رواية ملجأ دافيء كاملة
الفصل الأول::
بيت آل الحمائدي~
تعتلي بقامتها الضئيلة فتتشبث مستعينة بمزلاج باب المنزل ملتصقة به وفضولها يجبرها على التحديق في تلك العدسة وسطه بعين واحدة تطالع الوجه المليح الظاهر من خلفها، وكم تهشمت آمال سناء فزفرت بثقل أوهن كتفيها وتراخت مبتعدة، سحبت المقبض في شحن لأمل آخر تخبر نفسها "سناء، ثمة أمل في أن تعتذري منه!"
فتحته فأطل ابن جيرانهم آل مسعود.. جابر ببسمةٍ وضاءة تتربع على شدقي شفتيه ارتفعت على أثرها وجنتاه ولولا عبوس سناء لاختفت عيناه أسفلهما، كانت تدري بأنه متكلف يُحسن التلاعب ورسم الاهتمام فتتوه ضحاياه ويحلو له افتراسها كما يشاء!
وهي طبعاً ليست المقصودة بهذه البسمة المتملقة إنما أختها الصُغرى خفيفة العقل التي لا تكاد تتبوأ المناسبات فتثب قُبالته تجتذب اكتراثه كأي أنثى مُراهقة تريد عبث الإعجاب فالحب بعدها وربما مستقبلاً تريد تملكه لنفسها
خاطبها جابر مرتبكاً: "السلام عليكم.. أرجو أنني لم أقدم في وقت غير ملائم!"
"وعليكم السلام يا جابر.. كلا!!، مُرحب بك وقتما حللت يا ابن الجيران.. إن منار في انتظارك!"
أربكته تكشيرة سناء خلف بسمتها الغليظة وهي ترحب به وظن نفسه زائراً ثقيل فزم شفتيه ودارت أحداقه الزرقاء جانباً إلى الرواق الطويل حيث سمع كليهما صوت خطوات راكضة تحرث الأرض وتنقرها بعنف
لتتبين سناء فيما بعد أنها هي قادتها الحماسة المفرطة واندفاعها المعتاد لاستقباله، عدلت حجابها الطويل وحملت خطواتها عودة إلى داخل البيت، بينما تحدث نفسها بأنه لم يكن الوقت بغير الملائم!، بل هو الشخص.. إنه ليس الشخص الملائم
دخلت سناء وحلت مكانها شقيقتها منار مُرحبةً والتي تصغرها بخمسة سنوات ووقفت قُبالة جابر الذي تهللت أساريره سروراً وغبطة لحضورها فتخضبت وجنتيها من الهرج الذي أحدثته، تتساءل كيف ستتم جلسة الدراسة –المفتعلة معه- بخير!
تقدم جابر من منار فحاولت أن تتمالك زمام أمورها وتنفي أي إحساس قد يربكها أمامه وأحكمت وثاق مشاعرها لتسأله: "هل عطلتك عن مواعيدك لهذا اليوم؟!"
منحها ابتسامة حلوة كمن يتغزل ولولا تصيده للأوقات والفرص لرماها بغزله، لكنه طمره في قُرارته وتكفلت ملامحه برسمه دون كلمات
أجابها بذات حلاوة بسمته: "مطلقاً.. لم تكن لدي مواعيد لنهار اليوم.. هذا لو لم نحتسب مباراة كرة القدم؟!"
"ضد أي فريق ستلعبون!؟"
تكابد منار في إبداء تحفظها، تريد جره لعمقها.. كأي فتاة غريرة يلفحها نسيم الحب فتريده أن يلفها ويحملها لبره الدافئ بأتم جهل منها لم تحتسب أهوال تحوله لعواصف هائجة بل اكتفت بنية حسنة نثر ظنونها المشرقة حوله
معجبة به!، المغفلة منار مفتونة تماماً وصراعها محتدم مع قلبها وعقلها تريد الإطالة قدر الإمكان لتظفر بما تريده!
تدري إلى أي بُعد يمكن أن تقودها حلاوة ملامحه الحسناء ومهارته في تكييفها داخل الكلمات كيفما يشاء لذا اختارت الدرب الطويل وفضلت مناورته حتى يسقط في هواها مثلما سقطت هي منذ سنوات الصبا
باستغراب لاهتمام منار بهوايته أجابها جابر: "ضد فريق الضاحية الجنوبية ظهيرة اليوم!"
ما لبث أن عاد لتمكنه فسألها من جديد: "أخبرتني أمي بأنكِ قدمتِ صباحاً في طلبك أن أساعدك على الدراسة!"
تجيبه بثبات: "أجل.. إني أجد فهم بعض دروس مادة العلوم مستعصياً علي وقد خفت أنني إن لم أدركها فسأسقط في الامتحان الأخير وبما أنك تكبرني وقد مررت على ذات الدروس والمنهج قبل سنتين فمن المؤكد أنك الأكثر إعانة لي!"
ماكر وخبيث بشكل يجذبها.. تسقط في شراكه تحت تحدٍ مستمر ترفض فيه الإذعان لمشاعرها لجزء خاص جداً وصغير من مشاعرها الذي يثبت أنه سيكون يوماً ما متاحاً ليريدها كما تريده دون تيه بين ما يريده هو فعلياً وما ترسمه هي بفعل سذاجتها الأنثوية
منار لازالت تقع بشموخٍ ينفي صفة الوقوع.. دون أن يبذل جابر جهداً يستشفها فيه
ينظر في عينيها فتتراقص أحداقها القسطلية مفلتة وما يفتأ وجهها يضج بتلك الحُمرة الطفيفة مساعداً على فضحها!؟
كيف نسج خيالها خلال الأمس حلماً كهذا فقررت تحقيقه مناورة لقيود كبرياءها وعزتها بنفسها
أسبلت أهدابها تحت غمغمته كمن كشف سراً فتحرك حاجبا جابر لمرتين وارتفع أحدهما بإعلان قرأته بمفردها.. بعنوان بارز مفاده أن ثمة نزاع بين جاذبيته الحلوة ومقاومتها المستميتة في التصدي له
استغرق جابر عدة لحظات حرك فيها رأسه بالإيجاب وبتسلية خاطبها: "سأشغل منصب أستاذ لكِ!"
"إنني طالبة نبيهة!؟"
بعنفوان أنثوي جابهته ومضت تسبقه بخطواتها إلى غرفة استقبال الرجال جانب الرواق.. خصلاتها الطويلة تنفلت من غطاء رأسها فتكسبها ألقاً يكاد يطيح به، يتشبث جابر بأنفته واغتراره أمام مشاكسة هيئتها البسيطة من فستان منزلي أزرق وحجاب رمادي مزركش فوقه
هو لا يود السقوط أمام ما تمارسه منار عليه من ضغط ومناورات تجفله!؟.. ابنة الجيران ذات السادسة عشرة سنة!
كيف كبرت أمامه بهذه السرعة لتغدو أنثى يهيأ إليه أنه يريد وصالها!!
استل نفسه من عراكات قد لا تنتهي في دماغه ومر من خلفها يجيبها بذات أسلوبها: "وأنا أستاذ قاسٍ!"
بتلاعب تشاغبه تستخبره: "هل تحاول إخافتي يا جابر؟"
"أنا قلت ذلك!؟؟"
مشيراً لنفسه سألها فأجابته منار بتريث: "ذكرت بأنك قاسٍ!"
"القساوة لا تعني الخوف.. لا يحتاج المرء أكثر من وجه متجهم ليبدو قاسياً ولكنه يحتاج إلى أكثر من ذلك ليكون مخيفاً"
تطلعت في تقاسيمه الحسنة لبرهة تحاول مقارنتها بين القساوة والخوف فلا شيء مثلهما يمكن أن تحملها تفاصيل وجهه الفائض وسامة، لا شبه بينه وبين تفسيراته التي حسبتها غريبة!
دفعت بدرفة الباب الخشبي للصالة ليلجا وكانت قد جهزت مسبقاً دفاترها وكتبها فوق الطاولة الجانبية
دعته ليجلس مقابلاً لها واتخذت مقعدها معتنية بحجابها وبهيئتها المحافظة مخافة أن يدخل والدها أو شقيقها فيعنفاها بشأن الأصول بالأخص الأخير منهما لما بات عليه من غلظة وجلف!
بينما قعد جابر واستلم مفاتيح الدرس ولم تكن في نيته أن يستلم ذاك النوع من المفاتيح.. هو يود الظفر بمفتاح آخر ما يربكها ما يود جعلها تعيشه برفقته
وخلف الباب ألصقت صبرينة زوجة شقيقها الوحيد علاء أذنها على درفته الموصدة تُرهف السمع لما يتحدث فيه الاثنين بأتم الصفاقة والفضول، لمَ رغبت الصغيرة منار وألحت على أمها أن تحضر ابن الجيران ليدرسها في مادة العلوم
في حين كان أمامها خيارات أخرى كأن تقوم هي بتدريسها بنفسها وآخر حلولها كان أن يقدم هذا الشاب المتصابي لينفرد معها ويدعيا الاثنان نكران تلك الرابطة الطفيفة التي لا يلحظها أحد غير صبرينة لكثرة تحسسها للخطوب.. ورغم أن ثقل بطنها المكورة لم يكن عائقاً لتقوم بتدريسها بنفسها!، والأخيرة تتحجج بأن زوجة شقيقها مريضة وتتعبها أشهر الحمل الأخيرة!
بعد أن ملأت صبرينة فضولها ببعض ملاحظات جابر العلمية لمنار وتفطنت بأنهما ليسا أحمقان ليتركا أدلة مشبوهة ويرفعا صوتيهما بعبارات تنتظرها لتلتقطها للحاجة نصيرة غادرت صبرينة نحو حماتها وقررت الافتراء وشحن عقل الأم التي كانت تدلك العجين داخل القصعة الخشبية وتدندن بألحان لأغنية تقليدية قديمة.. وقفت صبرينة على جانب منضدة المطبخ الرخامية البيضاء تطالع حماتها نصيرة وغبطتها في تدوير العجين ودلكه وكفها تتحرك فوق بطنها البارز بانتفاخه
ابتدرت صبرينة: "أمي.. ألا تحتاجين لمساعدتي!"
"ارتاحي.. من المفترض أنكِ بقيتِ في جناحكِ!"
لوت شفتيها بامتعاض وقالت ببعض الضيق: "أنا بخير، مجرد ألم خفيف أسفل ظهري!"
لاحظت الحاجة نصيرة تكدر ملامح كنتها وحركاتها الحذرة عندما تقدمت منها على ذات نظراتها المكترثة تود تقديم العون
دققت نصيرة النظر في تقاسيمها تستقرأ خباياها: "ومع هذا عليكِ الحذر!؟.. لكن ما خطبكِ أثمة ما يزعجكِ!؟"
تمضمض صبرينة كلماتها معبرة عن استيائها بشكل مباشر: "بلى وبالمختصر إنه ابن جيرانكم يا أمي.. كيف يجلس مع منار بمفردهما!"
استغربت نصيرة تهجم كنتها على جلسة بريئة بين ابنتها وابن الجيران فرجعت لعملها وحاولت التغاضي عن الاتهام والطعن في ثقتها
فقالت: "ماذا أفعل!؟،.. إن مستقبل معدلها خلال الثلاثي الأخير على المحك.. وهو سريع البديهة ومعروف بتفوقه في المواد العلمية والتمست فيه المعونة ولا نية لها فيما غير ذلك لا سمح الله!؟، هي لا تُجالس نمراً أو أسداً!"
ابتسامة ساخرة ترتسم على شفتي صبرينة فهزت كتفيها ورأسها مشيرة إلى اتجاه غرفة الاستقبال الرجالية وعادت لنصيرة تنبهها: "إنه شاب متلاعب تعجبه هيئته يا أمي ومنار فتاة غريرة!"
اتهام صارخ آخر وطعن فهمته حماتها فتلفتت إلى كنتها تحرك رأسها مستغربة: "ماذا تقصدين يا صبرينة؟، لا أظن أن نية ابنتي تحيد على طلب المعونة منه ولا هو كذلك!!"
"لمَ لمْ تطلبها مني.. أنا أكثر منه خبرة وعلماً؟"
"أشفقت على حالك!"
ببساطة تجيب نصيرة وترجع لرفع الغطاء البلاستيكي ووضعه فوق القصعة.. مسحت كفيها من أثر العجين واتجهت لفتح الموقد بينما تراقبها عينا صبرينة بحسرة وهي تقر بأن الشفقة باتت واجب كل فرد في هذه الأسرة.. واجباً عليهم حيالها
تزوجت علاء منذ ثلاثة سنوات مضت وبمعجزة حصل حملها.. لا تصدق يوم رأت نتائج التحاليل!.. لا تصدق بأنها باتت سليمة معافاة بعد ثلاثة سنوات كاد أن يدركها يأس أبدي فيها!
ومنذ حملها وهي تحاذر الحراك وبالكاد كانت تزاول عملها كممرضة في مستشفى المدينة حتى أخذت إجازة قبل شهرين لتتفرغ للراحة فيهما
بذات استيائها تحدثت: "لازال بقاءهما معاً بمفردهما لا يعجبني!"
"صبرينة يا ابنتي عليكِ التوقف عن التفكير بالأمور بشكل مريب.. فكري في كونهما مجرد زميلين وابن آل مسعود ليس كما تحسبينه!"
حركت حاجبيها الدقيقين باستخفاف وقالت: "بل ثقتك به ليست كما تحسبينها!"
زفرت نصيرة واستغفرت الله وقررت نهاية مواجهة كنتها التي لا تفتأ الظنون الخبيثة من التردد على عقلها فمضت تهدر فيها بغريزة أم تحمي أبناءها وبصراحة تامة منها: "من الأخير يا صبرينة.. تريدين اتهام ابنتي واتهام جابر، ذريعة تريدين تناقلها بين شقيقاتك وقريباتك تطعنين فيها عفة بناتي وتحدثين علاء فيعود لتعنيفهما!"
شهقة نبست بها صبرينة لانفجار عمتها فيها بهذا الشكل فتوترت ملامحها وراحت أحداقها تلف جوانب المطبخ حولها تبتلع ريقها فقد أصابت العمة بعض الحقيقة إن لم تكن كاملة
حاولت التبرير وتبريد الوضع متلعثمة النبرة: "حاشا لله يا أمي.. أنا أقول هذا في منار... لا أطعن ظهر أختي الصغيرة!"
بوعيد ألقت نصيرة كلماتها: "والله يا صبرينة.. إنني أقسم بالله إن لم تمسكي لسانك الثرثار عن بناتي فلا كلام لي معكِ إلى يوم الدين!"
تحركت صبرينة بتلقائية لتكب على رأس الحاجة نصيرة تحاول استلطافها متذكرة لحوادثها السابقة حول ثرثرتها التي لا تكفها مع النسوة تتناقلن الأخبار وتزيفنها
كما حدث من قبل مع سناء وابن خالتها حمزة، فكانت تروج لكونه سيقدم لخطبتها وبأنهما كانا على علاقة سابقة معأ وهي الأدرى بعدد الرسائل التي كانوا يتبادلونها ولقاءاتهم الخفية في الجامعة
الأم نصيرة لم تصدق أي افتراء تنسجه زوجة ابنها وظنته مجرد كلمات تتسلى بها وهذا الذي مازالت تظنه وتخاله حتى اللحظة.
بعد ساعتين
مزرعة النخيل الصغيرة المُلحقة ببيت آل الحمائدي~
تلك السعفات المتدليات لم تُسعفنها في إخفاء ترددها الظاهر عبر حركة أصابعها الرقيقة وهي تضم قبضتيها لمرة وتبسطهما لأخرى.. في غضب طفيف وعتبٍ يود البوح باعتذار لما لم تقصده
محاولةُ الكشف عن تواجدها على بُعد عدة أمتار منه ولكنها لم تكن جريئة!، هي لم تكن يوماً كذلك حتى لفهم ما يعنيه تجاهله لكيانها كأنثى تريد إثبات استمرارية العلاقة بينهما
بعينان تلومانه على ما يقترفه في حق قلبها رهيف الإحساس تحدق به سناء متوارية خلف جريد النخلة
حمزة لا يدرك مطلقاً مدى تأثير ما يقوم بفعله مدعياً للبراءة والخلاص من تأنيب الضمير
إنها نهايات شهر مارس (آذار)، موسم تلقيح النخيل وقلة من الشبان يُجيدون هذا العمل اليدوي بحرفية وشاءت الأقدار أن تقترح سناء على والدها عبد الكريم أن يستأجر حمزة ابن خالتها سعدية مستغلة لقرابته منهم ولدوام تحضره لمثل هذه المهام
حمزة لا يحدثها منذ عدة أيام ولا يرد على رسائلها وآخر رسالة منها إليه حملت تهديداً صارخاً.. فإن لم يخبر والدته بعلاقتهما السرية فهي لن تستمر معه وقد تقبل بأي عريس يطرق بابهم من فورها!
بدل أن يثور بها غضباً ويبين غيرته الشديدة وحبه الخالص.. يذلها بالتجاهل لأيام وبإغلاق هاتفه
لم تكن هذه يوماً عادة حمزة.. لكنه متريث حيال خياراته ولابد أنه قرار سيفاجئها!
قد يكون تجاهله رغبة منه في أن يتوصل لحل كي يجمع الأختين حول طاولة واحدة حيث ستجلس سناء مقابلة له يلبسها خاتماً يطوقها به لآخر العمر ويفاجئها فيكسر تهديدها بضحكاته الساخرة
أقفلت كامل الخيارات عندما سمعت صوت عُطاسه وانتشلت قدميها المتيبستين من مكانها
فعلياً سناء لم تعد تطيق بُعده عنها، لا تصدق كم أن حظها خائب ليفتح والدها الباب له قبيل نصف ساعة عندما كانت منهمكة في إعداد طعام الغداء رفقة والدتها نصيرة
ببعض الجرأة تجاوزت المسافة الفاصلة بينهما بخطوات حذرة ووقفت أسفل النخلة فظللتها جريداتها وحجبتها عن أشعة الشمس الربيعية اللافحة
كانت بضع قطرات لامعات من العرق تتساقط حول جبين حمزة ذو الخامسة والعشرون عاماً.. كيف انتهى به الأمر من خريج كلية صيدلة إلى امتهان الزراعة؟؟
إنها مهنة مدخولها لا يكفي احتياجاته.. وإن كفته حاجته ليوم بسبب منتوج فائض فقد لا تفعل لأيام قادمة!
لم يُكذب حدسه الرجولي بتواجدها في الجوار.. لمح حجابها المزركش الطويل يتطاير بفعل نسمة عابثة ففضحتها منذ بُرهة
يشعر بها كلما تحركت دون أن يلتفت حتى، يتحسس ظلها كأن روحه مرتبطة منذ الأزل بروحها وها هي سناء قدمت تجرجر فستانها المنزلي السماوي وتواري ترددها منه
يداه كانتا تعملان بسرعة وبحرفية اعتادها منذ نعومة أظافره بعد أن دخل والده السجن بتهمة الاختلاس ومات فيه بعد سنوات قاضاها بين جدرانه.. كبر وحيداً لأمه وقسا عوده قبل وقته وربته مصاعب الحياة فشحذته على خشونتها ومآسيها من طفولته حتى غدا شاباً يافعاً ونضج عقله وذهنه
ولكن قلبه المتمرد علق بابنة خالته التي تعبث فيه دون هوادة أو رحمة.. تزعزع خواطره وتعصف في وجدانه فلا يتخيل درب الحياة من بعد حبها
عطس حمزة لمرة أخرى ومسح أنفه بكفه المغبرة وقرر تركها حتى تتحدث أو تنصرف
وكالحجارة ظلت سناء واقفة.. تلعثمت حروفها على طرف لسانها وانتظمت بشكل آخر فاستطردت: "هل أحضر لك المياه.. الجو يبدو حاراً عليك في الأعلى!"
"الجو يبدو حاراً عليك!.. هل أحضر لك المياه؟"
ساخر جداً.. يقلد نبرتها الأنثوية الحساسة يحفظها بمهارة استفزتها وبملامح لم تتأثر مطلقاً منه
انكمشت سناء وتصاعد الغضب فجأةً لرأسها فزمت شفتيها وأخذت نفساً عميقاً وعندما أوشكت على الانفجار أدار حمزة رأسه ناحيتها وقال بجدية وصرامة استردها: "إن كنتِ ستتفضلين علي بقطرة من المياه لأروي بها ظمئي فلتفعلي دون أن أطلب.. هل يجب علي أن أطلب كل شيء يا سناء!"
ضاقت عيناه النجلاوان أثناء رمقها فأبصرت ألمه الساكن فيهما لتشيح ناظريها فيعقب حمزة من مكانه: "حتى اهتمامك وتقديرك لظروفي هل علي حقاً أن أطلب!"
استعاد جديته وتلاشت مشاعره على حين غرة فرجع لينهمك في عمله بينما أدارت سناء خطواتها الخفيفة على عجل إلى المنزل
هرعت إليه بعد دقائق تحمل قدح المياه الطيني لتجده يقف أسفل النخلة الأخيرة اختتم بذلك مهمته
لم يدريا بأن هناك من يراقبهم خلف أحد النخلات.. بفضول كامل وشفاه مطبقة وعيون تلتقط حركات كليهما، وأذنان ترهفان السمع لما أجادت شقيقتها إخفاءه عنهم منذ سنوات!
"أنت لست في مأمن من سؤالي يا حمزة!"
تَسلم حمزة القدح من عند سناء وشربه على دفعة واحدة ليسحب المنشفة من على كتفه ويمسح العرق من جبينه متجهزاً لشوط آخر من النزال.. لطالما كانت سناء حلوة المعشر وعندما يتعلق الأمر بحمزة تهب كمن تلبسه جن تود فهم كل تفاصيل يومه يطال فضولها أحلامه وكوابيسه
جنون يقودها في حبه بينما هو متعقل ويدرس كلما تهمله خلف عواصفها ومنه تهديدها الفارغ لتهجره وهي لا تدري كيف يُصارع عقله الحصيف قلبه العصي كي لا يفقدها في آخر فرصة تتاح له.. إنه يدخل في مشروع خاص به وسيكبر مشروعه ويحتاج لعدة أشهر أخرى ليتمكن من حصد أرباحه وبالتالي فإن خطبتها ستكلل بالقبول عندما يتحسن وضعه المادي.. سناء لم تفهم هذا!
لم تكن تدري كم أن تسرعها سيقوده ليتهور ويفسد كل شيء على كليهما!، والأهم منه العلاقة بين الأختين أمه وأمها
ألقى بالمنشفة جانباً وهز رأسه ببسمة جانبية يحدق فيها بثبات فقالت بتغطرس: "أنا لن أعتذر لأنني لم أخطأ!.. كيف تتجاهل إجابتي لأيام؟؟، لقد جرحني فعلك يا حمزة!"
"أتريدين مني أن أخبر أمي يا سناء؟،.. مساء الخير يا حاجة أم حمزة.. إنني أحب ابنة أختك سناء وأريدها زوجة لي!"
يتقمص حمزة دور والدته سعدية من بعدها وكمن يعرض مسرحية هزلية أضاف يستفزها بملامح استهتار تنضخ من وجهه الأسمر: "خير ما اخترت زوجة صالحة ورفيقة عمرك يا بني.. تعال لنخطبها إذاً!"
هز كتفيه العريضين وأدار خطواته خلفاً متماً لاستعراضه الذي زاد من تهكمها واكفهرارها
فأردف حمزة ساخراً: "إنها بهذه السهولة.. بهذه السهولة تماماً!"
تحكمه في تعابير وجهه وهُزئه يرعبها ولتوه استعاد صرامته وجديته ليخيفها بتقاسيمه المحتدة بينما اقترب منها أكثر وحاجباه الثخينان يتقارنان بين عينيه: "هي ليست بهذه السهولة يا سناء.. سأفقدكِ إن تقدمت لخطبتكِ!"
أجفلت وتقهقرت خطواتها خلفاً بينما ترد بامتعاض مُرتاب: "أنت تبرر لنفسك وتبيح لها الأسباب لتفقدني بشكل حقيقي!"
تكتفت سناء وأعلت ذقنها بشموخ تحدق فيه بعدها وأنفاسها الحارقة تعج داخل صدرها فتزفرها بعنف يدين أسبابه التي لم تقنعها.. تمالك حمزة أعصابه أمامها فهي لا تقدر ظروفه وتود لو تجد ما يجعله يعجل في التقدم إليها لفعلت
منذ أربعة سنوات وهي تستمر في الاختباء والتواري عن الأنظار لتحدثه بسرية دون علم أحد من عائلتها
الآن لم تعد تطيق طريقة استغفالها لوالديها ولثقتهما فيها كأنها تطعنهما في الظهر وهما من يفتخران بتربيتها وحياءها وعفتها.. سناء لم تعد تشعر بالأمان بعد الآن!
ضغوطات التحفظ لا ترحمها فتجعلها تود الاستعجال في الانتقال للمرحلة الثانية من علاقتهما لضمانها ولربط حبهما في محبسين ذهبيين
أجابها حمزة بنوع من الاستياء وبعملية: "هو ليس تبريراً بقدر ما هو حفاظ عليكِ.. تعرفين طبيعة عملي!"
"لن تَعيبك والدتي بعملك!.. لن تفضل رجلاً ثرياً على ابن أختها!!"
حركت ذراعيها وكم بدت متمسكة بكلماتها الأخيرة تستسهل وضعه الحرج بل وتمنحه أملاً في قبول والدتها به تستخف بقوانين نصيرة وأولوياتها
مهملة لحوادث أختها الكبرى سهيلة التي تتشاجر مع زوجها وتهدده كل مرة بالانفصال عنه لكونه لا يقوم بمسؤولياته التي تلزمه كزوج العناية بأطفاله وعائلته ولكنه كسول يترك العمل للأم ويكتفي بمشاهدة التلفاز والاستهتار بما تعنيه كلمة رعاية العائلة!
صنف حقير من الراجل ويستحيل أن يكون حمزة المكدود من ضمنهم!
تلك الميزة والقشة التي تتمسك بها سناء.. حمزة رجل يكدح في سبيل اللقمة وسيكون خير من ستصاهره الحاجة نصيرة وخير رجل ستسمى باسمه ابنة عبد الكريم الحمائدي
أغفلت تماماً شعوره بالاعتزاز وذاك الإحساس الداخلي الذي ينخره بشدة فهي اعتادت العيشة الرغيدة بينما هو يتعب ويجد ليحصل لقمة يومه
معادلة لم تتكافئ داخل عقله الذي تضغطه العواطف من كل جانب لتجعله يتهور ويستسلم لطلبها
يجابهها حمزة: "وإن فضلت وقبل والديكِ برجل ثري يتقدم لكِ!؟"
"أنا لن أقبل!"
سألها مباغتاً فأبدت الرفض بتلقائية وكم اهتز قلبه فرحاً فكبحه وزفر بثبات يستعيد رصانته التي بعثرتها بودها وحبها الفائض فيضيف: "وإن غصبوكِ عليه!"
"سألجأ إلى خالتي أم حمزة وأطلب منها الحماية!"
رفع القدح ليرتشف ما تبقى فيه وأدار بصره جانباً عنها.. الوصف الدقيق لسناء هو أنها أنثى حالمة بطريقة مبالغ فيها للغاية لا ترسم للمستقبل حدوداً
لا تعي بأن له حدوداً حادة ستبتر أطراف عواطفها الفائضة أملاً.. حدوداً تُدمي قلبها وتعبئه بالطعنات التي لا علاج لها!
استغرق يتأمل نظراتها المتيمة به وكان يردد سؤال نفسه عما إذا كان حبه لها غير مكافئ لحبها له.. أم أن آمالها طريق طويل لن يتمكن من قطعه دون لجوءه لحلول مباغتة!
توردت وجنتيها فلكزت ذراعه ببسمة لطيفة انشرحت لها ملامحه الهائمة تحدثه بغنج: "ألن تستقبلني في بيتكم!"
"سأستقبلكِ في غرفتي.. صبراً يا بسره!"
تحركت نظرات سناء لوجهه الباسم بخجل وحرج على وصفه لحلاوتها بثمار التمر اليانعة تشبيه يخصه بها
وكم تغريها رجولته وهو يحاصرها لتكون ملكه.. حقه من خالته!.. تلك الرجولة التي تتطلب موقفاً كبيراً يلزمه الصمود ويلزم والدته هي الأخرى في أن تسانده في كلما سينجزه لأجل سناء
هزت حاجبيها وأردفت تتصنع التمنع: "لا تكن عجولاً وتستبق الخطوات.. تلك المرحلة تتطلب وقتاً!"
"وماله؟!!.. قد تسير الأمور بشكل أسرع مما تظنينه!"
جلجلت ضحكاتها اللطيفة تطرب أسماعه فلا يرى سواها وهي التي تعلق قلبه بها منذ صباها
منذ أعوام عندما قضت ذات صيف عطلتها مع خالتها فبات يسامرها في ليلها الطويل غير آبه بمشاعره التي هاجت داخل صدره تحادثه بأن هذه الفتاة مميزة في نفسه!
يذكر يوم فضحته غيرته لما سألت جارتهم الحشرية والدته عن فتاة سمراء بعينان نجلاوان تراها برفقتها تصطحبها للسوق فنقلت سعدية أمه الخبر لسناء ممازحة عندما كانوا يتناولون طعام الغداء بأن ابن جارتها يريد التقدم لخطبة فتاة وقد كانت سناء مناسبة
فجاءت إجابة حمزة صارخة "أخبريها أن سناء ليست للزواج.. لن تصلح لابنها الكذاب.. سناء تستحق رجلاً أفضل"
كم اختض قلب سناء يومها وهي ترمقه.. احتداد عيناه وانتفاضته بعد تلك الحادثة كشف خفاياه فلم يلبث أياماً من بعدها إلا وخر معترفاً أمامها بما يسكن قلبه منها!
ظلت سناء على ضحكاتها لثوان قبل أن تهب عليهما منار بزوبعتها والتي فرغت من دراستها مع ابن الجيران وكم أجادت تمثيل دور المخدوعة واستمررت في تصديقه
لا تصدق بأن سناء العاقلة أخفت علاقتها بحمزة طوال هذا الوقت.. لفترة رأت تقربهما من بعضهما ولأخرى سمعت ثرثرة ومناغشات صبرينة الركيكة معها ولم تحفل بالموضوع، إن صبرينة ولطبيعة عملها الذي يجعلها تخالط الكثير من النسوة جعلتهم يشككون في مصداقيتها وأي اتهام أو حتى ممازحة حول علاقة حمزة بسناء كانت مجرد أخبار كاذبة تحملها رياح النسيان فتندثر ولا يحسب لها حساب!
والآن حضرت ورأت أمام عينيها.. سيكون لديها حديث مطول أمسية اليوم مع أختها الكتوم!
تتطلع منار في وجه حمزة ومن ثم شقيقتها وتقول: "أمي تعجلكما لنتناول طعام الغداء!"
"أجل.. من الواضح أن حمزة سيكون جائعاً بعد بذله لهذا المجهود.. هيا تفضل معنا!"
إجابة سناء التي حاولت أن تبدو مرحة خرجت متلعثمة ومحرجة فأردفت أختها تحدث ابن خالتها: "لا تدعي الخجل بحضرة والدي.. هيا يا ابن الخالة!"
التمعت عينا منار القسطليتين فلاح بعض المكر المبطن عليها مع انكماش أختها أكثر وقد مدت يدها لتأخذ القدح الطيني من عند حمزة والتفت بخطواتها فرغب هو في تعديل الوضع ليسير جوار منار تاركاً لسناء تسبقهما ومجيباً لها: "وهل أنا غريب عنكم!"
"لا غريب ولا دخيل.. أنت ابن بيتنا!"
بلطف وتلقائية تتكلم منار فيجيبها حمزة بذات اللباقة: "بارك الله فيكِ يا منار!؟"
كان يرسم ملامح المرح والغبطة فلاحظته منار وتبسمت تناوره ترمق أختها التي تسير بخطوات مضطربة: "كيف تجد بنات أعمامي؟.. أخبرتني أمي بأن الخالة سعدية تريد التقدم لخطبة إحدى قريباتنا.. هن كثيرات وعازفات عن الزواج!"
انعقد حاجباه الثخينان بشدة ورماها بنظرات مستنكرة يسألها: "متى كان ذلك؟؟"
ببساطة تجيبه الأخرى في كذبتها: "عبر مكالمة هاتفية أجرتها أمي مع خالتي قبل يومين!"
ربما كانت صدمة أن سمعها حمزة فكتمها وطالع خطوات سناء المتعثرة التي أبانت حنقها عبرها هذه المرة
أمه سعدية لم تحدثه في أمر مماثل ولابد أن ثرثرة الشقيقتين قد أخذت منحى لا يريد أن يتجه إليه
ما إن تحركت شفتاه لتنفي الواقعة حتى لمح بطرف عينيه جسدها يهوى مع القدح أمامه تلتها شهقة ألم منها كمن تلقى وخزة مباغتة.. هب كليهما يهرعان جوارها يستفسران الوضع عندها ولدى محاولتهما الكشف عن خطبها صاحت منار فزعة وعيناها منبلجتان تحدق أرضاً أسفل قدم أختها المغلفة بصندال خفيف: "يا رباه!!، إنها عقرب.. عقرب يا حمزة!؟"
اصفر وجه سناء وشحب أكثر مع معرفتها بأن تلك اللسعة التي أحرقتها كانت نتيجة للدغة من عقرب
وانقض حمزة يدعسها أسفل حذاءه المتين وهرعت منار من خلفه تسند أختها التي تهاوت وشلت أطرافها وزاد شحوب وجهها المصفر أكثر فغارت عيناها في محجريهما وتمتمت بثقل تستنجده: "حمزة.. حمزة!"
كررت اسمه فما كان منه إلا أن التقطها من أحضان أختها ليرفعها بين ذراعيه ويسارع إلى المنزل يحملها كطفلة صغيرة تتشبث به وتأن بتوجع آلم قلبه هو الآخر.الساعة الرقمية في سيارة الهايلكس السوداء تشير للواحدة والربع بعد الزوال.. يقطع سيف الدين الطريق إلى بلدة الضاحية الجنوبية بسرعة تتجاوز المئة والستون كيلومتر في الساعة
مهارته في القيادة تتعدى عمره.. لكن صديقه رشاد القابع في الكرسي المقابل لا يؤيد هذا الرأي على الإطلاق، بل لا يسعى لضم صوته لمن يثق بتمرس صديقه سيف الدين في تحكمه بالسيارة بالأخص شقيقه الأكبر شوقي رغم عدم استبيان شيء من هذا عبر ملامح رشاد المتصلبة دونما يبين عما يضج داخله!
ضم شفتيه حول عقب سيجارته يرتشف آخر رمق منها مسنداً لمرفقه المضمد كما باقي ذراعه وكفه على حافة النافذة المفتوحة فيتدفق الهواء عبرها بجنون يتلاعب بقميصه الرياضي وخصله الملساء شديدة السواد
يثرثر سيف الدين باستياء جواره: "لا يروق لي تناول الطعام الدسم قبل أن أخوض أي مباراة!"
ثم غمغم مبرراً انفلات تحكمه: "طعام هُدى لذيذ ولا أتمالك نفسي أمامه.. أنك حتى لم تمنعني عن تناول المزيد مما تعده أختك يا رشاد.. كنت تتعمد عدم تذكيري مستغلاً لقلة تحكمي في رغبتي!"
أعقب رشاد ممازحاً في هدوء: "تتهمني زيفاً يا سيف!!، بسيطة يا رجل!؟.. بسيطة جداً.. لا تشارك اليوم ولتجد حلاً لرغبتك التي لا تتحكم فيها!"
أجابه دون استصعاب لموقفه الحرج فخلال أقل من نصف ساعة سيخوضان مباراة مع فريقهم ضد فريق البلدة التي يتجهون صوبها، وسيف الدين بحاجة ماسة لكامل لياقته
هما متأخران عن موكب النادي واستلزم هذا من سيف أن يستعير سيارتهم الخاصة بالرحلات ليهرع بها
تمتم بعبوس يشكو من برودة أعصاب صاحبه: "إنك تبسط كل شيء.. سأصاب بالإجهاد بسرعة إن دخلت الملعب بهذا الثقل يا ثقيل الفهم!"
"سيتوجب عليك القيام بتمارين التحمية إذاً.. ربما لنصف ساعة إضافية ولتضيع على نفسك فرصة المشاركة!"
أجابه رشاد بذات هدوءه المعهود مع حركة من حاجبيه وقد مد كفه خارج النافذة ينفض فتات عقب سيجارته فتتناثر وينتشر دخانها خانقاً لسيف الدين الذي انعقف حاجبيه بغير تحبيذ لرأي صاحبه الاستفزازي
"هل تهزأ بي الآن يا رشاد!!.. أوفٍ منك فلا أدري كيف ينتهي بي الوضع لأشكوك فتهزأ مني كل مرة!"
حرك رشاد رأسه بالنفي وهز حاجبيه متلاعباً دون أن يتكلم ويرد على انفعال صاحبه المكتوم فتتبعت عيناه الدعجاوان لوحة ترحيبية عريضة تعلن دخولهم للبلدة المعنية
كان رد سيف الدين عليه ضائقاً من بعدها: "بلى إنك تفعل!؟، لا تظهر لؤمك معي!"
"بئست المسألة يا صديقي.. قد لا تشاركنا اللعب اليوم ولتستسلم للواقع!"
ابتسامة تفيض بشاشةً رسمها رشاد على شفتيه بعد كلماته وطالع سيف الدين فراح الأخير يخفف السرعة وأفلتت ضحكة خفيضة ليحدثه: "أنا أكثر من يعرف دسائسك أيها اللئيم الماكر كنت لتخبرني بأنك تشمت وتعمدت عدم تنبيهي منذ البداية!"
وبتبجح أمام اهتزاز حاجبي رفيقه يردف: "الفريق بحاجة لمدافع قوي مثلي وليس وكأنني أبالغ في مدح نفسي بالطبع.. لكن كُراتك لن تدخل المرمى دون تواجدي البقية أنانيون ويلعبون لصالح جابر مسعود كما تعرف!"
انفضت ابتسامة رشاد بسرعة وخبت مع ذكر سيف الدين لاسم جابر.. ذاك الشاب الغر الذي يصغرهما بسنتين ونصف!
لا ينفك يزاحمه بقدراته التي تبدو ضئيلة أمام تمرسه.. جابر كان دائم التشدق
ليس من عادة رشاد أن يكون اجتماعياً مع غير أخته وعائلتها الصغيرة وغير صاحبه سيف الدين الذي اقتحم حياته عنوة وبات شقيقاً آخراً له عبر مصاهرته لأخيه شوقي زوج هُدى!
بضبابيتها تلك العلاقة باتت رابطة أخوية بينهما فتفيض الكلمات منه سهوة ويغادره بوح قلبه المكدر عناءاً فيتشاركه مع سيف الدين مخبأ أسراره والوحيد الذي يعي ما لم يعرفه إنسان
حتى أخته هُدى التي لا تدرك ما مسه في صغره!، تجهل بأي بلية سقط لتعكر صفو حياته وتحيل روحه المندفعة إلى كينونة شبحية تنسج حكاياها خلف غطاء سميك من الغموض
فيحصن نفسه عن أي شخص ويفضل الانزواء وحيداً منفرداً دون اختلاط بالبقية!
ربما ولخطأ متعمد منه دخل سيف الدين حياته
طوال فترة مضي السيارة كان كليهما يلتزمان الصمت.. بالأخص رشاد يفكر في كيفية الاستحواذ على انتباه أعضاء الفريق إليه دون أن يضطر لمحاولة التودد إليهم بدل من جابر الذي يعاكس شخصه ولو تطلب الأمر منه أن يرشوهم بمبلغ من المال ويعدهم بحل بعض الأمور العالقة إذا ما تضمنت الوساطة بشكل من أشكالها.. علاقته متينة يبني عليها نفوذه وسط الفريق
إن جابر اجتماعي بطريقة تستفزه تتضح داخلها الاستغلالية البحتة.. فلا يطيق استمرار تشبيهه لنفسه بباولو ديبالا ولا شبه بينهما بتاتاً عدا الصورة الخارجية، ربما عيناه الملونتان وبعض تقاسيمه قد تشفع له هذا التشبيه الكبير المبالغ فيه!
نهاية استسلم رشاد وقرر الاعتماد على قدراته الرياضية وألغى تماماً أي وسيلة ستجعله يبني علاقات غير مرغوب فيها بينه وبين زملائه
توقفت السيارة عند بوابة الملعب الخلفية فترجلا ومضى كليهما إلى الداخل بحقائبهما الرياضية
توجها ناحية حجرة تغيير الملابس التي فرغت من اللاعبين عدا اثنان تخلفا.. فحياهما سيف الدين ببسمة لطيفة وراح رشاد يغمغم بتحية الترحيب كما جرت العادة منه
ألقى بحقيبته الرياضية فوق الكرسي جواره وباشر تغيير ملابسه وترتيب ضمادته التي تلف ذراعه اليمنى تخفي ندوب مآسيه
سبقه سيف الدين والآخران اللذان تخلفا في حين بقي هو بمفرده يتم تحضره.. عدل أطراف قميصه الأبيض ذو الخط الأحمر وسط صدره فكان يحمل شعار النادي ورقمه اثنا عشر واسمه المكتوب خلف ظهره.. أول حرف منه باللاتينية وما تبقى من اسم عائلته
"الشاكري!"
هتف بها جابر بصوته الذي يثير النفور منه فلم يستغرق رشاد الثواني ليفهم بأنه ليس إلا تصرفاً صبيانياً آخراً منه
"أهلاً!"
نبس بها ولم يلتفت إليه فتقدم جابر وقرر تحدي هذا الشاب المعقد وكم كان يومه مليئاً بالتحديات من ابنة الجيران منار وإلى زميله رشاد الذي يود إسقاطه من حسابات المدرب
"المدرب حريص على صحتك!"
عقف جابر حاجبيه يدعي التأثر بعد كلمته فانحنى رشاد وراحت أصابعه تسحب خيوط حذائه بينما يتم جابر عبثه الماكر فأضاف يستند بكتفه على جانب الخزانة الحائطية: "غَيَّر الخطة منذ خمسة دقائق فقط.. وقد رجوته لمرات أن يجعلك أساسياً!"
بخفوت اختصر رشاد: "من الأخير!"
رفع جذعه واعتدل في وقفته بعدها بعينان لا تبينان أي معنى للاكتراث بما يتفوه به جابر من ثرثرة فأشاح بصره بملل تام وبصفاقة راح يردف: "المدرب يُصر على وضعك في دكة الاحتياط وشئت لو أنك لم تتعب نفسك بالحضور فنتيجة اللقاء محسومة بفوزنا!"
قطع رشاد المسافة الفاصلة بينهما ووضع كفه على كتف جابر الأقل منه طولاً وحجماً وبصوت خفيض ألقى بكلماته في أسماعه: "أعتقد بأنك تعرف الفرق بيننا جيداً يا جابر مسعود.. أو تفضل أن ندعوك ديبالا مثلاً!"
أزاح رشاد كفه وتسارعت خطواته إلى خارج الغرفة باتجاه الملعب وتفحمت ملامح جابر ليعقف حاجبيه يكتم تصاعد نيران غضبه
استغل تأخر رشاد وسيف الدين ليحث صُحبته من الفريق على مساندته والتحجج ضد رشاد وإصابته المزعومة وهو على علم تام بأنه لن يكمل المباراة دون أن يدخله فيها.. يقض مضجعه ويود لو تتلمس يداه عنقه فيستل روحه من عمقها ويحيله إلى الموت
كم يمقت أن يختفي خلف ظلاله وهو من لم يسبق وأن ضاعت فرصة من بين يديه ليبرز بطلاً يراه الجميع ويشيدون بصنيعه
بثقل وحنق زفر أنفاسه ودفع بقدميه للريح يمضي من وراءه بملامح تصطنع الثبات والود
خلالها مرت دقائق التحمية والتمطية وانتظم اللاعبون الاثنين والعشرون كل في مكانه عبر رقعة الملعب الخضراء
بين الفريقين قلب الحكم العملة ومن بعدها أعلنت صفارته عن البداية.. صوت الهتافات يملئ الملعب الصغير والأعلام الملونة تنتشر في كل ركن منه تهزها رياح الربيع الهادئة
تعالت النبرات بين إرشادات المدربين وتوصياتهم وصراخهم من خارج الدكة يريدون النصر بأي فرصة أتاحت، يلحون عليهم ويضغطون داخل الملعب في حراك عنيف مع الكرة فتسقط وسط الأقدام تتقاذفها لكل جانب، كل منهم يحمي شباكه ويحرس عرينه .. ورغم الضوضاء إلا أنها لم تحرك ساكناً لرشاد الذي لازال قابعاً بين الاحتياطيين كما جرت مكيدة منافسه الغر
يراقبه بصمت مطبق ويتشفى في فشله كل مرة في التسديد وحتى تلك المخالفة التي أخذها أثناء تحججه الواهي!
لا يدري لمَ شعر رشاد ببعض الرضا لرؤية جابر في تلك الحالة المرتابة وهو ينتظر قرار الحكم فيه فيخرج الآخر البطاقة الصفراء ويلزمه بالتوجه للاصطفاف جانب زملائه لأجل تنفيذ المخالفة الموجهة ضدهم
تلتمع عينا جابر الزرقاوتان في حسرة وتنهيدة حارقة وما كان منه إلا أن رضخ للواقع
مرت الدقائق المتبقية من الشوط الأول في محاولات مستميتة لنفض سيطرة فريق الضاحية الجنوبية دون جدوى ومع إنهاك سيف الدين الذي طلب التبديل لم تسر أمور المدرب كما يجب!
في وضعهم هذا كان التعادل رحيماً بهم عن الإذلال أكثر!
"تجهز وباشر تمارين الإحماء ستدخل مكان جابر في الشوط الثاني!"
تلك كانت كلمة المدرب الذي دخل مع البقية إلى الحجرة ليعيد تنظيم خطته رفقتهم وخلالها شرع رشاد في تمارين التحمية راكضاً على أطراف الملعب، يمرر الكرات محرراً لعقلة قدميه اللتين ملتا الجلوس دون تدخل
بعد فروغ وقت الراحة بين الشوطين أدركتهم بداية الشوط الثاني وكم استشاط جابر غضباً فكانت شفتاه تتحركان في شتيمة مكتومة لغريمه المعقد الذي طالعه ببسمة رقيقة بالغة التشمت في حاله في حين صفق سيف الدين كفه بكف رشاد وشجعه بصفيره وحماسه الذي لم يمنعه توعكه
تحرك مع البقية للانتظام داخل الملعب، كانت عدة لحظات خاطفة كالبرق بعد إعلان الحكم عن صافرة البداية تغير فيها اللوح قبالتهم جهة اسم فريقهم من نتيجة الصفر إلى الواحد وتصاعد على إثرها الصياح الحماسي يهيج الأقدام ويتسارع الأدرينالين في تحضير الأجساد لعملية الكر والفر على الأرضية العشبية وبين هذا وذاك تتعدد الوجوه الغاضبة على النتيجة
وتتزايد سرعة رشاد في التنقل لشباك الخصم ومناورة ظلال المدافعين اللذين باتوا على أعصابهم يهاجمونه بكل ضراوة بنية إلحاق الضرر به دون جدوى
مر الوقت وأطلق الحكم صافرة نهاية المباراة والنتيجة الختامية ثلاثة مقابل صفر لصالح فريق رشاد الذي تهاتف عليه زملائه في عناقات تشجيعية ومطرية لما صنعه
لم ترقه بطبيعة الحال إلا سيف الدين المبتهج الذي طبطب على ظهره في عناق أخوي رجولي يشدد عضده ويعزز أزره.. يجعله يبتسم براحة لم يدركها في دنياه إلا مؤخراً بينما زوج عيون زرق حاقدة حاسدة لا تحيدان عنه في دعوة واحدة للخلاص والفكاك منه.. حتى أنه بات يريد موته وانقضاء أجله كي يتيح له الفرصة في بزوغ نجمه الآفل خلف ضياء غريمه
بعد مرور ربع ساعة أخرى كان الصديقان يسلكان دربهما عودةً إلى المدينة حيث يتحدث سيف الدين يناقشه: "هاتريك مرة واحدة يا أخي..ثلاثية يا حبيبي، ما ظننتك على قدرها بدوني!!"
يرد رشاد بانشراح وسعادته لا تقل عن سعادة رفيق روحه يشاكسه: "وماذا تحسب نفسك بيكيه زمانك.. هذا كي لا تتعمد وضع أختي حجة في تراخيك وعدم انضباطك في اللعب وتتقصد شماتتي فيك!"
تتالت ضحكات سيف الدين فأردف: "وعلى هذا السبب خصيصاً سيكون على هُدى أن تقوم بإعداد وليمة عشاء دسمة تناسب هذا النصر الكبير ولنرى من منا سيتحجج بالتراخي وسيتناول الطعام حتى يتصاعد تقرح معدته وحينها أنا من سيشمت بك!"
تحجج رشاد رافضاً العرض: "إلا معدتي يا أخي.. يكفيني ما أناله من ألم بسببها!"
في ذات سرعته تجاوز سيف الدين السيارات وتحاشى الخوض لما اختتم رأيه دون رجعة فيه
يتلذذ بتذكر مشاهد المباراة فتتآكل عزيمته: "حكاية أخرى معك ومع المساكين ممن أحرجتهم.. أحولت عيوني من تتبع قدميك والكرة تلج وتخرج من بين أقدامهم!، ووددت لو أنني رفقتك لصعدت من مكاني إليك ولأعنتك على باقي ما تبقى منهم فنتشارك معاً الشعور بنشوة الانتصار!؟"
"لذلك فشعوري بالسعادة منقوص لأنك لم تكن برفقتي!"
أجابه رشاد باختصار يصف عواطفه على آخر كلمات صاحبه ولحقيقة شعوره بالفجوة الكبيرة بعد هذا التألق فلا يخفى على سيف الدين المبتهج تأثره وكونه بمفرده، فرحة مبتورة لأن رفيق عمره لا يجاوره
في الواقع كلاهما يسند أحدهما الآخر.. مكملان لبعضهما، لشخص سيف الدين الاجتماعي بطريقة صاخبة مدروسة ولرشاد المتقوقع أسفل أحاجي ماضيه وظلماته ولولا يد صديقه لبقي يقبع داخله دون رغبة في منح حياته فرصة أخرى
"لا تعبس كل مرة لا أشاركك فيها.. أنت لست بحاجة إلي ليبزغ نجمك الوضاح ولكنك بالفعل بحاجة ماسة إلي لأضفي سكر الابتسامة على وجهك عديم الطعم المتجهم هذا!"
مد سيف الدين كفه لسحب وجنة صاحبه بفظاظة وبلادة ورن هاتفه بنغمة تهللت لها أساريره فرحة وغبطة
رفع كفه بعد دفع رشاد له وسارع لالتقاطه مجيباً دون مطالعة الاسم: "حبي.. ميمي!!، لقد حققنا النصر حبيبتي!"
غامت نظرات رشاد يدلك وجنته بضيق وأدار بصره جانباً بأنفاس مغتاظة مبتئسة من طرق ماريا الملتوية في جذب صديقه وأخذه عنه، إذ أنها وبسبب عمل والدها كإداري في أحد الجامعات سافرت برفقته لتتم تعليمها العالي هناك في مدينة أخرى وها هي لازالت تطلب من سيف الدين الالتحاق بها لذات الجامعة وتدعوه ليتركه بمفرده
وهذا كله بعد أن يئست تماماً من محاولة استمالة رشاد باتخاذ صديقه كذريعة لتستمر بالتردد عليهما كل فترة كلما قعدا معاً
ماريا تكبرهما بسنتين ومرضها جعلها ترقد في مصحة تتابع علاجها حيث أضاعت سنتين من تعليمها الثانوي
ولحظه وحظ صاحبه أنها رجعت تزاول دراستها في ذات فصلهما وشعبتهما وتتابعت العلاقات بغرابتها بين ثلاثتهم بعد رفض رشاد –الخفي- لها
تتشبث بقطعة منه متمثلة في سيف الدين تغيظه وتتلاعب بحبائل علاقتهما لفترة طويلة ولازالت تفعل
بعد ثرثرة ماريا أضاف سيف الدين يطرف أنظاره صوب رشاد المتزمت في رأيه وبكذبة يرددها عليها: "إن رشاد يلقي عليك السلام ويخبركِ بأنه ليس الوقت الملائم لتسلبي انتباه صديقه وهو يقود سيارته!"
رمقه باحتداد ينذره من كذبته فتجاهله ورجع ليهاتفها وبعد برهة قهقه سيف الدين وسحب هاتفه جانباً وعيناه على السيارة المتلكئة أمامهم يستطرد: "إنها تقول لك.. ألازلت متجهم الوجه لا تتقبل رحيل سيف الدين عنك!"
ابتعدت السيارة عن مسارها في الطريق وحاول سيف الدين تجاوز المركبة البطيئة أمامه دون تنبه للممر الموازي الذي يمضي إليه
في حين يبدي رشاد عدم مبالاته بكلمات ماريا المبطنة وقبل تحدثه وبحركة مباغتة جاء صراخ سيف الدين الذي أسقط هاتفه من قبضته ينادي هلعاً: "رشاد!!!!!"
بغير انتباه للطريق تقوده بديهته المتحفزة بمخاوفها المتكررة على ذاكرته لمفاجئة القدر وضربة من العيار الثقيل فلم يشعر رشاد منبلج العينين إلا بجسد سيف الدين العريض ينكب عليه يحاوطه بشدة تاركاً للمقود كمن يحميه من صدمة عنيفة ومن بعدها صوت احتكاك وحشي لعجلات المركبة الكبيرة المقابلة واصطكاك الإسفلت بها محدثة لضجة مرعبة تلاها اصطدام شرس بين الاثنين وصورة دامية تلون سحنته الشاحبة واصفرار تام لشفتيه كما تيبس ذراعيه وأصابه الفشل في كل أطرافه وتوقف لكل ثانية ولحظة ونفس حتى ذاك الجسد الذي ثقل بشخرة أخيرة بين أحضانه.
ي ذات المستشفى~
جناح الاستعجالات
تجلس منار قرب باب أحد غرف الاستعجالات تنتظر إفاقة أختها بعد أن تم حقنها بمخدر سحبها لنوم إجباري.. مقاومة سناء ضئيلة للغاية فحتى بعد تلقيها للعلاج لازال الطبيب يطالب ببقائها لفترة أطول للاطمئنان على ضغط دمها المتوتر، يالها من فتاة أضرها المرض وسقم الجسد.. هي أكثر من يتأثر بالأنيميا الوراثية من بينهما بسبب ضئالتها
أدارت عيناها صوب مخرج الرواق الخلفي لجناح الاستعجالات حيث اختفت والدتها نصيرة مع حمزة منذ مدة فاشتعل فضولها لمعرفة ما يخوضانه من أحاديث جانباً عنهم، لا تخفي عن نفسها كما عن والدها عبد الكريم تلك النظرة الاستهجانية التي رمقوه بها وهو يحمل سناء بين أكفه كورقة اغتالتها رياح الخريف
لكن الاختلاف أن نظرة منار حملت الإعجاب وفيضاً من المشاعر الفرحة لموقف ابن خالتها الرجولي مع أختها، فهو بقلقه البالغ أثبت حبه لها وهزهز دواخلها بعنف
ما يقلقها فعلياً ذاك الاستنكار العدائي في سحنة والدتها التي استمرت في رمي حمزة بنظراتها المستنفرة مما تظن أنه وقع ولكنه وقع بالحقيقة ومنار تُشيد بما تعنيه سناء لحمزة رغم عدة مواقف ظنتها أخوية بينهما
أراحت أنفاسها بثبات وانتعشت عيناها لمرأى والدتها تقدم ناحيتهما فوقف والدها عبد الكريم الذي شابهت ملامحها ملامحه الحسنة وتقدم زوجته يتهامسان ببعض الكلمات وقد بانت معالم الشحوب على وجه نصيرة فربتت على كتف زوجها عبد الكريم وحدثته: "لقد تحدثنا بشكل منطقي أنا وهو لا تقلق يا حج!"
اتسعت عينا منار في ذهول وزمت شفتيها لتنتفض باتجاههما مندفعة دون احتساب للعواقب وعقلها يحلل نوع الحديث الذي أجرته والدتها مع ابن خالتها.. هل يعقل أنها علمت يا ترى؟
هتفت منار باندفاع زاحمه التلعثم: "ماذا!؟.. أقصد!!؟.. أين حمزة!؟؟"
حدجها والدها عبد الكريم بنظرة حارقة ونبس بتحذير يشير لها: "ألا أخبركِ ألا تحشري أنفكِ الصغير في مواضيع الكبار يا منارة!"
أجابت نصيرة بتوضيح بارد متبرئة من جرمها: "لقد غادر حمزة بعد أن اطمئن على حالة سناء!؟، لا شيء آخر.. الفتى لديه أعماله المهمة لينجزها!"
زمت منار شفتيها أكثر وكبحت لسانها الثرثار ومن ثم تتبعت نظراتها همسات أبويها قرب باب الغرفة التي ترقد فيها سناء وكان الحديث القصير شاداً لكليهما على حسب اعتقادها، رجعت للجلوس مكانها ونفت كلما يعترك من أفكار في قُرارتها
لبرهة تبعثرت الأحداث حول رأسها فتجاهلتها مع انصراف والدتها وعودتها إلى داخل غرفة سناء
عقدت ذراعيها أسفل صدرها ورسمت ابتسامة رقيقة لتذكرها لجابر وكفها التي لامست كفه غفلة، وإنها لغفلة أثارت حواسها المتلهفة لمشاعره وفي خضم تقلباتها كانت تتساءل كيف جرت مباراتهم هناك؟؟!.. هل فاز يا ترى؟
انقطع سيل تزاحم أفكارها مع أحاسيسها كمن مُسح ذهنه وما يعتريه تماماً عندما اندفعت درفتي باب جناح الاستعجالات قبالتها وصوت أزيز عجلات السرير المتنقل يصدح في أركان الرواق.. طبيبان ورجل من قوات الحماية المدنية بزيه الكحلي الشاحب يحيطان بجسد رجولي ممدد فوق السرير والدماء تتقاطر بكثافتها من ذراعه المتأرجحة المرخية وتتساقط على الأرضية تاركة بقعاً نقشت في ذاكرتها
أهالها المشهد ومن مكانه رأى والدها عبد الكريم انكماش ملامحها المذعورة وتصاعدت دلائل الرهبة لتكسوها فتقلصت منار في جلستها على الكرسي وأصوات الرجال الثلاثة تهتف بآراء متناقضة: "لا أمل من نقله إلى الغرفة.. لقد مات.. إنه ميت!"
صوت آخر من بينهم: "حاول مرة أخيرة.. حاول رجاءاً!"
اندفعت دقات قلبها وتسربلت بعنف جوفها مع مشهد آخر لشاب يقتحم الرواق بزيه الرياضي من ورائهم والدماء تحجب معالم وجهه، جِراحه المتناثرة على مستوى ساقيه وعنقه، خصله الحالكة المغبرة
وذراعه المشوهة بتجاعيد لآثار حروق قديمة لطختها الدماء هي الأخرى كما باقي هيئته ولباسه الأبيض.. يركض خلفهم ويسارع لمجاورتهم بأنفاس لاهثة متتالية
التقط ذراع صاحبه المتأرجحة وضمها بكفه المرتعشة وهو يهدر بحرقة مريرة مبحوحة: "سيف.. لا تمت!؟، سيف الدين!؟.. أرجوك أجبني.. أعدك بأنني لن أعود للتجهم مجدداً.. أعدك فلتعد فحسب!؟"
رشاد لم يكن يدرك أو قرر عدم الإدراك مُتقصداً أن منجل ملك الموت حصد نصف روحه مع روح صاحبه، بعد ذاك الحادث الفظيع الذي فداه فيه سيف الدين بنفسه وجسده يستقبل شظايا الزجاج والصفائح الحديدية التي اخترقته ومزقته بدلاً عنه في دعوة واضحة له أن يستمر في حياته بمفرده ويعافر الأيام العصيبة وحيداً كما كان من قبله
أخذ جسد منار يرتجف وعيناها المتسعتان ارتعباً ترمقان الشاب التائه على بُعد منها بصدمة.. صرخ من بعد اختفاء الأطباء مع جسد سيف الدين داخل الغرفة وراح صوت نشيجه يعلو مبحوحاً محترقاً بألمه وحزنه يضعضع فرائصها
"لا تبعده عني يا ربي.. يا ربي.. إلا هو يا ربي!؟"
اتجه عبد الكريم لابنته ومد ذراعه محيطاً لها يمنع عنها رؤية ذاك المشهد المهول قبالتها، بينما من بين ذراعي والدها الذي يعانقها كانت تراه، ترى رقم قميصه واسم عائلته (الشاكري) مع أول حروف اسمه وهو يقابل الغرفة.. حينها كانت كل حواسها مستنفرة ولا تدري لما لم توافق رأي والدها في الانسحاب للحديقة والابتعاد عن رؤية رشاد يواجه حقيقة مصير سيف الدين فيلتاع قلبهما ويتأثرا أكثر بفظاعة ما يجري
منار لم تعرف وقتها لمَ!!.. لكن جانب إنسانيتها من تحرك وهي في أحضان أبيها الذي يغمرها تسأله بنظراتها الدامعة وعيونها المرتجفة: "غادر إليه يا أبي.. أنت رجل وتُحسن التعامل في هذه المواقف، إنه وحيد ولربما ذويه متأخرون!"
هز عبد الكريم رأسه بإرتباك ومرر بصره بين ابنته وذاك الشاب الكسير وما زاد من تأكيده على رأيها هو ضرب رشاد للباب في عنف ورفض والأطباء يقومون بسحبه ودعوته للابتعاد: "استهدي بالله.. البقاء لله، أدعو له بالرحمة!؟"
"أنتم تكذبون.. سيف الدين حي!!، لقد وعدني بأننا سنتناول طعام هُدى الدسم الليلة.. معاً!؟..ابتعدوا عني سأدخل إليه!؟"
دفع عبد الكريم بمنار لتدخل غرفة سناء وتظل هناك بينما تحرك هو ناحيته يتفقده بإشفاق وأسى لانهياره وغضبه المشحون حزناً يحاول نفض الأطباء عنه فتدخل بينهم وسحبه صوبه يضغط على ذراعيه يدعوه: "استهدي بالله يا بني!، وحد الله.. وحده ولا تجهل بربك!"
"لم يمت.. لم يمت أتركوني!؟"
كانت صرخة رشاد العنيفة بهم وعيناه تحتدان برفض قاطع للخبر ودموعه تهطل ماسحة لدرب الدماء على قسماته
خلال لحظات من مقاومته هدر فيه عبد الكريم بانفعال وصحبه بصفعة شرسة نهشت وجنة رشاد الذي تقهقرت خطواته خلفاً فارتطم ظهره بالجدار وقد وهنت دفاعاته كافة وانهارت بانهيار آماله وتحطمها على أشواك الواقع الحادة فتعالت شهقاته وبكاؤه يملئ الجناح
رأسه ثقلت بما صدمه فجأة وكان عبد الكريم بنظراته المشفقة الآسية على حاله يتقدمه حتى أحاط ذراعه بظهره وراح يربت عليه هامساً: "كن قوياً يا بني.. أصمد!"
رفع عبد الكريم كفيه لوجنتي رشاد يشدد أزره في بائقته وهو يضيف مهوناً: "اهدأ.. اهدأ!"
"إنه كل جميل في حياتي.. رفيق روحي.. إن رحلت روحه فروحي رحلت معه!"
صوته المبحوح وتقاسيمه الواهنة البائسة والباكية أجفلت عبد الكريم واخترقت قلبه الواسع برحبه ليعانقه من جديد ويطبطب عليه: "عليك بالصمود.. الجميع يخسر أناساً، الجميع يخسر أحبائهم.. لا أحد يبقى معك إلى الأبد!"
مع كلماته الأخيرة تعال صوت الصراخ وتسارعت الأرجل والأقدام بضجيجها وولولتها عبر الرواق، قدموا.. جاؤوا بآمالهم المحطمة يجرجرونها لفقدهم عزيزهم الغالي سيف الدين
بصداها ونشيجها وأحزانها وآلامها أدركوا أن الله أخذ أمانته
يسقط شوقي وكفاه تلطمان وجهه.. بينما يبتعد عبد الكريم بحزن يدعوا بالصبر لهم وتنهار هُدى مع شقيقها رشاد في صراخها ونوحها
وبقية العائلة في وجومهم ودموعهم يرثون فقيدهم وحبيب أرواحهم سيف الدين.