
_الى متى ستظل تنقذني منه!
منحها نظرة عميقة قبل ان يقترب منها، ليخبرها بصوته الرخيم:
_إلى أن تزهق روحي فحينها سيكف عن ملاحقتك..
ثم تابع بقوله المعسول:
_وربما حينها سيخشى أن يلاحقه شبحي فسيتركك لا محالة..
انغمست بكلماته التي اينعت رغبات حبها تجاهه، فرفعت حاجبها وهي تتساءل بدهشةٍ:
_ماذا حدث لك؟
تعلقت عينيه بعينيها وهو يجيبها ببطءٍ:
_أحببت الحياة التي عكستها عينيكِ… والآن أرغب برؤية المزيد…
ثم جذبها اليه ليردد بهمسٍ ساحر:
_فلنتزوج “لوجين”..
ابتسمت ساخرةٍ:
_لا أصدق أن من يقف أمامي هو السيد” عاصي سويلم” الكئيب، علني أحلم حلماً سخيف وربما سأستيقظ منه قريباً..
هز رأسه نافياً وهو يخبرها بمكرٍ:
_لن أدعك تستيقظي منه إذاً…
يتبع…