أخر الاخبار

رواية وصية والد الفصل الخامس والعشرين 25 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل الخامس والعشرين 25 بقلم علي اليوسفي

 (( الفصل الخامس والعشرين ))

..................................
أحيانا يجب أن تقطع أجنحة الشوق، قبل أن يحلق بك في السماء السابعة، فعلى قدر السعادة سيكون السقوط المؤلم.
..........................................
لم يغمض جفنه طوال تلك الليلة ، ظلّ ساهراً حتى ضربته أشعة الشمس ، يفكر في عقبات معرفة مجد للحقيقة ، لكنه لم يستطع أبدا تخيل إلى أين قد يصل بهم الحال، نفخ بامتعاض ماهذه المعضلة؟؟ قلبه أم شقيقه؟؟ حبيبته أم أخاه الذي رباه كأنه ابنه؟؟؟
تقلبت ريما على جانبها الأيمن ، واضعة يدها تحت خدها ، وقد ظهرت على محياها علامات الأرق ، فحالها من حال أدهم ، تلاقت اهدابها الطويلة لتغطي تلك العسليتين الغزلانية، سرعان ماسحبتها الذكريات، ذكريات يُتمها وفقدانها لأمها.
................................
لم تنشف دمعتها بعد على والدتها وزوجة خالها، واللتان فارقتا الحياة فور اشتعال السيارة بمن فيها ، فبعد أن صدمتها سيارة ظهرت في باحة المحطة من العدم، فقد فارس السيطرة على سيارته لتنزلق حتى اصطدمت بماكينة تعبئة الوقود وتنفجر فورا.
استطاع فارس أن يفتح بابه بصعوبة ليقذف بابنه الصغير على الأسفلت ، فيما بقي هو يجاهد ليحرر اخته او زوجته ، لكنه اختنق بالدخان وأصيب بحروق كثيرة في مناطق متفرقة من جسده، حضر جميع من كانوا داخلاً ليشاهدوا الحدث الفظيع، وكان كلاً من أدهم وريما معهم ، صرخت الأخيرة برعب عندما رأت النار تلتهم سيارة خالها، أما أدهم فقد صُدِم حرفيا من المنظر المريع، لاحت منه نظرة ليرى شقيقه الصغير جالسا ً على الأرض ، يصرخ بخوف من المنظر المتمثل أمامه.
هرول أدهم إلى مجد ليتفحصه أولا ، وجد أن يده بها بعض الحروق الخفيفة ، إضافة إلى جروح وسحجات في منطقة جبينه، صرخ على ريما التي أخرجها صراخه من صدمتها، فجرت بدورها لتحتضن مجد بحماية، وادمعها تسيل كالأنهر للمصاب الجلل.
حاول البعض منهم مساعدة فارس والأخرتين وكذلك فعل أدهم ، فيما اعمل بعضهم عقله ليجلب بعض قوارير النتروجين للمساهمة في إطفاء الحريق.
لكن محاولاتهم باءت بالفشل الذريع، فلم تكن النيران تزداد إلا جنوناً واشتعالاً، إلا أنهم تمكنوا من إخراج فارس ، ومازال جسده ينبض بالحياة رغم احتراقه.
أُعلنت وفاة كلا من والدة أدهم وعمته والدة ريما ، بعد تفحم جثتيهما داخل السيارة ، فيما تم نقل البقية إلى المستشفى القريبة، أُودع فارس في غرفة العناية المشددة، بعد إصابة جسده بحروق من الدرجة الثانية والثالثة ، أما إصابة مجد فكانت طفيفة ، لذا تمّ إيداعه في غرفة مخصصة في قسم الأطفال ومعه ريما التي رفض أن يتركها مجد.
جلس أدهم على الكرسي الأزرق في رواق المشفى، واضعاً كلتا يديه الملفوفتين بشاشٍ طبي في حجره، مُنكساً رأسه وعلى زاوية عينه تحجرت دمعة تبحث عن منفذٍ للخروج ، لم يصدق بعد ما آلت إليه حال عائلته ، خسر شخصين عزيزين على قلبه، والدته وعمته، ووالده الآن في شبه غيبوبة.
رفع رأسه عندما لمح خيالا طغى عليه ، فرأى من بين نظراته الدامعة رجلي شرطة، يطلبان الحديث معه ومع ريما حول الحادثة.
طرق باب الغرفة التي كان مجد داخلها فانتبهت ريما الباكية له، فُتح الباب ليظهر من خلفه أدهم برفقة أحد الرجلين ، فيما بقي رفيقه خارجا.
وقفت ريما بعد ان مسحت عبراتها، وقد انقبض قلبها بجزع حالما رأت بذلة الشرطة ، تقدم أدهم ليهمس في أذنها عندما لاحظ أن شقيقه نائما: ريما، سيادة الضابط يريد أن يتحدث معنا حول الحادث.
بلعت ريقها المرير بصعوبة وهي تشير له بالإيجاب ، تحركت مع أدهم ليخرجا برفقة الضابط، فلم يلحظا استفاقة مجد وقد سمع همس أدهم.
لم تكد تقف خارجا لثوان لتسرد للضابط أين كانت عندما حدث الاصطدام ، حتى سمع الجميع صوت صرخات مجد ، هرولت لتفتح الباب يرافقها ادهم ، ليجدا مجد يصرخ بهسترية ، وقد ألقى بغطائه ووسادته أرضا ، متكوراً على نفسه يصرخ باسمها بنبرة ارعبت كل من سمعها ، ولم يهدأ نحيبه حتى احتضنته ريما، ليتعلق بها كمن أضاع أمه ثم وجدها.
..................................
أجفلت ريما بخفة عندما سمعت صوت إغلاق باب غرفة الملابس، اعتدلت في جلستها لتنظر إلى أدهم الذي بادرها بالحديث كأنه يعتذر: لقد طرقتُ على الباب أكثر من مرة ، لكنك كنتِ نائمة .
زفرت بخفة وهي تمسح على وجهها ، ثم رفعت رأسها إليه مجيبة بتعب واضح: لم أنم أصلا أدهم.
سكتت لثانية قبل أن تضيف بشبح ابتسامة مُشفقة : ويبدو أنك لم تفعل أيضا ، صحيح ؟؟
أشار لها بالإيجاب وهو يدلك طرفي جبينه ، تنهد بعمق مجيبا: لا ، لم استطع أن أغفل حتى لثانية.
تحرك يريد التوجه إلى الحمام، قبل أن تصيح ريما باسمه، التفت بوجهٍ متعب إليها لتضيف بهدوء: يجب أن تتوخى الحذر أدهم ، آخر ما نريده الآن أن يكتشف مجد الحقيقة بسبب خطأٍ غير محسوب.
طالعها لثوان وعيناه مُجهدةٌ من السهر وفرط التفكير ، تنفس وهو يشعر بأن الهواء ثقيل على صدره، لتتابع ريما : يجب أن نُمهد له الأمر قبلاً.
لم يكن به من طاقة ليناقش فكرتها ، رغم تيقنه من استحالة إقناع مجد او تمهيد الأمر له، إنه ببساطة لن يتقبل فكرة انفصال أدهم عن ريما لتأتي أخرى وتحلّ محلها ، ليس الأمر مقتصراً على آماليا ، بل لن يقبل بأي أنثى أخرى قد ترتبط بشقيقه ، التفت ماشياً ناحية الحمام لينفض عن رأسه أفكار الليلة السالفة وذكريات الماضي الموجع ، وفي داخله تضاءل الأمل في اللقاء، حتى تلاشى نهائياً، لكن الحب لا يتلاشى، بل يزداد تعمقاً وتجذراً........
تابعته حتى اختفى لتتنهد بوجع ، لا تلبث تواسي أدهم وتسعى بكل ماهو متاح لتهون عليه البعد والفراق، وتعمل على جمعه بحبيبته الوحيدة، لكن من ذا الذي يهون على فؤادها الهجر والشِقاق ؟؟؟
..................................
دلف هادي إلى المطعم الذي واعد مجد فيه ليلتقيا، في حين ابتسم مجد بمكر وقد علم ماوراء هذه الدعوة، واستشعر قرب نجاح خطته.
جلس هادي قبالة مجد بعد أن صافحه، شبك كفيه ببعضهما ليحمحم بحرج طفيف إلا أن الكلمات اختنقت في جوفه ، فتحدث مجد بعدما لاحظ ارتباكه: مالأمر هادي؟ أراك مرتبكاً متوترا ، هل هناك مااستطيع المساعدة به؟ ؟؟
ابتسم الآخر بتوتر ليجيب: أستاذ مجد، في الحقيقة هناك ماأود سؤالك عنه.
التزم مجد الصمت ، في حين تابع الآخر حديثه ببعض التردد:أستاذ مجد، كنت أود سؤالك عن شقيقة خطيبتك.
التمعت عينا مجد بسعادة، واتسعت ابتسامته الخبيثة وقد نجح هو في جذب انتباه هادي إلى آماليا، بل وهو الآن يفكر بها، إذا لن تطول المدة قبل أن تنفذ وصية عمار .
.................
بعد أن حدث هادي بكل ما يعرفه عن آماليا، هاتف خطيبته ليحدثها بآخر التطورات، ولتكون أيضا على إطلاع تام بما يحدث، كانت سعادة نور لا توصف في تلك اللحظات، أخيرا ستنفذ وصية أبيها، فهادي شاب وسيم ويبدو أنه قد أُعجب بآماليا، وسيوقعها في شباكه أكيد، فقد يحتاج إلى بعض المساندة.
كانت أماليا في المشفى، عندما رن هاتفها برقم غير مسجل على قوائم اتصالها، استغربت الأمر بداية فرفضته، لكن الرقم عاد للاتصال وبإلحاح، فقطبت جبينها لتفتح الهاتف ، أتاها صوت هادي مُرحباً وقد عرفته على الفور، رمشت بعينيها باستغراب قبل تسأله: أستاذ هادي ! كيف حصلت على رقم هاتفي؟؟
أتتها الإجابة المتوقعة: لقد حصلت عليه من السيد مجد.
أغمضت عيناها بخيبة، وقد داهمتها مشاهد لقاء أمس، كادت أن تغلق الخط قبل أن يردف الآخر بسرعة: في الحقيقة كنتُ أودّ سؤال حضرتك ، لقد كنت أرغب في عمل بعض التحاليل في مشفاكم، وكنت آمل في مساعدتك.؟
إنها حجة غبية ألا تتفقون معي؟؟
لكنها كانت كافية بالنسبة إلى آماليا لتعلم أنها مجرد عذر ليراها، كادت أن توبخه وتغلق الخط في وجهه، لكنها تمهلت وتروت، تذكرت حديث سائق سيارة الأجرة منذ ليلتين، ومعه الحق كله، فلترمي الماضي خلفها ، ولن تلتفت إليه أبدا، قلبها يستحق بعض الراحة، بعد عذاب تلك السنوات وانتظار شخص من الواضح أنهما لن يجتمعا ....... شخص يبدو أنه ليس نصيبها في هذه الحياة.
......................................
مرّت أيام عدّة، ابتعد فيها أدهم عن كل طريق قد يؤدي به إلى آماليا ، مجبراً قلبه على العودة إلى جهاد الأيام الخوالي، يقضي ليله يحاول إقناعه بأنها ليست نصيبه، رغم تمرد هذا القلب عليه معظم الأحيان، بيد أن علاقته مع مجد لم تتحسن كثيرا خلال هذه الفترة نهائيا.
حاذرت ريما أيضا في تحركاتها وذهابها إلى منزل أيمن ، كأنها هي الأخرى تعرف استحالة جمعها به ، لذلك بدأت في تقليل مرات ذهابها إلى منزل الأخير ، تمهيداً لقطع علاقتها به وبابنته، رغم أنها لا تعرف حقا كيف ستفعلها، خاصة وأن حب الطفلة قد تغلغل داخل شرايينها وتمكن منها.
اما آماليا ، فلم تكن في حال أفضل من كليهما، خاصة وأنها فوجئت بعد يومين من الاتصال المُدبر برؤية هادي في المشفى حيث تعمل، وقد زعم أنه في صدد عمل تحاليل طبية لنفسه على سبيل الاطمئنان ، كما أنها رأته غير مرة في المطعم الذي دعت هدى إليه ذلك اليوم ، كثرت الصدف وتتالت بشكل عجزت عن تفاديها، أو لنقل أنها لم ترغب في تفادي اقتراب هادي منها ، رغم أنها تعامله برسمية كما كانت تفعل مع البقية، الا أن هادي لم ييأس ، ويبدو أن عناده تجاوز رأسها اليابس، حتى شعرت أنها بدأت تستسلم له، ولمشاعر الحب الواضحة في عينيه......
حتى أتى ذلك اليوم، الذي قد يغير كافة المقاييس ، وكعادته، قام القدر بقلب الطاولة على رأس الجميع.
.................................
عاد مجد ليلة أمس وكانت السعادة واضحة في عينيه وعلى تقاسيمه، وقد انتبه كلاًمن أدهم وريما إلى هذا، جلس ثلاثتهم إلى مائدة الإفطار، تبادل أدهم مع ريما نظرات متعجبة، فمجد هذا اليوم جلس معهم، على غير العادة، فهو منذ أن تجادل مع أدهم منذ شهر ونيّف لم يجلس معهم على طاولة واحدة.
شعر أدهم بالريبة منه، فيما هتفت ريما تتساءل بحبور: أراك سعيداً عزيزي مجد، فهلّا أسعدتنا معك؟؟؟
ابتلع مجد مافي جوفه من طعام، ليبتسم باتساع مجيبا: نعم ريما انا سعيد، أخيرا وبعد مجهود شهر كامل نجحت خطتي.
ربما لم تفهم مالأمر، لكن نبرة مجد تبعث على الشك، نظرت إلى أدهم الذي تشاغل بتناول طبقه زاعماً أنه لا يهتم بالحديث الدائر ، لتعيد أنظارها إلى الآخر متسائلة باستغراب: ماذا تعني بحديثك هذا؟؟ ماهي تلك الخطة؟؟
مرّر مجد نظراته على شقيقه المشغول، لينطق بتمهل كمن يتشفى بهزيمة أحدهم: هادي سيتقدم لخطبة آماليا.
رفع رأسه إليه بغتةً كمن لُسِع، شحب وجهه واتسعت عيناه ، ولم تكن ريما في حال أفضل، حيث نظرت إلى أدهم وقرأت في ملامحه مشاعر كثيرة، امتدت يدها لتتمسك بكفه،كأنما تدعمه ،أو تخشى تهوره، فعادت لتسأل مجد بنبرة حاولت جعلها ثابتة رغم اهتزازها خوفا من الإجابة : وهل وافقت آماليا؟؟؟
اتسعت بسمته الخبيثة أكثر، ليدير رأسه ناحيتها مضيفاً بانتصار: ستوافق، أؤكد لك هذا.
استقام واقفاً في اللحظة التالية،ليردف بثقة غير آبهاً لتلك النيران والعواصف الترابية: فهادي كما تعلمين شاب متكامل،وهو حلم كل فتاة، وقد استطاع إقناع آماليا بنفسه، ولن يطول الأمر حتى يتزوجا .
رحل بعد كلماته الحارقة ليصعد إلى غرفته، تاركاً شقيقه الأكبر يحترق كمداً مكانه، كوّر قبضته بغضب حتى اختنق الدم في عروقه، راقبته ريما بحذر وقد بدى على وشك الانفجار، فهمست بخفوت: أدهم، لا تصدق حديث مجد، إنه يتلاعب بأعصابك.
زفر من أنفه متطلعاً إليها، وقد أرعبها مارأته في عينيه، إنها نيران متعاظمة قد تلتهم وتهدم كل شيء، أجابها أدهم بعصبية مكتومة : لا ريما، مجد يلعب بالنار، وسنحترق جميعنا بها ، ولن يجد من يقف بجانبه هذه المرة.
انتفض عقبها بسرعة أسقطت الكرسي خلفه على الأرض، فانتفضت ريما برعب من مغزى كلماته وحديثه،لتراقبه وهي تراه يحثّ خطاه مسرعاً إلى خارج المنزل برمته، مررت كلتا يديها فوق خصلاتها نافخةً بضيق ، ثم رفعت رأسها إلى الطابق العلوي حيث اختفى مجد، لتهمس داخلها: إلى أين تنتوي الوصول بنا يا مجد؟ إلى أين؟؟ !!
.................................
عبث مجد بخزانته الحديدية ،والمخبأة بين ملابسه في خزانة ثيابه، أخرج منها بعض المال، وقبل أن يقفلها وقعت عيناه على ذلك المغلف الأخضر، قطب جبينه باستغراب كأنه يراه للمرة الأولى، نفخ بامتعاض كيف نسي أن يتخلص من تلك التقارير والأشرطة؟؟
حسنا لا يجب أن يبقيها هنا، سيتخلص منها فور أن تتاح له الفرصة، فلا يجب أن يراها أحد أو تقع بين يدي ريما او أدهم، وإلا سيتبعثر كل شيء بناه خلال تلك السنوات.....
.................................
لم تذهب ريما إلى منزل أيمن منذ أيام ثلاث، فأخبرت الصغيرة أباها برغبتها برؤية ريما ، ثم اقترحت عليه أن يدعوها إلى الغداء.
بدت له تلك الحجة منطقية للغاية، وقرر اتخاذها كذريعة لرؤية ريما فقد اشتاقها هو الآخر، رغم رفضه بالاعتراف حتى أمام نفسه، والله وحده أعلم كيف مرت عليه تلك الليالي دون أن يراها.
جعل ابنته هي من تحادثها، ومع سفر شقيقته خارج المدينة ، إذا هذه فرصة قد لن تتكرر يوما، وبعد موافقة ريما على الحضور ، تناقش مع طفلته بشأن ما سيطلباه للغداء، فهو لن يطهو بالتأكيد كونه فاشل أساسا..
بعد مناقشات كثيرة وقع الاختيار على مطعم يقدم أطباقاً هندية، وقد لاقت الفكرة استحسانه كونه وابنته يعشقان الأطعمة ذات التوابل الظاهرة ، خاصة الحريّفة منها.
كانت ريما الصغيرة نشيطة هذا اليوم،فقد تركت فراشها وساعدت والدها في ترتيب الطاولة، كانت تضع الأطباق الفارغة مكانها عندما سمعت صوت الجرس، هرولت بسعادة قبل خروج والدها من المطبخ لتفتح الباب لريما، وقد ألقت بنفسها في أحضانها، عانقتها ريما بكل مودة تزامناً مع خروج أيمن من المطبخ وهو يجفف يداه، عندما رأى تلكم الغزالتين، كأنهما والدة وابنتها، وابتسامة ريما الرقيقة قد زادت محياها الغزلاني نضارة، وقف للحظات يرمقها بنظرات غير مفهومة، تلك الغزالة ستهجره من جديد، لكن هذه المرة ابنته ستتألم معه، اعطفي على العاشق وابنته، ايتها الغزالة الشاردة !!!
رفعت أنظارها إليه لتجده يناظرها بطريقة استغربتها، هل قرأت في عينيه حنيناً؟؟
لم تعرف حقا، فقد أشاح بنظراته عنها قبل أن تفهمها، قائلا وهو يشير إلى الطاولة والأطباق المتراصة فوقها: تفضلي واجلسي.
مررت ريما نظراتها على الاطباق الهندية العديدة، وقد تمكنت من تمييز رائحة التوابل النفاذة عن بعد، حتى انقبضت معدتها جبرا عندما لمحت حبة الفلفل الأحمر الكبيرة في أحد الأطباق، كونها أصلا تعاني حساسية في معدتها من الفلفل الحار.
كادت أن تنطق وتعتذر عن مشاركتهما الطعام، قبل أن تسحبها الصغيرة من يديها إلى كرسيها قائلة بنبرة طفولية محببة: تعالي ريما وشاركينا الطعام، فقد انتقيتُ الأطباق بنفسي.
لم تستطع الرفض، خاصة أن الصغيرة قررت إطعامها بنفسها، ولم تتمكن من تخييبها أو إحزانها، فقررت مشاركتهما ببضع لقيمات.
..................................
جلس الثلاثة في الصالة بعد الغداء الحارّ، ورغم أن ريما لم تكثر من الأكل، لكن يبدو أن معدتها لن تصمد طويلا، فقررت الرحيل بعد شرب الشاي، قبل أن يتأزم حالها.
كان أيمن يخشى من تبعات لقاء ريما بهذه الكثرة منذ البداية ، والآن يجد نفسه بحال أسوأ وهي تقلل من زياراتها ، سيما وأن فؤاده بدأ يغدر به بل ويتمرد على عقله، ليجد نفسه يدور في مدارها من جديد كجرمٍ تائه.
اما هي فلم تكن في حال أفضل، أضف إلى أنها لم تنسه للحظة، لقد زاد مقدار حبه داخلها لتسميته ابنته باسمها ، وكم ودّت لو أنها رأت زوجته من قبل .
كانت قد شردت في ضحكته الآسرة وهو يداعب ابنته بحنان وعفوية ، أجفلت عيناها فجأة حالما رفع خضراوتيه إليها ، لتشيح بصرها عنه وهي تعض على شفتيها بحرج ، ولم يخفَ ذلك عن أيمن ، الذي ابتسم بسعادة نغصها عليه عقله وقد هتف يزجره بغلظة: تروّ أيمن ولا تنسى، إنها الآن امرأة متزوجة !!
تجهمت قسماته وأخفض عيناه عنها مع تلك الخاطرة المقيتة، مهما حاول تناسي تلك الحقيقة فلن يستطع إنكارها أبدا.
كانت الصغيرة تجري في الصالة ، تزعم أنها تطير مع مجسم طائرة، عندما اصطدمت بالطاولة التي تتوسط الصالة عن طريق الخطأ ،انتفضت ريما واقفة من مكانها برعب، بينما هبّ أيمن ليسرع إلى صغيرته وقلبه قد سقط بين قدميه، ضمها إليه في البداية ، ثم تفحص جبينها ليجد أنها قد أصيبت بجرح طفيف في جبينها.
نهج صدرها في جزع وهي تراقب خط الدماء الرفيع الذي نفر من جبين الصغيرة، ثم سمعت أيمن يهمس بعدما تفحصه: لا شيء يستدعي القلق ، إنه جرح صغير.
ثم رفع رأسه إليها طالبا بأدب: هل أستطيع أن أطلب منك أن تجلبي علبة الإسعافات الأولية؟؟
وجهت عيناها الدامعة نحوه ليضيف مشيرا بعينيه وهو يحتضن الصغيرة: إنها في حمام غرفتي.
أشارت له بالإيجاب عدة مرات بحركة سريعة، ثم خطت ناحية غرفته بخطىً متعجلة، وبسبب عجلتها لم تتفطن إلى أنها دخلت غرفته ، غرفته هو !!،
دلفت من فورها إلى الحمام لتأخذ العلبة من الخزانة الوحيدة هناك ، إلا أن سرعتها وتلبكها ساهمت في تحرك الصورة العائلية المسنودة أعلى الخزانة ، لتسقط على الأرض فيتهشم زجاجها، شهقت ريما بفزع لكنها تجاهلتها رغم استغرابها من وضعها هنا، تابعت مسيرها لتتجمد خطواتها خارج باب الحمام بخطوة واحدة.
كان أيمن يداعب صغيرته ويضحكها لينسيها آلمها ، لكنه انتفض برهبة عندما سمع صوت تكسير الزجاج ، وضع رأس ريما الصغيرة على السجادة ، ليفرّ مسرعاً ليرى الأخرى .
رأت صورة زوجته نتالي المسنودة على طاولة صغيرة قرب سريره، جحظت عيناها برعب مما رأت ، لقد كادت تجزم أنها صورتها هي، لولا لون الشعر والعيون المختلفة.
سقطت علبة الإسعافات من يدها لترتطم بالأرض، و تلقائياً استدار رأسها للخلف ناحية الصورة الأخرى والتي انكبّت على وجهها، انحنت لترفع الإطار الذي كُسِرَ زجاجه وتقلب الصورة، تزامناً مع دخول أيمن لغرفته، نظر إليها ليراها وقد رفعت صورة عائلته الصغيرة بين يديها، تجمد جسده عن أي ردة فعل أخرى سوى الوقوف ومشاهدة رد فعلها هي.
شهقت ريما بصوت مسموع ، ووضعت يدها على فمها ، رمشت عيناها بعدم تصديق، ومشاعر كثيرة داهمتها تلك اللحظة، أحاسيس لا تستطيع وصفها، هذا الشبه الكبير بينهما يستحيل أن يكون صدفة، تساقطت عبراتها وقد ارتجف جسدها حينما شعرت به يقف خلفها، ولا تعرف حقا كيف ستنظر إلى عينيه.
التفتت صوبه بهدوء، حتى تلاقت عيناهما، فقرأت داخل مقلتيه ندم وحب، ولا تعرف أيهما اختصها بها، ران صمتٌ قاتل بينهما مشحون بمشاعر كثيرة، حتى همست هي بخفوت: هل أخبرتها عني؟؟
لم يجبها، فأضافت بنشيج: هل كرهتْني؟؟
ظل جامداً وجهه غير مقروء الملامح، لتضيف وهي تشير إلى صورة نتالي: يستحيل أن تقبل الزواج منك لو علمت مدى الشبه بيننا، صحيح؟؟
اهتزت شفتاها متابعة بخيبة وهمس: لقداعتقدت أنك نسيتني وأحببتها، كان هذا لأرحم على قلبي من هذه الحقيقة الموجعة.
ألقت بالصورة أرضا لتتحرك من أمامه، بينما هو كان يقف مكانه دون حديث، حتى نطق قبل أن تصل إلى الباب، : لم أستطع التحرر من حبك.
تجمدت مكانها لتلتفت نحوه،وظهره مقابلا لها، لم تفهم ما يقصده حتى استدار نحوها، لتقرأ الأسى والحزن الذي ارتسم على محياه، فيما عيناه قد احتقنتا بغيوم تنذر بمطر وشيك، ليضيف بنبرة غلفتها القسوة: ماكان لك أن تلعبي على قلبي وتخدعيه، لطالما تمنيتُ أن أتحرر منك لكنني فشلت، حتى ظلمتها معي.
رمشت عيناها ومع كل حركة تتساقط دموعها ألماً، منه وعليه، هي لم تخدعه بل أحبته بكل جوارحها ومازالت للآن، لكن مابيدها حيلة على الواقع والقدر، ظلت تناظره بعينيها الغزلانية ، وقد أقلعت سماؤها فتحجرت الدموع على زاويتها، ابتلع أيمن غصة حادة ليضيف بصوته المتعب: حرريني أرجوك، يكفي ماعانيته من حبك إلى الآن.
رفرفت بأهدابها وهي تزدرد ريقها بصعوبة بالغة، تنفست بعمق لتمنع غصة بكائها من خنقها، ثم تمتمت بصوت هامس: وأنا أيضا أتمنى لو أتحرر من حبك.
ابتلعت ريقها المر مجددا، لتضيف بنبرة اقتلعت قلبها قبله: انسني أيمن وأرحْ قلبك، فأنا أحررك من غرامي.
ألقت كلماتها ثم تحركت من فورها ولم تستطع البقاء اكثر، بقي أيمن ينظر في فراغ مكانها وقد حرر أدمعاً أنهكته، أغمض عينيه بألم وهو يعترف لنفسه لأول مرة، بأن قلبه قد رحل معها.....
أصعب من الجرح الأول، أن تعيد فتحه لتتعمق في الجرح......

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close