اخر الروايات

رواية زهور الدلفي كاملة بقلم مني الفولي

رواية زهور الدلفي كاملة بقلم مني الفولي



الحلقة الأولى
جلس على مكتبه متظاهرًا بالانهماك بالعمل بينما هو يترصد كل تحركاتها متيقن من أنها تنوي القيام بأحد الاعيبها المعتادة، التي ينوي ايقافها هذه المرة ومعاقبتها عليها بحزم يتناسب مع طيشها المتنامي.
امتدت يده تمسك بعبوة المشروب الغازي أمامه ليفتحها، مرتشفًا بعضًا منها قبل أن يضعها على المكتب منتبهًا لاقترابها منه تحمل بعض الملفات لوضعها بالرف خلفه، مرت أمامه بهدوء تضع ما بيدها ولكن قبل أن تنتهي وجد إحدى مرافقتيهما بالغرفة تتقدم منه وهي تميل عليه بدلال مبالغ به: أستاذ أحمد هي الميزانية كده خلاص ولا لسه في سهر تاني.
تعرق خجلًا من قربها وأسلوبها المتغنج، ليغمغم بارتباك وهو يتراجع ليغوص بمقعده مبتاعدًا عنها قدر الإمكان: لسه يا آنسة رباب، بس ممكن منحتاجش سهر، لو ركزنا في شغلنا شوية.
تشتت ذهنه عن من خلفه للحظة واحدة كانت أكثر من كافية لتمرق من جانبه سريعًا مفلتة ذلك القرص الأبيض الصغير داخل فوهة مشروبه؛ الذي انهمر متدفقًا مغرقًا مكتبه بحممه الغازية.
لينتفض هو واقفًا محاولًا أنقاذ الموقف والحفاظ على الملفات أمامه، ممسكًا بالعبوة الغازية ملقيًا بها لسلة القمامة، ليلتقط بسرعة عدة محارم ورقية ممتصًا ما تخلف منها، لينتهي دون خسائر تذكر لحسن الحظ، ليقف بعدها بمواجهتها منتصبًا كأسد يوشك على الافتراس دون أن تفوته نظرات مرافقتيهما المنتشية العابثة لكنه تجاهلهما مركزًا بصره على تلك التي تقف منكمشة خلف مكتبها الذي لن يحميها هذه المرة من براكين ثورته التي تستحقها عن جدارة، ولكن نظرة واحدة لعينيها التي سكنها الخزي مختلطًا بالألم، أخمدت كل ثورته، أما رسالة الرجاء التي بثتها لعينيه فقد انعشت فيه حميته الرجولية وكأنها تستحق الزود لا العقاب، ليبتلع لعابه بتوتر مستشعرًا تلك الدموع التي احتبستها بقوة ولكنها رغم ذلك أنهمرت فوق نيران غضبه فأخمدتها بلحظة، ليحاول تنظيم أنفاسه واستعادة هدوئه وهو يردف بصوت متحشرج: حصل خير يا جماعة، كل واحد يرجع لشغله.
لم تفوته نظرات الزميلتين المغتاظة ولكن ما ألمه هو نظرة الإنكسار بعينيها وتهربها من عينيه، وأمطارهما التي هددت سد جفنيها وأوشكت على الفيضان، ولكنها سبقتها مهرولة للخارج وهي تهمهم بصوت مختنق: عن أذنكم.
بمجرد خروجها أصدرت إحدى الزميلتان أصوات ممتعضة بشفتيها وهي تغمغم بإستياء: أيه شغل العيال ده.
أجابها أحمد بصوت حاد منفعل: في حاجة يا آنسة سمر.
أجابته سمر مجفلة من حدته معها التي تختلف عن تراخيه مع من تستحق العقاب: يعني هو طبيعي أن الكانز يفور بالشكل ده.
لتسرع زميلتها بالتأكيد على كلامها ليوغرا صدره على الغائبة: لا طبعا، وليه ما فارش كده إلا بعد ما فريدة عدت من جنبه.
ابتسم لهما بثقة وقد تأكدت له نيتهما بل وربما إستغلالها بالأمر: يعني هتكون عملت له أيه، بالكتير هتكون خبطت المكتب من غير ماتقصد، (بلهجة متحدية) لكن لو حد فيكم شافها وهي بتعمل حاجة مقصودة؛ فساعتها نفتح تحقيق وتكونوا أنتم شهوده.
تبادلا نظرات متوترة، لتغمغم سمر متلعثمة: أنا عن نفسي ما شوفتش حاجة، أنت شوفتي حاجة يا رباب.
اندفعت رباب تنفي بسرعة: لا طبعا، أنا أصلا كنت بسأل أستاذ أحمد على الميزانية، وكنت مركزة معه.
انهى جدلهما بحزم مستمتعًا بإستياءهما الجلي: يبقى موضوع منتهي وأكيد مش هنحاسب حد على حاجة مش مقصودة، وياريت بقى نرجع لشغلنا عشان نخلص ومنضطرش نسهر تاني.
انكبت كل منهما على الأوراق أمامها وهو يكاد يشتم رايحة أعصابهما المشتعلة كمدًا.
عادت فريدة للغرفة تحني وجهها أرضًا ولكن ذلك لم يمنعه من ملاحظة أثار بكاءها الذي كان متيقن منه والذي لا يدري لما ينهمر كل مرة بعد مشاغباتها معه رغم إحجامه عن معاملتها بما تستحق على تلك المشاغبات، فأن كانت تخجل من فعلتها فلما تفعلها من الأساس، أوأنها مجرد دموع تماسيح تستجلبها متظاهرة بالندم ليمتنع عن عقابها ولكن قلبه استبعد ذلك الاحتمال متيقنًا أن بالأمر سرا ما.
**********
بشقة ذات مستوى راقي وأثاث أنيق بلا تكلف دلفت فريدة مساءًا تبدو عليها إمارات التعب، أنزلت تلك الحقيبة الجلدية من فوق كتفها لتضعها على المنضدة بحرص، لترتمي بعدها مجهدة على أقرب مقعد لها، تفك حجابها لتنسال تلك الخصلات الكستنائية القصيرة فوق كتفيها الذي تصله بالكاد وهي تلتقط أنفاسها اللاهثة ولكن ما كادت أنفاسها تنتظم حتى انقطعت مذعورة وهي تستمع ذلك الصياح الغاضب لتلك السيدة الخمسينية: حمد الله على السلامة يا هانم، خلصتي لف في الشوارع خلاص.
انتفضت فريدة وهي تلتف للسيدة بإستياء: لف في الشوراع، أنا بلف في الشوراع يا ماما.
ازدادت لهجة والدتها حدة وهي تستطرد بغضب: أمال عايزني أقول لحضرتك أيه وأنت راجعة بعد ميعاد شغلك بأكتر من ست ساعات.
اتسعت عيني فريدة وهي تغمغم بصدمة: حضرتك عارفة أني أستأذنت بابا أني أتأخر لأن المسابقة فاضل عليها يومين وأنا لسه مش جاهزة.
هدرت والدتها بحنق وهي تشيح بيديها غاضبة: أيوه أستأذنتي أبوكي وهو وافق، بس أنا اعترضت وقولتلك تبطلي الهبل اللي بتعمليه ده، لكن طبعا كالعادة، كلامي دخل من ودنك دي خرج من التانية، وهو من أمتى أنت وأبوكي عملتوا لي اعتبار، لكن أنت وهو لازم تعرفوا أن الكلمة هنا كلمتي ومحدش يقدر...
ابتلعت باقي حروف كلماتها عندما هدر ذلك الصوت الغاضب: نبيلة، أيه اللي بتقوليه ده.
تطلعتا كلاتهما لتلك الغاضبة التي تبدو كتوأم لفريدة لولا بعض الأختلافات الطفيفة كلون العين وشعرها الأشقر الطويل، لتحاول فريدة تلطفة الموقف وهي تتلعثم مهادنة: مفيش حاجة يا فيفي دي ماما نسيت أني أستأذنت بابا وقلقت عليا.
ظهرت بتلك اللحظة الاختلافات الجوهرية بينهما فقد كانت عيني فيفي مسيطرتان ولهجتها حازمة كمن اعتادت أن تأمر فتطاع: ادخلي أوضتك يا فيري، أنا باكلم ماما.
زاغت نظرات فريدة بينهما، خاصة وهي تلمح توتر والدتها الجلي، ولكنها لم تمتلك سوى أن تلتقط حقيبتها وتتركهما متجهة لغرفتها. بمجرد انصراف فريدة التفتت فيفي لنبيلة تحتل وجهها تلك النظرة المتهكمة وهي تغمغم بعبث: كنتي بتقولي بقى أن الكلمة كلمة مين يا نبيلة.
وبرغم الفرق العمري الظاهري بينهما وأن فيفي لاتزيد عن عمر فريدة أبدا ألا أن ذلك خالف وبشدة تلك الرهبة بعين نبيلة وتلعثمها وهي تحاول التقاط كلمات تبرر بها كلماتها الخرقاء.
**********
دلفت فريدة لغرفتها وهي تلوم نفسها على ذلك الشقاق بين والدتها وفيفي والذي تتمنى ألا يعلم به والدها وإلا لنالت والدتها من غضبه الكثير، ولكن ما طمئنها أن الوشاية ليست طبع فيفي رغم كثرة سقطات والدتها.
وضعت الحقيبة بيدها على أحد الفراشين بالغرفة لتفتحها ملتقطة آلة تصوير حديثة، متفحصة اللقطات المسجلة بذاكرتها بشغف وفخر، وسرعان ما أعادتها لحقيبتها برفق ككنز ثمين، ريثما دلفت فيفي للغرفة لتتطلع لها محاولة استشفاف ما حدث وهي تسألها بتوجس: أتخانقتم؟
استلقت فيفي على الفراش المجاور وهي تردف موبخة: كله من تحت راسك.
انزعجت ملامح فريدة وهي تردف بآسى: أنا.
اعتدلت فيفي بجلستها وهي تجيبها بلهجة حازمة: بصي أنا خرجت لها عشان ميصحش الكلام اللي قالته ولا يصح تقولك بتلفي في الشوراع، لكن بصراحة معها حق تزعل لأنك أتأخرتي جامد، وخصوصًا وأنت عارفة أن موضوع التصوير ده مش نازل لها من زور.
زفرت فريدة بضيق: طيب ليه، التصوير ده هو الحاجة الوحيدة اللي باحس فيها بنفسي، وكمان مش مأثرة لا على شغلي ولا حياتي.
تطلعت لها فيفي بلوم: بس ماما مش شايفة كده، رافضك للجواز خلاها تتخيل أن اهتمامك بالتصوير والسفر ورا مسابقاته، هما اللي شاغلين دماغك.
زفرت فريدة بنفاذ صبر: يالله، مش هنخلص أبدا من الموضوع ده، وأنا اللي كنت فاكرة أنك المفروض أكتر حد يحس بيا ويقدر ظروفي.
استقامت فيفي محتوية فريدة بين ذراعيها وهي تربت عليها بحنان: وعشان أنا أكتر واحدة حاسة بيكي، عايزكي تعرفي أن حياتك لازم تعيشيها مهما كانت الظروف.
*********
بمنزل بإحدى القرى، كانت شابة يافعة تمسح تلك الدموع التي غلبتها وهي تنهي تلك المحادثة بهاتفها: ولا يحرمني منك يا فيفي، محمدًا رسول الله.
ألقت الهاتف بجوارها بضيق لتجفل على صوت والدتها الحاد خلفها: أنا مش قولت متكلماهش تاني ياست نريمان، ولا أنا خلاص كلمتي مبقتش تتسمع.
انتفضت مذعورة وهي تهتف مبررة: دي فيفي يا ماما فيفي، ولا حضرتك منعاني أكلم فيفي كمان.
هدرت والدتها غاضبة بكلمات تقطر حقدًا: مبتكلمش عن فيفي؛ أنا باتكلم عن مقصوفة الرقبة الست فيري.
أجابتها نريمان بكسرة وكأنما تمنت لو كانت فعلت: والله ماكلمتها؛ هي اصلا مكنتش موجودة كانت في الشغل.
صرخت بها والدتها كمن أمسكت بها بالجرم المشهود: يعني سألتي عليها.
قاطع مشاحنتهما دخول ذلك الشاب ملقيا التحية وهو يتطلع لهما بفضول: السلام عليكم، في أيه يا جماعة؟، مطلعة صوت ماما ليه يا نريمان؟
أجابته والدته بلهفة وهي تشير لنريمان بالانصراف بلامبالاة وكأنها لم تكن تهاجمها منذ لحظة واحدة: وعليكم السلام، سيبك منها يا فتحي، المهم قولي عملت أيه؟
زفر بضيق وهو يلقى بجسده فوق أقرب مقعد بإرهاق: معملتش، دورت في الناحية كلها ملقيتش أي فدادين معروضة للبيع.
اغتمت ملامحها للحظات قبل أن تعقد حاجبيها بتفكير لتغمغم وكأنما تفكر بصوت عال: كده مقدمناش غير أرض الحاج راضي.
غمغم فتحي متعجبًا: مش سألناه وقال مش للبيع!
أجابته بأمل: قلبي حاسس أن لو ضاغطنا عليه شوبة هيلين.
أجابها فتحي مستنكرًا: يعني هنتحايل عليه ولا هنغصبه يبيع.
أشاحت بيدها بوجهه موبخة: مليكش دعوة أنا هتصرف، وبعدين دي أنسب حاجة، كفاية أنها لازقة في أرضي؛ يعني هتعرف تراعي الأرض كلها مرة واحدة، ده غير أنه هيدينا الفدانين على بعض وساعتها نحتكم على الخمس فدادين ونحقق حلمنا.
ظهر الضيق على وجهه، وتمنى أن يخبرها بأنه حلمها هي، بينما حلمه قد ضاع منذ زمن ولكنه كالعادة كتم ما يجول بخاطره مكتفيًا بتلك الجملة الروتينية: اللي تشوفيه ياما.
**********
جلست فريدة على مكتبها تتابع عملها باهتمام، بينما رباب وسمر يتهامسان وهما يتطلعا نحوها ببغض، لتنهض رباب أمام مكتب فريدة وهي ترسم ابتسامة زائفة وتردف بلهجة متحدية: أنت خوفتي ولا أيه يا فيري.
تطلعت لها فريدة مندهشة: خوفت! خوفت من أيه؟
اجابتها رباب بنبرة مستفزة: يعني من ساعة مقلب النعناع الأسبوع اللي فات وأنت كشيتي كده وجيبتي ورا.
تأففت فريدة وهي تشعر بالضيق لتذكرها لأفعالها السابقة: لا بس الصراحة الموضوع سخف وبقى مش لطيف.
لاح الغضب على وجه رباب وهي تضغط حروف كلماتها: الموضوع فجأة بقى مش لطيف ولا أنت اللي استلطفتي حد تاني؟
انعقد حاجبي فريدة بحيرة: أستلطفت أزاي مش فاهمة؟
تفرست رباب بملامحها وهي تنطق حروف كلماتها ببطء متعمد: أستاذ أحمد مثلا.
انتفضت فريدة بمقعدها وهي تهدر بغضب: أيه اللي بتقوليه ده، أوزني كلامك قبل ما تقوليه أحسن.
توترت رباب من رد فعلها الصارم لتبرر متلعثمة: أنا مش قصدي حاجة، أنا بقول يمكن مابقتيش شايفه رخم زي الأول.
أجابتها فريدة بحدة: رخم ولا مش رخم لنفسه، أنا كل اللي بينه وبينه شغلي، وبصراحة أنا غلطت أني سمعت كلامكم في لعب العيال ده من الأول.
لانت نبرة رباب مهادنة وهي تحاول استمالتها مرة أخرى: لعب عيال، كتر خيرك وأنا اللي لسه كنت باقول لسمر توضب لنا خروجة حلوة لينا احنا الثلاثة.
لتصدمها لامبالاة فريدة غير المعتادة: لا شكرا، متعملوش حسابي معكم أنا أصلا مش فاضية الفترة الجاية.
استشاطت رباب غضبا ولكن منعها من مواصلة الحوار دلوف أحمد للمكتب، لتعود لمكتبها مكتفية برد مقتضب: براحتك.
لم تلقى فريدة لها بالًا و انصب كل اهتمامها على أحمد المنكب على بعض الأوراق بيده، لتشجع نفسها متجهة إليه تدعو الله أن يستجيب لطلبها: أستاذ أحمد.
رفع نظره إليها في دعوة صامتة للحديث، لتستطرد بحرج: أنا كنت محتاجة اجازة يومين.
أجابها بلهجة عملية: أنت عارفة أنك استنفذتي كل اجازاتك السنوية.
أجابته بخفوت: أنا عارفة بس أنا فعلا محتاجة اليومين دول جدا.
أجابها ببساطة: حاليا الاجازة الوحيدة المسموح لك بيها الاجازات المرضية، أنت عيانة؟
هزت رأسها نفيا وهي تجيبه بصدق: لا مش عيانة، بس محتاجة الاجازة عشان ظروف خاصة.
أخفض رأسه بأسف حقيقي: أسف يا آنسة فريدة، مينفعش تاخدي اجازة.
شكرته عائدة لمكتبها تحت نظرات زميلتيها الشامتة، بينما حملت عينيه آسف حقيقي، فما لا تعلمه أنه يعرف تلك الظروف التي لم تفصح عنها، فمنذ عملها معه واستحوذها على اهتمامه جمع الكثير من المعلومات عنها وكانت إحداها هوايتها الأثيرة، وأصبح أحد متابعي حسابها على موقع الصور الشهير، ليعلم بأمر تلك المسابقة بمحافظة أخرى ويتوقع طلبها لاجازة لم يستطع منحها أياها رغم تمنيه ذلك.
**********
استلقت فيفي فوق فراشها تغطي أذنيها بكفيها، بينما فريدة تحاول رفعهما وهي تتوسلها بإلحاح: عشان خاطري يا فيفي وحياة فيري عندك، مش متخبلة المسابقة دي هتفرق معايا قد أيه.
نفضت يديها بعصبية وهي تصيح بحدة: بطلي زن بقى قولت لك مش هينفع.
نظرات إليها بعيون متوسلة كقط جائع وهي تزم شفتيها بدلال: كده يا فيفي، بس كل شوية تقولي أنت قلبي وأعز مالي، وأول ما احتاجتك بيعتيني بالسرعة دي.
زفرت فيفي بقوة فبرغم معرفتها بتلاعبها بمشاعرها ألا أنها لا تحتمل أن تراها حزينة، لتخرج كلماتها مغلفة بالحنان: يا حبيبتي افهميني، أنت عارفة المشكلة اللي ممكن تحصل لو حد اكتشف الموضوع ده.
زاد الرجاء بعينيها والبؤس بنبرتها وهي تردف بدلال: ما هو احنا بنعمل كده كل ما تحبي تتهوي يا قلبي، ومحدش من الجيران لاحظ حاجة؛ رغم أن بقى لنا فترة عايشين هنا، حتى الكام غلطة اللي حصلوا لما بتقابلي حد ويحاول يكلمك كنتي بتقدري تتوهي اللي قدامك وتلبخيه.
ترددت فيفي وقد ضعفت تجاهها كعادتها: دي بتبقى حاجات عابرة كده وربنا بيسترها، لكن ده شغل ومسئولية ده غير أن بيتهيألي أن هيكون عليكي حرمانية لأنك مش هتروحي الشغل وهتقبضي حاجة معملتيهاش ورغم أني هاروح بس أكيد مش هاشتغل يعني.
اقتربت فريدة تقبل وجنتيها باستعطاف: ربنا هيسترها بإذن الله، والله هاخرج ربع المرتب لوجه الله، بس دي فرصتي يا فيفي أنا كسبت في المرحلة الأولى والسفرية دي للتصفيات وميرضكيش أني انسحب بالشكل ده.
زفرت فيفي بنفاذ صبر: والمطلوب يا أخرة صبري، يا خلفة الغاليين.
اختفى بؤسها فجأة لتقفز تحتضن فيفي وهي تصرخ بحماس: ياسسس، الموضوع عادي زي كل خروجة، هتلبسي اللانسيز وكده كده الحجاب مغطي شعرك، هتغمقي بس حواجبك بليب لاينر بني، والكمامة وكحتين وخلاص، وبالنسبة للشغل احنا خلصنا الميزانية والتقرير المطلوب مني سلمته امبارح، وتقريبا هتسجلي حضور وانصراف بس.
غمغمت فيفي باستسلام: أمري لله، ربنا يستر، بس زي ما أنت عارفة صور أشخاص لا، مناظر طبيعية وبس، عارفة أن الموضوع فيه خلاف بس رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قال ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك)).
أجابتها فريدة بسعادة: متخفيش يا فيفي حافظة التعليمات.
ابتسمت فيفي بحب: شطورة (لتتغير نبرتها فجأة وهي تسألها بلهجة حادة) أوعي تكوني عملتي مصيبة من مصايبك تاني.
اجابتها فريدة صادقة: والله أبدا، من ساعة النعناع في البيبسي وزعيقك وأنا حرمت، حتى رباب وسمر قالبين علي.
هدرت فيفي موبخة بغضب: يتفلقوا، مش عارفة عقلك كان فين لما طوعتيهم في التخلف ده.
خفضت عينيها وهي تهمس بخزي: كنت عايزهم يصاحبوني، كنت عايزة أعمل أصحاب في كل مكان بروحه عشان لما الحقيقة تتعرف مبقاش لوحدي.
هدرت فيفي بغضب: يا متخلفة هما دول الأصحاب اللي هيقفوا جنبك ويساندوكي، ده أنت بنفسك قايلة لي أنك أول ما استلمتي الشغل مكنوش بيطوقكي، وأنهم غيرانين على أحمد عشان واضح أن رباب بتحبه، وطبعا بنت خالتها بتساندها.
ارتبك صوتها وهي تبرر: لأ ما هما لما حاسوا أني مش باستلطفه بطلوا غيرة، بس كنا بنحاول نغلس عليه زي ما بيغلس علينا في الشغل.
نهرتها فيفي موضحة: بطلوا غيرة ولا ضغطوا عليكي عشان يخلوكي تغلطي وتسقطي من نظره بعد ما كان واضح أنه مهتم بيكي.
أزداد وجهها انخفاضًا وهي تغمغم بصوت واهن: لا طبعا أنا مش غبية للدرجة دي.
أمسكت فيفي برأسها ترفعها لتتواجه أعينهما وهي تقرر بحسم: أنت مش غبية أنت جبانة، خفتي من اهتمامه، (وأزداد صوتها خفوتا وعمقا) ويمكن خوفتي من نفسك اكتر.
نزعت فريدة نفسها من بين يديها مبتعدة متظاهرة بالانشغال، وبضحكة مصطنعة: لا التحليل النفسي ده نخليه وقت تاني، لكن دلوقتي يدوب أحضر شنطتي عشان الحق أوصل المعسكر بتاع المسابقة، وأنت نامي بدري عشان تعرفي تصحي على ميعاد الشغل، وبابا كده كده بينزل قبلي وبيرحع بعدي، هي ماما بتبقى نايمة بس لو كانت صاحية أوعي تعرف أنت رايحة فين هي فاكرة أني واخدة اجازة.
لتغمغم فيفي متهكمة: ده على أساس أني هاستأذنها قبل ما أخرج، شوفي أنت طريقك، وخلي بالك من نفسك.
**********
"ده نصب عيني عينك"
صرخ بها فتحي بوجه والدته معترضًا بعدما أخبرته بنتائج مفوضاتها مع جارهما بشأن أرضه.
أجابته ثريا بضيق: هو بيقول أن ده أخر كلام عنده، أنت عندك حل تاني؟
ازدادت ثورته، وهو يلوح ساخطًا: بين الشاري والبايع يفتح الله، ده كده الفدان واقف باكتر من تمنه بمرة ونص، هو فاكرنا عبط ولا ماسك علينا زلة.
صاحت ثريا ساخطة: لا ماسكنا من أيدنا اللي بتوجعنا، الحاج راضي عارف كويس أن الزمام كله مفيهوش أرض للبيع و أننا محتاجين الفدانين بتوعه عشان تبقى بتحتكم على خمس فدادين بنفس الزمام زي ما قانون العمودية بيشترط.
أطرق مفكرا ليجيبها بعد لحظات: مش لازم نشتريهم كلهم نوبة واحدة، نصبر شوية وكل مانلاقي واحد عايز يبيع قيراط ولا اتنين نشتريهم، ومرة على مرة هنتم الفدانين اللي ناقصين.
اعترضت ثريا موضحة: مش هينفع نستنى، القانون بيشترط أن ملكيتك للفدادين تكون من أكتر من خمس سنين وقت ما تتقدم للعمودية، أدعي أنت بس أن أبوك الواطي ميخلاش بينا زي عوايده ويموت قبل ما الخمس سنين يعدوا أو قبل ما توصل للسن القانوني للعمودية.
فغر فاهه بصدمة: وهي دي كمان حاجة بإيده عشان يخلا ولا ميخلاش.
اشتعل وجهها غضبًا وهي تصيح بحقد: لو بإيده كان عملها عشان ينكد عليا ويكسرني، وبعدين مالك محموق عليه قوي كده، مش ده اللي رماكم وبيسألش عليكم ومفضل عليكم بنات الهانم اللي اتجوزها، ولولاي أنا ووقفتي جنبك عمرك ما هاتحقق حلمك في يوم وتبقى العمدة.
اكتسى وجهه بالحزن وهو يجيبها بمرارة: ده حلمك أنت ياما، حلمي أنا ضاع من زمان من يوم ما جبرتيني أدخل دبلوم بدل ثانوي.
احتد صوتها وقد استشاطت غضبًا: حوش حوش، فاكر نفسك كنت هتبقى دكتور ولا أيه.
ازدرد ريقه بغصة: وليه لا، أنا كنت أشطر واحد في الفصل، وكان حلمي أكمل علام، لكن أنت كل اللي كان يهمك أن يكون معايا مؤهل متوسط عشان العمودية، ومش مهم أنا باحلم بيه وعايز أيه.
زادت حدة صوتها وهي تقرعه: بتحاسبني يا فتحي، ده بدل ما تبوس أيدي ورجلي أني باكتب لك الأرض وباسلمك كل اللي حيلتي، عشان تبقى راجل ملو هدومك وتحكم البلد كلها.
لم يجيبها واكتفى بنظرة يائسة فهي لن تفهمه أبدًا، ولن تهتم يومًا سوى بما تريده هي بغض النظر عن ما يتمناه غيرها.
استفزها صمته ونظرته لها، فاستطردت بكبر: خليك عارف أن العقود اللي هتنكتب دي حبر على ورق، وأن الأرض هتفضل ملكي.
ابتسم باستهزاء وهو يجيبها بسخرية: مش لاما يبقى في عقود هتنكتب، مش بتقولي بيصطاد في الميه العكرة وطالب شيئ وشويات.
تغاضت عن السخرية بنبرته وزفرت بضيق وهي تخبره: هاحاول معاه تاني ولو مرضيش ينزل في السعر على الأقل ياخد اللي معانا وتكتب له وصل ولا كمبيالة بالباقي.
رفع وجهه للسماء شاكيًا لربه بصمت؛ فها هي كعادتها تقرر بالنيابة عنه ولا تبالي برأيه أو موافقته من عدمها.
***********
بالصباح الباكر وقفت فيفي أمام المرأة تفحص مظهرها جيدًا للتأكد من عدم وجود فارق ملحوظ بينها وبين فريدة بمظهرها الحالي، خاصة بتلك العدسات اللاصقة؛ حملت حقيبتها وهي تتحرك بطريقها للخارج قبل أن يستوقفها صوت نبيلة الحاد: رايحة فين يا زفتة؟
صاحت فريدة ناهرة: هي مين دي اللي زفتة يا نبيلة؟
تصنعت نبيلة الارتباك وهي تعتذر بندم زائف: فيفي، أسفة يا قلبي كنت فاكركي فيري.
نظرت لها فريدة شزرًا وهي توبخها: وهو أنت برضو بتقولي لفيري يا زفتة؟، ولا حتى ينفع أنك تقوليلها كده.
ارتبكت نبيلة وندمت على تهورها ولكنها لم تستطع منع نفسها من التحرش بغريمتها والانتقاص منها بأي شكل، ولكنها لم تملك سوى التحايل وتبرير فعلتها: ما أنت شايفة عمايلها يا فيفي، والله أنا ما بقيت عارفة أتعامل معها أزاي.
طالعتها فريدة بتهكم وهي تسألها: وحتى لو هتقوليلها كده مع أن ده مرفوض وفيري مش صغيرة؛ ياترى كمان ماخدتيش بالك أن فيري مش هنا أصلًا وبايتة في المعسكر من امبارح.
تصنعت نبيلة الصدمة وهي تشهق بجزع: يالله، أسفة يا فيفي بجد، بس والله البنت دي هتجنني، الواحدة دماغها مش فيها ومش عارفة، تلاقيها منين ولا منين.
ابتسمت فيفي هازئة: خلاص حصل خير؛ بس فتحي عينيكي وركزي كويس بعد كده يا نيلة.
صدمت نبيلة وكررت بدهشة: نيلة.
قلدتها فيفي متقمصة نبرتها وحركتها وهي تشهق بجزع: يالله، أسفة يا بلبلة بجد، بس والله البنت دي هتجنني، الواحدة دماغها مش فيها ومش عارفة، تلاقيها منين ولا منين.
وقبل أن تعطيها الفرصة للرد انسحبت من أمامها وصدى ضحكتها الهازئة يتردد بأذنيها.

***********
دلفت فيفي لمكتب فريدة بخطوات متمهلة وهي ترتدي إحدى الكمامة الطبية، لتناظرها رباب للحظات ثم تقول بغل: سلامتك يا فيري، هما شوية برد يبهدولوكي ويضيعوا صوتك كده، (ناظرة لأحمد) اوعي يكونك عندك مشاكل في المناعة ومخبية علينا.
ضاقت عيني فيفي وهي تتفهم مقصدها الخبيث، ولكنها تجاهلتها وهي تسعل مصطنعة التعب وتجيبها بصوت خافت متحشرج: لا دور برد عادي الحمد لله.
لتعاود التظاهر بالسعال، الذي تردد بصدى مؤلم بقلب أحمد، فهو كان يعلم بأن حرمانها من المشاركة بالمسابقة سيخيب ألمها ويحزنها، ولكنه لم يتخيل أن حالتها النفسية ستوصلها للمرض العضوي، أمسك ببعض الأوراق محاولًا أن يبادلها الحديث ليطمئن قلبه الملتاع لمرضها، ليناديها بحنان: آنسة فريدة.
التفتت إليه متهربة بعينيها من مواجهته، ليستطرد بود: معلش أنا عارف أنك تعبانة، بس معلش أنت نسيتي تمضي التقرير اللي خلصتيه امبارح، ممكن تيجي تمضيه لو سمحتي.
أسقط في يدها فكيف ستوقع ورقة رسمية باسم فريدة، فذلك يعد تزوير بأوراق رسمية، كما أنه قد يلاحظ أختلاف خطهما فتنكشف لفورها، ولكنها تماسكت برباطة الجأش تحسد عليها وهي تقف لتتجه إليه ولكنها فجأة استندت لحافة مكتب فريدة وهي تتظاهر بالترنح؛ ليهب إليها بفزع ثم توقف فجأة وهو ينتبه لنفسه صائحًا: سمر، رباب اسندوا زميلتكم.
اتجهتا إليها وأعينهما تشتعل غضبًا، بعدما لاحظتا لهفته عليها، لتجذب رباب كرسي تجلسها عليه بعنف خفي بينما سمر تمسك بكوب ماء تغترف بعضًا منه بيدها لتقذف به وجه فيفي، لتنتفض الأخيرة وهي تشهق، فترتبك سمر وتمسك بمحرم ورقي تجفف بيه وجهها وهي تتظاهر بالقلق عليها: سلامتك يا حبيبتي فوقي كده.
سعلت فيفي بقوة وهي تهمس بصوت متحشرج: شكرًا يا جماعة أنا أحسن؛ دقايق وأفوق.
انصرفتا عنها ساخطتين، بينما وقف هو بعيدًا يتطلع لها بقلق، ولكنه عقد ما بين حاجبيه بدهشة وهو يرى تلوث ما حول حاجبيها بلون بني داكن بينما بدا حاجبيها أخف لونا من المعتاد وهو الذي لم يلاحظ استخدامها لأي أدوات الزينة من قبل.


الثاني من هنا

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close