رواية مغرور برجولته كاملة pdf
الشمس
تسطع في وسط السماء , لتزف بشرى أقتراب الربيع, والأشعة الذهبية تصطدم بالرياح الشمالية
القارسة , فتمتزج بأنفاس الشتاء الباردة.
فجأة
, هبّت عاصفة هوجاء , فتصاعد الغبار ولفّ الشوارع , وأشتدت وطأة الأزدحام عند تقاطع
الطرق .
مشت
جيسيكا ثورن وحيدة على الرصيف , تجيل طرفها عبر زجاج المخازن , وهي ترتدي معطفا أخضر
, وقد فكّت أزراره قليلا كي تترك النسيم يتغلغل الى جسمها الناعم.
أحكمت
رباط حقيبة يدها على كتفها , وأعادت يدها الى جيب معطفها , فراح الهواء المزعج يعبث
بشعرها الأشقر الحريري, وتداعب خيوطه الذهبية وجهها الأملس , لم تشأ جاسيكا أن تصفف
شعرها المبعثر على الفور , فلم العجلة؟ ستعيد تمشيطه عندما تأوي الى مكتبها وتستريح.
وأضطربت
نظراتها الموجهة نحو هضاب تانيسي المتعالية عند شاثانوغا , هناك كان الربيع يتجلى من
خلال الظلال الوارفة على السفوح , فقد أخضرت أوراق الشجر وكست الأعشاب الأرض وبدأ تجدد
الحياة واضحا , بعدما تفتحت براعم الورود المظللة بالخضار لتعد المتنزهين بتشكيلتها
الزاهية .
كانت
جاسيكا غافلة عن هذا الجمال شاردة في أحلام طفولية حين أصطدم كتفها بسيدة تعدو بخطوات
مسرعة.
"
عفوا , سيدتي".
لكن
السيدة لم تفطن لها , بل تابعت سيرها بدون أنتباه .
عند
تقاطع الطريق , أندفع الضوء الأخضر من الأشارة الضوئية , فخفّت مسرعة , لكن ما أن بلغت
فسحة العبور حتى بان اللون الأصفر ولم يعد بأمكانها التقدم , فأخذت السيارات تتلاحق
, وكان عليها أن تنتظر مع بقية المارة عند حافة الرصيف , هناك لفت أنتباهها رجل ممشوق
القامة , وقف الى جانبها بكامل أناقته.
حاولت
أن تتذكر وجهه لكن الهواء عبث بشعرها المتدلي من جديد, وسرعان ما عادت الصورة غامضة
الى مخيلتها فنفذت نظراتها الى وجهه المتجهم , وحدّقت الى سمات القساوة في ثناياه وقالت
لنفسها( هذه الشخصية ليست غريبة عني, لقد ألتقيتها قبل لكني لا أستطيع أن أحدد أين
, فهذا النوع من الرجال لا ينسى بسهولة ... أنه وجه من الماضي رسم الزمن التجاعيد حول
عينيه وفمه , وناهز الخامسة والثلاثين , وبسبب عمره تأكدت أنها لم تلتق به على مقاعد
الدراسة فهي لم تتجاوز الثالثة والعشرين بعد.
ما
الذي تبدّل ؟ المحيط الذي عرفته فيه , أم الملابس التي كان يرتديها؟ بدلته القاتمة
الثمينة صممت على يد أشهر الخياطين , وقد بدا مرتاحا بمشيته مما يدل على أنه أعتاد
هذا النوع من الملابس .
لم
يسبق لها أن رأته بمثل هذه الأناقة يوم عرفته أيام زمان, ماذا كان يرتدي ؟ تعذرت عليها
الأجابة على هذا السؤال.
حين
لاحظ الرجل أنها تتفحصه بدقة راح يرميها بنظرات متسائلة , كانت عيناه الزرقاوان قادرتين
أن تخرقا بنضارتهما صلابة الماس, حتى ألتفاتته ليست بغريبة عنها ... لكن ما الذي جعلها
ترتعش في هذه الللحظة ؟ دقات قلبها تزداد , أحساسها المضطرب يملي عليها بضرورة تجنب
أي أتصال بهذا العائد بعد طول غياب ...
وبدأت
صورة وجهه تتوضح شيئا فشيئا , كانت نظرته المصوبة نحو جاسيكا وهو يحدق مليا بشعرها
العسلي وعينيها المكحلتين بالخضار توحي بأنه يعرفها جيدا والا لماذا تراه يتأملها بهذه
الدقة ؟
أقترب
منها قليلا وعقد حاجبيه لحظة قبل أن يسألها:
"
هل أعرفك؟".
كان
يتكلم بسلاسة وأرتياح فتنحسر أسارير وجهه ويبدو بعيدا عن التكلف.
غريب!
كل شيء فيه يقرّبه منها لكنها لا تتمكن من أن تتذكر أسمه...
هزّت
رأسها لتشير ألى أن الأمر يلتبس عليها وأجابت:
"
لست متأكدة ".
هذا
الصوت...
توقف
قليلا كأنه يلملم ذكرياتها بينما ظلت نظراته عالقة بوجهها .
"
يا الله...".
وبرقت
عيناه كأنه تعرف اليها مع بعض الريبة.
"
هل يمكن ؟ أنت جوردانا؟".
"
أنها شقيقتي".
فجوردانا
تزيدها ثماني سنوات , لكن الأثنتين تتشابهان بالرغم من فارق السن , زد الى ذلك أن كل
أفراد عائلة ثورن يتميزون بالشعر الأشقر والعيون الخضر.
وأستدرك
قائلا:
"
كان عليّ أن ألاحظ أنك أصغر سنا من جوردانا , تبدين بعمرها يوم أفترقنا , فأنا لم آخذ
بعين الأعتبار مرور الزمن".
كانا
يتحدثان بأهتمام ولم ينتبه أي منهما للأشارة الضوئية التي تبدلت لتأذن بالمرور , لكن
تهافت الناس أيقظ أنتباههما , فشبك يده بذراعها ومشيا مع العابرين.
حين
شدّ بقبضته على ذراعها تضاعف شعورها بضرورة الأبتعاد عن هذا الرجل , لكنها لم تقل شيئا
بل أزدادت تساؤلا عن سر هذا الغريب الذي يعرف شقيقتها البكر , بدون أن تتذكر من يكون
, وعبثا حاولت أن تستجمع ذاكرتها ! فلا أحد ممن تعرف يشبه الرجل الذي يسير الى جانبها
.
راحت
تحدق به بأمعان وتركز أفكارها علّها تعثر له على أثر في ذهنها
,
وتساءلت. ما تراه يريد مني؟ لم تكن قادرة أن تفهم أي شيء.
عبرا
الشارع , لكنه أستوقفها في الجهة المقابلة وتابعا حديثهما...
"
كم هو صغير هذا العالم!".
كانت
بسمته الكسولة تظهر أنشراحه وتابع:
"
هل يعقل, أن ألتقي أحدا من عائلة ثورن في اليوم الأول بعد عودتي ؟ أنها لصدفة غريبة
!".
وافقته
جاسيكا بدون أن تدرك مغزى ملاحظته.
"
حقا ... هل كنت صديقا لشقيقتي؟".
"
صديق؟ لا لم أكن صديقا , ألتقيت شقيقتك , لكننا لم نتوصل الى درجة المعرفة الحقيقية...
ولم أكن أنا المخطىء".
هذا
التلميح أثار فضول جاسيكا , فتساءلت : هل شقيقتها صدته وخيبت آماله , أم أنها فشلت
في فهمة ؟ كان بودها أن تتوضح الأمر , لكنه بدل الموضوع بسرعة.
"
أين هي جوردانا اليوم؟ تزوجت على ما ظن".
"
أجل تزوجت ورزقت بصبي وبنت وهي تعيش مع زوجها في فلوريدا".
ونزع
يده من ذراعها فتنفست جاسيكا وكأنها تحررت من عبء ثقيل , أما هو فأغرق يديه في جيب
سترته وبدا غير مبال للفحات الريح, فقميصه الشفاف يلامس صدره القاسي وينسدل فوق معدته
الضامرة.
للوهلة
الأولى أعتقدت جاسيكا أنها تكلم شخصا عابرا رأته في مكان ما , أما الآن فها هي أمام
رجل يستوقفها عند منعطف الشارع ويريد أن يتحدث اليها طوال النهار.
"
ماذا عن أهلك؟ أتمنى أن يكونوا بخير".
"
هل تعرفهم أيضا؟ ... أنهم بخير , والدي تقاعد منذ سنتين , ثم أنتقل مع والدتي الى فلوريدا
, هكذا يتسنى لها أن تعيش قرب أحفادها".
وتساءلت
جاسيكا , أن كان عليها أن تطلعه على كل هذه التفاصيل وهي التي لم تعرف هويته بعد؟ لكنها
تأكدت من أنه يعرف عائلتها جيدا.
"
وأخوك؟ هل خرّج من جامعة هارفرد؟".
أحست
جاسيكا أن سؤاله ينطوي على بعض الوقاحة والأستفزاز , وربما قصد التهكم عندما أتى على
ذكر هارفرد , الأمر الذي أثار أنفعالها وحفّزها للدفاع عن أخيها الأكبر.
+