رواية لمس الحرائر كاملة pdf
محل القمّاش/الفرع الثاني
يراقب عامر اخاه الاصغر بطارف عينه بينما يدّعي الانشغال بإعادة ترتيب لفة قماش..
عمر كان متوترا.. بل متحيّراً.. ليته فقط يستمع اليه ويفهم حقيقة الفتاة التي تشغل عقله وقلبه..
حاول عمر اشعال سيجارة فنهره عامر بصوت خافت " لا تشعلها.. الحاج سليم على وصول وسيوبخني انا مرتين.. مرة لأنك اخي الاصغر وواجب عليّ منعك مما يؤذيك ومرة لأننا لا نسمح بالتدخين داخل محل اقمشة.."
تأفف عمر واعاد السيجارة الى مكانها داخل العلبة بينما يتمتم متسائلا بنزق " اين علي؟" فرد عامر وعيناه تطرفان لدخول فتاة جميلة عبر بوابة المحل الزجاجية " عليّ اليوم اجازة خاصة مع زوجته فاتركه بحاله ودعنا نتابع اشغالنا التي.. تهل علينا.. "
يضحك عمر بخفة وهو يتتبع مسار نظرات اخيه اما عامر فلم يخطئ التخمين وعينا الفتاة تدوران في المحل الواسع بحثاً ورصداً انثوياً مألوفاً له حتى وقعت ببحثها عليه فابتسم لها تلقائيا وهو يعرف تأثير ابتسامته على الجنس اللطيف فردت له الفتاة ابتسامته وتقدمت نحوه لتؤكد له انه كان مقصدها..
حوار مكرر قد سمعه عمر مراراً وشهد ما يحصل تكراراً، فيهز رأسه مخفياً ابتسامة متلاعبة على فمه ويدعي انه مشغول بالعمل فيحمل لفافتين مستأذنا وهو يسحب نفسه من سماع هذا الحوار المتوقع بين اخيه و(زبونة)..
ألقت الفتاة تحيتها بميوعة " مرحباً.. "
فيرد عامر وعيناه في عينيها " مرحباً.."
مدت الفتاة يدها التي تحلّت اصابعها بخواتم مغرية للنظر فتلامس قطعة قماش موضوعة على طاولة العرض التي تفصل بينهما ثم تقول بهمس مغرٍ " أبحث عن قماش حريري ينفع لثوب سهرة.." عينا عامر تتابعان حركة كفها فوق القماش فلا يخفي استمتاعا باللعبة وهو يرد عليها بمغزى خاص " لكن الحرير غال.."
فتتوقف حركة يدها فوق القماش لتقول بثقة وعيناها الجميلتان موحيتان بالكثير من المعاني والوعود " وانت ستخفض سعره لي.. اليس كذلك؟"
يد عامر امتدت بثقة تعادل ثقتها بل وتزيد ليلمس ظاهر يدها في حركة تبدو عفوية وهو يقول بنبرة اختلطت بين بياع محترف ومغازل لا يقل احترافاً " تأمرينني.. لن تغادرينا الا وانت مَرْضِيّة.. هل اختار لك لوناً يناسب بشرتك السمراء؟ اظن الزهري سيجعلها أكثر تميزا مما اراه الان.." لم تسحب الفتاة يدها من لمسة يده بل تركته يتجرأ أكثر واصابعه تمتد لمعصمها بينما هي تتساءل بخفوت " هل ترى سمرتي مميزة؟" يرفع عامر حاجبيه قليلا وهو يرد بمعانٍ مزدوجة " مؤكد.. انا خبير في تقدير كل لون وميزته.."
عندها فقط قررت الفتاة ان تسحب يدها من بين اصابعه لتقول بنبرة اكثر خفوتاً وجرأة " اذن صح ما سمعته عنك يا.. عامر.."
استهانة خفية في نفسه وهي تناديه باسمه هكذا دون سابق معرفة بينما يكمل (اللعبة) متصنعاً البراءة بفكاهة متسائلا " أنى.. خبير؟"
فترد بابتسامة واسعة شيقة جعلته يفكر بالمرة الاولى التي سيقبل فيها هذا الفم! " بل أنك تقدر كل لون وميزته.." ما زال كلاهما يتبادلان الحديث الخافت فيعلق وعيناه لا تبارحان شفتيها " انا أقدر كل شيء.. ليس الالوان فحسب.."
تضحك ضحكة معبرة عما يحصل بينهما فيتنبه عامر للهاتف الذي تحمله بيدها الاخرى ليسأل بجرأة " هذا هاتفك؟" فترد بتدلل ومراوغة " اجل.. هل يعجبك؟"
دون مقدمات ينحني كي يأخذه منها وببساطة فتحه وهو يقول " يعجبني اضافة رقمي فيه.."
لم تقل شيئا وهي ترخي اهدابها وعامر يعيد الهاتف اليها بعد ان رن على هاتفه ليسجل الرقم.. انتظرت الفتاة بضع لحظات وكأنها ارادت المزيد منه لكن عامر لم يمنحها الا ما اراد منحه فغلبها الغيظ لتسأله " ألن تسألني عن اسمي؟" فيرد عامر غامزاً بابتسامة " ستخبرينني به الليلة عندما تتصلين.." عندها ارتفعت ضحكتها عاليا قبل ان تستدير مغادرة..
كان عمال المحل يخفون ضحكاتهم وهم يراقبون المشهد منذ دخول الفتاة حتى خروجها..
يعود عمر لأخيه وهو يقول له " انا لا اصدق كيف تفعلها بسلاسة هكذا.." يرد عامر وهو ينظر لعمر ببعض الجدية " هن من يفعلنها لا انا.." ثم صمت للحظات قليلة قبل ان يضيف " كما تفعلها صاحبتك معك بأسلوبها الخاص وانت غافل.."
عقد عمر حاجبيه وهو يغضب بالقول " لا تقل عنها هذا يا عامر.." سخر عامر قائلا وهو يعيد ترتيب القماش " وماذا تريدني ان اقول عنها وقد سمحت لك باحتضانها! بل اكاد اقسم انها اثارتك كفاية لتفعلها.." يكز عمر على اسنانه وهو يقترب من اخيه جداً ليقول بصوت خافت " أخفض صوتك.. انت تسيء الي عندما تسيء اليها.. نعم انا الذي حضنتها.. لكنها لم تسمح لي ولم تشجعني.. انا الذي لم أتمالك نفسي.." نظر عامر لوجه اخيه فيرى فيه براءة شاب في العشرين يمر بتجربة اولى يظنها (الحب) ليخفض نظراته الى القماش في يده ويقول له بخفوت " المهم النتيجة يا ابن والدي.. وخذها مني حكمة.. تريد ان تتزوج فاحضن بعد الزواج لا قبله.. " ضحك عمر قليلا مستجيباً لفكاهة اخيه كي يخفف من توتره وشعوره القاتم بوجود خطأ ما فيرد الفكاهة له " ألهذا انت لا تتزوج؟!" تتسع ابتسامة عامر وهو يرد بمرح شقيّ " احسنت.. لهذا انا لا اتزوج.. انا احضن فقط.."
فاجأهما صوت شقيقهما الاكبر عليّ وهو يتساءل ساخراً " اي حضن هذا؟ ماذا تحشو رأس الأصغر.." يلتفت عامر لعلي وهو يغمز بعينه قائلا " بعض دروس الحياة في عالم الحرائر.."
قال عمر ببعض الحماسة " اريد ان اكلمك يا علي.. فاخونا عامر لا تنفعني دروسه هذه.."
تمتم عليّ وقد بدا في مزاج سيء " ليس الليلة.. تعال لي غدا صباحا في المحل الاول ان لم يكن لديك محاضرات.." فهز عمر رأسه موافقاً ثم ابتعد منشغلا مع طلبات بعض الزبائن..
قال عليّ بسخرية لا تخلو من الاحباط " اشملني بحكمك ودروسك.. انا لا امانع.."
بابتسامة عريضة يرد عامر " انت خارج الملعب هذا منذ عامين ولن ينفع ان تعود شبلا يتعلم من جديد يا.. محترف.." ضحك عليّ ثم قال " والله لا محترف الا انت.. " ثم حرك يده وهو يحث اخيه بالقول " هيا.. اترك ما في يديك.. تعال لنشرب الشاي في المقهى المجاور.. احتاج ان أدخن سيجارة ايضا.."
***
في مقهى عصري يطل على شارع تجاري راقٍ هو عصب الحياة في جانب الكرخ من العاصمة.. طلب الشقيقان الشاي واضاف عامر النرجيلة بينما اكتفى عليّ بإشعال سيجارة رغم انه كان قد زهد التدخين منذ عامين وأكثر..
ابتدأ عليّ الكلام بالقول وهو ينفث الدخان من فمه " ابي يشتكي منك.." يرد عامر مدعياً الجهل " يشتكي مني؟! ماذا فعلت؟"
يبتسم عليّ بتسامح لكن عيناه تطرفان ناحية رجل وامرأة يجلسان على مائدة في الزاوية وقد بدا الرجل -الذي يرجح انه زوجها- غاضبا ويعنفها بينما هي تطأطئ رأسها في خزي من رواد المقهى..
تابع عليّ كلامه وهو يشرح بصبر لشقيقه " انت تغازل الزبونات وقد حذرك الحاج سليم من هذا مراراً.." يهز عامر كتفيه وهو يرد ببساطة وشقاوة " انا لا اغازل الا من تطلب الغزل.. اليس الواجب ان ارضي الزبونات؟! الا تفعل هذا انت بمعسول اللسان؟!"
رد علي وعيناه الخضراوان تحذران عامر من التمادي بهذا النوع من الفكاهة " انا لا اغازل.. وانت تعرف هذا فلا تلبسني التهم.."
لكن عامر يشاكسه بخبث قائلا " انت فقط ترضي غرورهن وتجعل عيونهن تلمع كالنجوم البراقة.."
عينا علي طرفتا نحو ذاك الرجل من جديد وقد بدأ يشعر بالانزعاج منه بينما يتمتم ببعض الشرود " هل أفعل هذا حقاً؟!"
يرد عامر ضاحكاً " اعترف أنى بالغت قليلا.. لكن لا تنكر انه كان لك صولاتك الخاصة قبل ان تقع في غرام هيام وتتزوجها.."
ما ان قال اسم (هيام) حتى حن قلبه لذاك الماضي.. وعلى قدر الحنين كان شعور عليّ بالفقد!
تمتم بما بات يفتقده فيها الآن " كانت مشعة في الجامعة.. مشعة بالثقة والانفة.. هذا ما احببته فيها وميزها عن الاخريات.." تنهد عامر قبل ان يقول بجدية " من نبرة صوتك أستطيع التنبؤ بشجار جديد " يكتفي عليّ بهز رأسه فيسأل عامر ببعض الملل من هذا التكرار " من المعنية هذه المرة؟ زبونة جديدة ام زميلة قديمة؟"
رد علي بتشنج " بل فتاة في الشارع كانت تسأل عن متجر معين.. لم أفعل شيئا الا وصفت لها المكان ليتحول كل شيء الى جحيم وصراخ!"
يعبس عامر وهو يقول بصراحة " حالة زوجتك تتفاقم.." يرفع عليّ يده ليدلك بسبابته وابهامه اعلى أنفه وما بين العينين يحاول الاسترخاء بينما يرد ببؤس " اعلم.. لقد عجزت انا ونونه وامها من كثرة الكلام معها.."
يتساءل عامر بهدوء " لم تكن هكذا.. فماذا يجري لها؟!"
صوت الرجل ذاك يرتفع وهو يصرخ في زوجته فيوقف عليّ تدليك تلك المنطقة من وجهه ليرفع نظراته نحو تلك الزاوية وقد بدأ الامر يغضبه ويجعل دماءه تفور.. يلتفت عامر هو الاخر لينظر الى ذاك الرجل..
يحاول علي التركيز بمشكلته فيرد على سؤال اخيه بالقول " انا لا افهم بهذه الامور كثيراً لكن اظنها بسبب عقـار جديد تأخذه.. اظنه لا يناسبها.." يعود عامر باهتمامه الى علي ويتساءل بدهشة " اي عقـار؟"
لم يكن علي يشعر بأي حرج وهو يرد بصراحة " حبوب منع الحمل.." قال له عامر " لا اريد التدخل بخصوصياتكما.. لكن ناقشها يا علي بالموضوع.. أخبرها ان تراجع الطبيبة او حتى تسأل صيدلانية.. لي صديقة صيدلانية سـ.." رفع علي كفه مقاطعاً ببعض الفكاهة " بالله عليك ابعدنا عن صديقاتك.." يبتسم عامر قائلا " صديقة بريئة.." يهز علي رأسه رفضاً ثم يقول ساخراً من الوضع برمته " لا بريئة ولا غيرها.. أبعد عني جنس الاناث من كل نوع.. لم أعد أستطيع التعامل بحكمة مع هيام عندما تنتابها هذه الشكوك الخانقة.. لا اصدق أنى اصبحت من هؤلاء الازواج!"
فجأة صرخ الرجل في الزاوية بشتيمة قذرة قبل ان يقف على قدميه وبلحظة صادمة صفع زوجته امام ذهول جميع من في المقهى وهو يواصل الصراخ فيها ثم يسحبها من ذراعها لتقف..
لم يحتمل علي أكثر والشرر يقدح في عينيه ليهب واقفاً على قدميه يدفع كرسيه بعنف للخلف فأوقعه ثم توجه نحو ذاك الحقير وفي إثره عامر الذي يتمتم " ليس الليلة يا علي.. " لكن خلال لحظات كان الشجار العنيف قائما على أوجّه مع ذاك الرجل فأفرغ فيه علي كل احباطه وغضبه من الدوامة الكريهة التي يعيش فيها مع زوجته..
لم تكن دوامة فحسب بل أشبه بمتاهة داخل كابوس لا يعلم كيف سيفيق منه..
***
دار علي تاج الدين
دخل علي بيته المؤلف من طابق واحد.. وحالما عبر عتبة الباب وجد هيام بانتظاره.. وكالعادة بعد كل شجار من هذا النوع تكون متوترة متشنجة ووجهها الحلو شابه الارهاق والاستنزاف وبعض الشحوب..
عيناها الواسعتان دامعتان تحملان الكثير من القلق و.. الشكوك.. وحتى الاتهام!
ألقى السلام بهدوء وهو يغلق الباب خلفه بينما تشبك هيام اصابعها بتوتر متفاقم وهي تسأله بحدة دون ان ترد تحيته حتى "اين كنت؟"
أخذ نفساً عميقاً يحاول ان يستعيد هدوءه وهو يرد عليها بصبر " كنت مع عامر.."
تحرك ليتجاوز وقفتها في طريقه وهو يراها ما زالت ببنطالها الجينز والبلوزة القطنية الملونة التي خرجت بها معه قبل ان تفسد الامور بينهما..
هذا أمر اخر.. لقد عجز عن جعلها تعود للاهتمام بما تلبس كما كانت تفعل في اول زواجهما.. لقد كره هذا البنطال القديم! وكره شعرها المعقود كذيل حصان طوال الوقت..
لاحقته بالسؤال وهو يتوجه للمطبخ "لوحدكما؟"
استدار اليها يواجهها بغضب تتجدد نيرانه " بالله عليك يا هيام لم أعد احتمل.." فتصرخ هي بانفعال منفلت " وماذا عني انا؟! هل تظن أنى استمتع؟! اخوك المحترم عامر الكل يعرف بمغامراته مع الفتيات.. ربما يقرر ان يسري عنك باقتراح صحبة لإحدى صديقاته الرخيصات.." قدحت عينا علي بغضب من نوع مختلف جعلها تدرك انها تخطت الحدود فيقول لها بهدوء يغلي بالإحباط " هل تسمعين نفسك يا هيام؟! الى اين نصل بكل هذا.."
عيناها تركزتا للحظة على فمه عندما همست دون شعورها " شفتك عليها آثار دم!"
شعر انه سينفجر ليهدر ساخراً " لا تخافي لم أكن اقبّل احداهن بعنف لتدمي شفتيّ!"
مرة واحدة انفجرت هيام بالبكاء بهستيرية باتت مألوفة معها في الآونة الاخيرة فزفر علي انفاسه بقوة قبل ان يمد ذراعيه ليضمها الى صدره بقوة ثم يميل لرأسها المغمور فيه يقول بصوت مترقق " كان شجارا مع رجل أحمق.."
زادت حدة بكائها بينما هو يفك رباط شعرها ويرميه بعيدا بعنف كأنه يعبر عن كرهه لهذا الرباط السخيف..
يمرر اصابعه بين خصل شعرها البني المجعد الكثيف يحاول ان يجعلها تهدأ وتسترخي وقد نجح في هذا وتوقفت عن البكاء لتدير وجهها وتستند بخدها على صدره مكان قلبه.. ذراعاها تطوقان جذعه بتعلق فتثير في قلبه تلك المشاعر العاطفية القوية التي حركتها فيه منذ رآها ووقع بغرامها في الجامعة..
حاول مجددا ان يكلمها بالموضوع قائلا " هيام ارجوك يجب ان تذهبي للطبيبة.." ترفض بحزم وعناد وهي تقول له " لن اذهب.. ستطلب مني التوقف عن اخذ الحبوب وانا لا أستطيع ان اجازف الان.. يجب ان انهي رسالة الماجستير.. "
حاورها بمنطق " ربما انا لا افهم بهذه الامور لكني متيقن من وجود بدائل أفضل.."
لكنها أبت الاقتناع وهي ترد عليه " الحبوب أفضل وأضمن.. انا مقتنعة بهذا.. ارجوك فقط تحملني لبضعة أشهر اخرى.."
تمتم علي بصدق " انا اتحملك العمر كله.. لكن يجب أن نبحث عن الحل عند حصول مشكلة.. اريد ان نعيش بسعادة يا هيام.. لا تعلمين كم احبك واشتاق الى روحك التي اعرفها واهواها.."
تضمه أكثر اليها بينما يسترخي علي قليلا رغم عدم قناعته.. في داخله يشعر ان المشكلة ليس الحبوب فقط ولا ضغط الدراسات العليا.. بل فيها هي..
منذ ايام الخطبة اكتشف أنها لا تثق بنفسها عندما يتعلق الامر به وتغار عليه في أتفه المواقف.. الفرق انها كانت سابقا تتحكم بنفسها أكثر.. لكن مع هذه الحبوب اللعينة خرج الامر عن السيطرة والمنطق..
اضافت هيام وكأنها تحاول اقناعه أكثر " بعد ان أنهي رسالة الماجستير سأتوقف عن اخذها وسنبدأ مباشرة بإنجاب الاطفال.. الكثير منهم يا علي.. سأعوضك عن كل ما تحملته لأجلي.."
رفعت وجهها المحمر اليه فبدت مشرقة بابتسامة افتقدها منها.. عيناها البنيتان كلون شعرها فجأة شعتا بالإغراء.. ثم رفعت نفسها قليلا لتصل شفتيه في قبلة مغوية ودعوة صريحة.. كان قلبه يقرع بالشوق لتلك الروح التي تكاد تضيع منه.. أبعدت فمها عن فمه ثم همست له بجرأة المعنى " سأعوضك الليلة.. الآن تحديداً "
ابتلع ريقه وهي تدفع نفسها بعيداً عنه وامام ناظريه تخلع بلوزتها ثم تتبعها بخلع بنطالها.. اخذت بعدها تتراجع للخلف وابتسامتها تتسع وعيناها تناديانه بصمت..
يستجيب علي وهو يتقدم بتمهل كتمهل خطواتها المتراجعة وعيناه تمران على جسدها شبه العاري وشعرها الطويل بتجعيداته الشقية المحببة يحتضن كتفيها الابيضين.. ورغم شدة الاغراء لا يعرف لم شعر انها تحاول التصرف كمحنكة أكثر مما يليق بها.. او ربما أكثر مما يريده منها..
في غرفة النوم كانت ليلة مثالية للجسد.. لكن حاجز شفاف كستارة خبيثة منعت قلبه أن يدق غراماً مع رضا الجسد.. تتنهد هيام وهي تريح رأسها فوق صدره وكأنها أدت المهمة!
برود انتاب علي قبل أن تنسحب منه هيام متوجهة للحمام.. سؤال لم يكف عن مراودته والتضييق عليه " ماذا يحدث معك؟ ما الذي تريده يا علي؟ ما الذي يتغير؟!"
***
دار سليم تاج الدين القماش
دخل سليم الى غرفة النوم بينما نورجان تتكلم بتوتر عبر الهاتف.. عاد مجهداً وفي صدره ضيق من عدة امور تعكر مزاجه الرائق بالعادة.. كان يفكر أن يلتقي بصديقه شاكر الليلة ليروح عن نفسه.. ارتفع حاجبا سليم من الجانبين في حركة توجس وتوتر وهو يسمع زوجته تقول بنبرة حانقة محبطة " ابي لا افهم عنادك! لماذا تظل وحدك وترفض حتى زيارتي لبضعة ايام؟! الا زلت لا تعتبر بيتي هو بيتك ايضا؟ بقاؤك بمفردك هناك يصيبني بالقلق والتوتر طوال الوقت.. ارجوك ابي.. لم يعد لديك حجة العيادة والمستشفى وقد قررت التقاعد.. "
يخلع سليم سترته ذات القماش الكتاني الربيعي ليعلقها بوجه متجهم وهو يكاد يخمن رد حماه الدكتور زيدون الوندي!
بينما نورجان الغافلة عن دخول زوجها كان قلبها يقطر ألما وهي تسمع رد ابيها المتعنت مع لمحة عجرفة " انا لن اترك الدار التي جمعتني بأمك ولن أبيت ليلة واحدة خارجها.. بل لن أترك مدينتنا وفيها كل ذكرياتي واهلي وناسي.. لن أستطيع العيش بدونهم حتى لبضعة ايام.."
كانت تعرف بل موقنة انه يبالغ.. فتقوله له بحشرجة وجع دون ان تتنبه لمراقبة زوجها لها " وتستطيع العيش بدوني اليس كذلك؟! وحتى ان صدقت إنك متعلق بمدينتنا هكذا لكنك في الواقع تتخذ من هذا الكلام العاطفي عذرا وحجة لترفض.." تخنقها غصة مريرة وهي تضيف " ما زلت لا تسامح.. بل اشعر احيانا أنك كنت تتمنى فشلي في حياتي الزوجية كي تثبتَ أنى كنتُ مخطئة باختياري.." صمت الاب للحظات ودمعت عينا نورجان لكنها أبت ان تطلق سراح الدموع حتى وهي تظن نفسها بمفردها ولا يراها أحد..
مرت لحظات قبل أن يقول الدكتور زيدون بهدوء " لا يوجد أب يتمنى الفشل لابنته الوحيدة.." ثم تلكأت كلماته وهو يضيف معترفاً " لكني لم أستطع نسيان عصيانك.."
اتسعت عينا نورجان وهي تهتف " عصياني! أ تقولها لي واولادي غدوا رجالا وربما سأصبح جدة في اي وقت؟!"
يتوتر سليم ويفور الدم الجنوبي في عروقه.. لم يعد يشعر بأي تسامح مع حماه.. لقد فاق الامر كل الحدود.. ما هذه العجرفة والقسوة والعناد.. لسنوات تجاهل سليم بشق الانفس ازدراء حماه الخفيّ له ولأصله وتلميحاته السخيفة عن (مُحدثي النعمة).. وطوال هذه السنوات تجنب اي تماس معه وأعطاه ألف عذر وعذر.. تغافل عن نظرات منه ملؤها التعالي والكبر كلما التقيا في المناسبات والاعياد..
تقدم سليم بضع خطوات وأوشك ان يسحب الهاتف من زوجته كي يقول لحماه (اضرب رأسك العنيد في أقرب حائط) لكن وجه نورجان المتألم اوقفه..
يزم سليم شفتيه بينما يرى نورجان تجلس على حافة سريرهما وجسدها كله منكمش على نفسه كأنها ليست امرأة ناضجة وأم في السابعة والاربعين بل فتاة صغيرة مرتبكة وحزينة لا تعرف كيف ترضي اباها الغاضب!
على الطرف الاخر كان الاب يحاول اثبات حجته امام ابنته بمقارنة يعقدها ويظنها مثال لوجهة نظره " تخيلي لو ان علياً تزوج هيام رغم رفضك لاختياره.. هل كنت ستتسامحين؟" ترد نورجان بانفعال " ومن قال لك إني راضية بهيام؟! من قال أنى اراها مناسبة؟! بل أشك أنى سأرى اي فتاة مناسبة لعليّ.. لو كنتَ قريباً منا كفاية لعلمت هذا ابي.. لعلمت أنى ام عنصرية نحو اولادها وتراهم بعين امومتها نجوماً عالية في السماء.. لو كنت تعرف علاقتي بعلي لكنت عرفت انه مميز عندي للغاية لأنه يشبهني ويشبهك! اخذ منا انا وانت كل الطبائع كما اخذ لون عينيك الخضراوين.. انه عنيد صلب مثلك وانفعالي يثور كالمجنون فلا ير من حوله عندما يغضب مثلي انا.. لكن لله الحمد أن له قلب جنوبي حار ينبض بالعواطف الجياشة.. كأبيه.. سليم تاج الدين القمّاش.."
صمت الدكتور زيدون والجليد الذي يكسو به قلبه ما زال صامداً.. يغلبه العناد المتأصل فيه وهو يقول بنبرة ثابتة راسخة " ما تقولينه مجرد غيرة ام على ولدها لا أكثر.. انت ليس لديك اعتراض حقيقي على هيام.. لو كنتِ رافضة بجدية مثلما انا كنت رافضاً لمنعتِ الزواج كما حاولت انا ان امنعه لكني لم أستطع.." هتفت نورجان وهي تهب واقفة على قدميها " يا إلهي يا ابي! أ بعد ست وعشرون سنة وما زلت تكرر نفس الكلام؟! امي رحمها الله رضيت وانت كما انت.. لم تتغير شعرة من قناعاتك.."
شاب صوت زيدون بعض الألم وهو يرد بخشونة باردة " دعي باكيزة مرتاحة في قبرها.."
لكن نورجان فقدت كل رغبة او محاولة للصبر لتواصل نوبتها الانفعالية العاطفية وهي تناطح عناد ابيها " انت من لا يريحها في قبرها.. انت من تقاطع ابنتكما الوحيدة.. تقاطعها مع زوجها واولادها.." يحاول الاب الدفاع عن نفسه بالقول " انا لست مقطوعاً عنكم.." لكن تقاطعه نورجان وصوتها يعلو كثيرا وانفاسها تتسارع انفعالا مجنوناً وسخرية مريرة " آآ.. نسيت.. نراك كل بضعة أشهر.. او الاصح.. نزورك كل بضعة أشهر فتعاملنا كزوار غرباء عنك وغير مرغوب فيهم.. زوار لا يرتقون لمقام الدكتور زيدون الوندي.."
فجأة شعرت باليد السمراء لزوجها تأخذ منها الهاتف فترفع نورجان وجهها مجفلة ثم ترى زوجها سليم بملامح صلبة منحوتة كالصخر وهو يضع الهاتف على اذنه ويكلم والدها مباشرة قائلا له بنبرات ترتعش بالغضب المكبوت " في يوم ما يا دكتور زيدون ستشعر بالندم لأنك تعاليت وتكبرت علينا.. لأنك عاندت الواقع وخسرت علاقتك بأحفادك من ابنتك الوحيدة.. دوماً احترمتك لأنك والد نونه.. دوماً أشفقت عليك وعلى وحدتك التي صنعتها بتجبرك وعجرفتك وعنادك وتعاليك.. وكل هذا احتملته منك لأجلها هي.. لكن ان تذلها وتهينها وتهين ابنائها بالتقليل من أصلهم المرتبط بأصلي فهذا لن اتسامح به ابداً.."
بدا الدكتور مرتبك الصوت بعض الشي وهو يرد التهمة عن نفسه " انا لم أعاير احداً بأصله يا سليم.. هذه تهمة باطلة تلصقها بي.."
حاولت نورجان ان تأخذ الهاتف من زوجها وهي في وضع عاصف لكن سليم منعها وهو يناور بجسده ليتفادى محاولاتها بينما يرد بنفس الانفعال على حماه " اي تهمة باطلة؟! قد لا تقولها بلسانك في وجهي لكني رأيتها عشرات المرات في عينيك.. تغاضيت كثيرا عن كلمات تدسها بين جملك المنمقة كما يُدس السم في العسل.. تواضع لله يا دكتور.. كلنا لآدم وآدم من تراب.."
ثم ألقى تحية وداع عابرة قبل ان يقطع الخط..
صرخت نورجان بعنف " من سمح لك ان تكلم ابي هكذا؟! من سمح لك ان تأخذ هاتفي مني.." عينا سليم ترعدان بغضب ناري ليقول بنبرة قاطعة " اخفضي صوتك نورجان وانت تكلمينني.. انت تعرفين جيداً تلك الخطوط الحمراء.."
لكن نورجان لم تستطع السيطرة على ثورتها لتواصل الصراخ في وجهه " لا تهددني سليم.. لا يحق لك ان…آآه.."
امسك ذراعها بخشونة أوجعتها ورأت في وجهه غضباً حقيقياً اخرس لسانها وهي تحدق في عينيه الداكنتين كلون (تمر مجهول) بينما صوته خرج خافتاً ثقيلا " الخط الاحمر يا نورجان.. الخط الاحمر الذي يعرفه كلانا.. الابتعاد عنه هو ما يبقي زواجنا ثابتاً راسخاً كذاك الجبل الذي تفاخرين به في مدينتك.. فاحذري ما يدكّ الجبل دكاً ويحيله ركاماً.."
لم يكن تهديداً منه وانما تحذيراً يقرع الاجراس ليوقفها عن التمادي..
منذ تزوجته تعلمت معه معنى اللجام.. يعاملها كقطعة قماش نادرة يترك لها الدلال بين اصابعه لكنه ابداً لا يتركها تسرح من يده وتفلت من قبضته وسيطرته.. كان يلجم تفجر طبائعها الثائرة ووضع لها تلك الحدود التي يتحدث عنها الآن..
طبعها العنيد يكاد يغلبها وثورات من عمق جذورها الشمالية تصرخ لتهب.. لكن ذاك التراخي في لمسة يده وتغير نبرة صوته وهو يضيف بصوت خافت متعب " لقد كبرنا على شجار كهذا.. وانا متعب الليلة للغاية نونه.."
كما هبت ثورتها فجأة خمدت فجأة.. وهذه احدى طباعها ايضا التي يعرفها سليم جيداً.. جالت نظراتها بشيب رأسه ولحيته لتقول بعبوس " متعب الليلة اتفهم هذا.. لكن قولك إننا كبرنا على الشجار فلا اتفهمه ولن أفعل.. "
بصعوبة وجدت ابتسامته الحلوة طريقها لفمه.. فذابت نظراتها بطريقة امومية فخورة وهي تقول بعفوية " عامر المحظوظ سرق جينات هذه الابتسامة القاتلة منك.."
لم يملك الا ان يضحك الآن وهو يضمها الى صدره لتستكين هناك وتهدأ زوابعها وثوراتها تماماً وكأنها لم تهب من الاساس..
كان يمسد على شعرها وهو يقول بنبرة عميقة " ربما بعض جيناتي تسللت للأولاد.. لكن ما زرعته انتِ فيهم يطغى! كثوراتك المجنونة هذه التي تهب دون مقدمات وتنتهي دون اعلان.. لقد باتت سمعتهم تسبقهم في انحاء العاصمة انهم كثيري الشجار سريعي الانتقام لا يصبرون ساعة على اخذ حقهم.."
تهز نونه كتفيها بلا مبالاة قائلة بفخر " دمهم حامٍ ولا يرتضون الاعوج كما ان كرامتهم فوق كل شيء.."
تحركت اصابعه لتحت ذقنها فرفع وجهها كي ينظر اليها بجدية ويقول " نونه.. يجب ان نزوج عامر كي يعقل ويستقر.. ما يصلني من تصرفاته لا يعجبني.. وما خفي الله اعلم به فأخواه يغطيان عليه بإحكام.."
ردت نورجان بصدق " لقد حاولت اقناعه صدقني.. حتى ان فكرت بإحدى بنات شاكر ثم هداني تفكيري ان سجى تناسبه أكثر.." يتساءل سليم وهو يضيق عينيه " تقصدين ابنة خالة هيام؟" ردت نورجان وهي تعتدل بوقفتها لتواكب جديته بالأمر " اجل هي.. جميلة وجذابة ولها رونق خاص يميزها.. تعجبني حقاً.. كما انها تتمتع بثقة النفس اللازمة لتتعامل مع عامر بندية.." يرخي سليم اهدابه قائلا بمعنى خاص " عامر لا يحتاج لندية.." لكن نورجان تعاند بالقول " عامر يحتاج لفتاة قوية.."
يصمت سليم ولا يرد فتسأل نورجان ببعض العجب " الا تعجبك سجى؟"
ينظر سليم الى زوجته لبضع لحظات قبل ان يواجهها بما تحاول التلاعب حوله " بل تعجبني.. لكن اظن علاقتها بهيام ليست جيدة ولا اريد مزيداً من المشاكل لعليّ.. او سبب للتباعد بين ولديّنا.." عقدت نورجان حاجبيها لتقول بغيرة ام من كنتها " كل هذا لان هيام تغار منها.." يهز سليم رأسه مع ابتسامة جانبية ليسأل بهدوء " ولماذا تغار؟! ليس هناك ميزة زيادة في سجى تتفوق بها عليها.." ردت نورجان بنظرة معبرة وكلمات حملت وجهة نظر تستحق التمعن فيها " رغم أني اخالفك الرأي لكن باختصار هيام تغار من اي فتاة يا سليم.. ألم تفهم بعد؟! اي فتاة لا تريدها قريبة من محيط علي.. وهذا ما يثير جنونها واساء لعلاقاتها حتى مع صديقاتها وليس ابنة خالتها فحسب.. وما يقض مضجعها انها لا تحتمل عمل علي الذي يدور حول النساء.. حول ما يجعلهن جميلات.. لا تحتمل انه قد يجامل زبونة بأن يحببها في قماش وهو يصف لها جماله عليها.. لو سمعت ربع اسباب الشجارات المتواصلة بينهما لأصابك الذهول.."
زفر سليم بانزعاج وهو يقول " ما هذا الكلام السخيف؟! علي لم يتجاوز حدوده يوماً مع اي امرأة.. دوماً يجيد التعامل معهن وهو يضع الحدود اللائقة.. وهذا حتى قبل زواجه بهيام.. "
ثم استدار وهو يفتح ازرار قميصه بنزق.. يشعر بالضيق الليلة.. يريد ان يحل مشكلة عامر وشقاوته مع الفتيات قبل أن يتمادى أكثر مما يفعل كما يريد لعليّ ان يعيش مرتاحاً مع زوجته ليركز بعمله..
تمتم وكأنه يكلم نفسه " أظنني سأغير ملابسي وألتقي بشاكر في المقهى القديم"
شعر بكف نورجان على ظهره حالما خلع قميصه وهمسها الشقيّ الجريء وهي تصبه بحلاوة في اذنه " إنس شاكر.. حمام دافئ ادللك به وستسترخي.. اسمع كلام نونه وانت تكسب.."
التفت برأسه والتمعت عيناه فتتسع ابتسامته وهو يقول بصوت أجش متعب " لا يرد الكريم الا اللئيم.. دعوتك مقبولة.."
***
لم يكن عامر يظن ان ليلته ستكون مملة هكذا.. فبعد الشجار في المقهى كان يمني نفسه ان السمراء ستسري عنه.. لكن (السمراء) التي نسي اسمها بعد عشر دقائق من بدء المكالمة كانت أكثر تفاهة وطمعاً وغباءً مما اعتقد..
أ تظنه مراهقاً ستبتزه بالوعود المتوارية انها ستمنحه بعض القبل مقابل ان يهديها الاقمشة التي تريدها؟!
ليته لم يمنحها الرقم سريعاً وبسببها تلقى محاضرة طويلة من الحاج سليم حول اخلاقيات المهنة.. تتسع ابتسامة عامر وهو يفكر (وهل هناك أجمل من هذه الاخلاقيات؟! يرضي الزبائن حتى في غير أوقات العمل)
أتاه صوت السمراء متذمراً معاتباً بتلك الطريقة الانثوية المألوفة لديه من بنات جنسها ونوعها " عامر اين اختفيت!"
حاول ان يجر الحوار لناحية مشوقة أكثر وهو يناغشها بالرد على سؤالها المُعاتب " تحت الغطاء.. هلا تختفين بصحبتي؟"
تضحك وهي تقول له " انت شقيّ.. ما سمعته عنك لا يوفيك حقك.."
يطوي ذراعه تحت رأسه وهو مستلق على السرير قائلا بجذل ونبرة خاصة خافتة تليق بمستوى (الحوار) الدائر بينهما " وما الذي سمعته؟"
ردت بنبرة خافتة كخفوت نبرته كأنها تجاريه " في الواقع سمعت عنكم الكثير يا ابناء القمّاش.."
رغم ان الحوار والنبرات الخافتة تسير في وجهة مألوفة لديه لكن حدسه القوي يرسل اشارات خفيفة بوجود أمر ما خفي عن ادراكه.. تجاهل الحدس وهو يواصل شقاوته قائلا " انا ايضا سمعت الكثير (عنّا).. أخبريني بما سمعتِه واخبركِ بما سمعت.."
تضحك عالياً ثم تقول بنبرة انثوية ناعمة تفيض تدللا و.. تصنعاً " يقال انكم (صانعي مشاكل) بامتياز ولا يمر اسبوع الا ودخلتم مشاجرة وعراك.. "
ما زال يتجاهل حدسه وهو يتساءل بنفس النبرة " فقط؟!"
لترد السمراء بتأنٍ " وأنكم.. تحبون النساء.."
يضيق عامر عينيه بتركيز ولم يعد لديه شك بوجود أمر ما تسعى له هذه الفتاة.. لكنه يستدرجها وهو يواصل الرد بأسلوبه الشقي الساخر " وهل هناك رجل -لا سمح الله- لا يحب؟! سيكون عيبة كبرى في حق رجولته.."
أخذت السمراء تضحك من قلبها ثم هدأت ضحكاتها لتفجر قنبلتها وهي تسأل " اذن هل صحيح ان اخاك علي يخون زوجته؟"
في لحظة اتسعت عينا عامر وشعتا بالغضب.. في لحظة فهم الحكاية ومن دس السمراء في طريقه.. أخذت الفتاة تناديه بقلق تحاول جهدها أن تخفيه من نبراتها الانثوية المتصنعة " عامر.. عامر! اين اختفيت مرة اخرى؟"
رفع عامر جذعه واعتدل بجسده وهو ينزل قدميه أرضاً ليجلس على حافة السرير.. ما زال الغضب الناري متأججاً مشعاً من عينيه البنيتين لكنه بمنتهى ضبط النفس سأل " من اين سمعتِ هذا الكلام عن اخي؟"
يبدو أن حدسها هي الاخرى يعمل بشكل صحيح فتحاول اخفاء ارتباكها وهي ترد بلا مبالاة " لا اذكر.. من هنا او هناك.."
هبّ عامر ليقف على قدميه وهو يقول بخفوت تهديدي وتصريح مباشر " اذن أخبري (هنا وهناك) ان ليس علي تاج الدين القمّاش من يُسأل عنه.."
حاولت ادعاء الجهل وهي تتمتم " لم.. أفهم.."
بنبرة جافة قاسية قالها ببرود جليدي " بل تفهمين فأوصلي الرسالة.."
كانت تتمتم " انا اسفة.. لم اقصد أن..."
لكنه قطع الاتصال ووضعها بالحظر وهو يتمتم بانفعال مشحون " غبية حمقاء.."
دخل عليه عمر وهو يتساءل بعجب " من هي الغبية الحمقاء؟"
رمى عامر هاتفه على الفراش بينما ينظر لأخيه الاصغر لبضع لحظات فعرف ان عمر يعيش أسوأ تخبطاته.. زفر عامر بقوة بينما يقول ببعض السخرية " هل ابتليت بكما انت واخيك لتعكرا صفو حياتي؟! ماذا تريد انت الآخر؟!"
بدا عمر كمن اتخذ قراراً دون ان يراجعه.. لكنه يريده بكل قواه.. فقالها دفعة واحدة لعامر " اريد أن اتزوج.."
تنهد عامر بينما يعاود الجلوس على حافة سريره ويميل بظهره للخلف فيستند على راحتيّ كفيه في جلسته وهو ينظر الى عمر نظرة عميقة قبل أن يتساءل بما يشبه الفكاهة " تتزوج (من) يا ابن والدي.. هذا هو المهم.."
يعبس عمر فيبدو وجهه الوسيم أكثر وسامة وأكثر خشونة.. دوماً كانت ابتسامة عمر تمنحه هيئة بريئة طفولية للغاية لكن عندما يعبس هكذا يتغير الانطباع تماماً عنه.. سأل عمر بخشونة وغيظ " ماذا تقصد من؟! مؤكد نهاوند.."
رفع عامر نظراته للسقف وهو يقول بخفوت كأنه يكلم نفسه " حسبي الله ونعم الوكيل في هذه الليلة الطويلة التي تأبى ان تتلحف بغطاء وتنام وتهجع!"
ثم عاود النظر لشقيقه مضيفاً " وحَّد الله يا رجل اي زواج من نهاوند هذه؟!"
تقبضت يدا عمر وبدا جاداً في غضبه هذه المرة وهو يقول لأخيه " انا المخطئ لأني اخبرتك عن.. تلك الغلطة.."
لم يتأثر عامر بغضب اخيه.. لو كان بيده لضرب رأس عمر المتهور الاعمى بعواطفه برأس هيام الغبية العمياء بغيرتها عسى ان يفيق الاثنان ويتوقفا عن فعل الحماقات! لكن عامر اكتفى برفع حاجبيه قليلا وهو يتساءل بكلمات حملت معانٍ مبطنة " اي غلطة؟ تقصد احتضانك لها؟ انها أهون الغلطات.."
ما زال عمر عابساً وهو يتساءل " انا لا افهمك.."
فرد عامر وهو يرخي اجفانه للنصف وينظر الى شقيقه المتوتر العابس بتركيز " الغلطة الاهم ان تظن إنك تحبها كفاية لتتزوجها.. نونه سترميك من أقرب شباك الى اعرض شارع.."
عاند عمر وهو يبرر بما يراه حجة " صحيح أن نونه تغار علينا لكنها في النهاية لن تعارض.. الا تذكر كيف انها لم تكن راضية عن هيام ومع هذا لم ترفض.."
تراخى عامر ليلقي بظهره للخلف على السرير فيحدق في سقف غرفته وهو يقول ببعض الضيق " هيام شيء ونهاوند شيء اخر يا عمر.. والمصيبة أنك لا تدرك الفارق..."
تقدم عمر خطوة وتوتره يتصاعد فيعبر بإحباط " انت حقاً لا تحبها.. الموضوع ليس في تلك الغلطة مني فحسب!"
يضع عامر كفه تحت رأسه ويحرك نظراته من السقف ليسلطها على اخيه الواقف قريبا من السرير فيقرر ان يراوغ معه كي يمنحه فرصة التفكير مجددا عسى ان يكتشف ما يأبى أن يراه.. عمر ما زال صغيراً.. ونهاوند جميلة للغاية ومتلاعبة للغاية ايضاً.. لا يتفاجأ من تعلق عمر بها.. لكان هو نفسه تعلق بنهاوند لو التقى بها وهو في سن عمر وحاكت خيوطها الناعمة حوله.. قال عامر وكأنه يتفاوض بحنكة على سعر قماش في السوق " اريدك فقط ان تصبر ولا تتعجل.. اترك موضوع الزواج الآن وتعرف عليها أكثر.. لنقل بضعة أشهر فقط.." ثم غمز مضيفاً " و.. دون احضان.."
يعبس عمر أكثر وهم يزيح نظراته بعيدا ويقول بخفوت " لا تعاود ذكر هذا.. يكفيني شعور الذنب لأني فعلتها معها ولأني اخبرتك واسأت لصورتها امامك.."
استقام عامر بجذعه من جديد وهو يقول بهدوء " انس هذا الامر وكأنك لم تقله لي.. فقط ركز ان تعرفها أكثر يا عمر.."
ثم وقف على قدميه مضيفاً " انت ما زلت في العشرين.. وامامك عامان اخران حتى التخرج.."
باندفاع حار قال عمر " لا أستطيع الصبر لعامين.. انا أحبها.. اريدها زوجتي بالحلال.."
تطلع عامر لشقيقه وهو يخفي قلقه عليه لكنه تبسم لوجهه قائلا بنبرة إقناع " لا بأس.. فقط بضعة أشهر.."
أطرق عمر برأسه كأنه يحاول الاقتناع فيمد عامر كفه وبسبابته أخذ ينقر على رأس اخيه قائلا " بضعة أشهر اريد لهذا العقل هو من يعمل وليس القلب يا ابن تاج الدين القمّاش.. نحن ابناء سوق ومهنتنا علمتنا الصبر وتقييم البضاعة على مهل دون تسرع.. كما علمتنا معنى التوقيت المناسب لشرائها وبيعها.."
فهز عمر رأسه موافقاً لكن عامر لم يرتح تماماً للوضع برمته..
***
بعد يومين.. على العشاء.. بيت سليم تاج الدين
يرتفع صوت سليم عاليا بضحكات رجولية تمازجت مع ضحكات صديقه شاكر بينما انسجم عليّ وعمر بالحديث مع احمد ذاك الشاب اليافع المتحمس والولد الوحيد للعم شاكر بعد ثلاث فتيات زرق بهن.. ودخلت في الحوار أنغام وهي الابنة الوسطى من بنات العم شاكر والتي تكبر شقيقها احمد بثلاثة أعوام..
نورجان في الظاهر منشغلة في حوار شيق مع عفاف زوجة شاكر.. لكن في الباطن تتابع بقلق وانزعاج تصرفات كنّتها التي عزلت نفسها عن المشاركة بأي حوار وتبدو مكشوفة بشكل بشع وهي ترمق أنغام ابنة شاكر بنظرات مسمومة تفيض غيرة ورغبة بالأذى..
لحسن الحظ ان صغرى بنات شاكر وأكثرهن جمالا لم تحضر الليلة لانشغالها بالتحضير لامتحان والا لكان عيار غيرة هيام أفلت وافتعلت تصرفاً مُحرجاً للجميع بمن فيهم لها هي..
عادت بتركيزها الى ضيفتها التي قالت لها وكأنها توبخها " لقد طالت اجازتك يا نورجان.. اربعة أشهر كثير.. ألن تعودي للعمل؟"
نورجان دوماً رأت في عفاف صديقة ناصحة امينة.. ربما ليست مقربة تماما لكنها تثق فيها لأبعد حد كما تعترف أنها معجبة بمسيرتها العملية وهي ترتقي السلم الوظيفي لتبلغ مناصب مهمة في احدى اهم وزارات الدولة..
التمعت عينا نورجان بذاك العناد الشقيّ وهي ترد معترفة " ليست اجازة يا عفاف بل اصبحت رسمياً استقالة.."
اتسعت عينا صديقتها وهي تقول بإحباط " هل استقلتِ؟! مرة جديدة يا نورجان؟!"
تعقد نورجان حاجبيها وهي تقول بإصرار على مواقفها " تقولينها وكأني السبب.. لقد قصصت عليك كل ما حصل وتعرفين التفاصيل.. فكرت كثيراً خلال الاجازة وقررت أني لن أعود.. فقدمت استقالتي قبل اسبوع وليجدوا بديلا عني يقوم ولو بنصف عملي.. "
هزت عفاف رأسها وهو تصارحها بالقول " نونه انت عصبية للغاية رغم مهارتك ونشاطك واتقادك الطبيعي في كل عمل تلتحقين به.. لكن حالما يحصل أمر لا يعجبك تتحولين لكتلة عناد وشعلة غضب.."
هزت نورجان كتفيها بلا مبالاة وهي تعبر بصدق عن نفسها " لا يهمني.. ما لا يعجبني لن أسكت عليه.. هذه طبيعتي ولن اغيرها.. بل فخورة بها.."
كان لعفاف التي تعانق الخمسين تلك اللمسة الخاصة من الهيبة والانوثة معاً.. امرأة جميلة حتى مع امتلاء جسدها الاقرب للسمنة والترهل، لها ملامح قوية تمثل الجمال العراقي في أقوى صوره رغم انها لا تهتم كثيراً بنفسها وقد شغلها عملها وعنايتها بأولادها وزوجها.. تبدو مرهقة الوجه في بعض الاحيان لكن دوماً نظراتها واثقة وصفة الهيبة تضفي على وجهها ألقاً من كبرياء شامخ هادئ.. تأخذ وظيفتها على محمل الجد وتعتبرها ذات أهمية تعادل أهمية عائلتها.. وفي هذا تختلف معها نورجان بالتأكيد وهو سر عدم اهتمامها ببلوغ اي مركز وظيفي كاهتمام عفاف.. فعائلتها تأتي قبل شيء..
قالت عفاف ببعض الخيبة معقبة على كلام نورجان " لا فائدة.. ستظلين هكذا.. خسارة في كل مكان عملتِ فيه ولم تكملي المسيرة.. كنتِ ستصلين الى مركز مهم لو إنك تحملتِ وضبطتِ اعصابك قليلاً.."
اعترفت نورجان بالقول " ابي محبط مني.. يقول أنى بلا طموح وضيعت عمري دون تحقيق أي هدف او مستقبل عملي.."
ردت عفاف بمنطق عقلاني " مع احترامي للدكتور زيدون لكنه مخطئ.. انت طموحة وقوية لكن طبعك صعب وهو ما عرقل مسيرتك.. وسامحيني لقولي هذا.."
تبتسم نورجان بإشراق قائلة بتحبب لصديقتها " انت الوحيدة التي اسامحها عندما تصارحني بحقيقتي.. "
تضحك عفاف بينما عينا نورجان تطرفان الى كنتها من جديد فتراها تنزوي في غرفة الضيوف تفور بالغضب وعلي منشغل عنها يستمع بإنصات كامل لكلام أنغام المسهب عن التطورات الحاصلة في جامعتها بينما عمر بدا سارحاً بأفكاره الخاصة واحمد ترك الجمع ليشارك ابيه وعمه سليم الحوار.. اوشكت نورجان أن تشتم هيام او تصرخ بها كي تذهب وتشارك زوجها الكلام بدل انزوائها المخزي هذا كمن تشتكي من عقدة نقص!
تحركت عينا نورجان باستنجاد عفوي ناحية الباب بانتظار عودة عامر بفارغ الصبر.. تريده أن يمضي بعض الوقت مع أنغام بدلا من اخيه، فمن جهة ربما يحصل تجاذب بينهما ويكون نصيبه معها ومن جهة أخرى يخفف عن اخيه غيرة هيام التي ستنقلب الى شجار جديد..
وكأن ولدها عامر استجاب للنجدة ليدخل بابتسامته المائلة الحلوة ونظراتها الضاحكة بشقاوة دوماً وهو يعتذر عن التأخر مع الجدة..
سألته نورجان " هل نامت جدتك؟"
رد عامر وهو يقف قريبا من مجلسها على الاريكة مع عفاف " نعم نونه.. تركتها شبه غافية.. انتظرتها حتى أنهت الصلاة وساعدتها لتأوي الى سريرها بعد أخذ دوائها.."
ثم أبتعد عامر نحو أبيه الذي ناداه ليسأله عن أمر ما لتقول نورجان بعاطفة " اتمنى ان يزول ألمها في الغد ويتعافى كاحلها سريعاً.. إنها بركة بيتنا ولا أحب أن اراها هكذا.."
ردت عفاف لتخفف عنها " الحمد لله أن السقطة لم تتسبب بأكثر من ليّ كاحلها يا نورجان.. "
تنهدت نورجان وهي تقول " كان يوماً مريعاً بالأمس.. لا اعرف كيف التوى كاحلها هكذا وهي تقف امامي في المطبخ.. الحمد لله قدر الله ولطف بها وبنا.. لحسن الحظ عامر كان موجودا فحملها بين ذراعيه ونقلها بسيارته للمستشفى.. كان مجنوناً من القلق عليها.. انه متعلق بها جدا كشقيقيه.."
ارتفعت ضحكة عامر فلفتت انتباه عفاف لتقول بكلمات ذات معنى واضح لنورجان " عامر حنون للغاية وصاحب نخوة.. ليته فقط يتعقل ويجد ابنة الحلال كأخيه علي.. شقاوته زادت وهذا ليس بمصلحته.."
شعرت نورجان ببعض الانزعاج.. ربما عفاف صديقتها وهم كالأهل وتسبق معرفتهما ببعض انتقالهما لهذا الحي الذي سكنه شاكر وعائلته قبلهم.. فشاكر صديق قديم لسليم وقد توطدت الصلات بين العائلتين عندما سكنوا الحي ذاته ولو على الطرف الآخر فباتوا أقرب للجيران.. لكن نورجان لا تحتمل ان ينتقد اي شخص اولادها مهما كان..
تبسمت نورجان لتقول بفخر" عامر قلبه كقلب ابيه.. جنوبي حتى النخاع.. اصيل وعاطفي.. اي فتاة ستكون محظوظة به.."
شعرت عفاف بانقلاب مزاج نورجان فآثرت ان لا تثير حفيظتها وهي تعرف مدى انحيازها لأولادها فأدارت الحوار بذكاء لتنقله الى ابنتها وهي تقول بابتسامة واسعة " يبدو ان بناتي يتسربن من بين يدي.. فبعد زواج الكبرى جاء نصيب الوسطى.. أنغام تقدم لها عريس.. أحد اقارب شاكر.. شاب طيب وأنغام مرتاحة له.. لكن لا تقولي لأحد الآن.. ننتظر حتى تحديد (يوم الشربت).."
للحظة شعرت نورجان بالضيق لضياع تلك الفتاة من بين يدي ولدها عامر لكنها أخفت مشاعرها وهي تفكر أن صبا الصغرى ما زالت غير مرتبطة وهي أجمل من اختيها.. وايضا هناك سجى ابنة خالة هيام تعجبها للغاية.. تجاوزت نورجان افكارها هذه لتبارك لصديقتها بأمنيات صادقة " ما شاء الله ألف مبارك يا عفاف فليتمم لها الله بألف خير.. أنغام فتاة رائعة يكفي انها ابنتكما انت وشاكر..
***
كأس العصير في يد هيام لم تشرب منه الا رشفة صغيرة.. نار تمزق احشائها وتشعر بالدم ساخناً يجري في عروقها يحرقها حرقاً..
تحاول بكل طاقتها السيطرة على نفسها والتصرف بشكل طبيعي كما وعدت عليّ الليلة وهما يغادران بيتهما.. لكنها لم تنجح.. كل ما استطاعت فعله هو الانعزال عن الجميع ورفض كل محاولات عليّ لتشاركهم الحديث..
رأت في عينيه الخضراوين خيبةً.. كما رأت في عينيه اعجاباً واضحاً بأنغام.. شعرت بصداع شديد في رأسها وهي تحاول مقاومة الفكرة..
" كفى هيام.. كفى.. انه في رأسك فقط.. ليس هناك أي نظرات اعجاب في عينيه.. انها فقط عينا عليّ ونظراتهما الطبيعية.. تشع جمالا خلاباً يحرق روحك غيرة عليه.."
" لماذا تجلسين بمفردك؟"
رفعت عينيها بحدة تلقائية فتنظر الى وجه عامر الذي اقترب منها ليقف جوار كرسيها المنعزل عن الاخرين ويسألها سؤاله السخيف!
لا تعلم لماذا تكرهه هكذا؟! هو لم يفعل يوماً لها اي شيء.. لكن دوماً سكنتها الافكار السيئة حوله.. انه سيجر عليّ معه في لهوه العابث مع الفتيات.. لم تستطع ابداً محو هذه الفكرة.. وهذا ما جعلها تفعل ما فعلت.. فهل يا ترى عامر كشفها فعلا؟! منذ يومين وهي تتساءل بقلق يؤرقها وانعكس سلباً على اعصابها أكثر..
وجدت نفسها ترد بفظاظة عليه " ومع من أجلس؟!"
تنظر في عينيه وتتمنى أن تعرف الحقيقة لكنه يرد بنبرة هادئة خافتة " مع زوجك.."
ردت من جديد بفظاظة أكبر وجملة مجحفة بحق عليّ " زوجي مشغول عني.. لديه ما يتناقش به مع أنغام.."
رأت في عيني عامر لمعة غضب سرعان ما انطفأت ثم قال " زوجك يكرم ضيوفنا بالاهتمام كما يفترض ان تفعلي انت.."
اعترفت هيام اللحظة انها تكرهه.. تكرهه بطريقة لا تستطيع وصفها.. كم تريد إيلامه.. فلم تجد الا نظرة مشمئزة رمقته بها وهي تقول بنبرة لاذعة ساخرة " هل هذا انتقاد.. ومنك انت؟!"
لم تؤثر به بل رد ببساطة " انا مليء بالعيوب لانتقد غيري.. لكني لا أخشى عيوبي كما لا أنكرها.."
شعرت وكأنه ينتقص منها او يتهمها فترد عليه بتوتر وانفعال " مؤكد أنت تجاهر بكل افعالك ولا يهمك أحد.. وكيف لا ونحن في مجتمع بائس يمنح الذكور حرية الفساد والافساد بينما يقع اللوم كل اللوم على الفتيات وكأنهن الشياطين! "
تبسم عامر ابتسامة لا معنى لها وهو يقول بخفوت " اخفضي صوتك هيام.. لا اريد لعلي ان يتوتر أكثر وهو يظن ان شجارا يدور بيننا اللحظة.."
عينا هيام تحركتا بقلق ناحية علي فرأته ينظر اليها من مسافة لا يسمع حوارهما لكن مؤكد شعر بالتوتر المتفجر بينهما فابتسمت لوجه زوجها ليرد لها ابتسامة صغيرة لم تصل عينيه وهذا احبطها لأقصى حد فقالت لعامر بصوت مرهق وهي تمرر اصابعها بتوتر فوق حافة تنورتها البنية " ماذا تريد مني يا عامر.. أنا بمزاج سيء ولا احتمل سـ.."
قاطعها عامر ليقول بصوت منخفض للغاية ونبرة حادة قاطعة كالسكين لم يكلمها بها من قبل " هل وصلتك الرسالة؟"
شعرت هيام بقلبها سينفجر رعباً في صدرها فرفعت عينيها اليه وبوجه شاحب تسأله مدعية الجهل " اي رسالة.. لا افهم.."
بدا عامر اللحظة غاضباً بشكل أخافها وهو يقول من بين اسنانه ورغم ابتسامته الصغيرة العالقة على شفتيه " علي أكبر من أن ترسلي فتاة رخيصة كي تؤكد او تنفي شكوك المريضة.."
شعرت أنها ستموت اللحظة.. عيناها كانتا تتوسلان الستر على افعالها حتى وهي تنكرها بلسانها " لا اعرف.. عن اي شيء.. تتكلم.."
فواجهها بما جعل لسانها يعترف ايضاً " ان علم علي فلن يغفر ابداً هذا.."
شعرت أنها تود صفعه اللحظة.. كفاها تشبثا بذراعي الكرسي الذي تجلس عليه بينما تهمس بحدة وعيناها تبثان كراهيتها له " وانت تريده ان لا يغفر اليس كذلك؟"
رد بقسوة تجاوزت كرهها له " انا اريده سعيدا.. فهل انت تريدين؟"
في لحظة تلاشت كل مشاعر الكراهية التي تكنها لعامر.. في لحظة علمت أنها لا تكرهه بالفعل.. بل تخاف منه.. تخاف من أي شخص قد يهدد بقاء عليّ معها.. أن يحبها هي وحدها ولا تغري قلبه انثى أخرى..
همست بصوت مرتعش " انه كل حياتي.."
أشفق عليها عامر رغم غضبه منها لكنه أكتفى بالرد بحزم " اذن حافظي على (حياتك) يا هيام.."
ثم أضاف قبل أن ينسحب مبتعداً عنها " ولا تعاودي التواصل مع تلك الرخيصة.. ليست من مقامك على الاطلاق.. ما فعلته كله ليس من مقامك ولا مقام عليّ.."
***
بيت علي تاج الدين
رحلة العودة كانت صامتة للغاية.. علي لم يتفوه بشيء وهيام كانت قد فقدت طاقتها بالكامل..
الخزي الذي شعرته وعامر يواجهها بما فعلته قبل يومين كان أكبر مما تحتمله.. لا تعرف كيف فعلت وارسلت له تلك الفتاة كي تتقصى عن عليّ من خلاله..
ما الذي يجري لها؟! كيف وصلت لهذا الحال؟!
لماذا تشك بعليّ دوماً؟! هل فيها العلة ام في تصرفات زوجها؟
تقاوم الصداع الرهيب الذي تشعره وهي تفكر كيف تعرفت بعلي في الجامعة واحبته.. كان يكبرها بعام واحد.. منذ دخولها الجامعة وهو أشهر من النار على العلم..
هل هذا هو السبب؟ أنه كان مشهورا زيادة عن اللزوم؟ أن الفتيات كن يتوددن اليه ويقعن بغرامه طوعاً ويتغزلن بلون عينيه.. بلحيته.. بسمرته.. بدمه الحار وقد عرف عنه سرعة الغضب ولا يطيق أن يرى الخطأ ويسكت عنه.. باسلوبه الخاص في الكلام مع الاناث وهو يجاملهن بطريقة تبدو صادقة للغاية مؤثرة للغاية لكن لا خصوصية شخصية فيها..
كل شيء فيه كان يسطع بالجاذبية..
ورغم أنه لم يقم اي علاقة مع أي فتاة عداها في الجامعة لكن صيته لم يخلُ من بعض المغامرات خارجها وقبل أن يرتبطا.. دوماً سمعت تلك المغامرات ودوماً تساءلت عن مداها.. عن عددها.. وهل أثرت به احداهن؟ في البداية كان يرد على اسئلتها هذه بالضحك وهو ينفي ان تكون لديه مغامرات حقيقية ولا يعدو الامر مبالغات واشاعات حاوطته بسبب مهنته ومهنة عائلته.. وأكد لها مراراً انها كانت شقاوة بريئة وتجارب معدودة.. لكنها لم تقتنع.. وظلت تعاود تكرار طرح نفس الاسئلة فبات الامر يزعجه ثم تطور الحال بينهما لشكوك تقتلها ليل نهار وشجارات لا تطاق تنخر في علاقتهما الزوجية.. فهل هي السبب ام.. هو؟
" هيام.. لقد وصلنا.."
تفاجأت هيام وهي تنظر فيما حولها لتجد نفسها وسط باحة الدار الامامية وعلي يطفئ محرك السيارة ويتطلع اليها بصمت..
سأل وعيناه ترمقانها بنظرة حميمية " هل تذكرتِ الاغنية؟"
ردت بارتباك وتيه والصمت من حولها لا يعينها لتعرف الاجابة " اي.. اغنية.."
كان في مزاج رائق وواضح أنه يتجاوز اموراً كثيرة حصلت الليلة ولا يريد حتى معرفتها او السؤال عنها..
فابتسم وعيناه تشعان أكثر بمشاعر حلوة للغاية " كنت اشغل تلك الاغنية للتو.. اغنيتنا انا وانت.. عندما رأيتك لأول مرة في مقهى الجامعة.. ألم تكوني تنصتين معي؟!"
أخذ يميل اليها وهي ترتعش بالإجابة " لم انتبه.. اسفة.. كنت سارحة.."
ذراعاه حضنتاها بقوة لصدره فشعرت بكل جسدها يذوب عشقاً به فتلف ذراعيها حول جذعه بينما تشعر بفمه عند اذنها وهمسه الرجولي يطرب مسامع انوثتها " اريد أن احضنك الليلة وأنا اسمعها معك مراراً.. يا إلهي وكأني عدت أربع سنوات للوراء.. كنتِ تجلسين هناك وسط المقهى مع ابنة خالتك سجى تضحكين وشعرك المجعد الطويل يضحك معك.. عيناك تشعان قوة وجمالا.. اووووف يا هيام.. قلبي لن ينسى تلك اللحظة ما حييت.. لقد قلت في نفسي (هي هذه من اريد).. "
همست اسمه بحنين ورغبة ملحة ان ينعزلا عن العالم بأسره الذي يسرق علياً منها " عليّ.."
يمد احدى يديه ويشغل الاغنية من جديد وفي ظلمة السيارة يهمس مُدندناً كلماتها في اذن هيام مع صوت المغني باللهجة العراقية الدافئة..
تلك الليلة كانت حالة خاصة للغاية.. شعرت انها تتشبث بعلي وهو يبادلها التشبث فيعطيها بكرم ما يجعل هواجسها تذبل وتتقهقر وكأن لا وجود لها.. الهواجس قد تهدأ لكن هيام تعرف عن خبرة أنها ستعصف من جديد كريح عاتية..
***
بعد اسبوع..
يتمدد عامر مضطجعاً بظهره تحت سيارته وهو يحاول اصلاح العطل الذي فيها.. وجهه ملطخ بسخام اسود كما تلطخت بلوزته.. يدندن بأغنية شعبية غير مبالٍ للحالة المزرية التي هو فيها.. الواقع انه كان يجد متعة في مراقبة السيقان التي تمر في الشارع فيراها عبر بوابة البيت المفتوحة على مصراعيها.. وهذا وقت العصر وحركة سكان الحي في الشارع تبلغ الذروة عادة..
كلما مر زوج من السيقان يخمن لمن تعود.. تأفف وهو يشعر بالغباء لأنه لم يستطع حل المشكلة ولا بد ان يلجأ لورشة تصليح.. وبينما هو يستلقي هكذا يشعر بغبائه التفت بحدس مفاجئ فتمر امام ناظريه ساقان رفيعتان لأنثى.. تنورتها البنية تصل لما تحت الركبتين بشبر لكن منظر ساقيها كان مبهجاً وكافياً لرفع روحه المعنوية...
ضحك من افكاره السخيفة ثم كتم ضحكته وهو يستمع لصوتها تتكلم عبر الهاتف كما يبدو " اجل امي سأشتريها ايضا لا تقلقي.. لن أتأخر.."
صوتها كان حلواً ولم يرن بأذنيه من قبل فانتابه الفضول الشديد ليسحب نفسه من تحت السيارة وحالما فعل كانت الفتاة قد اختفت من امام البوابة.. تحرك عامر بحماسة عجيبة وهو يلتقط قطعة قماش من داخل سيارته واخذ يمسح بها يديه ووجهه ثم سارع باتجاه البوابة المفتوحة يحاول اللحاق برؤية الفتاة...
وقف على الرصيف وهو يراها من الخلف فقط تبتعد بخطوات واسعة رشيقة لكن جدية.. وكأنها تتعمد مشيتها هذه دون ان تبدي اي انوثة ملفتة..
نحيلة متوسطة الطول وشعرها الاسود الطويل معقود برباط للخلف..
كان سيدخل الدار آسفا لأنه لم يجد ما يثير الاهتمام أكثر عندما مرت به سيارة حمراء فيها ثلاث شبان غرباء عن الحي.. لا يعرف لماذا لم تطاوعاه قدماه ليدخل الدار من جديد.. ووجد نفسه متسمراً مكانه يراقب وصول تلك السيارة قريبا من الفتاة التي كانت قد قطعت مسافة طويلة نسبيا لكن عامر ما زال يراها بوضوح.. يضيق عينيه بتوجس تلقائي وتلك السيارة تخفف من سرعتها شيئا فشيئا لتساير خطوات الفتاة التي أخذت تسرع بخطواتها.. عندها فقط تحركت قدما عامر.. لا ليدخل الدار ولكن ليلحق وجهة الفتاة..
تسارعت خطواته مع تسارع المشهد امامه! فقد ترجل أحد الشبان من السيارة والفتاة تسرع بخطاها اكثر حتى أوشكت الهرولة وهو يضحك ويسرع خطواته معها وسيارة اصحابه تسايرهما.. لم يكن عامر يسمع ما يقول ذاك الشاب للفتاة لكن انكماشها ومحاولتها الابتعاد بجسدها عن ملامسته كان يعطيه الاجابة المطلوبة النهائية.. لا يطيق من يفرض نفسه بهذا التحرش السافر بفتاة ليست مهتمة على الاطلاق..
اي غباء يصور له أنها ستغير رأيها وهي بهذه الحالة من الخوف والانكماش؟!
ثم في لحظة عجيبة وجد عامر نفسه يركض تلقائيا عندما دفعها ذاك الشاب الحقير فجأة لتقع على الرصيف وتنطوي ساقاها النحيلتان اسفلها..
فقد عامر سيطرته ليهاجم ثائرا مشتبكاً مع الشاب في عراك دامٍ وعندما ترجل صاحبا الشاب ليسانداه ضد عامر كان قد تجمع بعض شباب الحي مساندين لعامر فحصل اشتباك جماعي قصير الامد وسرعان ما لاذ الشبان الثلاث بالفرار وقد تجمع ضدهم شباب كثر.. يمسح عامر فمه من أثر الدم ودون اي تفكير توجه مباشرة لتلك الفتاة التي ما زالت على الرصيف تدلك كاحلها الايمن وهي منكمشة بعجز.. اقترب منها عامر وهو يسأل لاهثا " هل انت بخير؟" كان قد مال بجذعه ليصل الى مستوى رأسها لكنها لم ترفع وجهها فقط تهمس بصوت شديد الرقة وبنبرة باكية " كاحلي التوى.. لا أستطيع الوقوف " بطيب خاطر يمد يده بعفوية ليمسك كفها ينوي مساعدتها فقط وهو يقول " استندي علي.." كانت لحظة مرت خطفاً كشهاب يتعجل الاحتراق.. فحالما امسك يدها النحيلة الناعمة سحبتها بسرعة البرق وكأنها قطعة حريرة تسربت من بين اصابعه.. اقشعر جلده من تلك النعومة المتسربة.. اعتصر اصابعه في باطن كفه كأنه يحتفظ بملمس خامة متفردة لا تتكرر.. دوماً يده كانت حساسة باللمس.. دوماً أخبره والده انه (قمّاش) بالفطرة.. ابتلع ريقه بينما تهمس هي بتحفظ " انا بخير.. اتصلت باهلي سيأتون لمساعدتي.."
ثم تجمد تماما وهي ترفع وجهها اليه تهمس بكلمة واحدة يخنقها البكاء " شكراً.."
تاهت كلمة شكراً من ادراكه.. اتسعت عيناه وحدث غير مسبوق يحصل معه..
وجهها.. هناك امر مستحيل لا يوصف في وجهها.. لا بل عيناها.. عيناها ذابلتان من الطرفين كأنهما تبغيان النوم بدلال.. دموع تعلقت بأهدابها السوداء الكثيفة ومع النظرة البريئة من تلكما العينين الداكنتين الناعستين شلت قدرته على التفكير ليتنبه متأخرا جدا ان قلبه يخفق بتسارع كأنه اصيب بمس جنون.. كفه الذي لمسها عفويا قبل لحظات ارتفع لمكان صدره واصابعه تربت بخفة مرتعشة هناك...
" حرير.. حرير يا ابنتي.. ماذا حصل.."
صوت امرأة ينادي من بعيد جعل عامر يتشوش فيعتدل في وقفته وببلاهة غريبة عنه يحدق في امرأة قادمة من بعيد وتبدو ملهوفة وهي تنادي (حرير).. لم ينطق عامر بحرف بينما الـ(حرير) الذي لمسه خطفاً يرد على المرأة الملهوفة " انا بخير امي.. لا تقلقي.."
***
ليته لم يمنحها الرقم سريعاً وبسببها تلقى محاضرة طويلة من الحاج سليم حول اخلاقيات المهنة.. تتسع ابتسامة عامر وهو يفكر (وهل هناك أجمل من هذه الاخلاقيات؟! يرضي الزبائن حتى في غير أوقات العمل)
أتاه صوت السمراء متذمراً معاتباً بتلك الطريقة الانثوية المألوفة لديه من بنات جنسها ونوعها " عامر اين اختفيت!"
حاول ان يجر الحوار لناحية مشوقة أكثر وهو يناغشها بالرد على سؤالها المُعاتب " تحت الغطاء.. هلا تختفين بصحبتي؟"
تضحك وهي تقول له " انت شقيّ.. ما سمعته عنك لا يوفيك حقك.."
يطوي ذراعه تحت رأسه وهو مستلق على السرير قائلا بجذل ونبرة خاصة خافتة تليق بمستوى (الحوار) الدائر بينهما " وما الذي سمعته؟"
ردت بنبرة خافتة كخفوت نبرته كأنها تجاريه " في الواقع سمعت عنكم الكثير يا ابناء القمّاش.."
رغم ان الحوار والنبرات الخافتة تسير في وجهة مألوفة لديه لكن حدسه القوي يرسل اشارات خفيفة بوجود أمر ما خفي عن ادراكه.. تجاهل الحدس وهو يواصل شقاوته قائلا " انا ايضا سمعت الكثير (عنّا).. أخبريني بما سمعتِه واخبركِ بما سمعت.."
تضحك عالياً ثم تقول بنبرة انثوية ناعمة تفيض تدللا و.. تصنعاً " يقال انكم (صانعي مشاكل) بامتياز ولا يمر اسبوع الا ودخلتم مشاجرة وعراك.. "
ما زال يتجاهل حدسه وهو يتساءل بنفس النبرة " فقط؟!"
لترد السمراء بتأنٍ " وأنكم.. تحبون النساء.."
يضيق عامر عينيه بتركيز ولم يعد لديه شك بوجود أمر ما تسعى له هذه الفتاة.. لكنه يستدرجها وهو يواصل الرد بأسلوبه الشقي الساخر " وهل هناك رجل -لا سمح الله- لا يحب؟! سيكون عيبة كبرى في حق رجولته.."
أخذت السمراء تضحك من قلبها ثم هدأت ضحكاتها لتفجر قنبلتها وهي تسأل " اذن هل صحيح ان اخاك علي يخون زوجته؟"
في لحظة اتسعت عينا عامر وشعتا بالغضب.. في لحظة فهم الحكاية ومن دس السمراء في طريقه.. أخذت الفتاة تناديه بقلق تحاول جهدها أن تخفيه من نبراتها الانثوية المتصنعة " عامر.. عامر! اين اختفيت مرة اخرى؟"
رفع عامر جذعه واعتدل بجسده وهو ينزل قدميه أرضاً ليجلس على حافة السرير.. ما زال الغضب الناري متأججاً مشعاً من عينيه البنيتين لكنه بمنتهى ضبط النفس سأل " من اين سمعتِ هذا الكلام عن اخي؟"
يبدو أن حدسها هي الاخرى يعمل بشكل صحيح فتحاول اخفاء ارتباكها وهي ترد بلا مبالاة " لا اذكر.. من هنا او هناك.."
هبّ عامر ليقف على قدميه وهو يقول بخفوت تهديدي وتصريح مباشر " اذن أخبري (هنا وهناك) ان ليس علي تاج الدين القمّاش من يُسأل عنه.."
حاولت ادعاء الجهل وهي تتمتم " لم.. أفهم.."
بنبرة جافة قاسية قالها ببرود جليدي " بل تفهمين فأوصلي الرسالة.."
كانت تتمتم " انا اسفة.. لم اقصد أن..."
لكنه قطع الاتصال ووضعها بالحظر وهو يتمتم بانفعال مشحون " غبية حمقاء.."
دخل عليه عمر وهو يتساءل بعجب " من هي الغبية الحمقاء؟"
رمى عامر هاتفه على الفراش بينما ينظر لأخيه الاصغر لبضع لحظات فعرف ان عمر يعيش أسوأ تخبطاته.. زفر عامر بقوة بينما يقول ببعض السخرية " هل ابتليت بكما انت واخيك لتعكرا صفو حياتي؟! ماذا تريد انت الآخر؟!"
بدا عمر كمن اتخذ قراراً دون ان يراجعه.. لكنه يريده بكل قواه.. فقالها دفعة واحدة لعامر " اريد أن اتزوج.."
تنهد عامر بينما يعاود الجلوس على حافة سريره ويميل بظهره للخلف فيستند على راحتيّ كفيه في جلسته وهو ينظر الى عمر نظرة عميقة قبل أن يتساءل بما يشبه الفكاهة " تتزوج (من) يا ابن والدي.. هذا هو المهم.."
يعبس عمر فيبدو وجهه الوسيم أكثر وسامة وأكثر خشونة.. دوماً كانت ابتسامة عمر تمنحه هيئة بريئة طفولية للغاية لكن عندما يعبس هكذا يتغير الانطباع تماماً عنه.. سأل عمر بخشونة وغيظ " ماذا تقصد من؟! مؤكد نهاوند.."
رفع عامر نظراته للسقف وهو يقول بخفوت كأنه يكلم نفسه " حسبي الله ونعم الوكيل في هذه الليلة الطويلة التي تأبى ان تتلحف بغطاء وتنام وتهجع!"
ثم عاود النظر لشقيقه مضيفاً " وحَّد الله يا رجل اي زواج من نهاوند هذه؟!"
تقبضت يدا عمر وبدا جاداً في غضبه هذه المرة وهو يقول لأخيه " انا المخطئ لأني اخبرتك عن.. تلك الغلطة.."
لم يتأثر عامر بغضب اخيه.. لو كان بيده لضرب رأس عمر المتهور الاعمى بعواطفه برأس هيام الغبية العمياء بغيرتها عسى ان يفيق الاثنان ويتوقفا عن فعل الحماقات! لكن عامر اكتفى برفع حاجبيه قليلا وهو يتساءل بكلمات حملت معانٍ مبطنة " اي غلطة؟ تقصد احتضانك لها؟ انها أهون الغلطات.."
ما زال عمر عابساً وهو يتساءل " انا لا افهمك.."
فرد عامر وهو يرخي اجفانه للنصف وينظر الى شقيقه المتوتر العابس بتركيز " الغلطة الاهم ان تظن إنك تحبها كفاية لتتزوجها.. نونه سترميك من أقرب شباك الى اعرض شارع.."
عاند عمر وهو يبرر بما يراه حجة " صحيح أن نونه تغار علينا لكنها في النهاية لن تعارض.. الا تذكر كيف انها لم تكن راضية عن هيام ومع هذا لم ترفض.."
تراخى عامر ليلقي بظهره للخلف على السرير فيحدق في سقف غرفته وهو يقول ببعض الضيق " هيام شيء ونهاوند شيء اخر يا عمر.. والمصيبة أنك لا تدرك الفارق..."
تقدم عمر خطوة وتوتره يتصاعد فيعبر بإحباط " انت حقاً لا تحبها.. الموضوع ليس في تلك الغلطة مني فحسب!"
يضع عامر كفه تحت رأسه ويحرك نظراته من السقف ليسلطها على اخيه الواقف قريبا من السرير فيقرر ان يراوغ معه كي يمنحه فرصة التفكير مجددا عسى ان يكتشف ما يأبى أن يراه.. عمر ما زال صغيراً.. ونهاوند جميلة للغاية ومتلاعبة للغاية ايضاً.. لا يتفاجأ من تعلق عمر بها.. لكان هو نفسه تعلق بنهاوند لو التقى بها وهو في سن عمر وحاكت خيوطها الناعمة حوله.. قال عامر وكأنه يتفاوض بحنكة على سعر قماش في السوق " اريدك فقط ان تصبر ولا تتعجل.. اترك موضوع الزواج الآن وتعرف عليها أكثر.. لنقل بضعة أشهر فقط.." ثم غمز مضيفاً " و.. دون احضان.."
يعبس عمر أكثر وهم يزيح نظراته بعيدا ويقول بخفوت " لا تعاود ذكر هذا.. يكفيني شعور الذنب لأني فعلتها معها ولأني اخبرتك واسأت لصورتها امامك.."
استقام عامر بجذعه من جديد وهو يقول بهدوء " انس هذا الامر وكأنك لم تقله لي.. فقط ركز ان تعرفها أكثر يا عمر.."
ثم وقف على قدميه مضيفاً " انت ما زلت في العشرين.. وامامك عامان اخران حتى التخرج.."
باندفاع حار قال عمر " لا أستطيع الصبر لعامين.. انا أحبها.. اريدها زوجتي بالحلال.."
تطلع عامر لشقيقه وهو يخفي قلقه عليه لكنه تبسم لوجهه قائلا بنبرة إقناع " لا بأس.. فقط بضعة أشهر.."
أطرق عمر برأسه كأنه يحاول الاقتناع فيمد عامر كفه وبسبابته أخذ ينقر على رأس اخيه قائلا " بضعة أشهر اريد لهذا العقل هو من يعمل وليس القلب يا ابن تاج الدين القمّاش.. نحن ابناء سوق ومهنتنا علمتنا الصبر وتقييم البضاعة على مهل دون تسرع.. كما علمتنا معنى التوقيت المناسب لشرائها وبيعها.."
فهز عمر رأسه موافقاً لكن عامر لم يرتح تماماً للوضع برمته..
***
بعد يومين.. على العشاء.. بيت سليم تاج الدين
يرتفع صوت سليم عاليا بضحكات رجولية تمازجت مع ضحكات صديقه شاكر بينما انسجم عليّ وعمر بالحديث مع احمد ذاك الشاب اليافع المتحمس والولد الوحيد للعم شاكر بعد ثلاث فتيات زرق بهن.. ودخلت في الحوار أنغام وهي الابنة الوسطى من بنات العم شاكر والتي تكبر شقيقها احمد بثلاثة أعوام..
نورجان في الظاهر منشغلة في حوار شيق مع عفاف زوجة شاكر.. لكن في الباطن تتابع بقلق وانزعاج تصرفات كنّتها التي عزلت نفسها عن المشاركة بأي حوار وتبدو مكشوفة بشكل بشع وهي ترمق أنغام ابنة شاكر بنظرات مسمومة تفيض غيرة ورغبة بالأذى..
لحسن الحظ ان صغرى بنات شاكر وأكثرهن جمالا لم تحضر الليلة لانشغالها بالتحضير لامتحان والا لكان عيار غيرة هيام أفلت وافتعلت تصرفاً مُحرجاً للجميع بمن فيهم لها هي..
عادت بتركيزها الى ضيفتها التي قالت لها وكأنها توبخها " لقد طالت اجازتك يا نورجان.. اربعة أشهر كثير.. ألن تعودي للعمل؟"
نورجان دوماً رأت في عفاف صديقة ناصحة امينة.. ربما ليست مقربة تماما لكنها تثق فيها لأبعد حد كما تعترف أنها معجبة بمسيرتها العملية وهي ترتقي السلم الوظيفي لتبلغ مناصب مهمة في احدى اهم وزارات الدولة..
التمعت عينا نورجان بذاك العناد الشقيّ وهي ترد معترفة " ليست اجازة يا عفاف بل اصبحت رسمياً استقالة.."
اتسعت عينا صديقتها وهي تقول بإحباط " هل استقلتِ؟! مرة جديدة يا نورجان؟!"
تعقد نورجان حاجبيها وهي تقول بإصرار على مواقفها " تقولينها وكأني السبب.. لقد قصصت عليك كل ما حصل وتعرفين التفاصيل.. فكرت كثيراً خلال الاجازة وقررت أني لن أعود.. فقدمت استقالتي قبل اسبوع وليجدوا بديلا عني يقوم ولو بنصف عملي.. "
هزت عفاف رأسها وهو تصارحها بالقول " نونه انت عصبية للغاية رغم مهارتك ونشاطك واتقادك الطبيعي في كل عمل تلتحقين به.. لكن حالما يحصل أمر لا يعجبك تتحولين لكتلة عناد وشعلة غضب.."
هزت نورجان كتفيها بلا مبالاة وهي تعبر بصدق عن نفسها " لا يهمني.. ما لا يعجبني لن أسكت عليه.. هذه طبيعتي ولن اغيرها.. بل فخورة بها.."
كان لعفاف التي تعانق الخمسين تلك اللمسة الخاصة من الهيبة والانوثة معاً.. امرأة جميلة حتى مع امتلاء جسدها الاقرب للسمنة والترهل، لها ملامح قوية تمثل الجمال العراقي في أقوى صوره رغم انها لا تهتم كثيراً بنفسها وقد شغلها عملها وعنايتها بأولادها وزوجها.. تبدو مرهقة الوجه في بعض الاحيان لكن دوماً نظراتها واثقة وصفة الهيبة تضفي على وجهها ألقاً من كبرياء شامخ هادئ.. تأخذ وظيفتها على محمل الجد وتعتبرها ذات أهمية تعادل أهمية عائلتها.. وفي هذا تختلف معها نورجان بالتأكيد وهو سر عدم اهتمامها ببلوغ اي مركز وظيفي كاهتمام عفاف.. فعائلتها تأتي قبل شيء..
قالت عفاف ببعض الخيبة معقبة على كلام نورجان " لا فائدة.. ستظلين هكذا.. خسارة في كل مكان عملتِ فيه ولم تكملي المسيرة.. كنتِ ستصلين الى مركز مهم لو إنك تحملتِ وضبطتِ اعصابك قليلاً.."
اعترفت نورجان بالقول " ابي محبط مني.. يقول أنى بلا طموح وضيعت عمري دون تحقيق أي هدف او مستقبل عملي.."
ردت عفاف بمنطق عقلاني " مع احترامي للدكتور زيدون لكنه مخطئ.. انت طموحة وقوية لكن طبعك صعب وهو ما عرقل مسيرتك.. وسامحيني لقولي هذا.."
تبتسم نورجان بإشراق قائلة بتحبب لصديقتها " انت الوحيدة التي اسامحها عندما تصارحني بحقيقتي.. "
تضحك عفاف بينما عينا نورجان تطرفان الى كنتها من جديد فتراها تنزوي في غرفة الضيوف تفور بالغضب وعلي منشغل عنها يستمع بإنصات كامل لكلام أنغام المسهب عن التطورات الحاصلة في جامعتها بينما عمر بدا سارحاً بأفكاره الخاصة واحمد ترك الجمع ليشارك ابيه وعمه سليم الحوار.. اوشكت نورجان أن تشتم هيام او تصرخ بها كي تذهب وتشارك زوجها الكلام بدل انزوائها المخزي هذا كمن تشتكي من عقدة نقص!
تحركت عينا نورجان باستنجاد عفوي ناحية الباب بانتظار عودة عامر بفارغ الصبر.. تريده أن يمضي بعض الوقت مع أنغام بدلا من اخيه، فمن جهة ربما يحصل تجاذب بينهما ويكون نصيبه معها ومن جهة أخرى يخفف عن اخيه غيرة هيام التي ستنقلب الى شجار جديد..
وكأن ولدها عامر استجاب للنجدة ليدخل بابتسامته المائلة الحلوة ونظراتها الضاحكة بشقاوة دوماً وهو يعتذر عن التأخر مع الجدة..
سألته نورجان " هل نامت جدتك؟"
رد عامر وهو يقف قريبا من مجلسها على الاريكة مع عفاف " نعم نونه.. تركتها شبه غافية.. انتظرتها حتى أنهت الصلاة وساعدتها لتأوي الى سريرها بعد أخذ دوائها.."
ثم أبتعد عامر نحو أبيه الذي ناداه ليسأله عن أمر ما لتقول نورجان بعاطفة " اتمنى ان يزول ألمها في الغد ويتعافى كاحلها سريعاً.. إنها بركة بيتنا ولا أحب أن اراها هكذا.."
ردت عفاف لتخفف عنها " الحمد لله أن السقطة لم تتسبب بأكثر من ليّ كاحلها يا نورجان.. "
تنهدت نورجان وهي تقول " كان يوماً مريعاً بالأمس.. لا اعرف كيف التوى كاحلها هكذا وهي تقف امامي في المطبخ.. الحمد لله قدر الله ولطف بها وبنا.. لحسن الحظ عامر كان موجودا فحملها بين ذراعيه ونقلها بسيارته للمستشفى.. كان مجنوناً من القلق عليها.. انه متعلق بها جدا كشقيقيه.."
ارتفعت ضحكة عامر فلفتت انتباه عفاف لتقول بكلمات ذات معنى واضح لنورجان " عامر حنون للغاية وصاحب نخوة.. ليته فقط يتعقل ويجد ابنة الحلال كأخيه علي.. شقاوته زادت وهذا ليس بمصلحته.."
شعرت نورجان ببعض الانزعاج.. ربما عفاف صديقتها وهم كالأهل وتسبق معرفتهما ببعض انتقالهما لهذا الحي الذي سكنه شاكر وعائلته قبلهم.. فشاكر صديق قديم لسليم وقد توطدت الصلات بين العائلتين عندما سكنوا الحي ذاته ولو على الطرف الآخر فباتوا أقرب للجيران.. لكن نورجان لا تحتمل ان ينتقد اي شخص اولادها مهما كان..
تبسمت نورجان لتقول بفخر" عامر قلبه كقلب ابيه.. جنوبي حتى النخاع.. اصيل وعاطفي.. اي فتاة ستكون محظوظة به.."
شعرت عفاف بانقلاب مزاج نورجان فآثرت ان لا تثير حفيظتها وهي تعرف مدى انحيازها لأولادها فأدارت الحوار بذكاء لتنقله الى ابنتها وهي تقول بابتسامة واسعة " يبدو ان بناتي يتسربن من بين يدي.. فبعد زواج الكبرى جاء نصيب الوسطى.. أنغام تقدم لها عريس.. أحد اقارب شاكر.. شاب طيب وأنغام مرتاحة له.. لكن لا تقولي لأحد الآن.. ننتظر حتى تحديد (يوم الشربت).."
للحظة شعرت نورجان بالضيق لضياع تلك الفتاة من بين يدي ولدها عامر لكنها أخفت مشاعرها وهي تفكر أن صبا الصغرى ما زالت غير مرتبطة وهي أجمل من اختيها.. وايضا هناك سجى ابنة خالة هيام تعجبها للغاية.. تجاوزت نورجان افكارها هذه لتبارك لصديقتها بأمنيات صادقة " ما شاء الله ألف مبارك يا عفاف فليتمم لها الله بألف خير.. أنغام فتاة رائعة يكفي انها ابنتكما انت وشاكر..
***
كأس العصير في يد هيام لم تشرب منه الا رشفة صغيرة.. نار تمزق احشائها وتشعر بالدم ساخناً يجري في عروقها يحرقها حرقاً..
تحاول بكل طاقتها السيطرة على نفسها والتصرف بشكل طبيعي كما وعدت عليّ الليلة وهما يغادران بيتهما.. لكنها لم تنجح.. كل ما استطاعت فعله هو الانعزال عن الجميع ورفض كل محاولات عليّ لتشاركهم الحديث..
رأت في عينيه الخضراوين خيبةً.. كما رأت في عينيه اعجاباً واضحاً بأنغام.. شعرت بصداع شديد في رأسها وهي تحاول مقاومة الفكرة..
" كفى هيام.. كفى.. انه في رأسك فقط.. ليس هناك أي نظرات اعجاب في عينيه.. انها فقط عينا عليّ ونظراتهما الطبيعية.. تشع جمالا خلاباً يحرق روحك غيرة عليه.."
" لماذا تجلسين بمفردك؟"
رفعت عينيها بحدة تلقائية فتنظر الى وجه عامر الذي اقترب منها ليقف جوار كرسيها المنعزل عن الاخرين ويسألها سؤاله السخيف!
لا تعلم لماذا تكرهه هكذا؟! هو لم يفعل يوماً لها اي شيء.. لكن دوماً سكنتها الافكار السيئة حوله.. انه سيجر عليّ معه في لهوه العابث مع الفتيات.. لم تستطع ابداً محو هذه الفكرة.. وهذا ما جعلها تفعل ما فعلت.. فهل يا ترى عامر كشفها فعلا؟! منذ يومين وهي تتساءل بقلق يؤرقها وانعكس سلباً على اعصابها أكثر..
وجدت نفسها ترد بفظاظة عليه " ومع من أجلس؟!"
تنظر في عينيه وتتمنى أن تعرف الحقيقة لكنه يرد بنبرة هادئة خافتة " مع زوجك.."
ردت من جديد بفظاظة أكبر وجملة مجحفة بحق عليّ " زوجي مشغول عني.. لديه ما يتناقش به مع أنغام.."
رأت في عيني عامر لمعة غضب سرعان ما انطفأت ثم قال " زوجك يكرم ضيوفنا بالاهتمام كما يفترض ان تفعلي انت.."
اعترفت هيام اللحظة انها تكرهه.. تكرهه بطريقة لا تستطيع وصفها.. كم تريد إيلامه.. فلم تجد الا نظرة مشمئزة رمقته بها وهي تقول بنبرة لاذعة ساخرة " هل هذا انتقاد.. ومنك انت؟!"
لم تؤثر به بل رد ببساطة " انا مليء بالعيوب لانتقد غيري.. لكني لا أخشى عيوبي كما لا أنكرها.."
شعرت وكأنه ينتقص منها او يتهمها فترد عليه بتوتر وانفعال " مؤكد أنت تجاهر بكل افعالك ولا يهمك أحد.. وكيف لا ونحن في مجتمع بائس يمنح الذكور حرية الفساد والافساد بينما يقع اللوم كل اللوم على الفتيات وكأنهن الشياطين! "
تبسم عامر ابتسامة لا معنى لها وهو يقول بخفوت " اخفضي صوتك هيام.. لا اريد لعلي ان يتوتر أكثر وهو يظن ان شجارا يدور بيننا اللحظة.."
عينا هيام تحركتا بقلق ناحية علي فرأته ينظر اليها من مسافة لا يسمع حوارهما لكن مؤكد شعر بالتوتر المتفجر بينهما فابتسمت لوجه زوجها ليرد لها ابتسامة صغيرة لم تصل عينيه وهذا احبطها لأقصى حد فقالت لعامر بصوت مرهق وهي تمرر اصابعها بتوتر فوق حافة تنورتها البنية " ماذا تريد مني يا عامر.. أنا بمزاج سيء ولا احتمل سـ.."
قاطعها عامر ليقول بصوت منخفض للغاية ونبرة حادة قاطعة كالسكين لم يكلمها بها من قبل " هل وصلتك الرسالة؟"
شعرت هيام بقلبها سينفجر رعباً في صدرها فرفعت عينيها اليه وبوجه شاحب تسأله مدعية الجهل " اي رسالة.. لا افهم.."
بدا عامر اللحظة غاضباً بشكل أخافها وهو يقول من بين اسنانه ورغم ابتسامته الصغيرة العالقة على شفتيه " علي أكبر من أن ترسلي فتاة رخيصة كي تؤكد او تنفي شكوك المريضة.."
شعرت أنها ستموت اللحظة.. عيناها كانتا تتوسلان الستر على افعالها حتى وهي تنكرها بلسانها " لا اعرف.. عن اي شيء.. تتكلم.."
فواجهها بما جعل لسانها يعترف ايضاً " ان علم علي فلن يغفر ابداً هذا.."
شعرت أنها تود صفعه اللحظة.. كفاها تشبثا بذراعي الكرسي الذي تجلس عليه بينما تهمس بحدة وعيناها تبثان كراهيتها له " وانت تريده ان لا يغفر اليس كذلك؟"
رد بقسوة تجاوزت كرهها له " انا اريده سعيدا.. فهل انت تريدين؟"
في لحظة تلاشت كل مشاعر الكراهية التي تكنها لعامر.. في لحظة علمت أنها لا تكرهه بالفعل.. بل تخاف منه.. تخاف من أي شخص قد يهدد بقاء عليّ معها.. أن يحبها هي وحدها ولا تغري قلبه انثى أخرى..
همست بصوت مرتعش " انه كل حياتي.."
أشفق عليها عامر رغم غضبه منها لكنه أكتفى بالرد بحزم " اذن حافظي على (حياتك) يا هيام.."
ثم أضاف قبل أن ينسحب مبتعداً عنها " ولا تعاودي التواصل مع تلك الرخيصة.. ليست من مقامك على الاطلاق.. ما فعلته كله ليس من مقامك ولا مقام عليّ.."
***
بيت علي تاج الدين
رحلة العودة كانت صامتة للغاية.. علي لم يتفوه بشيء وهيام كانت قد فقدت طاقتها بالكامل..
الخزي الذي شعرته وعامر يواجهها بما فعلته قبل يومين كان أكبر مما تحتمله.. لا تعرف كيف فعلت وارسلت له تلك الفتاة كي تتقصى عن عليّ من خلاله..
ما الذي يجري لها؟! كيف وصلت لهذا الحال؟!
لماذا تشك بعليّ دوماً؟! هل فيها العلة ام في تصرفات زوجها؟
تقاوم الصداع الرهيب الذي تشعره وهي تفكر كيف تعرفت بعلي في الجامعة واحبته.. كان يكبرها بعام واحد.. منذ دخولها الجامعة وهو أشهر من النار على العلم..
هل هذا هو السبب؟ أنه كان مشهورا زيادة عن اللزوم؟ أن الفتيات كن يتوددن اليه ويقعن بغرامه طوعاً ويتغزلن بلون عينيه.. بلحيته.. بسمرته.. بدمه الحار وقد عرف عنه سرعة الغضب ولا يطيق أن يرى الخطأ ويسكت عنه.. باسلوبه الخاص في الكلام مع الاناث وهو يجاملهن بطريقة تبدو صادقة للغاية مؤثرة للغاية لكن لا خصوصية شخصية فيها..
كل شيء فيه كان يسطع بالجاذبية..
ورغم أنه لم يقم اي علاقة مع أي فتاة عداها في الجامعة لكن صيته لم يخلُ من بعض المغامرات خارجها وقبل أن يرتبطا.. دوماً سمعت تلك المغامرات ودوماً تساءلت عن مداها.. عن عددها.. وهل أثرت به احداهن؟ في البداية كان يرد على اسئلتها هذه بالضحك وهو ينفي ان تكون لديه مغامرات حقيقية ولا يعدو الامر مبالغات واشاعات حاوطته بسبب مهنته ومهنة عائلته.. وأكد لها مراراً انها كانت شقاوة بريئة وتجارب معدودة.. لكنها لم تقتنع.. وظلت تعاود تكرار طرح نفس الاسئلة فبات الامر يزعجه ثم تطور الحال بينهما لشكوك تقتلها ليل نهار وشجارات لا تطاق تنخر في علاقتهما الزوجية.. فهل هي السبب ام.. هو؟
" هيام.. لقد وصلنا.."
تفاجأت هيام وهي تنظر فيما حولها لتجد نفسها وسط باحة الدار الامامية وعلي يطفئ محرك السيارة ويتطلع اليها بصمت..
سأل وعيناه ترمقانها بنظرة حميمية " هل تذكرتِ الاغنية؟"
ردت بارتباك وتيه والصمت من حولها لا يعينها لتعرف الاجابة " اي.. اغنية.."
كان في مزاج رائق وواضح أنه يتجاوز اموراً كثيرة حصلت الليلة ولا يريد حتى معرفتها او السؤال عنها..
فابتسم وعيناه تشعان أكثر بمشاعر حلوة للغاية " كنت اشغل تلك الاغنية للتو.. اغنيتنا انا وانت.. عندما رأيتك لأول مرة في مقهى الجامعة.. ألم تكوني تنصتين معي؟!"
أخذ يميل اليها وهي ترتعش بالإجابة " لم انتبه.. اسفة.. كنت سارحة.."
ذراعاه حضنتاها بقوة لصدره فشعرت بكل جسدها يذوب عشقاً به فتلف ذراعيها حول جذعه بينما تشعر بفمه عند اذنها وهمسه الرجولي يطرب مسامع انوثتها " اريد أن احضنك الليلة وأنا اسمعها معك مراراً.. يا إلهي وكأني عدت أربع سنوات للوراء.. كنتِ تجلسين هناك وسط المقهى مع ابنة خالتك سجى تضحكين وشعرك المجعد الطويل يضحك معك.. عيناك تشعان قوة وجمالا.. اووووف يا هيام.. قلبي لن ينسى تلك اللحظة ما حييت.. لقد قلت في نفسي (هي هذه من اريد).. "
همست اسمه بحنين ورغبة ملحة ان ينعزلا عن العالم بأسره الذي يسرق علياً منها " عليّ.."
يمد احدى يديه ويشغل الاغنية من جديد وفي ظلمة السيارة يهمس مُدندناً كلماتها في اذن هيام مع صوت المغني باللهجة العراقية الدافئة..
تلك الليلة كانت حالة خاصة للغاية.. شعرت انها تتشبث بعلي وهو يبادلها التشبث فيعطيها بكرم ما يجعل هواجسها تذبل وتتقهقر وكأن لا وجود لها.. الهواجس قد تهدأ لكن هيام تعرف عن خبرة أنها ستعصف من جديد كريح عاتية..
***
بعد اسبوع..
يتمدد عامر مضطجعاً بظهره تحت سيارته وهو يحاول اصلاح العطل الذي فيها.. وجهه ملطخ بسخام اسود كما تلطخت بلوزته.. يدندن بأغنية شعبية غير مبالٍ للحالة المزرية التي هو فيها.. الواقع انه كان يجد متعة في مراقبة السيقان التي تمر في الشارع فيراها عبر بوابة البيت المفتوحة على مصراعيها.. وهذا وقت العصر وحركة سكان الحي في الشارع تبلغ الذروة عادة..
كلما مر زوج من السيقان يخمن لمن تعود.. تأفف وهو يشعر بالغباء لأنه لم يستطع حل المشكلة ولا بد ان يلجأ لورشة تصليح.. وبينما هو يستلقي هكذا يشعر بغبائه التفت بحدس مفاجئ فتمر امام ناظريه ساقان رفيعتان لأنثى.. تنورتها البنية تصل لما تحت الركبتين بشبر لكن منظر ساقيها كان مبهجاً وكافياً لرفع روحه المعنوية...
ضحك من افكاره السخيفة ثم كتم ضحكته وهو يستمع لصوتها تتكلم عبر الهاتف كما يبدو " اجل امي سأشتريها ايضا لا تقلقي.. لن أتأخر.."
صوتها كان حلواً ولم يرن بأذنيه من قبل فانتابه الفضول الشديد ليسحب نفسه من تحت السيارة وحالما فعل كانت الفتاة قد اختفت من امام البوابة.. تحرك عامر بحماسة عجيبة وهو يلتقط قطعة قماش من داخل سيارته واخذ يمسح بها يديه ووجهه ثم سارع باتجاه البوابة المفتوحة يحاول اللحاق برؤية الفتاة...
وقف على الرصيف وهو يراها من الخلف فقط تبتعد بخطوات واسعة رشيقة لكن جدية.. وكأنها تتعمد مشيتها هذه دون ان تبدي اي انوثة ملفتة..
نحيلة متوسطة الطول وشعرها الاسود الطويل معقود برباط للخلف..
كان سيدخل الدار آسفا لأنه لم يجد ما يثير الاهتمام أكثر عندما مرت به سيارة حمراء فيها ثلاث شبان غرباء عن الحي.. لا يعرف لماذا لم تطاوعاه قدماه ليدخل الدار من جديد.. ووجد نفسه متسمراً مكانه يراقب وصول تلك السيارة قريبا من الفتاة التي كانت قد قطعت مسافة طويلة نسبيا لكن عامر ما زال يراها بوضوح.. يضيق عينيه بتوجس تلقائي وتلك السيارة تخفف من سرعتها شيئا فشيئا لتساير خطوات الفتاة التي أخذت تسرع بخطواتها.. عندها فقط تحركت قدما عامر.. لا ليدخل الدار ولكن ليلحق وجهة الفتاة..
تسارعت خطواته مع تسارع المشهد امامه! فقد ترجل أحد الشبان من السيارة والفتاة تسرع بخطاها اكثر حتى أوشكت الهرولة وهو يضحك ويسرع خطواته معها وسيارة اصحابه تسايرهما.. لم يكن عامر يسمع ما يقول ذاك الشاب للفتاة لكن انكماشها ومحاولتها الابتعاد بجسدها عن ملامسته كان يعطيه الاجابة المطلوبة النهائية.. لا يطيق من يفرض نفسه بهذا التحرش السافر بفتاة ليست مهتمة على الاطلاق..
اي غباء يصور له أنها ستغير رأيها وهي بهذه الحالة من الخوف والانكماش؟!
ثم في لحظة عجيبة وجد عامر نفسه يركض تلقائيا عندما دفعها ذاك الشاب الحقير فجأة لتقع على الرصيف وتنطوي ساقاها النحيلتان اسفلها..
فقد عامر سيطرته ليهاجم ثائرا مشتبكاً مع الشاب في عراك دامٍ وعندما ترجل صاحبا الشاب ليسانداه ضد عامر كان قد تجمع بعض شباب الحي مساندين لعامر فحصل اشتباك جماعي قصير الامد وسرعان ما لاذ الشبان الثلاث بالفرار وقد تجمع ضدهم شباب كثر.. يمسح عامر فمه من أثر الدم ودون اي تفكير توجه مباشرة لتلك الفتاة التي ما زالت على الرصيف تدلك كاحلها الايمن وهي منكمشة بعجز.. اقترب منها عامر وهو يسأل لاهثا " هل انت بخير؟" كان قد مال بجذعه ليصل الى مستوى رأسها لكنها لم ترفع وجهها فقط تهمس بصوت شديد الرقة وبنبرة باكية " كاحلي التوى.. لا أستطيع الوقوف " بطيب خاطر يمد يده بعفوية ليمسك كفها ينوي مساعدتها فقط وهو يقول " استندي علي.." كانت لحظة مرت خطفاً كشهاب يتعجل الاحتراق.. فحالما امسك يدها النحيلة الناعمة سحبتها بسرعة البرق وكأنها قطعة حريرة تسربت من بين اصابعه.. اقشعر جلده من تلك النعومة المتسربة.. اعتصر اصابعه في باطن كفه كأنه يحتفظ بملمس خامة متفردة لا تتكرر.. دوماً يده كانت حساسة باللمس.. دوماً أخبره والده انه (قمّاش) بالفطرة.. ابتلع ريقه بينما تهمس هي بتحفظ " انا بخير.. اتصلت باهلي سيأتون لمساعدتي.."
ثم تجمد تماما وهي ترفع وجهها اليه تهمس بكلمة واحدة يخنقها البكاء " شكراً.."
تاهت كلمة شكراً من ادراكه.. اتسعت عيناه وحدث غير مسبوق يحصل معه..
وجهها.. هناك امر مستحيل لا يوصف في وجهها.. لا بل عيناها.. عيناها ذابلتان من الطرفين كأنهما تبغيان النوم بدلال.. دموع تعلقت بأهدابها السوداء الكثيفة ومع النظرة البريئة من تلكما العينين الداكنتين الناعستين شلت قدرته على التفكير ليتنبه متأخرا جدا ان قلبه يخفق بتسارع كأنه اصيب بمس جنون.. كفه الذي لمسها عفويا قبل لحظات ارتفع لمكان صدره واصابعه تربت بخفة مرتعشة هناك...
" حرير.. حرير يا ابنتي.. ماذا حصل.."
صوت امرأة ينادي من بعيد جعل عامر يتشوش فيعتدل في وقفته وببلاهة غريبة عنه يحدق في امرأة قادمة من بعيد وتبدو ملهوفة وهي تنادي (حرير).. لم ينطق عامر بحرف بينما الـ(حرير) الذي لمسه خطفاً يرد على المرأة الملهوفة " انا بخير امي.. لا تقلقي.."
***