أخر الاخبار

رواية وصية والد الفصل السادس والعشرين 26 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل السادس والعشرين 26 بقلم علي اليوسفي


للحياة معناها السامي،كزهرة جورية تفتحت هذا الصباح، تنسّم عبيرها ياعزيزي،ولكن لا تنسى أن اشواكها ستغزّك وقد تدميك، لا عليك بها، فنسيم الزهرة العليل كفيل بأن ينسيك وجعها.
.................................
لن يستسلم بهذه السهولة ، يجب أن يتحدث معها، هل نسيته بهذه السرعة لتقرر أن تُخطب لرجل سواه؟؟
وليته أي رجل، أكفأ وأمهر موظفيه !!!
طالع أدهم ساعة يده الكلاسيكية، لقد مرّت عليه ساعات وهو ينتظرها أمام عيادتها ، فاليوم لن تداوم في المشفى على كل الأحوال ، لا بأس مستعد لأن ينتظر أياما إذا اضطره الأمر ، لا يعرف ماذا سيقول أو ماذا سيبرر، وحقا لا يعلم إن كان من حقه أن يمنعها من الزواج ، لكن ماذا يفعل بغيرة القلب العمياء؟؟
تململ في جلسته على مقعد السيارة ، ليترجل منها، متجهاً إلى عيادتها ليتأكد من انتهاء عملها ، وليتحدث معها.. وليذهب مجد وشكوكه إلى الجحيم ، لن يهتم لأمره ، وسيكون أنانياً بقدره.
................................
خرجت آخر مريضة لديها لهذا اليوم، لتتلاشى تلك الابتسامة المزيفة التي ترسمها على محياها منذ ليلة أمس ، منذ أن أخبرتها نور بأن هادي ينتوي أن يخطبها، وقد اشترى الخاتم الذي سيزين بنصرها بمساعدة مجد، هل حقا وصل بها اليأس إلى قبول أي شخص قد يطرق بابها؟؟
لكن لماذا لا تنظر إلى الجانب المشرق؟؟
فهادي شاب ذو مواصفات عالية ، مواصفات تتمناها أي فتاة في فارس احلامها ، لكن هل هو حقا فارس أحلامك حضرة الطبيبة ؟؟؟
أغمضت عينيها لتزفر بإرهاق، تقاسيمها مرهقة متعبة، طول الليلة الماضية لم يغمض لها جفن ، كأنها في متاهة ، هل تسرعت في إعطاء فرصة لهادي؟؟
لكن كيف ستخرج من بؤرة الماضي لو لم تعطه المجال لدخول حياتها؟؟ ربما هادي فرصتها الذهبية لتخرج من مدار أدهم وماضيها معه.
ضغطت الزر بجانبها تطلب الممرضة خارجا ، ثوان مرت قبل أن يُفتح الباب ، تحدثت آماليا بنبرة متعبة وهي تدلك جبينها: هل بقي أحد في الخارج؟؟
أجابتها الممرضة بنبرة فيها بعض التردد: لا حضرة الطبيبة ، ولكن...
سكتت لثوان لترفع آماليا رأسها ناحيتها، قطبت جبينها باستغراب ، سرعان ماتحولت ملامحها إلى المفاجأة وهي ترى أدهم يدلف من خلف الممرضة، و على وجهه ابتسامة جذلى ، يا آلهي ماهذا؟؟
هل قلبها يقفز باشتياق وسرور وهي ترى بسمته ؟؟
رمشت عيناها بذهول ، وقد أصبح يقف أمامها في تلك اللحظة ، تمالكت نفسها بعد ثوان لتشير إلى الممرضة لتخرج من فورها، ظل يناظرها للحظات بعشق صافي، حقا صدق الأقدمون عندما قالوا: ما الحب إلا للحبيب الأول !!!
كعادته في المواقف الحساسة، تدخل عقلها ليزجرها، قست تعابيرها لتتحدث بنبرة باردة تخللتها مسحة تهكم: خيراً أستاذ ادهم، لا أعتقد أنني أستطيع مساعدتك، فكما تعلم هذه عيادة نسائية.
ازدرد ريقه ليسألها غير آبهٍ بسخريتها: كيف حالك آماليا ؟
ابتسمت بسخرية لتردف بنبرتها ذاتها: هل قطعت كل هذه المسافة فقط لتسألني هكذا سؤال سخيف ؟؟
عبس محياه من جديد ، أخفض رأسه لثانية قبل أن يرفعه ليسألها مجددا : هل حقا ستخطبين لهادي؟؟
هل وحدها هنا من تشتمّ رائحة احتراق؟؟
لا إنها رائحة الغيرة.. !!!
تبدلت ملامحها إلى ابتسامة خبيثة ، لم تجبه لتزيد من حرق أعصابه ، استقامت من مكانها لتخلع مئزرها الطبي ، توجهت إلى المشجب العمودي الموضوع في الزاوية لتعلق الرداء عليه ، ثم لبست معطفها الشتوي، كل هذا فعلته ببرود تام ، كأنها لا تأبه بذاك الواقف خلفها كمن يجلس على صفيح ملتهب.
قطب جبينه وهو يراقبها، غير مستوعبٍ بعد لبرودها معه خاصة فيما يتعلق في هذه المسألة، حسنا لنكن واقعيين، آماليا تملك من الذكاء مايجعلها تفهم نظراته، ولن تخطئ الحب الواضح للعيان والذي يختصها به وحدها، ويعلم يقينا أنها ماتزال تحبه، والدليل عليه أنها لم تتزوج لغاية اللحظة، إذا لماذا تتجاهله الآن ؟؟
تحركت آماليا بعد أن حملت حقيبتها تريد تجاوزه دون حديث ، لكنه قبض على ذراعها ليوقفها قائلا باستهجان: لم تجيبي على سؤالي آماليا ؟
عادت خطوة واحدة للخلف وهي ترمقه بقوة لا تعرف مصدرها، شبح ابتسامة باردة ارتسمت على ثغرها لتقول بهدوء: بمَ يهمك الأمر سيد أدهم ؟؟
تلاحم حاجبيه بغرابة، أحقاً تسأله هو هكذا سؤال، فأجاب بنبرة متعجبة، ومازال قابضاً على ذراعها: ألا تعرفين آماليا ؟؟ بالطبع يهمني الأمر فأنا أحبك...
تجهمت قسماتها وعبست، لو أنه بقي ساكتا لكان أفضل لهما، ولا تدري لم صاحت فيه وقد نفضت ذراعها بغلظة: تحبني انا؟؟ ماذا عن زوجتك ؟؟
صرّ على أسنانه بغيظ من اسلوبها المتناقض ، ليجيب من بين أسنانه: لا تقحمي ريما في الموضوع ، لا شأن لك بها.
لا تعرف كيف وصل بها تفكيرها إلى نقطة غبية، من المؤكد أن علاقته بريما ليست على مايرام ، لذا فهو يبحث عمن تعوضه النقص في حياته ، وهذامايفسر غيابه لفترات طويلة ثم يعود من جديد ، زين لها عقلها اللعين هذه التصورات المريضة، ولم تهن عليها نفسها، فقالت بخيبة أمل لم تستطع إخفاؤها: انسَ أدهم ، أنا لن أكون عشيقتك السرية التي تلجأ اليها كلما اختلفت مع زوجتك.
كانت الخيبة هذه المرة من نصيبه هو، تهدل كتفاه بإحباط، ثانيتان مرت قبل أن تكتسي نظراته بعض الحدة ، ليهدر بها بغلظة ضاغطاً على أسنانه بانكسار غاضب: تعلمين أنكِ لستِ هكذا أبدا، أنت أغلى عندي من هذا بكثير.
ارتجفت شفتاها قبل تنطق باحتدام، وقد أطلقت العنان لعبراتها الملتاعة: أيها الأحمق ، مصيبتي أنني مازلت أحبك.
رغم غصة فؤاده من منظر دموعها، إلا أنه لم يستطع منع ابتسامة باهتة ارتسمت على شفتيه، وبعض الراحة اخترقت محياه مردفاً بأمل: إياكي والتوقف عن حبي آماليا، صدقيني حينها فقط سأموت.
جحظت عيناها بدهشة من رده الغريب، لتعقب بغرابة: أنت أناني وغد !!
اتسعت بسمته قائلا بخفوت: أعلم هذا.
سكتت لثانية قبل أن تصيح باستياء وتناقض نفسها، كمن يلملم بقايا كرامته المهدورة ؛ اكرهك أيها الحقير.
اتتها إجابته البسيطة فورا كمن يعلم كذبتها: وأعلم أنك لا تفعلين.
همست من بين دموعها بسخط مزدري: ليت بإمكاني فعلها.
رفع يده ليعيد خصلة تمردت من شعرها الأشقر ، شعرت بفؤادها يضرب قفصها الصدري دونما رحمة، الإحساس بدفء كفه قريبا من وجهها جعلها على وشك فقدان الوعي ، رغم أنه لم يلامس بشرتها.
عاد الأسى في لحظة ليحتل ملامحه متحدثا: لا يحق لي هذا أعلم، لكنني لا أستطيع.
أخفض يده عنها ليطالعها بنظراته المتألمة ، وكل الكلمات التي يعرفها هربت من قاموسه ، تناقضه الغريب أصابها بالقنوط ، وفي لحظة سذاجة، أو لنقل أنها لحظة تهور ولا تعرف أمن غيرتها ، ام لتثير غيرته هو صرخت في وجهه بلا وعي: سأخطب لهادي يا أدهم، سأرتبط به لأنساك، فهو يستحقني أكثر منك.
.........................
قابلها بعينين تنطقان شرراً ، لتضيف بتهور أكثر غير عابئة بنيرانه الهوجاء: لن أقضِ عمري أتوسل منك تفسيراً أو لحظة راحة.
أمسكها من ذراعها ليهزها بقوة ، صارخاً من بين أسنانه المتلاقية بكمد: إياكِ أن تجرؤي آماليا فهمتِ، إياكِ .
نفضت ذراعها من يده لتضربه على صدره بقبضتيها ، كأنها تنتقم منه على عذابها ، لتضيف صارخة بقسوة: سأجرؤ أدهم وسأفعلها صدقني، سأتخلص من تلك المشاعر الحمقاء التي تستولي عليّ كلما قابلتك، خاصة عندما تكون معها.
كان الأجدر به أن يقفز قلبه طربا وسعادة، فهي تغار عليه من ريما ، لكنه ولأنه يعرفها يخشى تهورها، تلك النظرات التي رمقته بها كانت تحدٍ ، كأنها تريده أن يخبرها الحقيقة ، لكن في هذه اللحظة عادت صورة مجد الصغير ومرضه تتمثل أمامه ، بدى الأمر حقيرا بالنسبة إليه ، ماذا لو أن آماليا لم تصدقه؟
فمالذي سيفيده إفشاء سر مجد ؟؟ والذي قد يؤثر على علاقته بنور....
وللحق فقد قرأ أدهم نظراتها ببراعة، فهي تريده أن يتخذ قرارا، هذا الحب في الظلام لا يناسبها البتة، تريده أن يحسم أمره، لا أن يتركها معلقة بين السماء والأرض، لا هي بقيت على الأرض لتجد الراحة التي طالما ناشدتها، ولا طالت التحليق في سماء الأحلام.
بدأ غضبه وحنقه من مجد يخبو رويدا رويدا، ليقوم عقله بعمل مقارنة بينه وبين شقيقه، شعوره بالمسؤولية طغى على وجع قلبه المدمى، والذي تمزق أثر كلماتها، عاد به الزمن اثنا عشر عاما، شعر بأنه وضع في الموقف ذاته من جديد، زد عليه خيبة الأمل، كور قبضته لقد تحمل هو الفراق كل هذه المدة، لكن مجد أضعف من أن يتحمل، سينتكس من جديد وتتراجع حاله، وسيعود لدائرة الأطباء النفسيين.
لا يا قلب، أنا لستُ بهذه القسوة،هي اختارت طريقها، أما أنا وأنت فسنحتضن بعضنا ليلا، لنداوي جراحنا، يبدو أن لا نصيب لنا سويا في هذه الدنيا، فلنرضى بقسمتنا ، عاد خطوتين للخلف مجيبا وقد حسم قراره: افعلي ما بدى لك آماليا .
أولاها ظهره ليخرج مسرعا، فلم يلحظ الخيبة التي سيطرت عليها، سقطت كلماته عليها كحجر عظيم دق رأسها، وهو ينهي مالم يبدأ أساسا.
..................................
هل سبق وأن همست لنفسك بأن حظك عاثر؟؟
طبعا لن يكون كحظ ريما، فقصتها أكثر تعقيدا مما تعتقدون...
الرجل الذي كان في السيارة الأخرى، كان ينتمي إلى نفس عشيرة والدها الراحل ،كان قد تم نقله إلى مشفى أخرى حيث فارق الحياة هناك ، حضر أبناؤه إلى المشفى الذي كان فارس يرقد فيه، وهناك حاولوا خطف ريما غصباً،لولا تدخل الطاقم الطبي والممرضين ليحلوا النزاع، غادر الأبناء الثائرين متوعدين، ليرفعوا دعوى قضائية ضد فارس والد أدهم، ولتبدأ تعقيدات كثيرة واختلافات في حياتهم.
استفاق فارس بعد ثلاثة أيام، فعلم بما حدث، فأوفد محاميه الخاص برفقة أدهم للتفاوض مع ابناء القتيل علهم يقبلون بحلٍّ سلمي أو حتى دفع دية ، لكن الطرف الآخر صدموهم بما طلبوه.
وقف أدهم في غرفة العناية المشددة ، برفقة ريما والتي طلبها والده ، كان كلاهما يرتجف جزعا ، تلك الغرفة المعقمة بروائحها النفاذة ، وجدرانها الرمادية وصوت صفير الأجهزة الرتيب يبعث على الرهبة بالنفس ، كأنك على موعد للقاء ملك الموت.....
احتضنت ريما جسدها بخوف عندما رأت حال خالها الذي رباها كأنها أحد أولاده ، جسده كان مغطىً بالشاش الأبيض حتى وجهه، فلم يظهر منه سوى عينيه ومحيط فمه، كان يبدو أقرب للموتى منه للأحياء، انخلع قلبها عندما فتح عيناه التي كانت تشبه عينا أدهم ، لكن بياضها الآن استحال إلى حمرة قاتمة بسبب الدخان.
أدار فارس رأسه ببطء شديد ليرى ابنه وابنة شقيقته يقفان بجانبه، ابتسمت ريما بحزن قائلة: حمدا لله على سلامتك يا خال.
بادلها بابتسامة متعبة بالكاد ظهرت على شفتيه، أشار لهما بأن يقتربا منه ، ترددت ريما بداية، وقد قرأ أدهم ترددها فحاوط كتفيها لتتحرك معه ، حتى وقفا أمام فارس الذي تحدث بنبرة متعبة: أدهم يابني ، لقد أخبرني المحامي بما طلبه أهل القتيل.
وضع أدهم كفه فوق صدر والده ليقاطعه بهدوء: لا تشغل نفسك يا أبي وارتحْ الآن ، لا تتعب نفسك.
أشار فارس بالنفي قائلا ببحة طفيفة: لا يابني، لن يكون هناك راحة بعد اليوم، إن لم تنفذا ما سأخبركما به.
تبادل كلاهما نظرات مستغربة ولم يفهما مقصده، فيما تابع فارس: أدهم يابني، الوضع في طريقه لمزيد من التعقيد، فأهل القتيل لن يهدأوا حتى يقتلوكم ، أو يتزوج أحدهم ريما.
شهقت ريما بخفة تزامناً مع آخر كلماته، نظرت إلى أدهم بريبة ثم أعادت نظرها إلى خالها الذي أضاف بحسم: وأنا لن أقبل لكما بأي من ذينك الحلين.
ازدردت ريقها بوجل وهي تسأل خالها: مامعنى حديثك هذا ياخال؟؟
أتتها الإجابة من أدهم بنبرة لا تحمل مزاحا أبدا: لقد طلب أقاربك أن يتزوج أحدهم منك، ليتنازلوا عن قضية القتل ضد والدي.
جحظت عيناها بهلع ، لتلتفت صوب فارس الذي أضاف: نعم يا ابنتي، فهم من نفس عشيرة والدك، وأنت تذكرين كمّ المشاكل التي حدثت بعد وفاة أبيك ، وكم حاولوا أن يسترجعوك لكنني دائما كنت أرفض، والآن يريدون الانتقام مني على الوقوف في وجههم.
سكت فارس لثانية ليأخذ نفسه؛ ثم وجه حديثه تالياً إلى أدهم: عليك أن تنقذها يابني، ريما أمانة في عنقك.
أشار له بالقبول ، بينما تابع فارس ليفجر تلك القنبلة التي نسفت أحلامهم: لذلك عليكما بتنفيذ وصيتي، يجب أن تتزوج بريما......
صدمة اصابتهما بعد هذا الطلب الغريب تبادلا نظرات متفاجئة ، ليهتف أدهم باستغراب: ما الذي تقوله يا أبي ؟؟ كيف للأخ بأن يتزوج بأخته؟؟؟
أجابه فارس بنبرة ذات مغزى: لكنها ليست شقيقتك.
سكت أدهم مصدوماً ، ليضيف فارس ليحثه على الموافقة: اسمع أدهم ، لا أريد أن أخيرك بين أمرين أحلاهما مرّ ، لكنك لن تحصل على الوصاية على مجد والأملاك كلها ، مالم تتزوج ريما....
رمش بعينيه بصدمة بائنة، وقد وضعه أباه تحت اختبار لا يعلم قسوته عليه سوى الله، أما ريما فكانت تسمع حديث خالها وهي لا تعي حقا ما يقول، فهمست محاولةً أن تنقذ كليهما: لكني يا خالي لا أريد الزواج بأدهم، ولا تنسى فأنا ما زلتُ تحت السن القانونية ، ولا يجوز.......
رفع يده المضمدة بتعب ليقاطعها بلهاث، وصوت انهكه الحديث والمرض: حتى انت لا كلمة لك ريما.
قطبت جبينها بعدم فهم ، تابع فارس حديثه بحزم: ولا تقلقي بشأن العمر، فالمحامي سيتولى الأمر.
لاحت منها نظرة صوب أدهم الواجم، وقد هالها مارأته في تقاسيمه، أعادت نظرها إلى فارس عندما تابع بعطف: ريما ياابنتي، تعلمين ما فعله أعمامك وأقاربهم بعد وفاة أبيك ، وكم حاولوا أخذك من والدتك طمعاً في ميراثك، وهاقد أتتهم الفرصة على طبق من ذهب، واعلمي أنهم لن يتنازلوا عنك أبدا.
نعم هما مدركان تماما لصحة حديث فارس، فالظروف الحالية تستلزم التروي والتفكير جيداً، أردف فارس ببحة ، وقد تعب جسده : لقد تمكنتُ من حمايتك ياصغيرتي طوال حياتي، ولكنني الآن كما ترين ، على فراش الموت.....
قاطعته بدموعها: لا تقل هذا يا خال...
حرك رأسه للجانبين مبتسماً بألم: لا يا ابنتي إنها الحقيقة، ولا أحد يستطيع إنكارها، هؤلاء القوم لن يتركوك وشأنك مادمتِ وحيدة، ولن يحميكِ سوى زواجك من أدهم.
لم تكن ريما في حال تسمح لها بالتفكير في أي حلٍّ آخر، نظرت إلى أدهم الذي كان صامتا يستمع إلى والده ، سمعت سؤال فارس التالي: ما رأيك ريما؟
تنهدت بتعب وهي تشير له بالإيجاب دون أن تنبس بحرف ، ابتسم براحة طفيفة ليوجه السؤال ذاته إلى أدهم.
ظل للحظات دون أن يجيب، تمثلت أمامه ودون إرادة منه صورة آماليا ، وفي أذنه ترن ضحكتها الجذابة، وعوده لها ما مصيرها؟؟ هل سيخذلها بهذه البساطة؟؟
لو كان في موقفٍ آخر لرفض رفضاً قاطعاً، لكن الآن وفي هذه اللحظة، يتوجب عليه اتخاذ القرار ، فحياة الجميع مهددة الآن خاصة ريما.
رفع رأسه إلى والده ، ليجيب بدمعة نفرت من عينه: أنا موافق يا أبي....
خرج كلاهما من الغرفة بعد موافقتهما، كانا يتحركان ظاهرياً، مسلوبي الإرادة والحياة، وُضعا تحت اختبار إجباري، ولم يكن في يدهما حيلة.
توقفت ريما فجأة لتنظر إلى الآخر بجانبها، رأته يجاهد دمعة يتيمة هربت من عينيه، لم تكن هي في حال أفضل، في ذلك اليوم كلاهما خسر قلبه، واقتلع من حبه جبراً.
..................................
.
انتبه أدهم من ذكرياته على عودة مجد إلى المنزل، طالعه الأخير باستغراب عندما رآه جالسا في الصالة، والغريب أن دوام المصنع لم ينتهِ بعد، فهتف متسائلا: مالأمر أدهم؟ لمَ لستَ في المصنع؟؟
تنهد بقوة وهو يرمقه بنظرات غير مفهومة، أجبر شفتيه على التقوس بابتسامة صغيرة هامساً : لا شيء مجد، انا جائع واخبرت ام ميسر بأن تحضر الطعام.
خرجت ام ميسر من المطبخ وفي يدها طبق كبير، ابتسمت حالما رأت مجد ، اشتم الأخير رائحة الطعام فهمهم مستلذاً: الله ماهذه الروائح ام ميسر !!
وضعت مابيدها وسط أطباق كثيرة لتهتف بهما: اغسلا أيديكما وتفضلا.
في هذه اللحظة دخلت ريما وقد بدى على محياها الإنهاك، فحساسية معدتها ضد التوابل الحارة قد أرهقتها، اصطدمت بوجود مجد الذي طالعها باستغراب لعودتها في هذا الوقت، حاولت تصنع الابتسام إلا أن رائحة الطعام النفاذة أصابتها بالغثيان ،تجهم وجهها ووضعت يدها على فمها، ثم ركضت إلى دورة المياه التابعة للصالة الواسعة، تبادل الثلاثة الباقون نظرات مستغربة، حتى أسرعت ام ميسر لتتبعها إلى الحمام.
ارتعب مجد على ريما فهتف يسأل أدهم بتوتر: ما بها ريما؟ في الصباح كانت صحتها جيدة؟؟
تطلع إليه مصطنعاً ابتسامة لم تصل إلى عينيه مجيبا ليحاول طمأنته : لا داعي للقلق مجد، أعتقد أن المسألة بعض البرد فقط.
خرجت ام ميسر تسند ريما، وقد بدى عليها الإعياء بشكل واضح، فاصفرَّ وجهها وشحبت بشرتها، هرول مجد ناحيتها ليسندها متسائلاً بلهفة: مابك ريما ؟ هل أنت مريضة؟؟
ابتسمت بلا حياة وقبل أن تجيبه تساءلت ام ميسر وهي تتمعن في شحوبها، وقد ربطت تبدل ريما خلال الفترة الماضية وتقلبها الكثير ، ومن عينيها تتقافز أمارات الشك: هل تناولتِ شيئاً على الافطار يا ابنتي؟؟
طالعها مجد باستغراب وقد تلاحم حاجبيه بريبة، قرأ نظراتها المُشككة فسألها: لمَ هذا السؤال أم ميسر؟
طالعته وأدهم الذي وقف خلفه بنظرة لم يفهماها بداية، ثم عادت لتنظر إلى ريما ،رفعت يدها لتضعها تحت فكها كأنها تتفحصها، ثم قالت بنبرة ذات مغزى : انظرا إليها، وجهها أصفر اللون والتعب واضح عليها، وأيضا قد استفرغت كل مافي جوفها..
زاد شحوب وجه ريما من مغزى كلماتها وقد فهمت حديثها، أما الآخرين فقد تبادلا النظرات المستغربة بعدم فهم ليهتف أدهم يسألها: إلامَ ترمين ام ميسر؟؟
تطلعت إليه وعلى وجهها ابتسامة عريضة قائلة: مبارك سيد أدهم، يبدو أن السيدة ريما حامل.
جحظت عيناه من جملتها الخطيرة، حرك نظره إلى ريما التي نهج صدرها بارتعاب، حركت شفتيها بفراغ تريد تصحيح حديث أم ميسر،إلا أن صرخة السعادة التي أطلقها مجد منعتها، قفز بفرح وهو يعانق شقيقه الواجم، تلاقت عيناها بمقلتيه وقد أفزعتها تلك العواصف التي رأتها فيهما، لم تستطع النطق بحرف مع كل المواقف التي عايشتها منذ الصباح، زمت شفتيها بقوة تقاوم دموعها، ثم أطلقت قدميها لتصعد بهرولة إلى غرفتها، سمعت مجد يهتف خلفها: لا تركضي ريما، يجب أن تأخذي حذرك في اول أيام الحمل....
لم ترد عليه ،فقط واصلت صعودها إلى أعلى كمن يهرب من نظراتهم، لكن ماأوجعها أكثر هي نظرات أدهم.
رافقتها عيناه بصدمة حتى اختفت في الأعلى، عاد إلى واقعه مع تربيتة مجد على كتفه متحدثا بحبور: مبارك أدهم، لا تتصور حقا كم أنا سعيد لأجلكما.
طالعه بعيون خاوية، تركه واقفا مكانه ليتبعها، لا يصدق حديث أم ميسر، لكنه لا يستطيع الاقتناع بأي تبرير.....
.............................
جلست ريما على طرف الفراش وهي تمسّد على بطنها بألم، شعرت بالباب يُفتح دون أن يطرقه، فرفعت رأسها لتقابل مقلتي أدهم وتقرأ الشك واضحاً فيهما، إحساس غريب سيطر عليها، الخيبة من أقرب الناس إليك قاتلة.
ابتسمت بسخط وهي تقاوم انهمار دمعاتها، أخفضت رأسها لثانية ثم عادت لتقابله متحدثةً بنبرة متهكمة ومآقيها تلتمع بالدموع : لا تقلق أدهم، لستُ حاملاً، فقط تناولت طعاما هندياً برفقة أيمن وابنته ، والتوابل الحارة حفزت معدتي الحساسة.
نعم هو يعلم بأمر حساسيتها المفرطة من التوابل الحارة، شعر بالندم يتسلل إليه، والخزي من اتهامه المتواري وقد قرأته ريما داخل عينيه، حمحم بحرج محاولا نفي شعورها، ليقول بصوت ضعيف: لا ريما انا لم.......
أشاحت بوجهها إلى الجانب الآخر وهي تحرك رأسها للجانبين بعدم تصديق، فعلم أنها متيقنة من إحساسها، زفر بضيق ليعتذر بخفوت: أنا آسف ريما ،سامحيني لم أقصد حقاً.
تجهم وجهها وقد حررت أدمعها أخيرا، شعرت بغصة حارقة تخنقها، أجابت كمن ذُبح بسكين باردة ، ونبرة خاوية: لا أعلم أدهم، حقا لا أعلم إلى متى ستظلون تخطئون، وأظلّ انا أتحمل أخطائكم متظاهرة بأن لا شيء داخلي قد تأثر، مللتُ الكذب والابتسام ببلاهة.
نبرتها هذه كانت جديدة كليا عليه، أتعرف ذلك الشعور؟؟ عندما تصل إلى نقطة تشعر فيها بالتعب من الادعاء بأن كل شيء بخير؟؟
كانت ريما قد وصلت إليها بالفعل، حقا أرهقها الكذب والابتسامات المزيفة، ملّت التغاضي عن كل النقص الذي تعانيه في حياتها، ليس كل شيء حولها على ما يرام ، بل حتى هي ذاتها ليست بخير.....
.............................................................................
يتبع.

السابع والعشرون من هنا
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close