رواية بعد الانتظار كاملة بقلم براء الهواري
رواية بعد الانتظار " الفصل الأول "
" اللقاء الأول "
في أحدى قاعات الاحتفالات و الندوات بجامعة القاهرة ، كانت تقف هي بين الصحفيين و الإعلاميين تتحدث عن روايتها الجديدة و مدى النجاح الباهر الذي حققته منذ صدور الطبعة الأولى لها ، إنها الكاتبه " نور عز الدين "
أصغر دكتورة مصرية في مجال الأدب العربي .
كان هناك شاب و فتاه يشاهدانها من بعيد بفرحة عارمة و نظرات الفخر و الاعتزاز فقال الشاب :
- هو بابا اتأخر ليه ؟ ، ده خلاص أول ما الصحفيين يخلصوا معاها الندوة هتبدأ.
نظرت الفتاة في ساعة يدها بقلق و هي تقول :
- مش عارفه بصراحه ، بس زمانه على وصول إن شاء الله.
أنهت حديثها مع الصحافة و هي تلتفت حولها بحثاً عن زوجها لا تعلم لما تأخر إلى هذا الحد و لكن حين التقت عينها بعيون اولادها الواقفين بعيداً اطمأنت قليلاً حين ابتسموا لها ليحاولوا التخيف من تورترها.
بدأ رئيس الندوة بالتحدث فانتبه له الجميع :
- بسم الله الرحمن الرحيم ، نرحب بكم أيها السيدات و السادة ، اليوم اجتمعنا هنا كي نكرم نموذجاً من نماذج النجاح ، نموذج نتمنى لو تقتدي به الأجيال القادمة ، إنها أصغر دكتورة في الأدب العربي ، رحبوا معي بالدكتورة " نور عز الدين "
أخذ الجميع يصفق لها و لكنها كانت تنتظر التشجيع من شخصٍ أخر ، صعدت إلى منصة الحوار و عينيها معلقتان على باب القاعة و الحزن يكسوا ملامحها ، حاولت الحفاظ على نبرة صوتها طبيعية و لكن ملامحها باتت فاترة و كأنها ليست سعيدة بتلك اللحظة ، و لكنها كانت مضطرة لبدء الحديث :
- مساء الخير ، أنا حقيقي سعيدة جداً بالتكريم و سعيدة بصدور الطبعة الأولى من روايتي الجديدة " بعد الانتظار " .
كانت تتحدث و عينيها معلقتين على باب القاعة و حين وجدته يدخل مسرعاً تهللت أساريرها و ارتسمت ابتسامة كبيرة فوق شفتيها ثم تابعت حديثها بسعادة.
- حابه في البداية اشكر كل الناس اللي كانوا دايماً بيدعموني و صدقوا في حلمي و اني ممكن ابقى كاتبة كبيرة في يوم من الأيام ، و عندي شكر خاص لاكتر انسان تعب معايا عشان اكون واقفه قدامكم النهاردة و استحملني بكل حالاتي و قلقي و فرحتي و هو زوجي سليم مدكور .
بعد وقتٍ قليل انتهى الجميع من الحديث و قد انتهت هي أيضا من توقيع روايتها للقراء ، و كانت تقف مع عائلتها الصغيرة و الابتسامة لا تفارق وجهها خاصة حين قالت ابنتها :
- بجد يا ماما احنا فخورين بيكي جداً ، ماتتخيليش اصحبنا عملوا ايه لما عرفوا ان الكاتبة نور عز الدين تبقى مامتنا و انك جاية عندنا الجامعة عشان الندوة و التكريم أصلاً كلهم سابوا المحاضرات و جُم حضروا الندوة.
نظرت لهم و زادت ابتسامتها فقال زوجها :
- أنا بقى فخور بيكي من أول يوم عرفتك فيه .
جاء رجل يبدو في أواخر العقد الخامس من عمره و اقترب من نور ليُهنئها قائلاً :
- الف مبروك يا نور .
رحبت به نور بحرارة و قد بدأت تعرف عائلتها عليه :
- ده يبقى الدكتور مسعود كان بيشرف على رسالة الدكتوراه بتاعتي من حوالي سبع سنين .
رحبوا به جميعاً و قد قدمت له نور نسخة من الرواية كانت تمسكها بيدها و قالت :
- دي عشان حضرت.
اخذها من يدها و قال بابتسامة :
- من قبل ما أقرائها عارف انها حلوة.
****
مر اليوم سريعاً و عاد الجميع إلى منازلهم و قد بدأ الدكتور مسعود في إعداد قهوته المسائية و تأهيل الجو المحيط به ليجلس داخل غرفة مكتبه في هدوء و يبدأ في قراءة رواية تلميذته النجيبه " نور " فدائماً كان يقرأ أعمالها و يدعمها لتسير في هذا الطريق ، و قد بدأ يقرأ بصوتٍ بالكاد يُسمع.
اللقاء الأول
أستيقظت كعادتها في الساعة السادسة صباحاً ، نهضت بشعورٍ ما بين الكسل و النشاط ، فقد نامت في وقتٍ متأخرٍ ليلة أمس ، بعد التأكد من إتمام جميع ما هو لازم لحفل زفاف أعز صديقاتها " نهى " الذي سيُقام اليوم . أخذت حجابها و وضعته على شعرها البني بشكلٍ فضفاضٍ قليلاً قبل أن تفتح نافذة غرفتها و تُطل منها على ذلك الشارع الهادئ الذي تسكنه بحي المعادي ، فما أجمل هذا الحي الذي ظل و سيظل محتفظاً برقيه مهما فات عليه الزمان أو مر.
أغمضت عيناها البنيتين و استنشقت بعض الهواء النقي و قد أخذت بعض النسمات اللطيفة تلفح بشرة وجهها القمحية برفقٍ و هي تعود بذاكرتها لأيام الطفولة و سنين الصبا ، و رغم أن السعادة لم تطغي عليها كثيراً إلا أنها ستظل ذكرياتها التي لا يمكنها نسيانها.
لم يطل وقوفها هكذا كثيراً و انما ذهبت لتتوضئ وتُصلي الفجر و و فجأة وجدت الدموع تسيل من عينيها و هي ساجده تدعو الله بكلمة واحدة - يا رب - فكلما قالتها تشعر و كأنها جبلاً قد انزاح من فوق صدرها.
نهضت بعد اتمام فريضتها و ذهبت لارتداء ملابسها كي تبدء يوم جديد تتمنى من الله أن يكن أفضل من ذي قبل ، أخذت تنسق اللمسات الأخيرة لملابسها قبل الخروج من الغرفة فهي تهتم كثيراً بمظهرها و لذلك تحاول قدر الإمكان الالتزام بما هو مناسب للحجاب و مناسب أيضاً للموضة الحديثة .
****
حين خرجت من غرفتها وجدت شقيقتها " ريماس" جالسة تذاكر ، بينما والدتها " منى " كانت تُعد الإفطار و لم ترى والدها فعلمت أنه مازال نائماً فمنذ أن تقاعد عن العمل و هو لا يفعل شئ سوى النوم أو الشجار معهم و رغم أنهم اعتادوا على ذلك منذ سنوات إلا أن الأمر زاد أكثر في الآونة الأخيرة .
ألقت تحية الصباح على شقيقتها قبل ان تتجه للمطبخ حيث تقف والدتها الحبيبة فالقت عليها نظرة صغيرة امتزجت بابتسامة منكسرة حزينة على شقاء هذه السيدة التي صبرت و تحملت مالم يتحمله بشر من أجلها هي و شقيقتها ، التفتت والدتها لتجدها واقفه تتأملها بهدوء فقالت :
- صباح الخير يا فريدة.
ابتسمت فريدة بصفاء قالت :
- صباح النور يا ماما.
- يلا عشان تفطري.
- لا يا ماما أنا مش هلحق ، ده أنا يادوب هنزل أنا و نهى نروح الشركة عشان نقابل سلمى .
- ربنا يسر اموركم يا بنتي.
- و الله يا ماما أنا حياتي ماشية بدعواتك دي.
قبلت جبينها فور الانتهاء من جملتها و من ثم خرجت متجهه لغرفة والدها على مضض و ايقظته فيجب أن تخبره قبل أن تذهب.
- صباح الخير .
القت عليه التحيه فبادلها ببرودٍ قائلاً :
- صباح النور .
- أنا نازله يا بابا .
- هتروحي فين بالضبط ؟
- يا بابا ما أنا قلت لك إمبارح بالتفصيل .
رمقها بشراسة و قال بنبرة غاضبة :
- إيه قلت لك إمبارح دي !! ، قلتي لي و سألتك تاني يبقى تجاوبي تاني .
حاولت الحفاظ على أعصابها قدر الإمكان ؛ فهي لا تُريد أن يتعكر مزاجها اليوم بالتحديد لأنه يوم مميز للغاية فصديقة طفولتها و جارتها ستتزوج من تحب ، فتجاهلت كلامه و قالت :
- الأول هروح الشركة عشان أخد اذن ، و بعدها هروح أنا و سلمى مع نهى عند الكوافير .
- و هترجعي أمتى ؟
- هرجع بعد الفرح ، يعني هرجع أمتى يا بابا !! .
- يعني أنتوا هتفضلوا طول النهار في الكوافير ؟
- ايوه يا بابا مش على ما الكوافيرة تخلصنا كلنا ، و كمان العريس لازم يجي ياخد نهى من هناك .
- انا شايف ملوش لزمة مرواحك معاها عند الكوافيرة أصلاً .
شعرت أنها سوف تنفجر من الغضب و لكنها حاولت السيطرة علي نفسها :
- أزاي يعني يا بابا !! هي أي واحدة اللي هتتجوز دي نهى ، يعنى لازم أكون معاها طول اليوم .
- ياريت ما تتأخروش بليل .
- أكيد يعني يا بابا مش هسيب الفرح و أمشي ، لما الفرح يخلص هاجي ، و كمان ريماس و ماما هيكونوا معايا .
- أنا قلت اللي عندي ، اتفضلي انزلي .
خرجت من الغرفة و ذهبت إلى المطبخ مرة أخرى ، و النار تشتعل بداخلها ، و لحقت بها ريماس التي سمعت الحوار كاملاً ، نظرت فريدة لوالدتها قائلة بغضب :
- أنا تعبت مش قادرة استحمل أكتر من كده بصراحة .
- إيه اللي حصل ؟
- لأ مش هقدر أعيد كل اللي اتقال جوه تاني ، كفاية حرقت الدم اللي أنا فيها ، خلي ريماس تحكيلك .
كادت ريماس تتحدث و لكن سمعت والدها يُناديها
فتأففت ، و تركتهم مُتجهه لغرفته .
- أختك نزلت ؟
طرح سؤاله على ريماس لتجيبه قائلة :
- لأ يا بابا لسه .
- ليه بتعمل إيه ؟
- في المطبخ بتشرب يا بابا .
- ماشي روحي و شوية و ابقى تعالي صحيني .
- حاضر .
- أنتِ درسك الساعة كام ؟
- الدرس الساعة واحدة ، هخلص الدرس و أروح لفريدة الكوافير .
- هتروحي ليه ؟
- يعني اشمعنا أنا يا بابا ما كلهم رايحين .
- خلاص روحي .
أطفأت ضوء الغرفة ، و خرجت غالقه الباب خلفها ، اتجهت إلى المطبخ و لكن لم تجد سوى والدتها .
- فين فريدة ؟
نطقت ريماس جملتها حين دخلت المطبخ و لم تجدها ، فاجابتها والدتها :
- راحت لنهى ؛ عشان ينزلوا .
****
دقات على الباب أصدرها فريدة و كأنها تقرع الطبول بلحن فرح و سعادة ، إلى أن فتحت لها الباب إمرأة في العقد الخامس من عمرها ، عينيها تلمع بالدموع و ترتسم على شفتيها إبتسامة اجتهدت في اظهارها ، دخلت فريدة و أغلقت الباب خلفها ناظرةً لتلك المرأة في تساؤل قائلة :
- مالك يا طنط أمل ؟
لم تستطيع أمل أن تمنع دموعها أكثر من ذلك فتركت لها الحرية لتنهال على وجنتيها بأسى .
اقتربت منها فريدة و احتضنتها ، ثم ابتعدت عنها قائلة بمرح :
- يعني عشان أنتِ أم العروسة فاكراني هتنازل عن القوانين ، مش أنا برضو قلت أن مافيش حد هيعيط النهارده ولا إيه ؟!!
- مش قادرة يا فريدة ، على قد ما قلبي فرحان بيها على قد ما بيتوجع بفراقها عني ، أنتِ عارفة إنها بنتي الوحيدة ، و خلفتها على كبر ؛ عشان بعد الجواز قعدت عشر سنين مش بحمل .
قالت أمل ذلك الكلام و هي تمسح دموعها بحزن و ألم ، انتبهت فريدة لنهى القادمة إليهم قائلة بإبتسامة :
- صباح الخير يا فريدة ، أنا خلاص حضرت كل حاجة تعالي بس تأكدي أني مش ناسيه حاجه هنا ولا هنا.
نظرت فريدة لأمل نظرة تعني بها أن تكف عن البكاء كي لا تنتبه لها نهى ، واتجهت فريدة مع نهى لغرفتها لتتأكد أن كل الأغراض التي يحتاجون إليها في الحقيبة ، و من ثم حملت فريدة الحقيبة و اتجهت خارج الغرفة و هي تعتقد أن نهى تسير خلفها ، و لكن سُرعان ما لاحظت أنها مازالت واقفة في الغرفة ، فعادت لها قائلة :
- يلا يا نينو أنتِ بتعملى إيه كل ده .
ولكن نهى لم تكن تسمعها فهي الآن في حالة غريبة حالة تشعر فيها بشعور غريب ، شعور بأنها ترى تلك الغرفة لأخر مرة ، و كأنها لن تراها ثانيةً ، كانت تتأمل كل ما فيها وكأنها تخزنه بعقلها على هيئة صور تذكاريه .
انتشلتها من تلك الحالة والدتها حين جاءت تقول :
- مش هتيجي تسلمي على باباكي قبل ما تنزلي .
نظرت لها نهى و من ثم خرجت من الغرفة ، و هي تشعر أنها مهما تهربت من تلك اللحظة فإنها حتماً ستأتي ، لحظة الوداع ....
التي جلست تفكر فيها من يوم أمس ، و إمتلأ قلبها حزناً بمجرد التفكير بها فماذا سيحدث الآن و هي على أعتاب تلك اللحظة .
دخلت على والدها فكان جالساً في غرفة المعيشة
يتصفح الجريدة ، نظرت إليه و لكنه لم يشعر بوجودها أو بمعنى أدق تجاهله ، رُسمت إبتسامة ساخرة على ثغرها ، فهي قد علمت أنها ليست الوحيدة التي تخشى تلك اللحظة و إنما الجميع يخشاها .
اقتربت منه أكثر وقد حاولت إظهار التماسك و القوة في صوتها قائلةً :
- بابا انا هنزل مع فريدة علشان نروح للكوافير .
جاءها رده و وجهه مُختبئ خلف جريدته :
- ماشي .
لم ينطق سوى تلك الكلمة و لم ينظر إليها حتى ، ولكنها لم تود أن تضغط عليه ، و شعرت أنه أراحها بذلك التصرف الذي فعله ؛ لأنه إن قام و احتضنها مودعاً إياها فإنها ستنهار في سيلاً من البكاء .
خرجت من الغرفة و بمجرد خروجها ترك والدها الجريدة ، و مسح عينيه التى إمتلأت بالدموع حزناً على فراق إبنته الوحيدة ، فهو لا يتخيل كم سيكون المنزل كئيب بدونها .
اتجهت إلى فريدة التي كانت واقفة مع أمل عند باب الشقة تنتظرها ، و كانت تشعر أن والدتها أيضاً تتحاشى النظر إليها خوفاً من أن تنهار إحداهما بالبكاء .
****
أثناء نزولهما على السلم تحدثت نهى قائلة :
- احنا هنعمل إيه بالضبط ؟
- لأكده كتير عليا لسة هاعيد السيناريو من الأول ، أمري إلى الله بصي يا ستي أولاً هنروح الشركة عشان نقابل سلمى ، و أنا و هي ناخد أذن النهاردة ، و بعد كدة نطلع كلنا على الكوافير ، و الباقي مش محتاجه احكيه أكيد أنتِ عارفه .
تنهدت نهى قائلة بتوتر :
- تمام ، يا رب اليوم يعدي على خير .
- إيه التشاؤم اللي أنتِ فيه ده ، يا بنتي النهاردة فرحك .
****
في أثناء طريقهما للشركة لاحظت فريدة شرود نهى ، و رأت على وجهها ملامح لم تستطع تفسيرها ، هل هي ملامح فرح أَم حزن أَم قلق ، لا تعلم ولكن استوقف تفكيرها تذكر ما حدث في بيت نهى قبل رحيلهما .
سندت فريدة رأسها لنافذة التاكسي الذي يقودهما للشركة و أخذت تفكر ، لما تكون الفتاة حزينة في ذلك اليوم ؟ أليس من المفترض أن تكون سعيدة ؟
فها هي على أعتاب حياة جديدة ستعيشها بإرادتها مع شخص تحبه ، و ستترك كل ما في حياتها من روتين و أعتياد ، لتبدأ صفحة جديدة تختار فيها كل شئ حسب ذوقها ، ليس مثل حياتها السابقة فهي لم تختار والديها ، و لم تختار المكان الذي عاشت فيه ، و لكن في تلك الحياة الجديدة هي من تختار شريك حياتها كما تريده أن يكون ، و تختار المكان الذي ستُقيم فيه ، فلما هذا الحزن ؟!
دفعها الفضول فسألت عن السبب و كان جواب نهى :
- لما يجي اليوم اللي تكوني فيه مكاني هتعرفي قد إيه اللحظه دي مُحيره و صعبه ، مش قادرة تحسي إنك فرحانة لأنك بتسيبي بيت أهلك اللي عيشتي فيه عمرك كله ، و تروحي بيت تاني مش متعودة عليه مع شخص تاني ، صحيح بتحبيه لكن مجربتيش تعيشي معاه في بيت واحد قبل كدة ، و كل الحاجات دي طبعاً لما بتيجي على بالي بتوترني و تقلقني ، إلى جانب طبعاً حرصي الشديد على إن اليوم يمشي مضبوط جداً .
للحظة شعرت أن نهى تتحدث مثل إمرأةٍ كبيرة ، متزوجة منذ عدت سنوات ، بالرغم من أنهما في مثل العمر ، و لكن شعرت فيها بالنضج المُفاجئ ، شعرت أنها بدأت تفكر بعقلها على عكس أيام خطبتها حيث كانت تحسب كل الأمور بقلبها ، و تسير خلف مشاعرها و أحاسيسها ، و لكن أعتقدت أن شعورها حين يأتي يوم زفافها سيكون مُختلفاً تماماً ، فهي لا تطيق العيش في بيتها ، و تود أن تخرج منه اليوم قبل الغد ، فما أن تخرج منه ستكون في قمة سعادتها ، و لا تعتقد أنها ستشعر بالحزن أبداً ، على الرغم من أنها مُتعلقه للغاية بوالدتها و شقيقتها ولكن هي لا ترى أن الزواج سيُبعدها عنهما ، لأنها ستراهما في أي وقتاً تريد ، و لكن ستكون قد هربت من قسوة والدها لأحضان رجل يفيض قلبه بالحنان .
****
صعدت فريدة إلى الشركة و دخلت غرفة يوجد بها
ثلاث مكاتب تجلس فتاة خلف إحداهم ، و تنهض عند دخول فريدة مُتوجه كلاً منهما نحو الأخرى لتقبلها و تحييها ، و من ثم تتجهان إلى مكتب المدير و تسمح لهما السكرتيرة بالدخول ، و عند دخولهما تحدثت سلمى قائلة :
- صباح الخير يا مستر أمجد .
تعلق نظره بفريدة بينما يرد على سلمى قائلاً :
- صباح النور .
أردفت سلمى :
- أنا و فريدة عايزين ناخد اذن ؛ لأن النهاردة فرح نهى زي ما حضرتك عارف ، و على فكرة هي بتأكد على حضرتك إنها هتتشرف بحضورك .
نظر لها هذه المرة وهو يُحدثها قائلاً :
- مسموح لكم بالاذن ، و بالنسبة لموضوع الفرح قولي لنهى إني هحاول أكون موجود لكن مش ضامن ظروفي بجد .
نظرت له بأمتنان قائلة :
- شكراً لحضرتك ، عن اذنك .
خرجت سلمى ، و كادت فريدة تلحق بها و لكن استوقفها أمجد حين قال :
- فريدة .
التفتت له بعيون مُتسائلة عن سبب النداء ، فأجاب تساؤلها قائلاً :
- فكرتي في الموضوع اللي عرضته عليكي يا فريدة.
- لأ لسة .
- طب ياريت تفكري في أقرب وقت ممكن .
- حاضر بس أصل الموضوع ده محتاج تفكير بهدوء ، ده جواز مش لعبة ، و أنا اليومين دول كنت مشغوله و مضغوطه .
- تمام ، هنتظر ردك .
- عن اذنك .
خرجت فريدة من المكتب لتجد سلمى تنتظرها ، فتتجهان إلى المصعد الكهربي و في أثناء نزولهما تحدثت سلمى :
- كان عايز إيه ؟
فريدة :
- بيسأل إذا كنت فكرت في موضوع إنه عايز يتقدملي .
تحدثت سلمى بتساؤل :
- و أنتِ فكرتي ؟
- بصراحة مش عارفه ، بس مش مرتاحه أوي يعني ، خايفة اخرج من نار بابا عشان أعيش في جهنم مع أمجد ، أنتِ عارفه أنه عصبي و معاملته شديدة.
- مش جايز يكون معاملته كده مع الناس في الشغل بس ، و معاملته معاكي بعد الجواز تختلف ؛ لأنك هتكوني مراته مش موظفة عنده.
- بصراحة مش ضامنه .
و هنا وصل المصعد للدور الأرضي فخرجت كلاهما
و مُتجهتان للتاكسي الذي تنتظر فيه نهى .
****
أخذت فريدة تتأمل نهى بعد أن ارتدت فستانها الأبيض ، و حاوطت وجهها بالحجاب ، إلى جانب مستحضرات التجميل التي زادتها جمالاً على جمالها فأصبح وجهها مثل البدر المُنير .
رن هاتف نهى و الذي كان موضوعاً في حقيبة فريدة فأخذته و اتجهت إليها ، و أعطتها إياه ، و كان المتصل هو رامي " العريس " .
جائت سلمى فالتفتت لها فريدة تتأمل فستانها الأحمر الأنيق و حجابها الذي زينها قائلةً لها بأبتسامة :
- قمر يا سلمى .
نظرت لها سلمى بإبتسامة تعلو ثغرها قائلة :
- أنتِ اللي قمر ، ده كفايه عنيكي البني دي .
ابتسمت و تمنت ها من كل قلبها قائلة :
- يا رب أشوفك بالفستان الأبيض يا حبيبتي .
فقالت سلمى بمرحها المعتاد :
- بصراحة أهم حاجة إن الفرح ده ما يعديش من غير ما أطلع بعريس ؛ لأن بجد انتظار فارس الأحلام اللي كنا بنحلم بيه و إحنا صغيرين مش جايب نتيجه.
كادت فريدة تتحدث و لكن قاطعها مجئ فتاة تعمل بالمكان قائلة :
- العروسة عايزاكم .
ذهبت سلمى و قبل أن تلحق بها فريدة سرقت نظرة سريعة على مظهرها في المرآة الكبيرة الموجودة أمامها ، و أخذت تبتسم حين شعرت بالرضى عن مظهرها أو لدقة التعبير أعجبها بشدة ، خاصةً فستانها الأسود الطويل .
جاءت ريماس لتُخبرها أنه حان وقت خروج العروس فعريسها لا يطيق الانتظار في الخارج أكثر من ذلك ، و يود رؤية حبيبته.
****
خرجت نهى بطلتها الساحرة ، و فستانها الأبيض ، على جانبها الأيسر تسير سلمى و على الجانب الأيمن فريدة و بجوارها ريماس ، اتجهت العروس مباشرةً بأتجاه عريسها المرتدي حلته السوداء ، حين رأها ابتسم بسعادة تتعدي حدود القلب ، و تقدم نحوها ، و حين تقابلا في نقطة الوسط أمسك هو بيدها مُقبلاً إياها بحب.
****
وصلوا جميعاً و مر بعض الوقت و من ثم اعتليت فريدة المسرح الخشبي الصغير الموجود بالقاعة و هدأت
الأضوء لتُصلت على نهى و رامي اللذان كانا يرقصان سوياً ، وشعاع من الضوء الخافت مُصلت على فريدة التي بدورها تركت لصوتها العنان ليشق طريقة للمرة الأولى و يغني في حفل زفاف أمام عشرات من الناس ، فهي لم تغنى قَط أمام ذلك العدد ، و كان أقصى ما تحلم بِه أن تغنى بين أصدقائها في المدرسة أو الجامعة و الذين لا يتجاوز عددهم عشرة أشخاص تقريباً .
لاحظت أنظاره المتعلقه عليها أثناء غنائها ، كانت تحاول أن تسترق النظر إليه ، لا تعلم لما كانت تفعل ذلك بالرغم من أنه شخص لا تعرفه ، و لكن من الممكن أن يكون قد لفت انتباهها بسبب اهتمامه و نظراته المُصوبه تجاهها مباشرةً ، مما جعلها في قمة الإحراج و الارتباك ، فأشاحت نظرها عنه بسرعه ، وأكملت الغناء .
****
بعد انتهاء فريدة ذهب العروسين إلى مقعدهما
" الكوشة " ، و اندمج الجميع في أجواء الفرحه العارمه .
وحين كانت تقف فريدة مفردها سمعت صوتاً رجولياً من خلفها يقول بشموخ :
- يا أنسة.
توقعت أن النداء لها لأن الصوت كان قريباً منها للغاية ، فألتفت لتجده ذلك الشاب الذي كان ينظر لها أثناء غنائها واقفاً أمامها مباشرةً ، عادت للخلف خطوتين من الارتباك ؛ لتزيد المسافة بينهما ، و مرت علينا عدة ثواناً و كأنها ساعات ، كانت فيها تتأمل ملامحه التى جمعت بين الرجولة و الحنان ، و علمت أن هذا ما جذب انتباهها له في المرة الأولي ، كان شعره كثيف و بني اللون ، بشرته قمحيه ، و له لحية مهذبه تزيد من وسامته ، أما عن عيناه فبنيتين يذوب بسحرهما من ينظر إليه ، كانت عيناه حادتان كالصقر و لكن بالرغم من ذلك كان بهما حنان لم تره بعين رجلاً قَط .
و أخيراً قرر هو أن يقطع ذلك الصمت قائلاً :
- مساء الخير .
ثم مد يده لها قائلاً بابتسامة :
- كريم .
نظرت له تارة و ليده الممدوده لها تارة أخرى بحرج ، فلاحظ هو ذلك و لكي لا يحرجها سحب يده و غير سياق الحديث قائلاً :
- صوتك جميل جداً .
إبتسمت قائلةً بإمتنان :
- ميرسي .
و كانت تلك أول كلمة تنطقها منذ بدأ الحديثه ،
ظل صامتاً لثواناً كأنه يود قول شئ و لكن متردد ، و أخيراً قرر أن يقوله :
- تسمحيلي بالرقصة دي .
نظرت له في صمت و كان بداخلها صراع بين الموافقة و الرفض ، حسمته ريماس حين جاءت تقول لها :
- نهى عايزاكي يا فريدة .
نظرت لها بلامبالاه قائلةً :
- حاضر .
لم تمهلها ريماس فرصة حيث أخذتها من يدها و هي تقول :
- يلا بسرعه .
فذهبت معها و عيناها معلقتان عليه دون النطق بأي كلمة ، بينما أخذ هو ينظر لها و يتأمل عينيها التي تنظران له أثناء رحيلها و يتأمل ملامحها الهادئه البريئه و قال بصوت منخفض مع إبتسامه خفيفه :
- فريدة .
و كأنه يُجرب اسمها بين شفتيه ، لا يعلم ما الذي شده لتلك الفتاه بالتحديد ، هل هو صوتها الذي لامس قلبه أم نظراتها الساحرة أم ماذا بالتحديد ، أياً كان السبب لكنه في النهاية شعر ان رؤيته لتلك الفتاة لن تكون مجرد صدفة عابره .
****
وقفنن جميع الفتيات خلف نهى ينتظرن أن تُلقى لهن باقة الورد و كل واحدةٍ منهم تتمنى لو تأخذها و بالرغم من أن فريدة كانت واقفه بعيداً إلا أن باقة الورد جائت لها و كأنها تعرف طريقها جيداً ، و بعد أن أخذتها وجدت عيون الجميع مصوبه تجاهها و حين كانت تتنقل بنظرها بين الحاضرين و جدته ينظر لها مرة أخرى و ينظر لباقة الورد التي بيدها و من ثم يُعاود النظر لها و كأنه يُريد قول شئ ما.
الفصل الثاني من هنا