رواية ربما لانك انثي كاملة بقلم ندا فرج
في إحدي البيـوت البسيطة بـحى شعبي تقطن "روح" بطلة الحكاية، شابـة عشرينيـة أنهت دراستـها تواً من "المعهد العالي لـالـلغات و التـرجمة"
لـم يصدح هاتفها بـرنين المنبه بعد، فـكانت لا تزال تغطُ بـسُباتٍ عميـق حتـي بدأ جسدها يـتشنج، وجهـها يتصبب عرقاً و تبدو منزعجة بـشكلٍ كبيـر، يبـدو أنـه ذلـك الكابـوس المعتاد، ذلـك الصوت الذي يؤرق منامـها منذ شهور، أحدهم يناديـها، بل يصرخ..يصرخ بـإسمـها و كأنـه يستنجد، و كأنـه يستغيث بها لـإنقاذه قبـل أن يهلك!
إنتفضت مستيقظةً بـعنفٍ، عيناها متسعتان علي آخرهما بـفزعٍ، شفتيها ترتجف و قطرات العرق قد بللت القطعة العلوية من منامتـها الورديـة
أثناء فزعها و قبـل أن تهدأ و يستوعب دماغها أنـه الكابـوس المعتاد كان أحدهم يفتح باب غرفتـها لـتلتفت بـرأسها مصوبـة عينيها علي باب غرفتها بـرعبٍ
تنهدت بـراحة و قد زفرت نفساً طويلاً بعد أن تبينت هويـة الذي طَل عليها
رجل خمسيني بشوش الوجه، إبتسامته البسيطة تُزين وجهـه، و سبحتـه تزين أصابع كفـه الملتفة حولها
جاورها في سريرها هامساً بـهدوء:
*شوفتـي الكابـوس إيـاه؟*
أخفضت عينيها بـيأسٍ هامسةً:
*أيوا يـا بابا، هـو نفس الكابوس إيـاه، أنـا تعبت أوي يا بابا، ياريتني بس أعرف مين دا و عايز مني إيـه!!؟*
شفتيه لم تتوقف عن ذِكر الله همساً و هو يستمع إليها، رفع كفـه لـيضعه علي رأسها ضاغطاً عليـها بـرفقٍ مردداً بعضاً من آيات الذِكر الحكيـم لـبضعة دقائق ثـم أبعد كفـه قائلاً بـجديـة:
*شوفي يـا روح أنـا لسه عند كلمتي يا بنتي إنتِ محتاجـة شيـخ يفسر لنا منامك أو حتي تستشيري دكتور نفسانـي زي ما قولتـي*
تنهدت بـنفاذ صبر هامسةً:
*حصل يـا بابا..إنهاردة هـأروح لـدكتور حجزت معاد معاه إمبـارح*
*عايـزاني معاكِ؟*
ربتت علي يده هامسةً بـإبتسامة ذابلـة:
*لأ يا بابا كفايـة عليك تعب المدرسـة، إنت بـتفضل فيها طول النهـار*
*طـب تعالي نـأكل لقمة سوا قبـل ما أنزل*
*هـأغسل وشي و أحصل حضرتـك*
،،،..،،،
أنهت فطورها مع والـدها لـيُقبل جبهتها و ينصرف إلي عملـه، أما هي فـ لـم تدق ساعـة عملها بعد، لا يزال معها أكثر من ساعتيـن حتي تستعد لـالعمل و قـد طار النوم من عينيها بسبب ذلـك المجهول
جلست بـصالة الشقة -التي تتميز بـأثاث قديم لكن محتفظ بـرونقه- تتصفح بعض الأعمال علي حاسوبها المحمول، صوبت عينيها و كل تركيزها علي عملها متجاهلـة قدر المستطاع كابـوسها المرافق لها منذ أشهر حتـي سمعت تلـك الطرقات علي باب شقتها فـأغلقت حاسوبها و مدت يدها جاذبـة غطاء رأسها الفضفض و الذي سترها من رأسها حتي أسفل ظهرها
فتـحت الباب لـتشتعل عيناها بـغضب ما ان وقعت علي هذا المتسكع السكيـر أمامـها
هتفت بـإشمئزازٍ و ضيقٍ:
*أحمـد! عايـز إيـه؟*
رد بـإستهجان و عينـاه ثابتـة بـوقاحة علي خاصتها:
*إنتِ أكتر واحدة عارفـة أنـا عايـز إيـه كويـس!*
إعتصرت جفنيـها بـشدة ثـم طالعتـه بـكرهٍ هامسةً من بيـن أسنانـها:
*أحمـد!...ما تخلينيـش أكرهـك أكتر من كدا، أرجوك!*
إبتسـم بـسخريـة و هو يهتف:
*أكتـر من كدا!*
إبتعدت إنشاً واحداً و كادت أن تصفع الباب الا أنـه أوقفه بـكفه هامساً بـجديـة و تملـك:
*هـتبقي لـيا يـاروح...لـو مش بـمزاجـك غصب عنـك*
لـم ترد علي كلماتـه و إكتفت بـإبتسامة مستهزئة و هي تمرر عينيها بـإشمئزازٍ علي طول جسده
أبعـد كفـه بـنظرات شبـه غاضبـة لـتصفع الباب بـقوةٍ حتي كاد أن يسقط فوق رأسه
ظل ساكنـاً أمام بابـها، يتآكلـه الغضب و الشـوق في آنٍ واحـد، ثـم ما لبث أن إستـدار مواليـاً الباب ظهره، و قبـل أن يخطو خطوة واحدة همس بـفحيـح مُعتصراً قبضتيه:
*مش هـأسيبـك يـا روح...علي جثـتي إن بقيتـي لـغيري!*
*أحـمــد!*
إلتفت إلي الشقة المقابلـة لـشقة "روح" حيث أتـاه هذا الصوت الصارم
عجـوز تجاوز الستيـن من عمـره، و رغم صحتـه التي تبدو متدهورة إلي حـدٍ ما، الا ان صوتـه كان بـالفعل صارماً، تابـع العجوز بـنظراتٍ قويـة و صوتٍ أقل صـرامة:
*تعالي يـا إبنـي عايـزاك*
تأمل "أحمد" والده قليـلاً بـشرود قبل أن يتحرك متقدماً إليـه بـخطوات هادئـة
،،،..،،،
ربت علي فـخذه هامساً بـنبرة حانيـة:
*صدقنـي يـا إبنـي دي فرصتـك إستغلها*
أطلق "أحمد" زفيـراً يائساً:
*مش هـأقدر...خلاص إنتهت*
*مفيـش حاجـة إسمها إنتهت، مفيش نهايـة غير نهايـة العمر، غيـر كدا طول ما إحنـا عايشيـن في فرصـة تانيـة لكـل حاجـة*
مال والـده مُقرباً رأسه إلي ولـده مدققاً النظر بـوجهـه ثـم سألـه بـجديـة شديـدة:
*إنـت فعلاً بتـحبها يـا أحمـد؟*
إلتفت إليـه بـعينان حزيناتان و بـصوتٍ ساخـر:
*إنـت إللـِ بـتسأل يـا حـاج؟! إيـش حال لو ما كُنتـش إنـت إللـِ بتـدخل تصحينـي تلاقـي إسمها مش مفـارق شفايفي؟!*
*يبقـي تتغيـر...إرجـع أحمـد بتاع زمان يـا إبني و إنسي إللـِ حصل دا قضاء*
رد بـهيئتـه الساخرة:
*طب إنسـي إنـت الأول بعديـن إبقي قولـي الكلمتيـن دول!*
إعتدل والـده في جلستـه مُسنداً ظهره إلي الأريـكة هامساً بـنظراتٍ فارغـة:
*لأ يـا أحمـد أنـا خلاص راحت عليا..لكن إنـت لسه في عز شبابك..ما تخليـش اللي فـات يسرق منـك اللـِ جـاي!*
شردت عينـاه التي يخفـي بهما حُزنـاً دفينـاً و هـو يـهمس رداً علـي والـده:
*إللـِ فـات دا لسـه ما فاتـش يـا أبـويـا*
( عـودة إلـي الماضـي)
بينـما تـدور مناقشـة حماسيـة بينه و بيـن مجموعـة من أصدقائـه، رفـع "أحمـد" رأسـه يمرر عينـيه بين و فـوق أكتاف أصدقائه لـترصد عينـاه أخيـه الأكبـر و هو يخـطو إلي سيـارتـه في النـصف الثانـي من الطريـق، هاتفـه علي أذنـه يُخاطب عروسـه المستقبليـة و يده بـجيبه يُخرج مفاتيـح سيـارته، أطلق "أحمد" صفيراً مشاكساً من بيـن شفتيـه لـيدير أخيـه رأسه لـالخلف فـيضحك لـه بسبب غمزة عينـه الخبيثـة
إرتـفع جسـده أكثـر من مـترٍ كامل عن الأرض، لـيسقط بعدها بـعنفٍ شديـد مرتطماً بـالطريق الأسفلتـي حتي و كأن الأرض قد إهتزت إثر إرتطامه القوي بها
لـم يكتفي قائد السيـارة بـفعلته، بـل تجاهل و تجاوز ما فعل لـيمر بـسيارتـه فوق جسـد الشاب المُلقي أرضاً
أمـام عيـنيا أخيـه الأصغر، حاوط جسد "مراد" بركـة من دمائـه
كل ذلـك بـلحظـة واحـدة حتي أن "أحمـد" لـم يسـتوعب ما حدث، بـل و كأنـه لـم يري فـ ظلت إبتسامتـه المشاكسـة التي يُمازح بـها أخيـه مرسومة علي شفتيـه، ثـم بدأت تتلاشي رويـداً رويـداً و هو يري أصدقاؤه يسارعون مفزوعون إلي جثـة أخيـه، بينما هو لا يـزال ثابتـاً في مكانـه لـم يُحرك ساكنـاً...جامداً يتـأمل ما حدث بـأقل من ثانيتيـن و نـتج عنـه أن شقيقـه الآن مُلقي علي الطريق سابحـاً في دمائـه...
( عــودة)
أغمـض عينيـه مُعتصراً جفنيـه بـألمٍ و غضـب
أحـس بـكف والـده الدافئ الذي يربـت علي كتفـه مواسيـه
*نصيبـهم يـا إبنـي و دا عمرهـم، أخـوك إتـسرق قدام عينيك في لحظـة! فوق إنـت كمان يـا أحمد، سكـة السُكر و الشلة الضايـعة اللي بترمي نفسك وسطهم كل ليلة مش هيـلحقوك و لا هـيفيدكوا لـو آوانـك جيـه زي بـالظبط ما إنـت ما قدرتش تلحق أخـوك!*
تهـدل كتفيـه و إنحنـي رأسـه بـخذي هامساً:
*مش عارف أعمل إيـه! بس أنـا مش قـادر أكمل، مش قـادر أواجـه، أرتـاح إزاي و إللي قتلنـا بـدم بـارد عايش مش داري و لا فارق معاه!*
*ربنـا هو المنتقـم يـا أحمـد*
إبتسامـة حزينـة و عينان تلمعان بـدموعٍ تسترها أهدابـه و هو يهمس لـولـده بـحنوٍ:
*فاكر يـا أحمد أيـام الثانويـة، الأيـام إللي لمـا جات علي أخوك ماكنـش بينام، ساعتها إنـت كنت في إبتدائي..مش فاكر سنـة كام بـالظبط بس كنت بـتحب أخوك أوي، كنت بتعيط عشانـه من كُتـر ما صعبان عليك تعبـه و سهره طول الـليل حتي لو تعبـان، بعدها جيـه دورك و تعبت نفس تعب أخوك مراد، ما كنتش بتنام و متبهدل من محاضرة لـالتانيـة و ساعات في المواصلات و زحمتها، و هو برضو كان بيسهر معاك و ساعات كان بيوديك و يجيبك من محاضراتك، كل التعب دا كان ليـه؟، مش عشان كنتوا حاطيـن هدف قـدام عينيكم،صح ولا لأ؟!*
كانت عينيه قد أدمعت بـفعل الذكريـات، فـخرج صوتـه مبحوحاً هامساً:
*صـح*
*إعتبر روح هدفـك*
نظر لـوالده بـإنتباه لـيحثه علي التوضيـح:
*إنت مش عايـزها تحبك و تقبل تتجوزك؟*
جَز علي أسنانـه هامساً بـعناد و تمرد:
*أنـا مش مستني موافقتها! أنـا هـأتجوزها حتي لو غصب عنـها!*
*الجواز مش بـالبلطجة يـا إبني!*
توترت تعابيـر الآخر و نظر أرضاً بـإستحياء فـوالده أصاب بما قال، بينما إبتسم والـده متفائلاً بـإستجابتـه، فـإستطرد في حديثـه:
*الجواز دا مش إنت و هيَ بس، جواز يعني عيلـة صغيرة، بيت يتعمر بـالحب و التفاهم إلـلـِ بينك و بين مراتـك، لو هيَ مش مبسوطة ولادك كمان مش هيـبقوا مبسوطيـن، تبقي دمرت عيلتك من قبل ما تبنيـها لو فكرت تتجوز واحدة مش بتـحبك يـا أحمد، بُـصِلي*
نظر لـه، لـيسأله مُتعمقاً في نظراتـه:
*بتحبها بـجد يـا أحمـد؟*
إبتلـع غصة مريرة هامساً بـصوتٍ منكسر:
*هـيَ الأمنيـة الوحيدة اللـِ طالبـها من الدنيـا...بعـد ما خدت مني كل حاجـة*
*يبقي ما تأذيهاش و تدمر حاضرها و مستقبلها، دي بنت طموحـة و بتسعي في طريقها يـا تأخد بـإيدها و تسعي معاها في طريق واحد...يـا تبعد عنـها و كل واحد من طريق...دا لو إنـت فعلاً بـتحبها!*
•••••
رفعت يدها إلي وجهـها لـتنظر لـالساعة حول معصمها لـالمرة المليون، تـجز أسنانـها بـغضبِ مُطلقة سُبابات لـنفسها:
*إزاي تروح عليـا نومـة بـالشكل دا؟!!*
فُتح باب المصعـد لـتركض مُتجهة إلي مكتبها
*روح!*
لـم يحتاج الأمر أقل من ثانيـة لـتتجمد مكانـها، هذا الصوت..هـو لا شـك..هـو من يؤرقها منامـها منذ أسابيـع
*أنسـة روح*
هتف صاحب الصوت مجدداً و كأنـه يؤكد لها أنـه هـو بطل كوابيـسها
تجاوزها لـيقف أمامـها فـرفعت عينيها بـبطئ تجول بهما عليـه بتمهلٍ بدايـة من التحديـق بـنعليـه و حتي رأسـه
كان الذهول واضحاً علي معالم وجهـها بما يكفي لـجعله يتسائل بـإستغراب:
*يـا أنسة! في حاجـة؟!*
هزت رأسها بـحركات سريعة تساعد عقلها علي التركيز ثـم ردت بـتوتر:
*لـ..لأ..مفيش حاجـة...إنت إللـِ ندهت عليـا..كنت بتـقول يـا رو....*
*آيوا آيوا...إنتِ شكلك مستعجلة عشان كدا ماخدتيش بالك من اللـِ وقع من شنطتك المفتوحة*
مد يده بـملف يخصها لـتأخذه بـأصابع مرتجفة و هيَ تتسائل:
*إنـت..آ..عرفـت إسمي منيـن*
رد بـسخريـة واضحة بـصوته:
*هو مش الملف دا بتاعك؟متهيألي المفروض يكون عليه إسمك و لا إيـه؟!! عن إذنـك*
كاد أن يتحرك مبتعداً عنها، لكنـها إقتربت منه سريعاً ممسكةً بـساعده تهتف:
*لحظة لو سمحت*
نظر إلي يدها لـتسحبها متأسفةً:
*أها..أسفة..معلش سؤال...حضرتـك إسمك إيـه؟!*
*أفنـدم؟!!*
*إحـم....ما تفهمنيش غلـط....بس أصلي أول مرة...أشوف حضرتك هنا في الشركة!*
*إسمي أدهـم...أدهــم النــجار*
لـتتوسع عينيـها بـذهولٍ و ينطلق من فمها ما يعبر عن دهشتها:
*بتقـول ميــن؟!.......أدهـم النــجار!!*
•••••••
هيَ أشبـه بـالسجينة بعـد ما فُرض عليـها من عقـاب جزاءً لـذنبـها، فـأصبحت غرفتـها هي مسكنـها، حبيسـة بها، ممنوعـة من تخطي عتبتها، ضمت "ملـك" ساقيـها إلي بعضهما و كتفت ذراعيـها عليهما ثـم دفنت رأسها بينهما تبـكي بـصمتٍ تـام، فـلا فائدة من الصيـاح إذا كان القوم فاقـدي السمع!
رفعـت رأسها عندما فُتح باب غرفتها لـتقبل عليها إمرأة عجـوز يبـدو عليها الغضب و نظراتها مملؤة بـالإزدراء
نهضت "ملـك" بـتثاقل لـتركض نحوها، كادت ترتمي بين ذراعيها الا ان الأخيـرة منعتها مشددةً علي ذراعها طاعنـة بـه أظافرها الـمُقلمـة
همست "ملـك" بـمرارة و عيناها تذرف الدموع بـقهرٍ:
*حتـي إنـتِ؟!...حتـي إنـتِ مصدقهم؟!...هيَ دي وصيـة مامي ليـكِ؟!...تقفي معاهم...تعاونيهم علي ذُلـي و كسرتـي؟!*
لـم تـلن لها الأخيـرة و لـم تقل حدة نظراتها و هيَ ترد بـبرود قاسـي:
*إنـتِ إللـِ إختارتـي..إنـتِ إللـِ أجبرتينـا نعمل فيـكِ كدا*
صرخـت بـإنكسارٍ نافضةً يدها عن ذراعها:
*أنـا ما عملتش حاجـة!..ما عملتش حاجـة أنـا مظلومـة*
*شافـك بـعينيه*
*ماحصلـش..و الله ما حصـل، أنـا عمري ما كنت رخيصة عشان أعمل كدا! أنـا إتظلمت و الله...و الله ما كان بـمزاجي..كان..كان..*
*كان إيـه إنطقي!*
إزدادت عبراتها و تعقدت معالم وجهـها بـحسرةٍ و هيَ تشير بـيديها إلي نفسها هامسـةً بـإنكسارِ و إنهيـار:
*كان....كان غصـب عنـي...هما السبب...هما إغـ..إغتصبونـي!*
بـقسوة شديـدة و عينان غاضبتان:
*كدابــة...كدابـة يـا ملـك و ماحدش هـيصدقك*
إستدارت عنـها ثـم و قبل أن تتحرك هتفت بـبرودها القاسي:
*إللـِ بيحصلـك دا مش حاجـة يـا ملـك*
إزداد فزع الأخيرة و إرتعشت أوصالها و هيَ تستمع إلي باقيـة كلماتها:
*هـتدفعي تمن إللـِ عملتيـه غالـي أوي.....أدهـم النجـار مش هـيسيبك!*
ألقت جملتها ثـم أطلقت ساقيها مغادرة تحت صيحات "ملـك" الغاضبـة من بين بكائها و شهقاتـها:
* أدهـم النجـار دا أنـا إللـِ عملتـه!....فلـوسـي و فلـوس بابـي هيَ إللـِ عملتـه!....إسمعي إللـِ قولـته يـا جيـهان....إسمعيـه و قوليـله...قولـيله ملـك النجـار هيٓ إللـِ عملـتك...هيَ إللـِ عملـت أدهــم النـجـار!*
••••••
بـإحدي المدارس الحكوميـة المُشيـدة بـمنطقة عشوائيـة حيث يتردد عليـها أبنـاء عامـة الشعب، و هيَ متخصصة لـالمرحلة الإعداديـة، كان السيـد، مديـر المدرسـة، يجلس خلف مكتبه مستنداً بـوجنتـه إلي قبضتـه و يـبدو أنـه في إنتظار أحدهـم، و بـالفعل أتـاه طرقاً خفيفاً علي باب مكتبه الذي كان مفتوحاً بـالفعل، صوب عينيه بـإتجاه الباب و قد كانت تقف أمامـه سيـدة صغيـرة ترتدي فستانـاً فضفاضاً و علي رأسـها خِماراً يصل حتي نصفها العلوي، بـدت لـه شاحبـة الوجـه مُتعبـة، الهزل بادياً علي جسدها بشكل ملحوظ، أذن لـها بـلطفٍ أن تدلف و ترتاح علي إحدي المقاعد أمام مكتبـه، و فعلت، ضـم الـسيـد "حسـان" قبضتيه معاً قائلاً بـهدوء:
*أنـا سبق و قولتلـك يـا سُهي إن زيـك زي روح بـالنسبالي، حصل؟*
فركت كفيـها معاً بـتوتر و أحنت رأسها و هيَ ترد بـخجلٍ:
*حـ..حـصل*
عاد و تسائل بـتوجس:
* طب أنـا مش كلمتـك إمبارح إنـك لو تعبانـة خدي أجازة؟! عجبـك كدا لما وقعتـي من طولـك و سط زملائك؟!*
أحنت رأسها بـحرج و خزي مكتفيـة بـالصمت، و لـم يخفي علي "حسـان" حرجـها و حزنـها و لأنـه علي علـم بـطبيعة حياتـها فـقد هتف بـإستياء و نفاذ صـبر:
- ما بتطلقيش منـه ليـه؟!! إيـه إللـِ جبـرك ع العيشة مع واحد زي ده؟!! يـا بنتي إنتِ ربنا لسه مارزقيش بـولاد منـه و لسه صغيرة و العمر قدامـك! رابـطة نفسك بيـه ليـه؟! دا حتي مصاريفك إنتِ قدها و متحملاها! قولتـك أنـا مستعد أساعـدك و مش هـأخـ..
بتر جملتـه مذهولاً عنـدما إنخرطت في بكاءٍ عنيـف و قد رفعت كفيها تبكم بهما شهقاتها المتحسرة
تلك الشابـة الجميلة بريئة الملامح رغم الإنكسار و الخذلان الباديان علي ملامحها الرقيقة، تُعلم اللغـة الأجنبيـة الإنجليزيـة بـمدرسة بنين بـحي شعبي، لـم تقوي علي التفوه بـحرفٍ و إكتفت بـالبكاء لـربما تخلصت من بعض المشاعر المتهشمة التي تكبتها و تخفيها بـصدرها
تأمل "حسـان" هيئتـها المثيرة لـالشفقة بـحزنٍ شديـد، فـلطالما أشرف علي رعايتها، إلي جانـب روح، منذ صغرها بعد وفـاة والدها و الذي كان زميلاً في المهنة و جاراً في الحي، و صديقاً حميماً، أخذ يواسيها متغاضياً عن غضبه حتي تهدأ، حتي همست بـألمٍ عنيـف و صوت متحشرج:
* الموضوع....مش سهل....لو فكرت..أطلب الطلاق..مش هـيسبني في حالـي...هـيأذني..حضرتـك مش فاهـم..مُعاذ مريـض!*
••••••
و كأن تلـك السيـدة لا تتخلي عن بـرودها و شموخها؛ فـها هيَ تسيـر عبر هذا الرواق الطويـل و ذقنها لأعلي، ظهرها منتصباً بـإعتدال شديـد و كذالـك أكتافها، توقفت عن السير ما ان سمعت جلبة عاليـة و أصوات متداخلة، إلتفتت إلي حيث مصدر تلك الجلبة لـتقع عيناها علي شـابِ ثلاثيني ذا جسد ريـاضي، يعتلي الغضب قسمات وجهـه و وجهتـه واضحة إنها غرفـة تلك السجينـة
تركض خلفـه فتـاه لـم تتجاوز العشرين من العمر، ترتدي ثوبـاً رسميـاً خاص بـالخدم، الفزع بائن علي وجهـها و هي ترجوه برهة و برهة تمسك بـذراعه في محاولة لمنعـه عما ينتوي:
* يـا معتـز بـاشا أرجـوك إهدي..أنـا هـأروح أكلـمها و هـأخليها ما تتكلمش والله..بس حضرتـك ر....*
*زُهـرة!*
توقفت "زُهـرة" عن إلحاحها و هتافها مُصوبـة عينيها نحو السيـدة الصارمة و ما لبث أن عادت هاتفةً بـرجاء:
*قوليله حاجـة يـا مـدام چـيهـان*
ردت الأخيـرة بـجديتها المعهودة:
*إنصرفي لـشغلك يـا زُهرة، و تانـي مرة إيـاك تتدخلي في شئون عيلـة النجـار، مفهـوم كلامي؟*
تهدلت أكتاف "زُهـرة" و همست بـإحباطٍ و هيَ تعود أدراجها:
*حاضـر يـا مـدام چـيهـان*
راقبتها "چـيهـان" حتي إبتعدت ثـم إلتفتت إلي "معتـز" الذي لـم يتوقف عن سيره و كان كاد وصل إلي غرفة "ملك" و لكن صوتـها الصارم منعه من قطع أخر خطوة تفصله عن غرفتها:
*معتـز!*
إستـدار إليها بـجسده كاملاً و عينـاه تُطلقان شرارت السخط، خطت إليـه بـخطواتها المتزنـة حتي أصبحت أمامـه و بـنبرة فارغـة هتفت:
*سيبـها يـا معتـز..حسابها مع جوزهـا*
صـك أسنانـه بـبعضها هامساً:
* و أنـا أخوها و إللـِ ما عملتوش في أمريـكا هـأعمله دلوقتِ*
كادت أن تـرد لكن آتاهما صراخها من خلف الباب:
*تعالــي يـا معتـز..تعالــي إضربنـي و عاقبنـي علي حاجـة ما عملتش..تعالــي ما جاتش عليـك*
جز أسنـانـه أكثـر و أعمـاه الغضب فـكاد أن يكسر الباب لا ان يفتحها، لكن "چـيهـان" قد أمسكت بـه بـكلتا يديـها هاتفـةً:
*ما تردش عليـها يـا إبنـي، ما تنساش كلام أدهـم، سيبـها منها ليـه*
تراخي جسـده المشدود قليـلاً دون أن تضئ ظُلمة عينيه، ركل الباب بـقدمه بـعنفٍ ثـم إستـدار عائداً من حيث أتي
تأملت "چـيهـان" الباب بـصمتٍ و شرود مستمعتةً إلي شهقات الأخيـرة و نبرتها التي بُحت من البكاء و الصراخ!
••••••••••
الفصل الثاني من هنا