رواية غرامة غدر الفصل التاسع 9 بقلم شاهنده
الفصل التاسع
___ألم وإشتياق___
كانت تزيل بعض الأعشاب الضارة التى تجمعت حول النبات بصعوبة،تساقطت بضع قطرات من العرق من جبينها على عينيها فرفعت يدها تمسح عرق جبينها بكمها تسخر من تصاعد درجة حرارتها بشدة فى هذا الجو البارد نتيجة المجهود الشاق الذى تبذله،حانت منها نظرة إلى يدها التى أصابتها العديد من الجروح رغم إستخدامها قفازا أغلب الوقت..تنهدت بصمت تتساءل إلى متى سيطول عذابها ويستمر عقابها؟ربما للأبد كما يبدو ف(أكرم)مصمما على أن يجعلها تدفع الثمن ويبذل فى سبيل ذلك قصارى جهده،تنهدت مرة اخرى ولكن شاب تنهيدتها مرارة فبالماضى كان على النقيض تماما يبذل قُصارى جهده لإسعادها .
تبا ..لقد إشتاقت رُغما عنها إلى تلك الأيام وتلك اللحظات التى كان فيها لها حبيبا ،إشتاقت للمساته التى جاست يوما فوق ملامحها وهمساته التى ربتت على قلبها بيد حانية وأطربت مسامعها،إشتاقت لهذا الدفء الذى منحها إياه وجودها بين أضلعه،تريد أن تصرخ بكل كيانها الآن..
أريد عودة حبيبي القديم حتى وإن كان مخادعا..
أريده ليعيد إلى قلبي الحياة وقد صار على وشك الموت حزنا..
أريد أن أعيش الحلم حتى لو كانت النهاية كابوساً..
فلحظات من السعادة معه جعلتنى أتحمل لسنوات..
حنيني وشوقى يبتلعان الذكريات ويتركان فى قلبى أسى ولوعة..
وها هو مخزونى من الذكريات على وشك النفاذ يجعلنى أحتاج بيأس أن أشعر بالسعادة مجددا...
حتى لو كانت سعادة زائفة يغلفها الوهم.
تبا ..تبا ..تبا.
كم هي بائسة يائسة لتتمنى وهم حبه كي يعيد إلى قلبها سعادة مؤقتة ثم يتركها بجراح تبقى للأبد،كم هي بائسة لتشتاق لمن لم يحمل لها فى قلبه يوما حبا بل منحها زيف الأمل وتركها خائبة الرجاء تلجأ مجبرة لآخر كي تنقذ نفسها من براثن مستقبل مجهول الملامح.
أفاقت من افكارها على صوت العم (فاضل)وهو يقول بدهشة:
-جمر !! عتعملى إيه إهنه يابتي؟
نهضت (قمر)ترسم على وجهها إبتسامة وهي تقول بإرتباك:
-إزيك ياعم فاضل..نورت المزرعة.
قال(فاضل)وهو يرمقها بنظرة متفحصة يلاحظ ثيابها المغبرة ويداها المجروحتان:
-المزرعة منورة بناسها.مجلتليش عتعملى إيه فى الجنينة..ووينه عم خلف؟
قالت(قمر)بإضطراب:
-عم خلف عيان بقاله أسبوع مجاش وعشان كدة باخد بالى من الجنينة على ماييجى.
قال(فاضل)بدهشة:
-وه ..عتاخدى بالك من الجنينة بنفسك كيف عاد؟مجلتليش ليه يابتى وأنى كنت جيبتلك اللى ياخد باله منيها؟وبعدين عم خلف تعبان كيف وأنى شايفه إمبارح عشية؟
عقدت (قمر)حاجبيها قائلة:
-شايفه؟!شايفه فين ياعم فاضل؟
قال(فاضل):
-عند التل الكبير اللى على حدود المزرعة ،كان معاود مع مرته ..الظاهر إنهم كانوا عيزوروا أهلها.
لهذا السبب إذا لم تجد احداً حين ذهبت إلى منزل العم(خلف) لتطمأن عليه..ازداد انعقاد حاجبي (قمر)فى تفكير،بينما قال(فاضل):
-سيبى الجنينة وروحى داوى الجروح اللى فى يدك دى،وأنى عبعتلك مصيلح من بكرة ياخد باله منيها لحد خلف مايعاود.
قالت(قمر):
-مالوش لزوم....
قاطعها (فاضل)قائلا بحزم:
-إسمعى الكلام يابتي متتعبيش جلبى وياكى.
هزت (قمر)رأسها،فقال(فاضل):
-وينه تيام؟وحشنى الولد.
قالت(قمر)بإبتسامة:
-إنت كمان وحشته،كان لسة بيقولى إنه عايز يروحلك.
إبتسم الحاج (فاضل)قائلا:
-إبعتهولى طوالى .
قالت(قمر):
-أبعتهولك فين؟
قال:
-عند اكرم..أنى جاي مخصوص أرحب بيه.
تجهمت ملامحها قائلة:
-مش هينفع ياعمى،اكرم بيه منبه على تيام مايقربش من بيت المزرعة.
عقد(فاضل)حاجبيه قائلا:
-اكرم بيه !! ومنبه عليه مايجربش من البيت؟اومال انتى وخالتك وولدك عايشين فين ؟
كادت ان تقول شيئا ولكن صوت قوي النبرات قاطعها وهو يقول:
-نورت المزرعة ياحاج فاضل.
_________________
جلس الحاج(فاضل)امام (اكرم)عاقد الحاجبين،يقول بحيرة:
-يعنى الست رجاء سافرت وفاتت جمر وحديها،غريبة الحكاية دى..ده كنها كانت روحها فيها معتفارجهاش غير بالموت.
هز (اكرم)كتفيه بلا مبالاة قائلا:
-والله ده اللى حصل.
قال(فاضل)بعتاب:
-بس كيف ياأكرم عتشغل جمر بنت الاكابر خدامة عنديك؟مكنش عشمى فيك ياولد الأصول.
طالعه (اكرم)قائلا:
-بص ياحاج فاضل ،انا مكنتش ناوى احكى لحد على حاجة..بس انت غلاوتك عندى زي ابويا واكتر وعشان كدة لازم تعرف إنى مرجعتش انقذ المزرعة زي ماإنت فاكر،رغم إنها عزيزة علية وصعبان علية الحالة اللى وصلتلها على إيد إبن السلاطينى.
قال(فاضل):
-الله يرحمه،أهو راح للى خلجه وهو اللى عيحاسبه على اللى عمله فى المزرعة وفى الست جمر.
عقد (أكرم)حاجبيه قائلا:
-قصدك يعنى إنه ضيع ورثها،كان واضح ياحاج..وهو من إمتى حاتم كان ليه فى الزرع والأرض؟عموما هي اللى إختارته وتتحمل بقى نتيجة إختيارها.
إحتار الحاج (فاضل) فيم يفعل،هل يخبره بما يعرفه عن علاقة (حاتم )و (قمر)أم يصمت؟فلقد كان شاهداً يوما على سوء معاملته إياها..
آثر الصمت فتلك حياة( قمر) الخاصة ولديها كل الحق فى الإحتفاظ بها سرا او البوح بها حين ترغب،لذا فقد قال بفضول:
-اومال إيه اللى خلاك تعاود ياولدي؟ماأنى بجالى سنين بترجاك تاجى وتلحج المزرعة جبل مايفوت الأوان.
تراجع (أكرم)فى مقعده يسند رأسه إليه قائلا:
-انا راجع عشان آخد حقى ياحاج فاضل،سبته كتير وآن الأوان.
عقد (فاضل)حاجبيه قائلا:
-حج إيه ده؟
لمعت عينا (اكرم)بالقسوة وهو يقول بحقد:
-حق سنين ضيعتها فى حب واحدة غدرت بية ،وحق أمي اللى معرفتش غيرها وماتت برضه غدر على إيد الواحدة دى.
إتسعت عينا (فاضل)فى صدمة وهو يقول:
-إنت تجصد إن جمر.....
قاطعه (اكرم)وهو يعتدل قائلا بقسوة:
-هي اللى قتلت امى..الست فاطمة ياحاج.
عقد (فاضل)حاجبيه وقد بدت على ملامحه الصدمة.
_______________
كان قد جمع كل متعلقاته فى حقيبة،سيغادر هذا المنزل الذى لا يشعر فيه بالراحة خاصة وهو يجمعه بمن فرقت بين والديه،لا يطيق رؤيتها أو الجلوس معها فى مكان واحد وقد ضاق زرعه بها حين فرقت بينه وبين والده بدورها،وها هو والده قد قاطعه وأجبره على المكوث بحجرته حتى يعتذر وهو لن يفعل ذلك مطلقا.
نظر إلى الساعة التى تشير إلى السادسة..إنه ميعاد قيلولة والدته وتلك المرأة ،وأخته تمكث فى حجرتها تلعب بألعابها حتى يستيقظ الجميع ،ربما هذا هو انسب وقت للتسلل هاربا والذهاب إلى خاله ليعيش معه رغم أنه لا يهوى تلك الفكرة ،فزوجة خاله لا تحبه ولا تريده ان يعيش معهما لقد سمعها تخبر خاله بذلك وتطلب منه إرساله لأبيه،يكفيهما اولادهما الذين يخرجونها عن طورها وهي لن ترغب فى المزيد من الأعباء على كاهلها.
لقد أصبح عبء على الجميع كما يبدوا ولكن عليه ان يتحمل تلك المراة ذات اللسان السليط، فوجوده معها أهون عليه من ان يُقلق روح امه فى قبرها بمكوثه مع غريمتها،خرج من حجرته بهدوء يتلفت حوله حتى إقترب من باب حجرة والده الموارب،لعن فى سره فلطالما كان الباب مغلقا ماإن يأوى أباه لفراشه،إنه حظه السيئ الذى جعل الأمر يختلف اليوم،يخشى حين يمر من امام الباب ان يلمحه احدهم إن كان مستيقظا..أخذ نفسا عميقا ومر من امام الباب حين تناهى إلى مسامعه صوت والده وهو يقول:
-مفيش قدامى حل غير إنى أرجعه يعيش مع خاله.
سيعيده إذا..لاداعى من الفرار والتخبط فى الطرقات ليلا وقد إنتوى والده تحقيق رغبته،سمع صوتها وهي تقول:
-إنت مش قلت ياصادق إن مرات خاله مبتحبوش ومش عايزاه معاهم؟
تبا..لماذا كان لابد وأن تعرفى ذلك،هل تنوين الشماتة بى وإخبار أبى ان الجميع يكرهوننى،وأن لديه كل الحق لإبعادى عنه بدوره؟
تنهد( صادق)قائلا:
-أيوة..والولد نفسه مكنش بيحب يقعد عندهم زي ما منال مرة قالتلى.
لاتزيد من شماتتها بى ياأبى..لا تمنحها عذرا لتشويه صورتى أكثر..إنى مُجبر على الرحيل ولكنى بالتأكيد أريدك فى حياتي.
-يبقى إزاي هيجيلك قلب تسيبه هناك وانت عارف إن مرات خاله ممكن تعامله بطريقة مش كويسة؟
عقد (فارس)حاجبيه بصدمة،بالتاكيد لم يتوقع منها تلك الكلمات..سمعها تردف قائلة:
-إزاي هتنام وانت مش عارف حالته إيه؟جعان ولا شبعان..حزين ولا فرحان..بردان ولا دفيان،إزاي هتجبره يبقى يتيم الاب والأم وانت عايش؟انا مش ممكن اوافقك على اللى انت عايز تعمله ده أبدا.
شعر بوجهه ندي..فرفع إصبعه يمسح وجنته فإذا بقطرات من الدموع يجدها على وجهه،مسحها بقوة وقد ادرك أنه يبكى جراء سماعه لكلماتها يرفض سماع قلبه الذى رق تجاهها وفكرته عنها تتغير قليلا ..لا ..لا يجب ان يتغير منظوره عنها ومن المستحيل ان يقبلها فى حياته وقد فرقت بين والديه وأماتت امه كمدا.
كاد أن يكمل طريقه إلى الخارج حين إستوقفه صوتها وهي تقول:
-وغلاوتى عندك ياأبو فارس خليه هنا فى حضنك،أنا فى الأول مكنتش فاهمة،كنت فاكرة إن وجوده هيفرق بينا بس دلوقتى بس فهمت إنه ضحية ،ضحية لحاجات كتير مكنلوش ذنب فيها واحنا مش هنيجى عليه اكتر ماالأيام جت عليه.
تدمع عيناه كلماتها مجددا،ربما هو أيضا قد أساء فهمها..ربما لو منحها فرصة أخرى.....
تبا..ماذا يفعل ؟هل سيخون امه ؟هل سيقبل بغريمتها أُما؟هل سيفعل؟بالتأكيد لا..ولكنه أيضا لن يرحل،ربما وجب عليه المكوث مع أبيه رغم كل شيء فحين ينظر إلى الأمر الآن يجد أن وجوده هنا أفضل قليلا من وجوده فى منزل خاله يتصارع مع أولاد خاله الذين لا يطيقهم ويتحمل زوجة خاله التى تبغضه،على الأقل تلك المراة لن تضره بشيء وهنا أيضا ..أخته..وهي أبعد مايكون عنه ولن تضايقه البتة إن لم يقربها.
ليتراجع إلى حجرته بهدوء ويغلق بابها خلفه..بينما يقول (صادق):
-طيب والحل ياأمنية ،هنفضل فى المشاكل دى علطول؟
قالت(أمنية):
-انا شايفة إن أكرم مرتاح قوى مع تيام ،هحاول اخليه يصاحبه لعل وعسى لما يبقى ليه أصحاب هنا يهتم بيهم.. يهدى شوية ويبدأ يكون مرتاح واعتقد إن لو فارس حس بالراحة هنا هيبقى واحد تانى خالص.
قال(صادق)بحب:
-من إمتى العقل ده كله ياحبيبتى؟
مالت (أمنية)على صدره قائلة:
-من يومى وانا عاقلة ياحبيبي.
ضمها (صادق)بين ذراعيه وهو يغمض عينيه،يشعر بالحب يسكن قلبه ويبعد عنه كل قلق...للأبد.
_______________
قال(فاضل)جزعا:
-إنت بتجول إيه بس؟مستحيل جمر تعمل العملة السودة دى،إنت أكيد غلطان او جرا لمخك حاجة.
قال(اكرم):
-إهدى بس ياحاج وإسمعنى ،اللى شافها وهي بتجرى بالعربية بعد ماضربت امي قاللى.
قال(فاضل):
-كداب ..خلينى أجابله وانا اوريك إنه مفترى وربك معيفوتوش واصل.
قال(أكرم):
-على فكرة الشخص ده انا واثق فيه جدا وانت تعرفه كمان.
عقد(فاضل)حاجبيه قائلا:
-يبجى مين الشخص ده؟
قال(اكرم):
-جابر مدير المزرعة بتاعتك وصاحبي زي ماإنت عارف.
عقد(فاضل)حاجبيه قائلا:
-جابر راجل زين ومعيكدبش صوح بس أنى لسة على رأيي..الموضوع فيه حاجة مش مظبوطة،جمر أنى مربيها على يدي وبجولك إنها مستحيل تعمل إكده.
زفر (اكرم)قائلا:
-وهي اللى مربيها على إيدك كان ممكن تغدر بحد بيحبها زي ماغدرت بية.
قال(فاضل):
-لحد دلوك مش عارف كيف جصتكم إنتهت بالشكل ده،بس مش جايز ياإبنى مغدرتش وأبوها جوزها غصب عنيها.
قال(اكرم):
-إحنا الاتنين عارفين إن أبو قمر كان راجل شديد صح بس قمر كانت نور عنيه ومش ممكن يغصب عليها تتجوز حد مش عايزاه ولا إيه؟
قال(فاضل):
-أنى شايف إنك لازمن تتحدت وياها وتسألها جبل ماتحكم عليها وتنفذ حكمك ياإبن الصياد.
قال(اكرم)بقسوة:
-كان ممكن قبل ماتقتل أمى بس خلاص مبقاش فيه مجال للكلام،دلوقتى جه اوان الإنتقام ..الانتقام وبس.
نهض (فاضل)قائلا:
-عنيد وراسك كيف الحجر ياأكرم..بتمنى تفكر بجلبك مش بعجلك عشان متندمش فى الآخر.
نهض (أكرم)قائلا:
-متقلقش علية ياحاج فاضل انا عارف بعمل إيه كويس.
مالت زاوية فم(فاضل)وهو يقول:
-مش باين،عموما أنى كنت جاي اجولك إن هند بتى عتعاود من بلاد برة بعد يامين وموصيانى أجولك تستناها،إتوحشتك جوى بجالها سنين مشافتكش.
إبتسم (اكرم)قائلا:
-هي كمان وحشتنى،إزيها دلوقت؟
قال(فاضل):
-زينة..خدت الشهادة الكبيرة خلاص ومعاودة ،عاوزك تجنعها يااكرم ياولدى تجبل بولد عمها وتتجوزه،أصلها محجرة دماغها جوى،يجطعنى بجى انى اللى دلعتها زيادة عن اللزوم ومبجتش جادر عليها خلاص،ومحدش عيعرف يجنعها غيرك زي زمان..فاكر ولا نسيت؟
قال(اكرم):
-فاكر طبعا .
قال (فاضل):
-كانت بت شجية بس بتيجى لحد عنديك وتجف متحطش منطج.
قال(اكرم):
-ربنا يباركلك فيها .
مد(فاضل)يده إليه مودعا وهو يقول:
-أستأذن انى دلوكيت عشان الوجت اتوخر،بس عستناك تاجينى.
صافحه (اكرم)وهو يقول:
-اكيد جاي ياحاج.
هز (فاضل)رأسه مغادرا قبل ان يتوقف ويستدير قائلا:
-متنساش تفكر فى الكلام اللى جلتهولك وتعيد حساباتك جبل فوات الأوان ياولدى.
لم ينتظر إجابته وهو يغادر بينما يتابعه (اكرم)وقلبه يخبره ان يستمع لكلمات هذا الرجل العجوز،ولكن عقله يأبى الإنصياع.
___ألم وإشتياق___
كانت تزيل بعض الأعشاب الضارة التى تجمعت حول النبات بصعوبة،تساقطت بضع قطرات من العرق من جبينها على عينيها فرفعت يدها تمسح عرق جبينها بكمها تسخر من تصاعد درجة حرارتها بشدة فى هذا الجو البارد نتيجة المجهود الشاق الذى تبذله،حانت منها نظرة إلى يدها التى أصابتها العديد من الجروح رغم إستخدامها قفازا أغلب الوقت..تنهدت بصمت تتساءل إلى متى سيطول عذابها ويستمر عقابها؟ربما للأبد كما يبدو ف(أكرم)مصمما على أن يجعلها تدفع الثمن ويبذل فى سبيل ذلك قصارى جهده،تنهدت مرة اخرى ولكن شاب تنهيدتها مرارة فبالماضى كان على النقيض تماما يبذل قُصارى جهده لإسعادها .
تبا ..لقد إشتاقت رُغما عنها إلى تلك الأيام وتلك اللحظات التى كان فيها لها حبيبا ،إشتاقت للمساته التى جاست يوما فوق ملامحها وهمساته التى ربتت على قلبها بيد حانية وأطربت مسامعها،إشتاقت لهذا الدفء الذى منحها إياه وجودها بين أضلعه،تريد أن تصرخ بكل كيانها الآن..
أريد عودة حبيبي القديم حتى وإن كان مخادعا..
أريده ليعيد إلى قلبي الحياة وقد صار على وشك الموت حزنا..
أريد أن أعيش الحلم حتى لو كانت النهاية كابوساً..
فلحظات من السعادة معه جعلتنى أتحمل لسنوات..
حنيني وشوقى يبتلعان الذكريات ويتركان فى قلبى أسى ولوعة..
وها هو مخزونى من الذكريات على وشك النفاذ يجعلنى أحتاج بيأس أن أشعر بالسعادة مجددا...
حتى لو كانت سعادة زائفة يغلفها الوهم.
تبا ..تبا ..تبا.
كم هي بائسة يائسة لتتمنى وهم حبه كي يعيد إلى قلبها سعادة مؤقتة ثم يتركها بجراح تبقى للأبد،كم هي بائسة لتشتاق لمن لم يحمل لها فى قلبه يوما حبا بل منحها زيف الأمل وتركها خائبة الرجاء تلجأ مجبرة لآخر كي تنقذ نفسها من براثن مستقبل مجهول الملامح.
أفاقت من افكارها على صوت العم (فاضل)وهو يقول بدهشة:
-جمر !! عتعملى إيه إهنه يابتي؟
نهضت (قمر)ترسم على وجهها إبتسامة وهي تقول بإرتباك:
-إزيك ياعم فاضل..نورت المزرعة.
قال(فاضل)وهو يرمقها بنظرة متفحصة يلاحظ ثيابها المغبرة ويداها المجروحتان:
-المزرعة منورة بناسها.مجلتليش عتعملى إيه فى الجنينة..ووينه عم خلف؟
قالت(قمر)بإضطراب:
-عم خلف عيان بقاله أسبوع مجاش وعشان كدة باخد بالى من الجنينة على ماييجى.
قال(فاضل)بدهشة:
-وه ..عتاخدى بالك من الجنينة بنفسك كيف عاد؟مجلتليش ليه يابتى وأنى كنت جيبتلك اللى ياخد باله منيها؟وبعدين عم خلف تعبان كيف وأنى شايفه إمبارح عشية؟
عقدت (قمر)حاجبيها قائلة:
-شايفه؟!شايفه فين ياعم فاضل؟
قال(فاضل):
-عند التل الكبير اللى على حدود المزرعة ،كان معاود مع مرته ..الظاهر إنهم كانوا عيزوروا أهلها.
لهذا السبب إذا لم تجد احداً حين ذهبت إلى منزل العم(خلف) لتطمأن عليه..ازداد انعقاد حاجبي (قمر)فى تفكير،بينما قال(فاضل):
-سيبى الجنينة وروحى داوى الجروح اللى فى يدك دى،وأنى عبعتلك مصيلح من بكرة ياخد باله منيها لحد خلف مايعاود.
قالت(قمر):
-مالوش لزوم....
قاطعها (فاضل)قائلا بحزم:
-إسمعى الكلام يابتي متتعبيش جلبى وياكى.
هزت (قمر)رأسها،فقال(فاضل):
-وينه تيام؟وحشنى الولد.
قالت(قمر)بإبتسامة:
-إنت كمان وحشته،كان لسة بيقولى إنه عايز يروحلك.
إبتسم الحاج (فاضل)قائلا:
-إبعتهولى طوالى .
قالت(قمر):
-أبعتهولك فين؟
قال:
-عند اكرم..أنى جاي مخصوص أرحب بيه.
تجهمت ملامحها قائلة:
-مش هينفع ياعمى،اكرم بيه منبه على تيام مايقربش من بيت المزرعة.
عقد(فاضل)حاجبيه قائلا:
-اكرم بيه !! ومنبه عليه مايجربش من البيت؟اومال انتى وخالتك وولدك عايشين فين ؟
كادت ان تقول شيئا ولكن صوت قوي النبرات قاطعها وهو يقول:
-نورت المزرعة ياحاج فاضل.
_________________
جلس الحاج(فاضل)امام (اكرم)عاقد الحاجبين،يقول بحيرة:
-يعنى الست رجاء سافرت وفاتت جمر وحديها،غريبة الحكاية دى..ده كنها كانت روحها فيها معتفارجهاش غير بالموت.
هز (اكرم)كتفيه بلا مبالاة قائلا:
-والله ده اللى حصل.
قال(فاضل)بعتاب:
-بس كيف ياأكرم عتشغل جمر بنت الاكابر خدامة عنديك؟مكنش عشمى فيك ياولد الأصول.
طالعه (اكرم)قائلا:
-بص ياحاج فاضل ،انا مكنتش ناوى احكى لحد على حاجة..بس انت غلاوتك عندى زي ابويا واكتر وعشان كدة لازم تعرف إنى مرجعتش انقذ المزرعة زي ماإنت فاكر،رغم إنها عزيزة علية وصعبان علية الحالة اللى وصلتلها على إيد إبن السلاطينى.
قال(فاضل):
-الله يرحمه،أهو راح للى خلجه وهو اللى عيحاسبه على اللى عمله فى المزرعة وفى الست جمر.
عقد (أكرم)حاجبيه قائلا:
-قصدك يعنى إنه ضيع ورثها،كان واضح ياحاج..وهو من إمتى حاتم كان ليه فى الزرع والأرض؟عموما هي اللى إختارته وتتحمل بقى نتيجة إختيارها.
إحتار الحاج (فاضل) فيم يفعل،هل يخبره بما يعرفه عن علاقة (حاتم )و (قمر)أم يصمت؟فلقد كان شاهداً يوما على سوء معاملته إياها..
آثر الصمت فتلك حياة( قمر) الخاصة ولديها كل الحق فى الإحتفاظ بها سرا او البوح بها حين ترغب،لذا فقد قال بفضول:
-اومال إيه اللى خلاك تعاود ياولدي؟ماأنى بجالى سنين بترجاك تاجى وتلحج المزرعة جبل مايفوت الأوان.
تراجع (أكرم)فى مقعده يسند رأسه إليه قائلا:
-انا راجع عشان آخد حقى ياحاج فاضل،سبته كتير وآن الأوان.
عقد (فاضل)حاجبيه قائلا:
-حج إيه ده؟
لمعت عينا (اكرم)بالقسوة وهو يقول بحقد:
-حق سنين ضيعتها فى حب واحدة غدرت بية ،وحق أمي اللى معرفتش غيرها وماتت برضه غدر على إيد الواحدة دى.
إتسعت عينا (فاضل)فى صدمة وهو يقول:
-إنت تجصد إن جمر.....
قاطعه (اكرم)وهو يعتدل قائلا بقسوة:
-هي اللى قتلت امى..الست فاطمة ياحاج.
عقد (فاضل)حاجبيه وقد بدت على ملامحه الصدمة.
_______________
كان قد جمع كل متعلقاته فى حقيبة،سيغادر هذا المنزل الذى لا يشعر فيه بالراحة خاصة وهو يجمعه بمن فرقت بين والديه،لا يطيق رؤيتها أو الجلوس معها فى مكان واحد وقد ضاق زرعه بها حين فرقت بينه وبين والده بدورها،وها هو والده قد قاطعه وأجبره على المكوث بحجرته حتى يعتذر وهو لن يفعل ذلك مطلقا.
نظر إلى الساعة التى تشير إلى السادسة..إنه ميعاد قيلولة والدته وتلك المرأة ،وأخته تمكث فى حجرتها تلعب بألعابها حتى يستيقظ الجميع ،ربما هذا هو انسب وقت للتسلل هاربا والذهاب إلى خاله ليعيش معه رغم أنه لا يهوى تلك الفكرة ،فزوجة خاله لا تحبه ولا تريده ان يعيش معهما لقد سمعها تخبر خاله بذلك وتطلب منه إرساله لأبيه،يكفيهما اولادهما الذين يخرجونها عن طورها وهي لن ترغب فى المزيد من الأعباء على كاهلها.
لقد أصبح عبء على الجميع كما يبدوا ولكن عليه ان يتحمل تلك المراة ذات اللسان السليط، فوجوده معها أهون عليه من ان يُقلق روح امه فى قبرها بمكوثه مع غريمتها،خرج من حجرته بهدوء يتلفت حوله حتى إقترب من باب حجرة والده الموارب،لعن فى سره فلطالما كان الباب مغلقا ماإن يأوى أباه لفراشه،إنه حظه السيئ الذى جعل الأمر يختلف اليوم،يخشى حين يمر من امام الباب ان يلمحه احدهم إن كان مستيقظا..أخذ نفسا عميقا ومر من امام الباب حين تناهى إلى مسامعه صوت والده وهو يقول:
-مفيش قدامى حل غير إنى أرجعه يعيش مع خاله.
سيعيده إذا..لاداعى من الفرار والتخبط فى الطرقات ليلا وقد إنتوى والده تحقيق رغبته،سمع صوتها وهي تقول:
-إنت مش قلت ياصادق إن مرات خاله مبتحبوش ومش عايزاه معاهم؟
تبا..لماذا كان لابد وأن تعرفى ذلك،هل تنوين الشماتة بى وإخبار أبى ان الجميع يكرهوننى،وأن لديه كل الحق لإبعادى عنه بدوره؟
تنهد( صادق)قائلا:
-أيوة..والولد نفسه مكنش بيحب يقعد عندهم زي ما منال مرة قالتلى.
لاتزيد من شماتتها بى ياأبى..لا تمنحها عذرا لتشويه صورتى أكثر..إنى مُجبر على الرحيل ولكنى بالتأكيد أريدك فى حياتي.
-يبقى إزاي هيجيلك قلب تسيبه هناك وانت عارف إن مرات خاله ممكن تعامله بطريقة مش كويسة؟
عقد (فارس)حاجبيه بصدمة،بالتاكيد لم يتوقع منها تلك الكلمات..سمعها تردف قائلة:
-إزاي هتنام وانت مش عارف حالته إيه؟جعان ولا شبعان..حزين ولا فرحان..بردان ولا دفيان،إزاي هتجبره يبقى يتيم الاب والأم وانت عايش؟انا مش ممكن اوافقك على اللى انت عايز تعمله ده أبدا.
شعر بوجهه ندي..فرفع إصبعه يمسح وجنته فإذا بقطرات من الدموع يجدها على وجهه،مسحها بقوة وقد ادرك أنه يبكى جراء سماعه لكلماتها يرفض سماع قلبه الذى رق تجاهها وفكرته عنها تتغير قليلا ..لا ..لا يجب ان يتغير منظوره عنها ومن المستحيل ان يقبلها فى حياته وقد فرقت بين والديه وأماتت امه كمدا.
كاد أن يكمل طريقه إلى الخارج حين إستوقفه صوتها وهي تقول:
-وغلاوتى عندك ياأبو فارس خليه هنا فى حضنك،أنا فى الأول مكنتش فاهمة،كنت فاكرة إن وجوده هيفرق بينا بس دلوقتى بس فهمت إنه ضحية ،ضحية لحاجات كتير مكنلوش ذنب فيها واحنا مش هنيجى عليه اكتر ماالأيام جت عليه.
تدمع عيناه كلماتها مجددا،ربما هو أيضا قد أساء فهمها..ربما لو منحها فرصة أخرى.....
تبا..ماذا يفعل ؟هل سيخون امه ؟هل سيقبل بغريمتها أُما؟هل سيفعل؟بالتأكيد لا..ولكنه أيضا لن يرحل،ربما وجب عليه المكوث مع أبيه رغم كل شيء فحين ينظر إلى الأمر الآن يجد أن وجوده هنا أفضل قليلا من وجوده فى منزل خاله يتصارع مع أولاد خاله الذين لا يطيقهم ويتحمل زوجة خاله التى تبغضه،على الأقل تلك المراة لن تضره بشيء وهنا أيضا ..أخته..وهي أبعد مايكون عنه ولن تضايقه البتة إن لم يقربها.
ليتراجع إلى حجرته بهدوء ويغلق بابها خلفه..بينما يقول (صادق):
-طيب والحل ياأمنية ،هنفضل فى المشاكل دى علطول؟
قالت(أمنية):
-انا شايفة إن أكرم مرتاح قوى مع تيام ،هحاول اخليه يصاحبه لعل وعسى لما يبقى ليه أصحاب هنا يهتم بيهم.. يهدى شوية ويبدأ يكون مرتاح واعتقد إن لو فارس حس بالراحة هنا هيبقى واحد تانى خالص.
قال(صادق)بحب:
-من إمتى العقل ده كله ياحبيبتى؟
مالت (أمنية)على صدره قائلة:
-من يومى وانا عاقلة ياحبيبي.
ضمها (صادق)بين ذراعيه وهو يغمض عينيه،يشعر بالحب يسكن قلبه ويبعد عنه كل قلق...للأبد.
_______________
قال(فاضل)جزعا:
-إنت بتجول إيه بس؟مستحيل جمر تعمل العملة السودة دى،إنت أكيد غلطان او جرا لمخك حاجة.
قال(اكرم):
-إهدى بس ياحاج وإسمعنى ،اللى شافها وهي بتجرى بالعربية بعد ماضربت امي قاللى.
قال(فاضل):
-كداب ..خلينى أجابله وانا اوريك إنه مفترى وربك معيفوتوش واصل.
قال(أكرم):
-على فكرة الشخص ده انا واثق فيه جدا وانت تعرفه كمان.
عقد(فاضل)حاجبيه قائلا:
-يبجى مين الشخص ده؟
قال(اكرم):
-جابر مدير المزرعة بتاعتك وصاحبي زي ماإنت عارف.
عقد(فاضل)حاجبيه قائلا:
-جابر راجل زين ومعيكدبش صوح بس أنى لسة على رأيي..الموضوع فيه حاجة مش مظبوطة،جمر أنى مربيها على يدي وبجولك إنها مستحيل تعمل إكده.
زفر (اكرم)قائلا:
-وهي اللى مربيها على إيدك كان ممكن تغدر بحد بيحبها زي ماغدرت بية.
قال(فاضل):
-لحد دلوك مش عارف كيف جصتكم إنتهت بالشكل ده،بس مش جايز ياإبنى مغدرتش وأبوها جوزها غصب عنيها.
قال(اكرم):
-إحنا الاتنين عارفين إن أبو قمر كان راجل شديد صح بس قمر كانت نور عنيه ومش ممكن يغصب عليها تتجوز حد مش عايزاه ولا إيه؟
قال(فاضل):
-أنى شايف إنك لازمن تتحدت وياها وتسألها جبل ماتحكم عليها وتنفذ حكمك ياإبن الصياد.
قال(اكرم)بقسوة:
-كان ممكن قبل ماتقتل أمى بس خلاص مبقاش فيه مجال للكلام،دلوقتى جه اوان الإنتقام ..الانتقام وبس.
نهض (فاضل)قائلا:
-عنيد وراسك كيف الحجر ياأكرم..بتمنى تفكر بجلبك مش بعجلك عشان متندمش فى الآخر.
نهض (أكرم)قائلا:
-متقلقش علية ياحاج فاضل انا عارف بعمل إيه كويس.
مالت زاوية فم(فاضل)وهو يقول:
-مش باين،عموما أنى كنت جاي اجولك إن هند بتى عتعاود من بلاد برة بعد يامين وموصيانى أجولك تستناها،إتوحشتك جوى بجالها سنين مشافتكش.
إبتسم (اكرم)قائلا:
-هي كمان وحشتنى،إزيها دلوقت؟
قال(فاضل):
-زينة..خدت الشهادة الكبيرة خلاص ومعاودة ،عاوزك تجنعها يااكرم ياولدى تجبل بولد عمها وتتجوزه،أصلها محجرة دماغها جوى،يجطعنى بجى انى اللى دلعتها زيادة عن اللزوم ومبجتش جادر عليها خلاص،ومحدش عيعرف يجنعها غيرك زي زمان..فاكر ولا نسيت؟
قال(اكرم):
-فاكر طبعا .
قال (فاضل):
-كانت بت شجية بس بتيجى لحد عنديك وتجف متحطش منطج.
قال(اكرم):
-ربنا يباركلك فيها .
مد(فاضل)يده إليه مودعا وهو يقول:
-أستأذن انى دلوكيت عشان الوجت اتوخر،بس عستناك تاجينى.
صافحه (اكرم)وهو يقول:
-اكيد جاي ياحاج.
هز (فاضل)رأسه مغادرا قبل ان يتوقف ويستدير قائلا:
-متنساش تفكر فى الكلام اللى جلتهولك وتعيد حساباتك جبل فوات الأوان ياولدى.
لم ينتظر إجابته وهو يغادر بينما يتابعه (اكرم)وقلبه يخبره ان يستمع لكلمات هذا الرجل العجوز،ولكن عقله يأبى الإنصياع.