بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبد الله و على آله و صحبه و سلم، صلاة تنحل بها العقد، و تنفك بها الكرب، و ينفتح بها أبواب الرزق..
............................................. بسم الله .......
بإحدى ليالي الشتاء، ليلة أخفت غيومها أشعة شمس نهار يومٍ جديد، رغم بردوة الجو الشديدة إلا أن الدفء يستوطن القلوب، الشوارع هادئة تكاد تكون خالية، رائحة المطر المختلطة بأتربة الأرض تجعل البهجة تعتلي ملامح محبين هذا الفصل الممتع بأجوائه الساحرة..
بضواحي القاهرة الكبري، بمكان يطلق عليه "عزبة الحداد" منطقة تبدو شعبية، و لكن يقطنها عائلات ميسورة الحال..
داخل منزل حديث الطراز يتكون من خمسة طوابق، يحتوي على حديقة واسعة بها مكان مخصص للخيول، الطابق الأول عيادة الدكتورة "تهاني الحداد" طبيبة النساء والتوليد ،أما الطابق الثالث يكون الشقة الخاصة بعائلتها هي و زوجها "شرف الحداد" و أولادهما الأربعة..
الإبن الأكبر "نوح الحداد" شاب بعامه الثلاثين حاصل على بكالوريوس تجارة، يدير مصنع والده المخصص بالحديد والصلب..
يليه شقيقه "نور الحداد" شاب بمنتصف العشرينات حاصل على ليسانس حقوق، و يعمل مع شقيقه ..
يليهما التوأمتان "ندي، نهاد" بالعشرين من عمرهما، يدرسان بالصف الثالث كلية أثار..
بتمام الساعة السابعة صباحًا، يشع المنزل بالحركة و النشاط بعدما انتهو من صلاة الصبح داخل الركن المخصص للصلاة بالمنزل،
المكان عامر بالدفء والحب، السكينه بعد مرورهم بمحنة قاسية منذ ثلاث سنوات عندما تعرض رب هذه الأسرة لحادث سير مؤلم انقذوه الأطباء بشق الأنفس، لكنه فقد به كلتا ذراعيه..
تقف الأم "تهاني" برفقة ابنتيها داخل المطبخ يصنعون أشهى المؤكولات..
" يله يا ندي خفي أيدك وخلصي السلطة و حمري البطاطس و البتنجان يا حبيبتي ، و أنتي يا نهاد ألبسي اسدالك واطلعي للطيور حطلهم أكل ولمي البيض و أنزلي أسلقيه علشان ادحرجة في السمن"..
غمغمت بها "تهاني" التي تقوم بإعداد طبق من الفول غارق بالسمن البلدي فاحت منه رائحه تسيل اللعاب لكل من في المنزل، بل و المنازل المجاورة أيضًا..
"الله على ريحة الأكل اللي تفتح النفس".. قالها "نوح" الذي دلف للتو داخل المطبخ، و اقترب من والدته وقف بجوارها واضعًا ذراعه حول كتفها، لتقوم "تهاني" برفع المعقله لفمه حتي يتذوق الطعام..
"امممم طبق فول عالمي يا أم نوح.. تسلم ايديكي ياغالية".. أردف بها وهو يميل بوجهه على أصابع يدها التي تحمل المعلقة وقبلها بحب..
ابتسمت "تهاني" متمتمة.. "تسلميلي و تعيش يا حبيبي".. رمقته بنظرة مصطنعة الغضب مكملة..
" ياما نفسي تفرح قلبي بيك بقي وتتجوز يا نوح، و ابقى هات مراتك يا أخي و أنا افطركم واغديكم واعشيكم كمان"..
ارتسمت بسمة مشاكسة على ثغره و تحدث هامسًا داخل اذنها..
"ادعيلي أنتي من قلبك ربنا يرزقني ببنت الحلال اللي تخطف قلبي خطف زي ما أنتي خطفتي قلب أبو نوح من أول نظرة يا تونة يا شقية"..
لكزته" تهاني " على صدره برفق وهي تقول بخجل..
" هدعيلك ربنا يرزقك بلي تخطف قلبك وانفاسك كمان بس تتجوز و تجبلي أحفاد يجروا حوليا أنا وأبوك"..
صفقت "ندي" بحماس و هي تقول.. "أيوه يا ابيه اتجوز بقي علشان تعمل فرح و نلبس فساتين تجنن"..
ارتفع حاجبيه بمرح و هو يتنقل بنظره بينها وبين شقيقتها "نهاد" مغمغمًا..
"لما تخلصوا الأول جزء القرآن اللي بقالكم سنة بتحفظو فيه أبقى اتجوز علشان سيادتكم تلبسوا فساتين"..
" انهارده هنخلصه يا أبيه بحول الله.. بس متنساش تجيب الشوكولاته بتاعتنا وأنت جاي".. تحدثا الشقيقتان بها بنفس واحد..
سار "نوح" لخارج المطبخ وهو يقول..
"الشوكولاته جاهزة.. بس اعملوا حسابكم هسمعلكم انهارده في صلاة الفجر"..
" رايح تفطر الخيل كالعادة قبل ما تفطر أنت، و نفضل أحنا مستنينك يا نوح باشا"..
قالها شقيقه" نور" الذي دلف من الخارج حامل بيده خبز طازج تفوح منه رائحة شهية، و زجاجات من الحليب..
ربت "نوح" على كتفه أثناء مروره من جواره متجه لخارج الشقة..
" يا ابني فرحانة و رهوان دول بركة في البيت
.. رسولنا الكريم عليه افضل الصلاة والسلام قال
عليكم بإناث الخيل فانّّ ظهورها عزّ ، وبطونها كنز"..
........................................... سبحان الله .....
بمكان أخر..
منطقة شعبية سكانها ذوات الطبقة المتوسطة، داخل منزل" عبد الحميد العطار" منزل قديم الطراز مكون من طابقين، الطابق الأول عبارة عن متجر كبير للعطارة ، والطابق الثاني يحتوي على شقتين مقابل بعضهما..
شقة خاصة ب" عبد الحميد" و زوجته "مني" ربة منزل، و ابنتهما "آية" طالبة بعامها الأخير بكلية الطب البطري..
الشقة المقابلة لهم يقطن بها ابنهما "إسلام" و زوجته "رقية" الصديقة المقربة ل "آية" وكانت معاها بنفس الجامعة، و لكنها لم تكمل تعليمها بعد زواجها..
حالة من الغضب الدائم يسيطر على هذا المنزل بسبب أفعال وتصرفات "إسلام" الحمقاء مع الجميع خاصةً والده الذي يجلس أمام باب الشقة على مقعد خشبي ينتظر وحيده الذي لم يعود للمنزل منذ ليلة أمس..
تقف "رقية" الباكية على حالها حاملة صغيرها "حمزة" الذي لم يتم عامه الثاني بعد، بجوارها "آية" التي تربت على ظهرها بوجهه كساه الحزن و الحسرة، لا تبكي بينما قلبها ينفطر من شدة أوجاعه، فبدلاً من أن يكون شقيقها لها ظِل وسكينةٌ وسند، كان هو السبب بكسر خاطرها وذلها..
" يا عبد الحميد صلي على النبي يا أخويا وتعالي افطر لقمة و انزل افتح المحل، و إسلام أكيد هيفوت عليك وهو طالع"..
اردفت بها "مني" بنبرة متوسلة..
"انا هفضل قاعد له هنا لحد ما يرجع و اضربه القلم اللي ضربه لأخته قدام خطيبها، و هكسر إيده كمان الفاشل اللي بيع مراته دهبها وعفش بيتها وخد الفلوس رماهم لصحابة الحرمية اللي قلبوه وضحكوا عليه وهو زي الأهبل مشي وراهم وصدقهم و مسمعش كلمنا كلنا، و أخرتها يمد إيده على بنتي في حياة عيني.. أمال لما أموت هيعمل فيكم أيه؟! "..
صمت للحظة يلتقط أنفاسة، وتابع بوعيد و غضب أكبر..
" أنا وابنك انهارده يا مني يا قاتل يا مقتول"..
.............................................لا إله إلا الله .....
.. بمنزل شرف الحداد..
يجلس على ركبتيه أرضًا أسفل قدم والده، أمسك إحدي قدميه و مال عليها قبلها بحب شديد مغمغمًا..
"أحلى صباح على أحلي أب في الدنيا كلها"..
قالها وهو يقوم بوضع الجوارب بقدمه يليها الحذاء..
"استني يا نوح أنا اللي هلبسه الرجل التانية.. دي بتاعتي"..
أردف بها "نور" شقيقه وهو يهرول نحوهما وجثي أرضًا بجوار شقيقه الأكبر أسفل أقدام والدهما..
رفع "نوح" رأسه و نظر لوالده بابتسامة دافئة، تطلع له "شرف" قليلاً ثم تنقل بنظره بينه وبين شقيقه، و زوجته "تهاني" التي تهندم له ثيابه، و ابنتيه" ندي" التي تجلس خلفه على ركبتيها وتقوم بتمشيط شعره بحنان بالغ،
أما شقيقتها "نهاد" ممسكه بفنجان القهوة المفضل لوالدها وتقربه من فمه ليرتشف منه بستمتاع..
ساد الصمت للحظات، و كلاً منهم منهمك بما يفعله بتركيز، فقطع الصمت" شرف" و تحدث بصوت يملؤه الفخر..
"أنا صحيح خسرت درعاتي الاتنين.. بس ربنا عوضني بيك يا نوح يا ابني أنت وأمك وأخواتك.. ضهري وسندي من بعد ربنا يا ولاد شرف الحداد"..
انتهي الفصل..